بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين.
أرحّب بكل الإخوة الأعزاء العلماء الأجلاء و معتمدي الشعب و خبرائه. إن مكان سماحة الشيخ مهدوي خال حقاً في هذه الجلسة، و نحن آسفون لأنّ هذا الأخ الطيب جداً، و هذه الشخصية المهمة جداً، مريض بشدة منذ ثلاثة شهور. من المناسب جداً أن يتلو الإخوة الأعزاء السادة المحترمون سورة الحمد لشفائه.. «اللّهُمَّ اشفِهِ بِشِفائِك وَ داوِهِ بِدَوائِك وَ عافِهِ بِعافِيتِك بِحَقِ‌ مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّد». نحيّي ذكرى الأصدقاء و الإخوة الذين رحلوا عنا خلال هذه المدة و نطلب لهم المغفرة: المرحوم محمدي گيلاني، و المرحوم السيد زرندي، و المرحوم الماموستا مجتهدي، و أخيراً المرحوم السيد جباري (رحمة الله عليهم).
إنه شهر ذي القعدة. يقول المرحوم الحاج ميرزا جواد آقا ملكي (رضوان الله تعالى عليه) إن شهر ذي القعدة هو شهر التوبة و شهر الرجوع و الإنابة إلى الله، و شهر مراقبة الذات حذراً من أن نكون بأعمالنا - لا سمح الله - قد حاربنا الله تعالى و رسوله الكريم. يقول إن شهر ذي القعدة، و هو شهر القعود عن محاربة أعداء الله، يجب أن يكون من باب أولى شهر يراقب فيه الإنسان نفسه لئلا يكون قد حارب الله تعالى. و يذكر العمل المعروف في يوم الأحد من ذي القعدة (2)، و يؤكد و يصر على أداء هذا العمل.
و للمرحوم الحاج ميرزا علي القاضي (رضوان الله عليه) في دخول شهر ذي القعدة رسالة أو مكتوب إلى أصدقائه و مريديه و تلامذته، و الرسالة مدرجة في هذا الكتاب الذي يستعرض سيرته. للمرحوم القاضي أشعار ممتازة باللغة العربية، و على حد تعبير المرحوم السيد الطباطبائي فقد كان شاعراً مفلقاً. لقد كان شاعراً ممتازاً حسب تشخيص المرحوم السيد الطباطبائي (رضوان الله عليه). و قد نظم قصيدة جزلة جداً يقول في أولها: «تنبّه فقد وافتكم الأشهر الحرم». و هي قصيدة مطولة مفصلة و فيها توصيات لتلاميذه. إنها فرصة لنا و للناس للانتفاع من بركات هذا الشهر إن شاء الله، و هو بداية ثلاثة أشهر حرم متوالية. و شهر ذي القعدة طبعاً هو شهر سيدنا ثامن الحجج الإمام علي بن موسى الرضا (سلام الله عليه) و هو وليّ نعمة الجميع، و على الخصوص وليّ نعمتنا نحن الإيرانيين، حيث ننتفع و ننتهل من بركات مرقد و حرمه إن شاء الله، و نقرّب أنفسنا بإذن الله من القيم الرضوية.
حول القضايا الجارية في العالم و البلاد أعددت بياناً سوف أقدمه، و خلاصة هذا البيان هي أننا يجب أن تكون لنا نظرتنا الجامعة الشاملة لقضايا العالم و قضايا المنطقة، بما في ذلك قضايا بلادنا. هذه النظرة الشاملة تمنحنا معرفة و بصيرة نتعرّف من خلالها أولاً على موقعنا و مكانتنا و المحطة التي نحن فيها خلال الظروف الراهنة و ندرك في أيّ وضع نحن، ثم تعلمنا ما الذي يجب أن نفعله من أجل المستقبل.
