يُنشر النصّ التالي للمرّة الأولى ويعود لمقطع من خطاب ألقاه الإمام الخامنئي بتاريخ 1/11/1986 في مركز التوحيد.
دعوني أذكر نقطة أخرى حول حياة الرّسول الأكرم هي عبارة عن الجوانب العاطفيّة والإنسانيّة المحضة في كافّة مراحل حياته صلوات الله عليه. [...] حاول المستشرقون الذين تحدّثوا حول رسول الله (ص) تجاهل هذه النقطة والتعتيم على هذا الجانب المشرق في حياة رسول الله (ص)؛ [لذلك] صنعوا من رسول الله (ص) شخصيّة عنيفة ترفض السّلم وفارغة من أيّ رحمة وعطف. وفي القرون الوسطى حيث كانت تدور نقاشات حول الإسلام ورسول الله، وتُطلق التصريحات، وتُكتب النّصوص وخلال القرون التي تلتها [أيضاً] حتى الفترة الأخيرة، غالباً ما كان الغربيّون والأوروبيّون والمسيحيّون ينظرون للرّسول الأكرم بهذه النظرة. [...] ولكي يستبقوا الأمور ويتمكّنوا من منع انتشار دعوة الإسلام ولا يحولوا دون اعتناق الشعوب لدين الإسلام، قدّموا صورة عنيفة للرسول ودعوته. وكان دليلهم هذه النقطة التي ذكرتها سابقاً؛ أي كفاح الرّسول الأكرم (ص) وجهاده ومناهضته لجميع الذين كانوا يقابلون دعوته وفكره في مختلف الأنحاء، هذا أيضاً أمرٌ واقع. هؤلاء كانوا يقولون أن ذاك الذي يشارك في ساحات الحرب بهذا النّحو ويستلّ السيف ولا يأبه للقتل وقتل الآخرين، إنسانٌ عنيف ولا أثر بداخله للعاطفة والمحبّة؛ هذا ما كانوا يروّجون له.
وما هو مشهودٌ في حياة الرّسول الأكرم (ص) يقع في النقطة المقابلة تماماً لهذا الفهم الخاطئ. لقد استفاد النّبي الأعظم (ص) من هذين العاملين بشكلٍ موازٍ من أجل نشر دعوته؛ أي أنّه كان ينتهج العنف مع الأعداء الذين لم تكن لديهم أيّ بوادر للسلم والمرونة والرّضوخ للحق وكانوا من أهل القسوة والعنف، لكنّه كان يتعامل بليونة ومرونة مع الذين لم يكونوا من أهل القسوة والعنف وكان لديهم الاستعداد للقبول بالحقّ، وكان تعاطيه المرن مرفقاً بالعاطفة الجيّاشة والمشاعر الطاهرة -وهذا أمرٌ مذهل في حياة الرّسول الأكرم (ص) وهو أشبه بالمعجزة- ولم يكن ذلك محصوراً بالمسلمين والمؤمنين حيث كان بالنسبة لهم آية من المحبّة والعطف والرّحمة،
بل كان ذلك مشهوداً في تعامله مع غير المسلمين أيضاً. ومن التوصيات التي كان رسول الله (ص) يقدّمها للأشخاص الذين كانوا ينطلقون باتجاه ساحات القتال أن يرحموا النساء والأطفال، ويتصرّفوا بشهامة مع مقاتلي العدوّ، ولا يقطعوا عنهم الماء، ولا يمنعوا عنهم الطعام، وأن يقبلوا استسلام من يستسلمون، وأن يقبلوا أيضاً إسلام من يعلن إسلامه وسط ميدان القتال؛ إلى هذه الدّرجة! أي أنّه كان بعيداً كلّ البعد عن نزعة العنف والانتقام. هكذا كان يتصرّف النّبي الأكرم مع الأعداء. مع الأعداء والكفّار -وما أقصده بكلمة "الأعداء" هم "الكفّار"، فقد كان يعامل أولئك الذين يأتون إليه دون أن تكون لديهم مشاعر الخصومة ودوافع عدائية تجاهه بدرجة من العطف والمحبّة تجعلهم يشعرون بالخجل.
عاطفة الرّسول الأكرم ومحبّته ومشاعره اللطيفة تجاه البشرة، ممشى ومنهج، وليست حالة عابرة وموقف شخصيّ ونابعة من الضعف. [...] يقاتل النّبي الأعظم (ص) أولئك الذين يحاربون الإسلام لأجل إنقاذ البشر وتكاملهم -وهذا ما يمثّل غاية رسول الله (ص) وهدفه الأخير-، ويعاملهم بمنتهى الشدّة والعنف. طبعاً هذا العنف بعيدٌ عن أيّ حقد أعمى.
