بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد، و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين.
اللهم سدّد ألسنتنا بالصواب و الحكمة.
من المضامين المتكررة في أدعية شهر رمضان المبارك توجيه و تنبيه الناس إلى عوالم ما بعد الحياة الدنيوية؛ تنبيههم لعالم الموت، و عالم القبر، و عالم القيامة، و محن الإنسان خلال عهد مواجهته لحساب الله و كتابه و سؤاله. هذه من المواضيع المطروحة في أدعية شهر رمضان المبارك. التنبه لهذا المعنى مهم جداً بالنسبة لنا نحن الذين نتولى مسؤوليات، فالتنبّه و الاهتمام لهذه العوالم من جملة عوامل السيطرة على الإنسان و مراقبته. أن نعلم أنه «لايعزُبُ عَنهُ مِثقالُ ذَرَّة» (۲). هذه الحركة الصغيرة، و السكون الصغير، و الخطوة الصغيرة، و الكلمة الصغيرة، لا تخرج عن دائرة نظر المحاسبين في فترة ما بعد الموت، و سوف نسأل عن كل ذلك. هذا الشيء يترك تأثيراً كبيراً في سلوكنا و أقوالنا و تحركاتنا.
نقرأ في الدعاء الشريف المسمّى بدعاء أبي حمزة الثمالي: «اِرحَمني صَريعاً على الفِراشِ تُقَلِّبُني اَيدي اَحِبَّتي» (۳). هذه الحالة التي تحصل للجميع، و ربما كان الكثيرون قد شاهدوا حالة الاحتضار هذه و لحظات اقتراب الموت لدى الآخرين، أنا و أنتم لا نستطيع فعل شيء في تلك اللحظات، و ليس هناك في تلك الحال من هو أقرب إلينا من الله. «وَ نَحنُ اَقرَبُ اِليهِ مِنكم وَ لكن لا تُبصرِون» (۴). ما من أحد بوسعه في تلك الحالة أن ينقذنا من تلك الورطة التي أمامنا، إلا العمل الصالح و الفضل الإلهي. نقول في هذا الدعاء: «اللّهُمَّ ارحَمني». اللهم ارحمني في تلك الحالة. «وَ تَفَضَّل على مَمدوداً على المُغتَسَلِ يقَلِّبُني صالحُ جيرَتي». عندما يغسلوننا بعد الموت، اشملنا اللهم برحمتك و فضلك و ارحمنا برحمتك. إننا بين يدي الغاسل من دون أن يكون لنا أيّ حول أو قوة، هذا شيء يحصل لكل واحد منا أنا و أنتم، و لا استثناء لأيّ أحد من هذه الحالة. إنه حال سيحصل لنا جميعاً. فتذكّروا تلك اللحظات.
«وَ تَحَنَّن على مَحمولاً قَد تَناوَلَ الاَقرِباءُ اَطرافَ جِنازَتي». يحملوننا على الأكتاف و يأخذوننا إلى مكاننا الأبدي الدائم. «وَ جُد على مَنقولاً قَد نَزَلتُ بِك وَحيداً في حُفرَتي»، سوف ينزلوننا إلى القبر. هذه ذكرى، و يجب عدم الغفلة عن هذه الحالات، بل يجب أن تكون نصب أعيننا دائماً. حين يوصوننا أن نذهب إلى المقابر و نزور الأموات، فهذا أحد أسباب ذلك. البعض ينزعجون من أن يذكّرهم أحد بالموت، لا، هذا علاج و دواء؛ علاج لأنانياتنا و لغفلتنا و لأهوائنا و نزواتنا. و نقرأ في موضع آخر من دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف: «اِلهي اِرحَمني اِذَا انقَطَعَت حُجَّتي وَ كلَّ عَن جَوابِك لِساني وَ طاشَ عِندَ سُؤالِك اِياي لُبّي». في ذلك الحين عندما نعجز عن الإجابة عن الأسئلة الإلهية و لا تكون لدينا حجة و برهان فلن يكون الأمر كما هو الحال في هذا العالم، حيث نبعد الطرف المقابل عن الحقيقة منتهزين جهله و غفلته و عواطفه. كل شيء هناك واضح علني بالنسبة للسائل. يجب التفكير في تلك اللحظات و استذكارها. و يقول في جانب آخر: «اَبكي لِخُروجي مِن قَبري عُرياناً - اقرأوا هذا الدعاء في أسحار شهر رمضان بتوجّه و خشوع - ذَليلاً حامِلاً ثِقلي على ظَهري، اَنظُرُ مَرَّةً عَن يميني وَ أخرى عَن شِمالي، اِذِ الخَلائِقُ في شَأنٍ غيرِ شَأني». كل إنسان يفكّر يومئذ بنفسه، و لا أحد يعينني هناك.
«لِكلِّ امرِئٍ مِنهُم يومَئِذٍ شَأنٌ يغنيهِ، وُجوهٌ يومَئِذ مُسفِرَةٌ، ضاحِكةٌ مُستَبشِرَة»؛ المؤمنون و المتّقون و الذين راقبوا أنفسهم و صانوها و لم يخرجوا عن جادة الحق و الإنصاف و أداء التكاليف الإلهية هم مصداق لهذه العبارة: «وُجوهٌ يومَئِذٍ مُسفِرَةٌ، ضاحِكةٌ مُستَبشِرَة». وجوه متفتحة ضاحكة مشرقة؛ هكذا هم البعض. «وَ وُجوهٌ يومَئِذٍ عَلَيها غَبَرَةٌ، تَرهَقُها قَتَرَة» (5). و قد أضيفت في هذا الدعاء هذه الكلمة «وَ ذِلَّة». و طبعاً لا ينحصر الأمر بهذا المضمون، فأدعية شهر رمضان مثل كل الأدعية الأخرى تأخذنا نحو ذلك المعين الزلال الطيب الرقاق العذب من الرحمة الإلهية.
هذا الشهر شهر الخشوع و الاستغفار و التقوى، و شهر العودة إلى الله، و شهر بناء الذات، و شهر الأخلاق. في خطبة الرسول الأكرم (ص) في الجمعة الأخيرة من شهر شعبان، ثمة فقرات تدل على أن هذا الشهر ليس شهر العبادة فقط، بل هو شهر الأخلاق أيضاً، و شهر اكتساب الفضائل الأخلاقية و العمل بها. هذه أمور ينبغي أن نتنبّه و نتفطن لها في هذا الشهر.