في النظرة الشاملة للعالم كله - بما في ذلك المنطقة - يلاحظ الإنسان نقطة أساسية هي أن النظام السائد في العالم سابقاً آخذ بالتغيّر و التبدّل. هذا ما يدركه المرء و يلاحظه. بعد الحرب العالمية الأولى ساد نظام جديد في العالم و خصوصاً في منطقتنا، و انتعشت بعض القوى و صارت القوى الأعلى في العالم، و بعد الحرب العالمية الثانية - و التي مضى على نهايتها نحو سبعون عاماً - تكرّس هذا النظام العالمي و غدت إدارة العالم على نحو خاص. و الواقع أن الغرب، سواء بشكله الاشتراكي أو بشكله الليبرالي - و كلاهما غربي - ساد على إدارة العالم، و وقعت إدارة العالم في يديه، و غدت آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية و مناطق مختلفة من العالم تحت نفوذهم و هيمنتهم و إراداتهم طوال هذه الأعوام السبعين. يرى المرء بوضوح أن هذا النظام آيل إلى التغيير، و سوف أشير باختصار إلى هذا المعنى و أذكر دلائل هذا التغيير و مؤشراته.
طيّب، عندما يكون العالم في حال تغيّر، و يكون النظام العالمي في حال تبدل، و حينما يكون هناك نظام جديد تنعقد نطفته و يتكوّن تدريجياً، فسوف تكون لنا بطبيعة الحال واجبات أهم. ماذا ستكون مكانة الإسلام و موقع الجمهورية الإسلامية و موقع بلدنا المهم إيران في هذا النظام العالمي الجديد؟ يمكننا أن نفكر في هذا و نسير في هذا الطريق. ذلك النظام السابق - الذي ذكرنا أنه ساد العالم قرابة سبعين عاماً - كان له ركنان أساسيان: أحدهما الركن الفكري و القيمي، و الثاني الركن العملي، أي العسكري و السياسي. و ما أروم قوله هو أن كلا الركنين يتعرضان اليوم للتحديات و التزلزل.
أما ذلك الركن الأخلاقي و الفكري فقد كان عبارة عن ادعاء الغرب التفوق الفكري و القيمي - و الغرب هنا يشمل أوربا و أمريكا - على باقي مناطق العالم و سائر شعوب المعمورة. لقد طرحوا شعارات لا علاقة لها بالتقدم العلمي و الصناعي، شعارات جذابة و براقة و خادعة، نظير شعار الحرية و شعار الديمقراطية و شعار حقوق الإنسان و شعار الدفاع عن الشعوب و عن كل واحد من الأفراد، و راحوا ينادون بها و يرفعونها، و أرادوا عن هذا الطريق تكريس تفوّق نظامهم القيمي على سائر أنحاء العالم، و على أديان العالم، و على مختلف النحل الفكرية، و خصوصاً الإسلام. و قد نجحوا، بمعنى أن هناك في عالمنا الإسلامي أفراداً و جماعات و شخصيات سياسية و حكومات راحت تعتقد حقاً بتفوق النظام القيمي الغربي، و هؤلاء ليسوا بقلائل. و اليوم أيضاً يوجد في مجتمعنا أشخاص يحملون هذه الأفكار و العقائد.
و في الجانب الثاني و هو الجانب العملي - و الذي يمثل الركن الثاني لاقتدار الغرب و هيمنته على إدارة العالم - هناك القدرات السياسية و العسكرية، بحيث إذا لم تخضع شعوب أو حكومات أو تيارات لتأثير ذلك النظام القيمي أو الجانب الأول و لا تستسلم و تبقى صامدة مقاومة، فسوف يواجهونها بالضغوط السياسية و العسكرية، و يفعلون الكثير بواسطة العامل الثاني أي الضغوط السياسية و العسكرية و الأمنية، من أجل إجبار الذين لا يرضخون بفعل العامل الأول، على مواكبة الغرب و التعاون معه.
لقد شاهدنا هذا في العالم و شاهدناه في بلادنا أيضاً. و الأجهزة الإعلامية الغربية تطورت يوماً بعد آخر و تحدثت و تضاعفت قدراتها فراحت تستعرض كل يوم هذين العاملين - عامل التفوق القيمي و عامل الهيمنة العسكرية و السياسية - أمام أنظار الشعوب، و تقنع بهما أصحاب الأفكار و المثقفين و المستنيرين، و تدريجياً عموماً الناس.
