فيما يلي ترجمة مقطع من نص خطبة الجمعة التي ألقاها الإمام الخامنئي في مدينة طهران:
أخصص الخطبة الأولى للحديث في بضع جمل عن حياة النبي الأكرم. لقد أمرنا الله عزّوجل نحن المسلمين أن نتّبع النّبي. هذه التبعيّة يجب أن تكون في جميع مفاصل الحياة. ذاك العظيم أسوة وقدوة ليس في حديثه فقط بل في أعماله وتصرفاته، في نمط حياته، في كيفية معاشرته للناس والعائلة، في كيفية تعامله مع الأصدقاء، في معاملته للأعداء، في معاملته للضعفاء وللأقوياء، أسوة في كل شيء. مجتمعنا الإسلامي يكون مجتمعا إسلاميا حقيقيا بكل ما تحويه الكلمة من معنى حين يتطابق مع تصرفات النبي الأكرم. إذا لم يكن مطابقا مئة بالمئة لتصرفات النبي الأكرم - وهو ليس كذلك - فليكن هناك شبه بذاك العظيم؛ لا يحكمنا حراك مضاد لحياة النبي الأكرم؛ فلنعمل على السير في خط الرسول الأكرم.
سأتحدث ببضع جمل عن ثلاث مشاهد من مشاهد حياة ذلك العظيم الهامة. طبعا لقد تمت كتابة كتب تفصيلية في هذا الشأن والكلام أطول وممتدّ أكثر من أن يتم حصره في مثل هذه الخطابات وتأدية حقه.
المشهد الأول من حياة النبي الأكرم كان مشهد الدعوة والجهاد. الأمر الهام الذي قام به رسول الله هو الدعوة للحق والحقيقة والجهاد في سبيل هذه الدعوة. لم يخالج النبي الأكرم أي شك وتشويش خلال مواجهته العالم المظلم في زمانه.
ذاك اليوم الذي كان فيه وحيدا في مكة، مع عدد قليل من المسلمين الذين أحاطوا به ووقف في وجهه رؤساء العرب المتكبرين، صناديد قريش بأخلاقهم الجلفة والخشنة، أو عندما وقف في وجهه سائر الناس الذين كانوا محرومين من المعرفة، لم يخشَ شيئا وما استوحش؛ نطق بكلامه المحق، أعاده وكرره، وضّحه وبيّنه، تحمّل الإهانات والمصاعب والآلام حتّى تمكّن من أسلمة عدد كبير من الناس؛ وأيضا حينما أسس الحكومة الإسلامية واستلم زمام القوة كرئيس لهذه الحكومة، ما هاب شيئا.
وقف في وجه الرسول الأكرم مختلف أنواع الأعداء والمعارضين؛ من الفرق العربية المسلحة - الوحوش التي كانت تملأ صحاري الحجاز واليمامة وكان على الدعوة الإسلامية أن تتكفل إصلاح ذواتهم لكنّهم كانوا يعاندون - وصولا إلى ملوك تلك الحقبة العظماء في العالم - القوى العظمى في ذاك العالم، أي إيران وامبراطورية الروم - حيث خطّ الرسول الأكرم الرسائل، جادل كثيرا، تحدّث كثيرا، خاض الحروب، تحمّل المصاعب، وقع في حصار اقتصادي ووصل الأمر بالناس في المدينة إلى انقطاع الخبز عنها لمدة يومين أو ثلاثة أيام في بعض الأحيان. كانت تحيط بالرسول الأكرم أنواع التهديدات من كل حدب وصوب. كان البعض ينتابه القلق، البعض كان يتزلزل، بعضهم كان يتذمّر والبعض الآخر كان يشجّع الرسول الأكرم على الصلح والوفاق؛ لكن الرسول الأكرم في مشهد الدعوة والجهاد هذا لم يتراجع قيد أنملة وتقدّم بالمجتمع الإسلامي بكلّ قوّة حتى بلغ قمة العزّة والقوّة؛ وكان هذا النظام هو ذات النظام الذي تمكّن بفضل ثبات الرسول الأكرم في ساحات الدعوة والمواجهة من التحوّل إلى القوة الأولى في العالم بعد سنوات.
المشهد الثاني من حياة النبي كانت معاملته للناس.
لم ينسَ أبدا الأخلاق الشعبية وانتهاج أسلوب الرفق والمحبة في تعامله مع الناس والسعي الحثيث والدائم في سبيل إرساء العدل بين الناس؛ عاش حياته مثل الناس وبينهم؛ صادق الغلمان ومن كانوا يعتبرون من ضمن فئات المجتمع المتدنّية؛ كان يأكل معهم؛ يجلس معهم؛ يلاطفهم ويداريهم؛ لم تغيّره القدرة؛ لم تغيّره الثروة؛ لم تتغيّر تصرفاته ومعاملته خلال المرحلة الصعبة والمرحلة التي زالت فيها الصعاب؛ كان في جميع أحواله مع الناس ومن الناس؛ كان يرفق بالناس ويسعى من أجل العدالة بينهم.
في حرب الخندق عندما حوصر المسلمين في المدينة ولم يكن الطعام يصل إلى المدينة وعندما نفذت مونة الناس بحيث أنه كان يمر يومين أو ثلاثة أيام دون أن يستطيع أحد الحصول على طعام يأكله، في خضم هذه الأحوال كان الرسول الأكرم يقوم بنفسه بالمشاركة مع الناس في حفر الخندق لمواجهة العدو ويتحمّل الجوع مثل الناس.