في هذه الجلسة الحساسة و المهمة، هناك ثلاثة مواضيع وجدت أن أتطرّق لها. الموضوع الأول موضوع الاقتصاد، و قد كانت هناك إشارة لهذا الموضوع في كلمة رئيس الجمهورية المحترم الذي ألقى كلمة جيدة و عرض إحصائيات حسنة. و لديّ رؤية في هذا المضمار سأعرضها. و الموضوع الآخر هو الملف النووي الذي يمثل في الوقت الحاضر محور الكثير من جهودنا و مساعينا سواء مساعينا الخارجية أو حتى الداخلية، و هناك نقاط و نظرات أرى من اللازم ذكرها و بيانها. و إذا اتسع الوقت و المجال نشير أيضاً إلى شؤون المنطقة.
بخصوص الشأن الاقتصادي، أطرح ما أروم قوله بهذا النحو: شهر رمضان شهر التقوى، فما هي التقوى؟ التقوى هي حالة المراقبة الدائمية التي تجعل الإنسان لا ينحرف عن الدرب القويم إلى الطريق الأعوج الخاطئ، فلا تصيبه أضرار الدرب المنحرف و أشواكه. التقوى في الواقع درع و جوشن على جسد الإنسان المتقي يصونه و يحميه من أضرار السهام المسمومة و الضربات المعنوية المهلكة. و بالطبع فإن الأمر لا يقتصر على القضايا المعنوية: «وَ مَن يتَّقِ اللهَ يجعَل لَه مَخرَجاً * وَ يرزُقهُ مِن حَيثُ لا يحتَسِب» (۶). في الأمور الدنيوية أيضاً يمكن تسجيل آثار مهمة جداً للتقوى. هذا عن التقوى الشخصية. و نفس هذه الحالة ممكنة الطرح على مستوى المجتمع و البلد. ما هي تقوى بلد من البلدان؟ و ما هي تقوى مجتمع من المجتمعات؟ المجتمع خصوصاً إذا كان مثل مجتمع الجمهورية الإسلامية صاحب مبادئ و أهداف سامية عليا، و تشنّ عليه الهجمات و تطلق عليه السهام المسمومة، هذا المجتمع أيضاً بحاجة إلى التقوى. ما هي تقوى المجتمع؟ يمكن تعريف التقوى الاجتماعية على أصعدة مختلفة، فتقوى المجتمع على صعيد الاقتصاد هي الاقتصاد المقاوم. إذا أردنا على الصعيد الاقتصادي أن لا نتضرر حيال الاهتزازات الناجمة عن الأحداث العالمية أو مقابل السهام المسمومة للسياسات العالمية المعارضة، فنحن مضطرون للجوء إلى الاقتصاد المقاوم. الاقتصاد المقاوم عامل تمتين و قوة مقابل القوى التي تستخدم كل إمكانياتها الاقتصادية و السياسية و الإعلامية و الأمنية من أجل توجيه الضربات لهذه الشعب و هذا البلد و هذا النظام. و من الطرق التي وجدوها في الحال الحاضر التغلغل عن طريق الاقتصاد. لقد أطلقنا هذا التحذير منذ سنين و نبهنا إليه و ذكرناه، و المسؤولون كل واحد منهم في حدود قدراته بذلوا جهوداً جيدة، و لكن علينا متابعة موضوع الاقتصاد المقاوم في الداخل بكل قوة و بكامل الإمكانيات و الطاقات. و ستكون هذه هي التقوى الاجتماعية على صعيد الشؤون الاقتصادية.
و هذا النموذج لا يختص بنا طبعاً، فقد قرّرت بعض البلدان الأخرى نموذج الاقتصاد المقاوم لنفسها و اختارته و شاهدت تأثيراته. المحور الرئيس في الاقتصاد المقاوم هو التدفق الداخلي إلى جانب النزعة الخارجية. التدفق الداخلي يجب أن لا يعني العزلة أو الميل للعزلة. إنه تدفق داخلي بالنظر للخارج و الميل إلى خارج المجتمع و لكن بالاعتماد على القدرات الداخلية و الإمكانيات و الطاقات الذاتية، و سوف أشير لهذا الجانب بعض الشيء، و سبق أن أشرنا إلى الكثير من النقاط و الآراء في هذا الخصوص (7).
عندما تم تدوين و تبليغ سياسات الاقتصاد المقاوم لم يكن ذلك أمراً فجائياً دفعياً ارتجالياً أو شخصياً يعتمد على الرأي الشخصي، بل هو حصيلة عقل جمعي، و ثمرة استشارات طويلة. و بعد أن جرى تبليغ سياسات الاقتصاد المقاوم بهذه الخصوصيات و طرحها في وسائل الإعلام، و بعد أن بدأ الأعزاء و الزملاء في الحكومة المحترمة نشاطاتهم في هذا المجال، و كرّروا هم بدورهم الحديث عن الاقتصاد المقاوم، حظي هذا المنحى بتأييد الكثيرين من المتخصصين الاقتصاديين، فشدّدوا عليه، و دخلت عبارة «الاقتصاد المقاوم» القاموس البلاد الاقتصادي و احتلت مكانتها في الأدبيات الاقتصادية للبلاد. و هذا مؤشر على صحة و قوة هذا المنحى.
الاقتصاد المقاوم يقف على الضدّ من النموذج المفروض من قبل القوى الكبرى على البلدان التي تسمّى نامية أو بلدان العالم الثالث. فرضوا و أملوا نموذجاً - و لا أروم الآن شرح ذلك النموذج - و قالوا إذا أرادت بلدان العالم الثالث تحقيق النمو و الازدهار الاقتصادي و الوصول إلى مستوى الاقتصاد العالمي فعليها السير على هذا النموذج، و مركز الثقل في هذا النموذج هو النظر للخارج بما في ذلك من تفاصيل. و هذا الاقتصاد المقاوم على الضدّ من تلك الحالة، فهو نموذج مختلف تماماً عن ذلك الشيء الذي كان يُملى و يُكرر في ذلك النموذج القديم، و لا يزال هنا و هناك أشخاص يذكرونه و يتحدثون عنه. الاعتماد في الاقتصاد المقاوم على الإمكانيات و الطاقات الداخلية. قد يتصور البعض أن هذا النموذج نموذج جيد لكنهم يشككون في إمكانية تحقيقه، و أقول بقطع و تأكيد أن هذا النموذج ممكن في بلادنا. نموذج الاقتصاد المقاوم ممكن تماماً في ظروف البلاد الراهنة.