و قد عرضت في الوقت الراهن تحديات لكلا العاملين. كلا تلكم الأداتين و كلا ذلكم السلاحين - الذين استطاع الغرب بهما إدارة العالم و الإمساك عملياً بزمام الأمور في العالم و السيطرة على العالم - راح في الوقت الحاضر يضعف تدريجياً. أما العامل الأول و هو العامل القيمي - أي رجحان القيم الغربية على قيم سائر الشعوب و الأديان و الإسلام و غير ذلك - فهناك أسباب عدة لتزلزله. هناك عوامل و أسباب أدّت إلى تضعضع هذا العامل. و قد سجّلت هنا عدة أسباب و عوامل أذكرها: أحد العوامل التي زلزلت النظام القيمي الغربي و الهيمنة المعنوية الغربية هو الأزمة الأخلاقية و المعنوية المتفاقمة في الغرب، و علامتها البارزة شياع الشعور بالعبثية و اللاجدوى و انعدام الأمن الروحي بين أفراد المجتمعات الغربية، و خصوصاً الشباب. المؤسسة العائلية تعرّضت لزلازل شديدة و راحت تتلاشى، مما يترك آثاراً و تبعات كبيرة. و هناك أيضاً قضية المرأة حيث كانت التوجّهات الغربية بخصوص قضايا المرأة بحيث تتعرض الحركة النسوية - التي انطلقت منذ عشرات السنين - إلى استفهامات جدّية من قبل المفكرين و المثقفين، فهم يشعرون أن هذا كان فخّاً للمرأة عرّضها لمحاذير عجيبة و غريبة، و هذه بحدّ ذاتها قصة طويلة مفصلة.
قضية تحول المنكرات إلى قيم، و مثال ذلك أن تتحوّل المثلية الجنسية في الغرب إلى قيمة، و تصير معارضة المثلية الجنسية قيمة سلبية! بحيث لو أجروا حواراً - و هكذا هو الوضع في الغرب اليوم - مع شخص أو مسؤول حكومي أو رئيس جمهورية أو شخصية بارزة و قال إنه يعارض المثلية الجنسية فسوف يعتبر ذلك نقطة سلبية في ملفه في العالم. أي إن المناخ الأخلاقي للغرب سار نحو هذا الاتجاه. و طبعاً سوف لن يتوقف عند هذه الحدود، و سوف يتمادى أكثر و يصل إلى مواطن و محطات أسوء و أقبح من هذا بكثير. و قد تنبّه إلى هذه النقطة في الوقت الحاضر - أي منذ أمد من الزمن و قبل سنين قد تصل إلى عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً سابقة - المفكرون الغربيون و بعض الخيّرين و المخلصين الغربيين، و راحوا ينبهون لها دوماً، و لكن دون فائدة، فعندما يسقط نظام أخلاقي إلى مثل هذا المنحدر فلن يعود بالإمكان الحيلولة دونه و لن يكون مصيره سوى التلاشي و الانهيار. هذا عامل من عوامل تحدّي القيم الغربية.
العامل الثاني هو النزوع إلى الدين. و هو في الواقع ردّ فعل على العامل الأول. لقد تزايد باستمرار الميل إلى الدين و حبّ الدين و خصوصاً حب الإسلام و النزوع إليه و الميل إلى فهم القرآن بين الجماعات المختلفة في البلدان الغربية. و المطلعون و المسؤولون عن هذه الشؤون يعلمون هذا جيداً. هذا بدوره من الأشياء التي تزلزل النظام الأخلاقي و القيمي الغربي بشدة.