[...] لم يكن هناك مكانٌ للحقد والنزعة الانتقاميّة في كفاح النبيّ الأكرم [حتى] عندما كان ينتهج الشدّة والعنف؛ لكنّ شدّة وعنف الرّسول كانت جديّة أيضاً، فلم يكن يجامل أحداً؛ فقد كان أقاربه، وأصدقائه، وعمّه يقابلونه في ميدان القتال ويتعرّضون لحدّة سيف رسول الله (ص). [...]، لم يكن يتوانى عن القضاء على أقاربه الذين يواجهونه؛ لماذا؟ لأنّهم كانوا أعداء النّهج الإلهيّ، لأنّهم كانوا يصدّون عن سبيل الله؛ لكنّه كان يتواضع أمام الأجانب من غير العرب أيضاً الذين كانوا يتخلّون عن أرواحهم وأموالهم في سبيل هدف رسول الله (ص) السامي والرفيع، ويصغّر نفسه أمامهم.
كان رسول الله (ص) يتواضع أمام أقلّ المسلمين شأنيّة؛ وكانت محبّة وعطف الرسول تشمل حال جميع أفراد المجتمع الإسلامي، من كبير وصغير وطفل ورجل وامرأة، الجميع. وقد قلت أنّ غير المسلمين أيضاً من المحايدين، لم يكونوا في منأى عن محبّة رسول الله: اليهود الذين كانوا هناك، كان النّبي (صلوت الله عليه) يعاملهم بمحبّة ولطف ما داموا لم يمارسوا الأذى؛ وفيما يخصّ المسيحيّين الذين كانوا يعارضون رسول الله (ص) دون أن يقاتلوه، قام بمباهلة -نصارى نجران-، لم يقاتلهم؛ كما أنّ المسيحيّين الذين كانوا يقعون أسرى بيد المسلمين في بعض الحروب -إن كان من القبائل العربيّة وغيرها- كانوا يعلنون إسلامهم لشدّة تأثّرهم بأخلاق رسول الله وكانوا يقرّون بأحقيّة دين ونهج رسول الله (ص)؛ هكذا كان عطف رسول الله (ص) وهذه هي مرونته.
وفي الحياة العائليّة وفي منزلة الأب، كان هذا الإنسان العظيم والمكافح والذي عانى في ميادين النّضال، عطوفاً ورحيماً وصاحب عاطفة جيّاشة قلّما يرى الإنسان نظيراً لها لدى الأشخاص العاديّين. لقد سمعنا كيف تعامل الرّسول الأكرم مع الحَسَنين -اللذان كانا حفيداه صلوات الله عليه-. طبعاً كان تعامله بهذا النحو مع سائر الأطفال [أيضاً]، حتّى الأطفال الأجانب.
[...] وقد كان في عائلته أباً أيضاً ومظهراً وتجسيداً للعاطفة. [...] لقد كان النّبي الأكرم (ص) تجسيداً للعطف والمحبّة والعواطف الجيّاشة داخل منزله. [...] فعندما ينوي السّفر، كانت فاطمة الزّهراء (سلام الله عليها) آخر من يرى؛ وعندما يعود من رحلته، كان يزور أوّلاً فاطمة الزّهراء (سلام الله عليها). [...] لكنّه مع امتلاكه لهذه العاطفة الشديدة يقول لابنته فاطمة الزّهراء أنّني لو سمعت أنّكِ استقرضت شيئاً من بيت المال وأدخلته إلى المنزل فسوف أعاقبكِ كما أعاقب الآخرين: : إنّي لَم أغني عَنكَ مِنَ اللّهِ شَیئاً؛ يا ابنتي يا فاطمة! لن أنفعكِ بشيء في يوم القيامة.
[...] وتشمل محبّة وعاطفة الرّسول جميع المسلمين بل كلّ أفراد البشريّة، "لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم". لا يقدر النّبي الأكرم (ص) على تجاهل صعوبات وآلام المسلمين والمجتمع الإسلامي بسهولة؛ حريصٌ عليكم، لا يتغافل رسول الله (ص) عن مصير المسلمين؛ بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، وهو يكنّ الرأفة والرّحمة للمؤمنين. هذه من خصائص النّبي الأكرم (ص) التي ينبغي أن نتأسى ونقتدي بها.
شخصيّة الرّسول الأكرم شخصيّة عظيمة جدّاً، وهي ذات أبعاد عديدة ومتنوّعة، في كلّ بعدٍ نجد درساً عظيماً لمجتمعنا ولحاضرنا ولتربيتنا الشخصيّة ولإدارتنا الاجتماعيّة. أسأل الله جلّ وعلا أن يمنّ علينا باستلهام الدّروس من حياة رسول الله (ص) ونطبّقها في حياتنا الفرديّة ونقتدي بالمنهج الذي اتبعه النّبي الأعظم (ص) في حياته وأظهره لنا فنبني أنفسنا وحياتنا الاجتماعيّة، ونطبّقه في حركتنا، ونضالنا، وعند مواجهتنا للعوائق، وعند اتّباعنا للأهداف والمبادئ العظيمة والسامية.