الإمكانيات و الطاقات التي نمتلكها لهذا الشيء طاقات كبيرة لم تستخدم لحد الآن، و منها الأرصدة الإنسانية، أي إن الشباب المتعلم المتخصص و صاحب الثقة بالذات في إيران كثيرون، و هذه من خيرات الثورة الإسلامية و مكاسبها. طبعاً إذا لم تؤد السياسات الخاطئة إلى سير مجتمعنا نحو الشيخوخة. هكذا هو الحال الآن، ففي الوقت الحاضر هناك عدد ملحوظ و كبير من طاقات العمل في البلاد تتراوح أعمارهم بين العشرين و الأربعين من العمر، و تعليمهم جيد و مواهبهم الذهنية و الفكرية جيدة، و معنوياتهم عالية، و لهم ثقتهم بأنفسهم. لدينا اليوم عشرة ملايين خريج من الجامعات، و أكثر من أربعة ملايين طالب جامعي يدرسون، و هذا أكثر مما كان في بداية الثورة بنحو 25 ضعفاً. منذ بداية الثورة و إلى الآن ازدادت نفوس البلاد ضعفاً واحداً بينما ازداد عدد الطلبة الجامعيين 25 ضعفاً، و هذه من مفاخر الثورة الإسلامية، و هو رصيد إنساني و فرصة كبيرة جداً.
الإمكانية الأخرى هي المكانة الاقتصادية لبلادنا. طبقاً للإحصائيات العالمية الرسمية تحتل الجمهورية الإسلامية المرتبة العشرين في اقتصاد العالم. إننا نقف في المرتبة العشرين و لدينا الإمكانيات و المؤهلات اللازمة للارتقاء إلى المرتبة الثانية عشرة، فلا تزال هناك الكثير من الإمكانيات غير مستخدمة في البلاد، و لدينا مصادر طبيعية و نفط و غاز، و نحن من حيث احتياطيات النفط و الغاز في المرتبة الأولى عالمياً. مجموع نفطنا و غازنا أكثر من كل بلدان العالم، و عندنا الكثير من المعادن الأخرى بوفرة.
و الإمكانية الأخرى هي الموقع الجغرافي الممتاز للبلاد. ففي جغرافيا المنطقة و العالم تمثل إيران نقطة اتصال الشمال بالجنوب و الشرق بالغرب، و هذا الأمر فائق الأهمية بالنسبة لقضية الترانزيت و النقل الطاقة و البضائع و غير ذلك.
و الإمكانية الأخرى مجاورة خمسة عشر بلداً عدد نفوسها نحو 370 مليون نسمة، بمعنى سوق قريب لا حاجة فيه لقطع مسافات طويلة.
و الإمكانية الأخرى السوق الداخلية المكوّنة من سبعين مليون نسمة، و إذا وجّهنا نفس هذا السوق الداخلي نحو الإنتاج الوطني الداخلي لكان واقع الإنتاج مختلفاً.
و الإمكانية الأخرى وجود بنى تحتية أساسية في الطاقة و النقل الجوي و البري و بسكك الحديد، و في الاتصالات، و في المراكز التجارية، و في محطات الطاقة، و في السدود، هذه بنى تحتية تكوّنت طوال هذه الأعوام بهمم الحكومات و الشعب و مساعدة الجماهير، و هي متوفرة لنا في الوقت الحاضر.
بالإضافة إلى كل ذلك فإن التجارب الإدارية المتراكمة ساعدت بحد ذاتها على أن يكون لدينا في الأعوام الأخيرة نمو في الصادرات غير النفطية. و كما ذكر رئيس الجمهورية الإسلامية المحترم في إحصائيات عام 93 [2014 و ثلاثة أشهر تقريباً من 2015 م] فإن نمو الصادرات غير النفطية في ذلك العام و الأعوام التي سبقته كان ملموساً، و هذا نموذج.
هذه الإمكانيات و الفرص متوفرة في البلاد، و هي بالطبع جانب من الإمكانيات. الخبراء و المتخصصون الذين نجتمع بهم و نتحدث إليهم و يكتبون لي التقارير أحياناً، يقدمون لائحة طويلة من الطاقات و الإمكانيات المتوفرة التي يمكن أن تكون مفيدة لاقتصاد البلاد، و هي كلها صحيحة، و يجب الاستفادة منها.
ليست قضية بلادنا في الوقت الحاضر أننا لا نمتلك مشروعاً و خطة و ليس لدينا آراء صحيحة. إنما قضيتنا هي أننا لا نتابع الآراء الصحيحة و المشاريع و الأطروحات الصائبة كما ينبغي، هذا هو أساس القضية. و هذا المعنى يتكرر أيضاً في الأجواء النخبوية، و هو أن مشكلة الجمهورية الإسلامية ليست عدم التوفر على آراء صحيحة، إنما الآراء الصحيحة تطرح بكثرة، و المشكلة هي أننا ينبغي على المستوى العملي أن نتابع هذه الآراء الصحيحة إلى حين تؤتي نتائجها، فنشاهد النتائج عياناً.
طيّب، توجد تحديات، و هذه التحديات تخلق احتكاكات، و الاحتكاكات تؤدي إلى استنزاف و تهرّؤ و مشكلات. ينبغي معالجة هذه التحديات.
من هذه التحديات التحديات التي تواجهنا من الداخل، و منها النظرة السطحية و التبسيطية للأمور، و الزهو و الرضا و القناعة ببعض الأعمال التي نقوم بها من دون إدراك لعمق القضية.