العامل الثالث هو ظهور حالات من التعارض العملي مع الشعارات الغربية، بمعنى أنهم يتشدّقون في العالم بالحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و ما إلى ذلك، أما على الصعيد العملي فإن الحكومات الغربية تعارض هذه الشعارات و تنتهكها إلى درجة أنّ طرح هذه الشعارات من قبل الغربيين في العالم اليوم غدا أمراً مستهجناً، فأصحاب الفكر و التدقيق يدركون واقع الأمر. عدد الإنقلابات التي قامت بها الحكومات و القوى الغربية ضد الحكومات المستقلة - و هي في الغالب حكومات وطنية - عدد عجيب. طبقاً لبعض التقارير فإن أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية و إلى اليوم عملت على إسقاط خمسين حكومة! قامت بمختلف الأعمال و الخطوات ضد خمسين حكومة. و في ملف أمريكا و غيرها هناك معارضات لعشرات التيارات الشعبية المقاومة. و هناك أيضاً استخدام القنبلة النووية، فالحالة الوحيدة التي استخدمت فيها القنبلة النووية كانت من قبل أمريكا التي تتشدّق أكثر من غيرها بالحديث عن الشعوب و حقوق الشعوب و ما إلى ذلك، بينما هي قتلت أكثر من مائتي ألف إنسان - في تلك الأحداث في اليابان - و تعرّض عدد أكبر من هذا بكثير للتبعات و المضاعفات اللاحقة (3). و سجن غوانتانامو (4) و سجن أبي غريب (5) و هذه الأحداث التي وقعت، و السجون السرية التي ثبت وجودها في أوربا (6) و اتضح أمرها للجميع، و صار معلوماً أن لديهم سجوناً سرية يعذبون فيها الناس و يحبسونهم دون محاكمات، و هي سجون لا تزال موجودة و الكل يرى و يعلم. هذا بدوره عامل ثالث يتحدى النظام القيمي الذي يدّعيه الغرب.
العامل الرابع هو اللجوء إلى استخدام العنف و القوة و القمع و مختلف صنوف الشدة، من قبيل الحظر. لقد شوهد، و هذا الشيء قائم أمام أنظار العالم، بأنهم عندما تعرض لهم مشكلة مع بلد أو شعب و لا يستطيعون فرض هيمنتهم الثقافية عليه و تأمين سيطرتهم فإنهم يستخدمون القوة و الجيوش. يستخدمون الجيوش أحياناً و يلجؤون إلى الاغتيالات في أحيان أخرى، و إلى إطلاق تيارات إرهابية في حالات غيرها، و هذا ما لوحظ في زماننا و في الفترة الأخيرة و هو ماثل أمام أنظار العالم: الهجوم على البلدان، و الهجوم على العراق، و الهجوم على أفغانستان، و هجمات متنوّعة بأشكال مختلفة على باكستان و مناطق أخرى. هذا أيضاً من الأمور التي تخلق تحديات للنظام القيمي الغربي.
و العامل الخامس هو صناعة تيارات من قبيل القاعدة و داعش و ما شابه. و هم يزعمون أن هذه التيارات لا علاقة لها بهم، لكن الجميع يعلم. لقد نقلتُ شيئاً عن قول أحد المسؤولين الأمريكان المعروفين (7) ثم أنكروا الأمر، و هو صحيح حسب الظاهر، فهم يعترفون بأنهم هم الذين أطلقوا هذه التيارات، و حتى لو لم يعترفوا فإن لدينا شواهد على ذلك و هو أمر نعلمه. لا أنسى أن المرحوم الشيخ سعيد شعبان - و لم يعد ثمة إشكال في ذكر اسمه - و هو من العلماء السّنّة المعروفين، قال لي في مشهد - عندما كنا في فترة حرب - بأنني على اطلاع بأنهم يحاولون إشغالكم في شرق بلادكم، فقلتُ له إن شرق بلادنا هي أفغانستان، فقال نعم من طرف أفغانستان. و كان هذا قبل أن تنطلق تيارات طالبان و القاعدة و ما إلى ذلك في أفغانستان. و قد كان له علاقاته و ارتباطاته بالأوساط السياسية و العلمائية المختلفة لأهل السّنّة، و يحضر في مواطن حساسة، و كان شخصية جدّ محترمة و مطلعة. قال إنني أجد من واجبي أن أخبركم بهذا. و بعد فترة قصيرة وقعت هذه الأحداث و رأينا أن الأمر هو كما قال. إذن، لا توجد شبهة حول أن إطلاق هذه التيارات و صناعتها كان على يد هذه القوى الغربية و عملائها في المنطقة. و قد لا يكونوا تدخلوا مباشرة في بعض الحالات بل تدخل آخرون. و قد تدخلوا مباشرة أيضاً. لا أنسى أنه في قضية طالبان هذه كانوا يتحدثون في المجلات الأمريكية عن طالبان بطريقة تروّج لهذه الجماعة بشكل من الأشكال. طبعاً لم يكونوا يروّجون لها صراحة، لكن نوعية العمل الإعلامي كان فيه ترويج لطالبان في بدايات ظهورهم. إذن، هذه عوامل تتحدى في الوقت الراهن ذلك النظام القيمي الذي يزعم لنفسه التفوّق و يطرحه الغرب. لم يعد أحد يتقبل من الغربيين و القوى الغربية أقوالهم بشأن مناصرتهم لحقوق الإنسان و القيم الإنسانية و ما إلى ذلك. الأشياء التي ذكرت في إعلان استقلال أمريكا قبل مائتي عام قد نقضت و انتهكت كلها عملياً.