ورد في الرواية أن فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) كانت قد أمنت القليل من الطحين وخبزت للحسن والحسين رغيفا من الخبز، لكنّ قلبها لم يطاوعها أن تدع والدها جائعا. أخذت قطعة من ذاك الخبز الذي كانت قد حضرته للأطفال ليأكلها النبي. قال النبي: بنيّتي! من أين لك هذا؟ قالت: أعددته للأطفال. وضع الرسول لقمة في فمه وأكلها. كما جاء في الرواية - التي أظن أن سندها معتبر أيضا - قال الرسول: لم آكل شيئا منذ ثلاثة أيام! لذلك، كان كالناس وإلى جانب الناس وكان يرفق بهم ويداريهم؛ في هذه المرحلة وفي المرحلة التي رُفعت فيها الصعاب، تمّ فتح مكّة وانتكس الأعداء.
بعد فتح الطائف وصلت إلى أيدي النبي الأكرم غنائم عديدة وكان يقسمها بين المسلمين. كان قسم من المسلمين من أصحاب الإيمان الراسخ، وقفوا جانبا؛ وقسم آخر كان من حديثي الدخول في الإسلام والقبائل في أطراف مكة والطائف، هجموا على النبي وطالبوا بالغنائم؛ آذوا النبي، حاصروه؛ كان النبي يعطيهم وهم يأخذون ويطلبون المزيد! وصل الأمر إلى عباءة النبي التي كانت على كتفه! هنا عندما كان في قمة العزة والقوة عامل النبي الناس بنفس الرفق والمداراة والوجه الحسن؛ رفع صوته بخلق حسن وقال: «ایهاالنّاس ردّوا عليّ بردي» هذا كان حال معاشرة النبي للناس.
كان الرسول الأكرم يجلس مع الغلمان ويأكل معهم. كان جالسا على الأرض يأكل مع عدد من الفقراء. عبرت امرأة من سكان الصحراء وسألت بتعجب: يا رسول الله! أنت تأكل كالعبيد؟! ابتسم الرسول الأكرم وقال: “ويحك أي عبد أعبد منّي”.
كان يرتدي لباسا بسيطا. يأكل كل طعام يحضر أمامه؛ لم يكن ليطلب طعاما خاصا؛ لم يكن يرفض طعاما على أنه غير مرغوب. على مدى تاريخ البشريّة نجد أن هذه الأخلاق منقطعة النظير. مع وجود المعاشرة، كان في أتم صور النظافة والطهارة الظاهرية والروحية، يقول عبدالله بن عمر: “ ما رأيت أحدا أجود ولا أنجد ولا أشجع ولا أوضأ من رسول الله”؛ هذه كانت معاملة النبي الأكرم للناس؛ المعاشرة الإنسانية، المعاشرة الحسنة؛ المعاشرة مثل الناس، دون أي تجبر وبعيدا عن أي تكبر، مع أن الرسول الأكرم كان صاحب هيبة إلهية وطبيعية وكانت تقشعرّ أبدان الناس عند حضوره، لكنه كان يلاطف الناس ويعاملهم بأخلاق عالية. لم يكن يُعرف عندما كان يجلس في مجلس ما أنه نبي وقائد وكبير هذه المجموعة. كانت إدارته الاجتماعية والعسكرية في أعلى مستوياتها وكان يتفقد جميع الأعمال. طبعا لقد كان المجتمع مجتمعا صغيرا؛ كان يقتصر على المدينة وأطرافها.
ومن ثم مكة ومدينة أو مدينتين أخريتين؛ لكنه كان مهتما لشؤون الناس ومنظما ومرتبا. في ذاك المجتمع البدوي، أدرج الإدارة والمحاسبة والتشجيع والعقاب بين الناس. هذه كانت حياة الرسول الأكرم من حيث المعاشرة، التي يجب أن تكون أسوة بالنسبة إلينا جميعا - للناس ولمسؤولي البلاد-.
وأخيرا نصل إلى المشهد الثالث من حياة النبي الأكرم، الذكر وعبادته الإلهية. الرسول الأكرم بذاك المقام وتلك الشأنية والعظمة، لم يكن يغفل عن عبادته؛ كان يبكي في منتصف الليل ويدعو ويستغفر. لاحظت أم سلمة في إحدى الليالي عدم وجود النبي؛ ذهبت لترى أنه منشغل بالدعاء، يذرف الدموع ويستغفر ويقول: “اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين”. بكت أم سلمة. التفت النبي الأكرم إثر بكائها وقال: ما الذي تفعلينه هنا؟ قالت: يا رسول الله! أنت الذي يعزّك الله إلى هذا الحد وقد غفر لك ذنوبك - “ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر” لماذا تبكي وتسأل الله أن لا يكيلك إلى نفسك؟ قال: “وما يؤمنني”؛ إذا غفلت عن الله ما الذي سينجيني؟ هذا درس لنا. في وقت العزة، في وقت الذلّة، عند المصاعب وفي الرخاء، في اليوم الذي يحاصر فيه العدو الإنسان، ذكر الله في جميع الأحوال، عدم نسيان الله، الإتكال على الله والطلب من الله؛ هذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه الرسول الأكرم إلينا.