الأجواء التي تكتفي بالكلام و الأوساط التنويرية لا تنهض بالأعمال، إنما لا بدّ من تحرك و إقدام. التساهل في العمل هو التحدي الكبير الذي يواجهنا. أحياناً لا يكون تحقيق النتائج على المدى القصير بل على المدى الطويل، و هذا ما يصيب البعض باليأس و الإحباط. هذا أحد التحديات. الأعمال و المشاريع الكبيرة قد تتحقق في بعض الأحيان على مدى جيل كامل، لذا ينبغي متابعتها على طول هذه المدة و التحرك و العمل. هناك الكثير من الأعمال لو كنا قد بدأناها قبل عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً لكنا قد توصلنا اليوم إلى نتائجها و ثمارها. و ثمة الكثير من الأمور بدأناها قبل عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً و نشاهد في الوقت الحاضر نتائجها. يوم طرحت في الجامعات آراء حول النهضة العلمية في البلاد، و تم التداول بشأنها مع فئات متعددة، لم يكن أحد يتصور أن تحصل هذه الحركة العلمية التي تحققت طوال هذه الأعوام العشرة أو الخمسة عشر، لكنها تحققت، فقد أبدى أساتذتنا و علماؤنا و جامعاتنا و شبابنا الموهوبون الهمم. لقد حققنا اليوم بالمقارنة إلى ما قبل أثني عشر أو ثلاثة عشر عاماً، حركة علمية مهمة و سجلنا تقدماً ملحوظاً و مذهلاً في بعض الأحيان و في بعض المجالات. لنبدأ العمل اليوم و نقطف الثمار بعد خمس عشرة سنة أو عشرين سنة.
و من التحديات التي تواجهنا الطرق الموازية السهلة و لكن المهلكة. هذا أحد التحديات أمامنا. إنني لا أنسى في زمن رئاستي للجمهورية - و هذا الكلام يعود لخمس و عشرين سنة سابقة - كنا نستورد من الأوربيين بصعوبة بالغة بضاعة يحتاجها بلدنا، و كان لدى الأفارقة نفس هذه البضاعة و بجودة عالية، لكن الأعزاء المعنيين لم يكونوا على استعداد. و حصلت توصيات و تأكيدات و عقدت اجتماعات و حصلت تأييدات و تصديقات، و لكن العملية كانت صعبة، و العمل مع الأوربيين كان أسهل. طريق مواز سهل و لكن مضرّ في الوقت ذاته، و يضع الإنسان في زوايا حرجة، و يضعف الأصدقاء و يقوّي الأعداء، و يمنح زمام أمر معين في داخل البلاد لأناس هم أعداؤنا في قلوبهم.
و من التحديات أيضاً أن يتصور أحد أننا إذا تخلينا عن ركائزنا العقيدية و الأسس العقيدية لنظام الجمهورية الإسلامية فسوف تنفتح الطرق أمامنا و تشرع البوابات المغلقة؛ هذا خطأ كبير و أساسي جداً. طبعاً إخوتنا في الحكومة الخدومة يعملون عن عقيدة، و هم مؤمنون بالثورة حقاً و يعتقدون بأسس الثورة و أصولها، و عتابنا ليس عليهم، و لكن ثمة في مجموعة العاملين أشخاص يتصورون أننا إذا تنازلنا عن بعض أصولنا و مبادئنا فستنفتح الكثير من الأبواب المغلقة بوجهنا، و الحال أن الأمر ليس كذلك، هذا خطأ كبير و قد شاهدنا نتائج هذا الخطأ في بعض البلدان الأخرى - و لا نروم ذكر أسمائها - خلال هذه السنين الأخيرة. طريق التقدم هو الصمود و الإصرار على المبادئ.
و من التحديات أن يتصور البعض أن الجماهير لا تتحمل و لا تطيق الصعاب، لا، الناس يطيقون الصعاب و المشكلات. إذا جرى إيضاح الأمور للناس بشكل حقيقي و بصدق فإن شعبنا شعب وفيّ و سيصمد و يقاوم.
و أحد التحديات التي تواجهنا أيضاً التشكيك في القدرات الذاتية. أن لا نثق بالشاب العالم الإيراني، و لا نعتمد على المجاميع الشعبية و غير الحكومية في الشؤون الاقتصادية فهذا أحد التحديات. ينبغي الثقة بهم و إشراك الناس في تيار الاقتصاد الإيراني العظيم.
و بالتالي فإن ما ينبغي القيام به في مضمار قضايا الاقتصاد المقاوم هو إبداء عزيمة راسخة. ينبغي أن نسعى بعزم جاد إلى تحقيق الاقتصاد المقاوم في الداخل بالمعنى الواقعي للكلمة. ينبغي كذلك تجنّب التساهل و التماهي و طلب الراحة، و لا بدّ من الاعتماد على الإدارة الجهادية، و قد طرحتُ فكرة الإدارة الجهادية في السنة الماضية (8) و أكدتُ على أنها ليست فكرة لتلك السنة فقط، بل نحتاجها دائماً. إننا بحاجة للإدارة الجهادية. في السنين الأولى من الثورة و في فترة الحرب و طوال هذه الأعوام التي تربو على الثلاثين، أين ما اعتمدنا على الإدارة الجهادية نجحنا. الإدارة الجهادية قد تعاني في بعض الأحيان من إهدار للطاقات، لكنها ستتقدم و تتطور و تنجز الأعمال و المهام. الاعتماد على القدرة الإلهية و التوكل على الله تعالى و العمل بتدبير و عقلانية و لكن بعزيمة راسخة من دون تردد و خوف من التقدم و تبعاته، هذه هي الإدارة الجهادية.
طبعاً من الضروري الترويج الدائم للثقافة المتناسبة مع الاقتصاد المقاوم. الجميع، سواء مؤسسة الإذاعة و التلفزيون أو مسؤولو الصحافة و وسائل الإعلام أو المسؤولون الحكوميون و مسؤولو السلطة التشريعية و أئمة الجمعة في أنحاء البلاد و كل من له منبر و يمكنه التحدث مع الناس، عليه إشاعة الثقافة المتناسبة مع الاقتصاد المقاوم، بما في ذلك الاقتصاد في الاستهلاك، و كذلك استهلاك البضائع الداخلية. طبعاً بخصوص الاقتصاد في الاستهلاك و استهلاك المنتجات الداخلية، المخاطب الأول و الأهم هم مسؤولو البلاد لأن الحكومة هي من أهم المستهلكين في البلاد. لتصرّ الحكومة و ترى نفسها مكلفة و مقيدة باستهلاك المنتجات الداخلية، حتى بدرجة معينة من صرف النظر عن الجودة. لا بأس في ذلك. يقولون أحياناً إن البضاعة الفلانية لا تتمتع بجودة نظيرتها الأجنبية، لا إشكال في ذلك، فلو أردنا لها أن تكتسب الجودة اللازمة لا بدّ لنا من مساعدتها. إذا ساعدناها سوف تتحسّن جودتها و ترتفع، و إلا فستهبط و تتردّى يوماً بعد يوم. و من الإجراءات اللازمة المواجهة الجادة للاستيراد غير المنطقي، و محاربة تهريب البضائع أيضاً من الأمور و الأعمال الضرورية. و من اللازم أيضاً الاهتمام بورشات الإنتاج الصغيرة و المتوسطة، و هذا ما شددتُ عليه في بداية العام (9). كما لا بدّ من إعادة النظر في السياسات النقدية و نشاطات النظام المصرفي في البلاد، و هو ما أشرتُ له أيضاً في بداية السنة، و للخبراء و المخلصون آراء مهمة في هذا المضمار، إذ ينبغي سماع هذه الآراء و الاهتمام بها. هذه أعمال ينبغي أن نقوم بها.