أما العامل الثاني و هو الاقتدار السياسي و العسكري فقد تعرّض هو الآخر لتحديات. الشيء الأهم الذي عرّض هذا العامل - عامل الاقتدار العسكري و السياسي - للتحدّي هو إقامة نظام الجمهورية الإسلامية. في منطقة خاضعة بشدة للنفوذ الأمريكي، تتكوّن حركة ثورية هائلة بهذه الأبعاد، و تخلق نظاماً قائماً على الأفكار التي سعوا كل ذلك السعي لقتلها و محوها، و لا يزول هذا النظام بكل هجماتهم المتنوّعة عليه - الهجمات السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الأمنية و غيرها - بل و يزداد قوة يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى ما هو عليه نظام الجمهورية الإسلامية الذي يعد اليوم نظاماً مقتدراً بالمعنى الحقيقي للكلمة. و بالطبع فإن النظام الإسلامي نظام مقتدر و مظلوم في الوقت نفسه. هذا الاقتدار لا يتنافى مع مظلومية النظام. لقد قلنا ذات مرة (8) إنه مثل الإمام علي بن أبي طالب الذي كان حاكماً مقتدراً للنظام الإسلامي في زمانه، لكنه في الوقت نفسه الشخص الأكثر مظلومية، و هكذا هو نظام الجمهورية الإسلامية. اقتداره لا يتعارض مع مظلوميته، و هذه المظلومية التي يتعرّض لها النظام الإسلامي اليوم ليست دليلاً على عدم اقتداره، فاقتدار نظام الجمهورية الإسلامية هو بحق حالة واضحة في الوقت الراهن. و هذا ما يعترف به حتى أعداؤه.
ثم كانت الأحداث التي وقعت، و صمود الجمهورية الإسلامية و شعب إيران في ملحمة الدفاع المقدس لمدة ثمانية أعوام، هذا شيء لم يكن صغيراً قليلاً بل كان حدثاً مهماً. لقد أثبت هذا أن القدرات العسكرية و الأمنية للقوى المهيمنة على العالم ليست بقادرة على التقليل من حجم شعب أو توجيه ضربة له، بل إن هذا الشعب سيستطيع فرض نفسه عليهم، و قد فرض نفسه عليهم. ثم هناك أحداث المنطقة الأخرى، أحداث فلسطين، و أحداث لبنان، و حرب الثلاثة و ثلاثين يوماً، و حرب الإثنين و عشرين يوماً، و حرب الأيام الثمانية في غزة، و هذه الحرب الأخيرة التي امتدت لخمسين يوماً في غزة، و التي تعدّ حقاً من النماذج المعجزة. منطقة صغيرة محدودة بقدرات جد محدودة تفعل ما من شأنه تركيع الكيان الصهيوني الذي يعتبر رمز القوة الغربية في المنطقة، فيصرّ هو على وقف إطلاق النار و هم لا يوافقون على وقف إطلاق النار. هذا الطرف يصرّ دوماً و هم يقولون كلا، فهذه هي شروط قبول وقف إطلاق النار، و ما لم تتحقق هذه الأشياء لم يقبلوا بوقف إطلاق النار. هذه حادثة مهمة جداً و جديرة بالتحليل. و في هذه الأمور دلائل على أن الاقتدار و التفوّق العسكري - السياسي للغرب يواجه تحديات بالمعنى الحقيقي للكلمة. في العالم الغربي اليوم هناك استنتاج شائع لدى الكثير من الأشخاص المتنفذين الغربيين الذين يعتقدون أن الحرب لم تعد خياراً جيداً و مجدياً للغرب. الكثير من السياسيين في أمريكا اليوم - في أمريكا غالباً و في بعض البلدان الأوربية - يطرحون هذا الرأي و يقولون إن الحرب لم تعد خياراً مجدياً لنا. و معنى هذا أن القدرات العسكرية و الأمنية للغرب تواجه تحديات حقيقية. طيّب، القوى الجديدة التي ظهرت في آسيا و في الشرق - مثل القوة الصينية، و مثل القوة الهندية، و ما إلى ذلك - توضّح هي أيضاً الأبعاد الأخرى للقضية. طيّب، هذا هو وضع المنطقة و وضع العالم و الذي يمثل الدليل على أن النظام العالمي السابق لم يعد بوسعه الاستمرار بحيث تبقى إدارة العالم بيد الغربيين. ثمة وضع جديد يتكوّن، و هو بالطبع لم يتكون بشكل نهائي.
ما الذي يجب علينا أن نفعله هنا؟ نعتقد أن هناك أمرين مهمين: الأمر الأول هو أن هذه الحقائق و الوقائع التي نشاهدها اليوم يجب أن لا تحلل بشكل مقلوب و خاطئ، و لا تفهم بشكل خاطئ، بل يجب أن تفهم كما هي. ليس في بلادنا فقط، بل في منطقة آسيا لا يزال هناك أشخاص و بلدان و حكومات و شخصيات و رجال سياسة و تيارات لا يدركون هذا الواقع الذي تمّ الحديث عنه، فهم يعتقدون أننا ليس لنا أمام الغرب سوى طريق واحد، يجب الاستسلام للغرب، و هذا الاستسلام إما أن يكون طوعاً و رغبة - أي تقبل القيم الغربية و الاستسلام مقابل النظام الذي يطرحونه و ما يتوقعونه لإدارة العالم - أو إذا لم يستسلم بلد طواعية و رغبة و لم يتجه نحوهم و لم يتعاون معهم و لم يبد الطاعة لمطاليبهم الأساسية فسوف يتعرض بطبيعة الحال للضغوط، من قبيل الضغوط الاقتصادية و الحظر و الضغوط السياسية و الضغوط العسكرية، و بالتالي سيضطر للاستسلام، إما الاستسلام الهادئ، أو الاستسلام بضجيج و مشاكل! هذا تحليل موجود. و هو تحليل خاطئ و خطير. و في بلادنا أيضاً توجد مثل هذه التحليلات هنا و هناك. لا، ليس الأمر كذلك. فكما قلنا قامت القوة الغربية على هذين الركنين - الركن الأخلاقي و المعنوي و القيمي و الركن العسكري و السياسي و الأمني و العملي - و قد تزلزل كلا الركنين. يجب أن نستوعب هذه الحقيقة و الواقع.
الأمر المهم الثاني هو أن نعد أنفسنا لممارسة دور في تكوين النظام الجديد. ينبغي أن نعد البلاد لممارسة دور. و هذا لن يتاح إلّا بتقوية البلاد، لذا ينبغي تقوية البلاد. و تقوية البلاد منوطة باستخدام كل الإمكانيات و القدرات التي نمتلكها في داخل البلاد و خارجها. لنتنبّه إلى أن إمكانياتنا و قدراتنا ليست فقط هذه الأشياء التي لدينا في الداخل، فلدينا إمكانيات و طاقات مهمة خارج البلاد. لدينا أنصار و عمق استراتيجي في المنطقة و في البلاد، بعضهم بدافع الإسلام، و البعض بدافع اللغة، و البعض بسبب المذهب الشيعي.. هذا عمق استراتيجي للبلاد، و هو من إمكانياتنا و قدراتنا. يجب الاستفادة من كل هذه الإمكانيات، و لا يتعلق الأمر بالمنطقة فقط، إذ لدينا عمقنا الاستراتيجي في أمريكا اللاتينية، و لدينا عمق استراتيجي في أجزاء مهمة من آسيا، و هناك مجالات و طاقات ينبغي الاستفادة منها، فهذا مما سيعمل على تقوية البلاد.