و بطبيعة الحال فإن الشرط الأساسي لتحقق هذه الأمور هو التعاطف و وحدة الكلمة و الانسجام الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية المحترم. ينبغي مساعدة الحكومة و مساعدة المسؤولين لأنهم العاملون مباشرة وسط الساحة. و يجب تحاشي حالات التعارض و الشقاق الزائدة و الأمور الهامشية الجانبية، فإثارة الأمور الجانبية غير مقبول و غير محبذ من أيّ طرف كان. ليتعاون الجميع و ستصل هذه المسيرة العظيمة إلى نتائجها إن شاء الله. هذا ما نروم قوله في خصوص الشأن الاقتصادي. ما نعتقده هو أننا نستطيع القيام بأعمال كبيرة في ميدان الاقتصاد، فلنكن متفائلين بأن نجتاز هذا المنعطف الصعب إن شاء الله.
بخصوص الملف النووي أذكر بداية ثلاث نقاط كمقدمة، ثم أشير إلى أمور في هذا الخصوص.
النقطة الأولى هي أن ما أقوله في هذه الجلسة أو الجلسات العامة هو نفسه بالضبط ما أقوله للمسؤولين و لرئيس الجمهورية المحترم و للآخرين في الجلسات الخاصة. هذا الخط الإعلامي الذي شاهدنا و نشاهد أنهم يتابعونه و يقولون إن بعض الخطوط الحمراء التي يعلن عنها رسمياً يصرف النظر عنها في الجلسات الخاصة، كلام كاذب و بخلاف الواقع. ما نقوله لكم هنا أو في الجلسات العامة هو بعينه ما نقوله للأعزاء و المسؤولين و الوفد المفاوض، فالكلام واحد.
النقطة الثانية هي أنني اعتبر الوفد المفاوض - هؤلاء الأعزاء الذين تحملوا على عواتقهم خلال هذه المدة هذه الجهود - أفراداً أمناء و غيورين و شجعاناً و متدينين، و ليعلم الجميع هذا. معظم الحضور الذين تفضلتم بالمجئ إلى هنا، لا اطلاع لكم بمحتوى المفاوضات، و لو علمتم أنتم أيضاً بمحتوى المفاوضات و تفاصيلها و ما يدور في اجتماعاتها لسلمتم يقيناً بجانب مما قلتُه. بالإضافة إلى هذا فأنا أعرف بعض هؤلاء الأعزاء عن قرب، و أعرف سوابق بعضهم الآخر عن بعد، إنهم أفراد متدينون و أمناء، إنهم أمناء، و هدفهم خدمة البلد و التقدم بشؤونه إلى الأمام و فتح العقد، و هم يبذلون جهودهم لأجل ذلك. و يتحلون - و الحق يقال - بالغيرة الوطنية و الشجاعة، و يقفون أمام عدد كبير من الأشخاص - و لا أروم الآن استخدام التعابير الواقعية المناسبة لهم، فهناك بعض الأحيان تعابير لائقة بهم حقاً، و لكن من غير المناسب أن نجريها على ألسنتنا - و يعبّرون - للحق و الإنصاف - بشجاعة تامة و دقة تامة عن مواقفهم، و يتابعونها.
النقطة الثالثة تتعلق بالمنتقدين المحترمين. إنني لا أعارض النقد، فلا إشكال في النقد، و النقد لازم، و له دور مساعد، و لكن ليتنبّه الجميع إلى أن توجيه النقد أسهل من العمل. إننا نشاهد عيوب الطرف المقابل في المجال الذي يعمل فيه بسهولة، بينما لا يمكن مشاهدة الأخطار و الصعوبات و القلق و المشكلات التي تواجهه. الأمر كما لو أنكم تقفون إلى جانب مسبح و تتفرجون، و هناك شخص صعد إلى الأعلى و يريد إلقاء نفسه من ارتفاع عشرة أمتار. و يلقي بنفسه، فتقولون أنتم الواقفين هنا إلى جانب المسبح إن رجله قد انحنت و ركبته قد انحنت، و هذا عيب و إشكال. نعم، هذا إشكال، و لكن لكم أن تكلفوا أنفسكم و تصعدوا إلى ذلك الارتفاع و تلقوا نظرة على الماء من ارتفاع عشرة أمتار، ثم أصدروا أحكامكم و تقييماتكم! توجيه النقد سهل. طبعاً كلامي هذا لا يمنع توجيه النقود، انقدوا، و لكن لاحظوا أن تكون النقود على أساس أن المنقود قد يعلم بعض العيوب التي نذكرها عنه في نقدنا، لكنه توصل بالتالي إلى هذه النتيجة، أو أن الضرورات ساقته إلى هذا الموضع، أو لأيّ سبب آخر. و أنا بالطبع لا أريد القول إنهم معصومون، لا، إنهم ليسوا معصومين، و قد يقع المرء في بعض المواطن في أخطاء في التشخيص أو العمل، لكن المهم هو أننا نعتقد بأمانتهم و دينهم و غيرتهم و شجاعتهم. هذه هي النقاط الثلاث الضرورية التي أردتُ ذكرها في بداية حديثي عن الموضوع.
و لأذكر هنا تاريخاً مختصراً لهذه المفاوضات. هذه المفاوضات، التي هي في الواقع خارج مفاوضاتنا مع مجموعة 5 + 1 ، هي مفاوضات مع الأمريكيين. و كان الأمريكان هم من طلبها. و الأمر لا يتعلق بالحكومة العاشرة. بدأت هذه المفاوضات قبل مجئ هذه الحكومة. هم طلبوا و وسّطوا شخصاً، و جاء أحد المحترمين في المنطقة إلى هنا و التقى بي و قال إن رئيس جمهورية أمريكا اتصل به و ترجّاه و قال إننا نروم حل القضية النووية مع إيران و نريد رفع الحظر. كانت هناك نقطتان أساسيتان في كلامه: الأولى هي قوله إننا سنعترف بإيران كقوة نووية، و الثانية هي قوله إننا سنرفع الحظر خلال ستة أشهر. تعالوا و اجلسوا و تفاوضوا من أجل القيام بهذا الشيء. و قلتُ لذلك الوسيط المحترم إننا لا نثق بالأمريكان و كلامهم. فقال اختبروا الأمر الآن، فقلنا لا بأس، سنختبر الأمر هذه المرة أيضاً. و بهذه الطريقة بدأت المفاوضات.
أذكر نقطة لأنبّه لها المسؤولين و ليتنبّه لها الجميع: في المنازلات العالمية يقتضي منطق المنازلات العالمية أن تكون هناك ساحتان نأخذهما بنظر الاعتبار. إحدى الساحتين ساحة الواقع و العمل، و هذه هي الساحة الأصلية. في ساحة الواقع و العمل ينشط المسؤول لتوفير الأرصدة و إنتاجها على الصعيد العملي. هذه ساحة، و الساحة الثانية هي ساحة الدبلوماسية و السياسة و المفاوضات التي تتحول الأرصدة فيها إلى امتيازات و مصالح وطنية للبلاد. إذا كانت يد الإنسان خالية في الساحة الأولى فلن يكون بوسع المرء أن يفعل شيئاً في الساحة الثانية. يجب أن يكون لديه شيء و مكتسبات و أرصدة في الساحة الأولى، أي ساحة العمل و الواقع و الأرض.
يوم دخلنا في هذه المفاوضات كان لدينا مكتسبات و أرصدة مهمة و مقبولة، و شعرنا أننا ندخل الساحة بقوة و صلابة. و من جملة مكتسباتنا يومذاك أننا استطعنا، في حين امتنعت كل القوى النووية في العالم عن منحنا الوقود النووي المخصب بنسبة عشرين بالمائة لمركز طهران البحثي - حيث كنا بحاجة إلى الأدوية النووية - استعطنا بأنفسنا، و في ظروف الحظر، إنتاج الوقود المخصب بنسبة عشرين بالمائة، ثم تبديل هذا الوقود المخصب بنسبة عشرين بالمائة إلى صفائح وقود و الاستفادة منه. فبُهت الطرف المقابل! و لهذا الأمر قصة طويلة ربما كان كثيرون منكم على علم بها. في إطار مفاوضات طويلة، لم يكونوا على استعداد لمنحنا وقوداً مخصباً بنسبة عشرين بالمائة، أيْ أن يبيعوه لنا، أو أن يسمحوا لطرف آخر ببيعه لنا. و قلنا ننتجه في الداخل، فاستطاع شبابنا هؤلاء العلماء و الشريحة الدؤوبه العاملة المفعمة بالأمل و المعتمدة على نفسها، أن يتركوا عيون الطرف المقابل ذاهلة حائرة، و أن ينتجوا الوقود المخصب بنسبة عشرين بالمائة. و أنتم تعلمون، و ربما سبق أن ذكرتُ (10) إن الجزء الصعب و المهم في مسيرة التخصيب النووي هو الانتقال من التخصيب بنسبة ثلاثة و أربعة بالمائة إلى العشرين بالمائة، أما الانتقال من العشرين بالمائة إلى التسعين بالمائة فعملية سهلة جداً. عندما يمكن لطرف التوصل إلى العشرين بالمائة ستكون المراحل التالية يسيرة جداً. الجزء الصعب و المهم هو الانتقال من الثلاثة أو الخمسة بالمائة إلى العشرين بالمائة. و قد قطع شبابنا هذا الطريق الصعب، و أنتجوا الوقود المخصب بنسبة عشرين بالمائة و أنتجوا صفائح الوقود. كان هذا أحد مكتسباتنا. لقد دخلنا المفاوضات بهذه الروح. و كانت استراتيجية الصمود و المقاومة و الصبر مقابل الضغوط قد آتت أكلها. و اعترف الأمريكان بأن لا جدوى من الحظر، و قد أشاروا لهذا، و هو تحليل صحيح تماماً. لقد توصل الأمريكان إلى نتيجة فحواها أن الحظر لم يعد له الأثر المطلوب، فبحثوا عن طريق آخر - و الوقت يكاد يدركنا، و عليّ أن أذكر النقاط و الأمور بسرعة - أدركوا أننا نستطيع، من دون تبعية، الحصول على التقنية المتطورة، و توكلنا على أساس هذا المنطق و دخلنا المفاوضات.
طبعاً لم نترك مراعاة الاحتياط، فقد كانت نظرتنا منذ البداية للمفاوضين و الطرف الأمريكي نظرة مشوبة بالشك. لم تكن لنا ثقة بهم طبقاً لتجاربنا معهم، لذلك دخلنا الساحة منذ البداية بدقة و ملاحظات. و كان رأينا إنهم إذا التزموا بكلامهم فلا إشكال في الأمر، و كنا على استعداد لدفع التكاليف، بمعنى أننا لا نعتقد أنه لا ينبغي دفع أي تكاليف في المفاوضة، و أنه يجب عدم التراجع أبداً بخصوص بعض الموضوعات، لا، كنا مستعدين لدفع تكاليف بالقدر الصحيح و المنطقي و العقلائي، لكننا كنا نسعى لاتفاق جيد. و أقولها هنا: نحن نقول: اتفاق جيد، و الأمريكان أيضاً يقولون: اتفاق جيد، لكننا حين نقول اتفاق جيد نقصد الاتفاق المنصف و العادل، و هم عندما يقولون اتفاق جيد يقصدون الاتفاق الذي يطلبون فيه كل شيء. تقدمنا في المفاوضات بعض الشيء، و إذا بجشعهم و استزادتهم تبدأ، و راحوا يطرحون كل يوم شيئاً و كلاماً و ذريعة، و تحولت الأشهر الستة إلى سنة و طالت أكثر، و اتخذت المفاوضات أشكالاً مختلفة، و عملت المجادلات و الاستزادات على إطالة المفاوضات، و هدّدوا و هددوا بمزيد من الحظر و باستخدام الخيارات العسكرية، أطلقوا هذه التهديدات، و تحدثوا عن خيارات فوق الطاولة و تحت الطاولة، سمعتم بها (11). هذا هو سلوك السادة إلى هذا اليوم.