و هناك ثلاثة أمور لها دور كبير في تقوية البلاد: الأمر الأول العلم و التقانة، و الثاني الاقتصاد، و الثالث الثقافة. علينا الاستثمار في هذه القطاعات الثلاثة، فهي العناصر المفتاحية. على حكوماتنا و مسؤولينا و الأفراد المؤثرين و المتنفذين أن ينشطوا و يعملوا في جميع هذه المجالات الثلاثة. و طبعاً قضية السكان هي الأخرى على جانب كبير من الأهمية. كما أشاروا إلى أن بعض السادة شدّدوا على هذه القضية، فهذا شيء بالغ الأهمية و في محله تماماً. قضية السكان لها تأثير بالغ في الاقتدار الوطني، و زيادة جيل الشباب و كبر البلاد من حيث السكان له دور حاسم في تحقيق الاقتدار. طبعاً الأهم من كل هذا هو قضية الثقافة، خصوصاً على مستوى معتقدات الناس و قناعاتهم. تلاحظون كم أنهم يستثمرون. جرت الإشارة إلى أن الكثير من الاستثمارات الدولية المتنوّعة تنفق على إطلاق وسائل إعلامية مؤثرة من قبيل الفضائيات و الإنترنت و الهواتف النقالة و ما إلى ذلك. إنهم ينفقون رساميل ضخمة من أجل التأثير على معتقدات الناس و قناعاتهم، و إخراجهم عن دائرة نفوذ النظام الإسلامي و القيم الإسلامية. و بالطبع فإن المضاد لهذا هو أن نستطيع و على المستويات المختلفة، تقديم طروحات تبيينية و إقناعية. علماؤنا و مؤسساتنا الثقافية و الإعلامية و خطباؤنا و مؤسسة الإذاعة و التلفزيون يجب أن يستطيعوا تثبيت هذه المعتقدات في أذهان الشعب و تعميقها، و بالطبع فإن التواصل المباشر بين علماء الدين و الناس عامل فذ لا بديل له، و لا يمكن لأيّ شيء أن يعوّض عنه، أي شيء، حتى الإذاعة و التلفزيون، و هي وسيلة إعلام عامة، لا تستطيع التعويض عن التواصل المباشر بين علماء الدين و المفكرين الدينيين و الناس.
و قضية الوحدة و التعاطف و التآلف في البلاد هي الأخرى على جانب كبير من الأهمية. هناك اختلاف في الأذواق على الصعد السياسية و شؤون السياسة الكبيرة و الصغيرة، لكن هذه الاختلافات يجب أن لا تقضي على وحدة البلاد و تعاطف أبنائها، فعلى الكل أن يكونوا بعضهم مع بعض. من النقاط المهمة أيضاً هي أن الجميع يجب أن يدعموا المسؤولين. و الدعم لا يتعارض مع أن تشكلوا على أحد المسؤولين أو الحكومة أو السلطة القضائية أو مجلس الشورى الإسلامي، و لكن الدعم يجب أن يتوفر على كل حال. أضف إلى ذلك أن المسؤولين و الحمد لله يعملون و يجدّون و يسعون. طوال هذا العام الذي تولت فيه الحكومة الجديدة زمام الأمور بذلوا الكثير من الجهود و أنجزوا الكثير من الأعمال، فهذا ما يشاهده المرء عن قرب. لقد عملوا كثيراً و حققوا الكثير من النجاح. و كذا الحال بالنسبة للسلطة القضائية، و الأجهزة المختلفة عاكفة على العمل. أتخطر أن بعض الأفراد كانوا يأتون للإمام الخميني و يشتكون من الحكومة و من بعض النواقص و ما إلى ذلك، فيقولون مثلاً إنه لم يجر إنجاز العمل الفلاني في المنطقة الفلانية، و كان الإمام الخميني يقول لهم إن إدارة البلاد عملية صعبة! و هذا هو واقع القضية. إدارة الأجهزة عملية صعبة. قد يكون هناك شخص لا عيب و لا نقص فيه أبداً من الناحية الفكرية و من الناحية العملية و من حيث السلامة السلوكية، لكن الجهاز الذي تحت إشرافه و إدارته تعاني مشكلات. هذا شيء يحصل، بمعنى أن استيعاب و شمول كل جوانب القضية ليس بالعملية السهلة. إنها حالة تحدث و هناك الآن مشكلات. طبعاً ليس هنالك من يعارض النقد - تسجيل الإشكالات و المؤاخذات و ممارسة النقد و طرح نقاط ضعف في الخطط و السياسات التنفيذية، لا أحد يستنكر هذا - بيد أن هذا يجب أن لا يعني التخريب و الوقوف بوجه المساعي المبذولة. علينا جميعاً أن نعتبر دعم الحكومة و الأجهزة التنفيذية و العملية و مساعدتها من واجبنا، و سوف ننهض بهذا الواجب إن شاء الله.
نتمنى أن لا يسلب الله تعالى فضله من هذا الشعب، و سوف لن يسلبه إن شاء الله. هذا المقدار من التوجّه إلى الله و التوسّل بالجانب الروحي و المعنوي الموجود في بلادنا اليوم سوف يساعدنا بالتأكيد، و ثمة حالات يصل فيها الإنسان حقاً إلى طريق مسدود، لكن التوجّه إلى الله تعالى و التوسل بالعنايات الربانية تفتح الطرق المسدودة حقاً، و هذا ما يجب أن نتابعه إن شاء الله. كما ذكرنا مراراً فإنني عندما أنظر إلى الآفاق المستقبلية أجدها مشرقة جداً، و أعلم أن مستقبل هذا البلد بتوفيق من الله و حوله و قوته سيكون أفضل من ماضيه على كافة الأصعدة المادية و المعنوية إن شاء الله.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.‌

الهوامش:
1 - أقيم هذا اللقاء بمناسبة الاجتماع السادس عشر من الدورة الرابعة لمجلس خبراء القيادة (في يومي الحادي عشر و الثاني عشر من شهريور 1393 هـ ش / الثاني و الثالث من أيلول 2014 م ). و تحدث فيه قبل كلمة سماحة السيد القائد، آية الله السيد محمود الشاهرودي (النائب الأول لرئيس مجلس خبراء القيادة) و آية الله الشيخ محمد يزدي (النائب الثاني لرئيس مجلس خبراء القيادة) مقدمين تقارير عن أعمال الاجتماع.
2 - صلاة من أربع ركعات ورد شرحها في كتاب «المراقبات».
3 - القصف الذرّي لمدينتي هيروشيما و ناكازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية بأمر من رئيس جمهورية أمريكا.
4 - معتقل غوانتانامو سجن في خليج غوانتانامو جنوب شرقي جزيرة كوبا، و الذي يخضع لإدارة الجيش الأمريكي.
5 - سجن في غرب بغداد كان صدام يعذب فيه معارضيه، و بعد احتلال العراق من قبل أمريكا صار مكاناً لتعذيب و إيذاء السجناء العراقيين على يد العسكريين الأمريكان.
6 - حسب تقارير وكالات الأنباء فإن السجناء المشتبه بارتباطهم بالإرهاب يعتقلون و يحقق معهم و يعذبون في معتقلات سرية للسي آي أي، في أوربا.
7 - كلمته في لقائه وزير الخارجية الإيراني و المسؤولين في وزارة الخارجية و رؤساء ممثليات الجمهورية الإسلامية الإيرانية خارج البلاد، بتاريخ 13 آب 2014 م .
8 - من ذلك كلمته في لقائه المنتسبين لجامعة المصطفى العالمية بتاريخ 27 كانون الثاني 2010 م .