كلّ من يدرس سياق مطالب الأمريكان طوال هذه المدة، و ينظر في طبيعة كلامهم، يصل إلى هذه النتيجة. إحدى النقطتين الرئيسيتين هي أن هدفهم استئصال الصناعة النووية للبلاد و القضاء عليها. هذا هو الهدف الذي يسعون إليه. إنهم يقصدون القضاء على الماهية النووية للبلاد، و ليبق منها مجرد اسم أو لوحة دون مضمون، أو شيء كاريكاتيري فقط، لكنهم يقصدون أن لا يسمحوا بتحقق هذه المسيرة النووية للبلاد و بقيام الصناعة النووية بالأهداف التي يريدها نظام الجمهمورية الإسلامية. لقد أعلنا أنه حتى موعد معين يجب أن يكون لدينا عشرون ألف ميغاواط من الكهرباء النووي، هذه هي حاجة البلاد. عشرون ألف ميغاواط من الكهرباء النووي هي حاجة البلاد الضرورية. و هذا شيء قائم على أساس حسابات الأجهزة المختصة في البلاد، و ثمة إلى جانب ذلك منافع كثيرة و رفع للكثير من الاحتياجات الأخرى، و هم يريدون عدم حصول هذا. طبعاً في الوقت الذي يرومون فيه القضاء على هذه الصناعة، يريدون الإبقاء على الضغوط و لا يريدون رفع الحظر بصورة كاملة، و هذا ما تلاحظونه، و يهددون بأنهم سيفرضون مزيداً من الحظر. هذه نقطة.
النقطة الثانية هي أن الطرف المقابل، أي الحكومة و الإدارة الأمريكية الحالية، تحتاج إلى هذا الاتفاق. هذا أيضاً جانب من القضية. إنهم بحاجة لهذا الاتفاق، فهو يعدّ انتصاراً كبيراً لهم إذا استطاعوا التوصل لهدفهم ذاك. فهم يعتبرون هذا في الواقع انتصار على الثورة الإسلامية، و على شعب يرفع شعار الاستقلال، و على بلد يمكنه أن يكون نموذجاً لسائر البلدان. الجهاز الإداري الأمريكي بحاجة إلى هذا الاتفاق. و كل المجادلات و المساومات و نكث العهود و الغش الذي يمارسونه يدور حول محور هذين الأمرين.
و قد دخلنا هذه الساحة منذ البداية بطريقة منطقية و تحدثنا بطريقة منطقية و لم نستزد أو نجشع. قلنا إن الطرف المقابل فرض حظراً ظالماً و نريد رفع هذا الحظر. طيب إنها معاملة و مقايضة، و لا إشكال عندنا في أن ندفع شيئاً لأجل ذلك و لكي يرفع الحظر، و لكن ينبغي أن لا تتوقف الصناعة النووية و لا تتضرر. هذا هو الكلام الأول. قلنا هذا الشيء منذ البداية و تابعناه إلى اليوم.
هذا الذي أقوله هو أبرز الخطوط الحمراء الموجودة. لقد ذكرنا أموراً باعتبارها النقاط الأصلية، و هذه هي أهمها، و طبعاً ثمة أمور أخرى غير هذه.
منها أنهم يصرون على القيود طويلة الأمد، و قد قلنا لهم إننا لا نوافق القيود لمدة عشرة أعوام و إثني عشر عاماً و ما إلى ذلك. عشرة أعوام عمر بأكمله، و كل ما أحرزناه و حققناه خلال هذه الفترة حصل في نحو عشرة أعوام! نعم، السوابق النووية داخل البلاد أطول من هذا، و هو ما يذكر أحياناً في بعض الكلمات و الأقوال، و لكن في السنين الأولى لم يكن قد حصل شيء في واقع الأمر، إنما حصل الشيء الأساسي و الكبير خلال هذه الأعوام العشرة أو الخمسة عشر الأخيرة. إننا لا نوافق القيود لمدة عشرة أعوام، و قد ذكرنا للوفد المفاوض عدد السنين التي نقبلها، و لا نقبل مدة العشرة أعوام و إثني عشر عاماً و ما شابه ذلك مما يذكره هؤلاء السادة.
و خلال هذه الفترة التي نقبلها من القيود يجب أن تستمر عمليات البحث العلمي و التنمية و البناء، و هذا بدوره من الخطوط الحمراء التي شدد عليها المسؤولون المحترمون، و قالوا إننا غير مستعدين لترك البحث العلمي و التنمية، و معهم حق. طوال فترة التقيد أيضاً يجب مواصلة البحث العلمي و التنمية. و هم يقولون شيئاً آخر مفاده أن لا تعملوا أي شيء طوال عشرة أعوام أو إثني عشر عاماً أو أكثر، و ابدأوا بالإنتاج و البناء! و هذا الكلام منطق قوة مضاعف، و حماقة مضاعفة.
و من جملة النقاط المهمة هي إنني أقول بصراحة إن الحظر الاقتصادي و المالي و المصرفي، سواء ما يتعلق منه بمجلس الأمن، أو ما يتعلق بالكونغرس الأمريكي، أو ما يتعلق بالحكومة الأمريكية، يجب أن يلغى فوراً عند توقيع الاتفاق، و ترفع سائر أنواع الحظر خلال فترات معقولة. لكن الأمريكان يطرحون بخصوص الحظر معادلة معقدة متعددة الطبقات و عجيبة غريبة لا تعرف أعماقها أصلاً، و لا يُعرف ما الذي ينتج عنها. و قد قلتُ إن كلامي صريح و لا أجيد التعابير الدبلوماسية كثيراً، ما نقوله صريح، و هو ما قلناه. هذا هو ما نريده.
نقطة أساسية أخرى هي إن إلغاء الحظر غير منوط بتنفيذ إيران لالتزاماتها، إذ لا يمكن أن يقولوا: هدموا مفاعل الماء الثقيل في أراك، و قللوا عدد أجهزة الطرد المركزي بهذا المقدار، و افعلوا كذا و كذا، و بعد أن فعلتم كل هذا، تأتي الوكالة الدولية للطاقة النووية فتشهد لكم بأنكم صادقون و قد قمتم بهذه الأمور، و بعد ذلك نرفع الحظر! لا، هذا ما لا نقبله على الإطلاق، فإلغاء الحظر غير منوط بتنفيذ الالتزامات الذي تقوم به إيران. طبعاً إلغاء الحظر له مراحل تنفيذية نوافق عليها، و يجب أن يكون تنفيذ إلغاء الحظر متزامناً مع تنفيذ إيران لالتزاماتها، فجزء من هذا الجانب يناظر جزءاً من ذلك الجانب، و يأتي جزء آخر من هذا الجانب مقابل جزء آخر من الطرف الثاني.
و نقطة أساسية أخرى هي أننا نعارض إيكال أي عمل أو خطوة إلى تقرير الوكالة، فنحن غير واثقين من الوكالة، و قد أثبتت الوكالة أنها غير مستقلة و غير عادلة، فهي غير مستقلة لأنها خاضعة لتأثير القوى الكبرى، و غير عادلة لأنها حكمت و أصدرت تقييماتها مرات و مرات بخلاف العدالة. هذا مضافاً إلى أن قولهم «يجب أن تأتي الوكالة و تطمئن من عدم وجود نشاط نووي في البلاد» قول غير معقول، إذ كيف يمكن الاطمئنان؟ و ما معنى الاطمئنان أساساً؟ إلا إذا فتشوا البيوت واحداً واحداً! كيف يمكن الاطمئنان؟ إيكال الأمر إلى هذا الشيء لا هو منطقي و لا عادل.
و أنا لا أوافق أيضاً حالات التفتيش غير المألوفة، و لا أوافق بأي شكل من الأشكال استجواب الشخصيات و لا أقبل ذلك. كما لا نقبل تفتيش المراكز العسكرية مثل ما سبق أن قلنا. و لا نوافق مدد الـ 15 عاماً و 25 عاماً - و هم يقولون دوماً 15 سنة للشيء الفلاني، و 25 عاماً للشيء الفلاني - و المدد من هذا القبيل. الأمر واضح، و هذه المدة لها بداية و نهاية و ستنتهي.
هذه هي الأمور الأساسية و المهمة التي شددنا عليها، و بالطبع فإن الخطوط الحمراء ليست هذه فقط، و الأعزاء المفاوضون مطلعون على آرائنا، و قد تحدثنا معهم حول التفاصيل. طبعاً الكلام بخصوص التفاصيل المعنية و الأشياء التي أتدخل فيها، و هناك الكثير من التفاصيل لا نتدخل فيها.
إننا نسعى لإبرام اتفاق. إذا قال قائل إن هناك بين المسؤولين في الجمهورية الإسلامية شخص لا يريد الاتفاق فقوله هذا بخلاف الواقع، ليعلم الجميع هذا. مسؤولو الجمهورية الإسلامية - أنا و الحكومة و مجلس الشورى الإسلامي و السلطة القضائية و الأجهزة الأمنية و العسكرية المختلفة و غيرها - الكل متفقون على هذا و نوافق حصول الاتفاق. و الجميع كذلك متفقون على أن هذا الاتفاق يجب أن يكون عزيزاً و تراعى فيه مصالح الجمهورية الإسلامية بمنتهى الدقة و التمعن. هذا أيضاً مما لا اختلاف فيه إطلاقاً، الحكومة و مجلس الشورى الإسلامي و أنا و آخرون و آخرون، الكل متفقون على هذا، و رأينا واحد. الاتفاق يجب أن يكون اتفاقاً منصفاً و يؤمّن مصالح الجمهورية الإسلامية.
و نقولها أيضاً بأننا نروم رفع الحظر و القضاء عليه، هدفنا من هذه المفاوضات هو إلغاء الحظر، نسعى بجدّ لإلغاء الحظر، و لكننا في الوقت ذاته نعتبر هذا الحظر فرصة. لا يتعجب البعض من أن يكون الحظر فرصة، و كيف يكون الحظر - شيء بهذه الدرجة من السوء - فرصة؟ لقد أدى هذا الحظر إلى أن نعود لأنفسنا و نفكر بطاقاتنا و قدراتنا الداخلية، و نفتش عن الإمكانيات الداخلية، فأنْ نستورد كل شيء من الخارج بأموال النفط أسوءُ بلية و أكبر مشكلة بالنسبة لبلد مثل بلدنا، و قد ابتلي بلدنا بهذه المشكلة للأسف منذ ما قبل الثورة الإسلامية، و لا زال الوضع على هذه الحال إلى الآن بدرجات كبيرة، و ينبغي أن ننهي هذه الحال. لقد توجّهنا في العلم و التقانة و الأمور و الأعمال المختلفة نحو الإمكانيات الداخلية، و سيكون الأمر كذلك بخصوص الاقتصاد أيضاً إن شاء الله. هذه هي آراؤنا حول الملف النووي. طبعاً دوّنا نقاطاً هنا حول قضايا المنطقة لنذكرها، لكنني حين أنظر للساعة أجد أنه قد رُفع الأذان على ما يبدو، و لا أضايقكم أكثر من هذا.
اللهم بحق محمد و آل محمد اجعل ما قلناه و سمعناه لك و في سبيلك و لخدمة عبادك. اجعل نوايانا خالصة. اللهم انزل توفيقاتك على المسؤولين و الناشطين الذين يعملون و يجدون و يجتهدون في الحكومة و في مجلس الشورى الإسلامي و في السلطة القضائية و في القوات المسلحة، و اجعلهم من المشمولين بهدايتك و تسديدك.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - قبيل كلمة الإمام الخامنئي، ألقى حجة الإسلام و المسلمين الدكتور حسن روحاني رئيس الجمهورية كلمة في هذا اللقاء.
2 - سورة سبأ، شطر من الآية 3 .
3 - مصباح المتهجّد، ج 2 ، ص 593 .
4 - سورة الواقعة، الآية 85 .
5 - سورة عبس، الآيات 37 إلى 41 .
6 - سورة الطلاق، شطر من الآيتين 2 و 3 .
7 - من ذلك كلمته في زوار مرقد الإمام الرضا (ع) و أهالي مدينة مشهد المقدسة بتاريخ 21/03/2015 م .
8 - كلمته في لقائه مدراء الدولة و مسؤولي النظام الإسلامي بتاريخ 07/07/2014 م .
9 - كلمته في زوار مرقد الإمام الرضا (ع) و أهالي مدينة مشهد المقدسة بتاريخ 21/03/2015 م .
10 - كلمته في لقائه مجموعة من قادة و منتسبي القوة الجوية في جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمناسبة يوم القوة الجوية بتاريخ 08/02/2015 م .
11 - ضحك الحضور.