الكاتب: الشيخ جابر مسلماني

لكل كائن إنساني ولادتان، ولادة بيولوجية وهي ولادة لا يملك أحدنا أي شرط من شروطها، لا في الزمان ولا المكان، ولا على أي صعيد، وهي الولادة الأولى بالخروج من اللاوجود الى مسرح الوجود بولادة الإنسان من أبويه الذين لا يمكن اختيارهما ولا أي وصف من أوصافهما.

والولادة الثانية هي الولادة الفكرية والثقافية ومجمل تموضع الإنسان في الحياة تحت مظلة مرجعياته الروحية وأنساقه المعرفية المُشَكّلة لشخصيته الثانية على تنوع دوائرها وامتداداتها وروافدها وامتداداتها في السياق الاجتماعي والإنساني، هي ولادة مفتوحة وخاضعة في مصائرها بمعطى سيرورتها الذاتية واشتباكاتها الى أسمى ما في الإنسان من أوصاف وهو عنصر الاختيار الذي يتيح للإنسان السيادة على أفكاره وعقائده وانتماءاته في الحياة، وبذلك تكون ولادته الثانية بما فيها من مخاضات وانعطافات أو ارتقاءات وتجوهر وتصعيد للمضمون الروحي والفكري والثقافي وغيرها في الوعي الإنساني.

يحتفل المجتمع في جمهوريّة إيران الإسلاميّة بعيد الأب في يوم الثالث عشر من شهر رجب وهو يوم ولادة الإمام علي بن أبي طالب (ع). إن لعيد الأب مكانة ورمزية في وجدان الاجتماع الإيراني كما في الوجدان العالمي والثقافة العالمية على اختلاف مشارب الاجتماع الإنساني، لما للأب من حضور ومركزية وفاعلية ورمزية وأصالة في وجود الإنسان، وقد أشار الإمام السجاد (ع) لذلك في رسالة الحقوق الخالدة، ولما للأب من أياد بيضاء على أسرته وأبنائه ولجهاده وكدحه وتربيته وعرقه وتضحياته ورحمته وعطفه ورأفته كما الأم بأبنائه في الكيان الأسري، والأسرة هي الوحدة الأولى من وحدات تشكيل المجتمع ونواته الأولى.

إن اختيار هذا اليوم الشريف لما يحمله من مناسبة إسلامية مجيدة واعتباره عيدا أبوياً يعبر عن عميق انتماء المجتمع الإسلامي في إيران والقيادة الإسلامية لذلك المجتمع العظيم إلى هويته الدينية والروحية والثقافية، ولا شك أن السيادة على الذات الجمعية تبدأ من خلال السيادة الفكرية على الذات والأمة بمجمل مرافقها وتموضعاتها.

ذلك تعبير عن حضور ورسوخ الهوية الثقافية الخاصة بالأمة بعيداً عن ثقافة الاختلاب والاستلاب والاختلال والاغتراب عن مكوناتها التراثية الصلبة والحيّة ومبادئها المكونة لوجودها وولادتها الحضارية. ولذلك قواعد سيّالة وإشارات واضحة ومؤشرات صارمة ورصينة لا يمكن تجاوزها.

إن استحضار الهوية الروحية والفكرية للمجتمع الإسلامي واستحضار رموزه العليا في أعياده ومحطاته الرمزية والواقعية الاجتماعية والوطنية وفي كافة أفعاله وتفاعلاته يمثل قمة الجهاد الأكبر مع الذات الجمعية نظراً للتجاذبات واستراتيجيات الاجتذاب التي تعمل على إفراغ الأمة من مضمونها وتصديع قواعدها المُشكّلة لمضمونها في تاريخها وحاضرها ومستقبلها، إن الهوية هي القاعدة التحتية الصلبة التي يبنى عليها كل بناء عُلوي وفوقي.

يغطي هاتين المناسبتين المتداخلتين على الصعيد الثقافي الإسلامي الخاص قول الرسول الأعظم (ص) للإمام علي بن أبي طالب (ع): أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة، الترابط واضح بين الأبوتين الخاصة والعامة، أو الولادة الأولى والثانية.

هو حديث عن الآباء المؤسسين كما في كل نهضات العالم وثوراته ومنعطفات التاريخ الإنساني الكبرى، ومن جهة ثانية وبملاحظة آليات الحديث النبوي الشريف ومراميه ودلالاته هو إشارة الى المعتقد الإسلامي في أعظم شخصيتين في الإسلام والتاريخ والإسلامي، إشارة إلى الأبوّة في النبوّة والأبوّة في الإمامة كامتداد حاضن وحامٍ للدين الخاتم لحلقات الدين والإيمان منذ تدفقها الأول وتواترها على الصعيد البشري على امتداده.

وبملاحظة ما لسلطة الأبوة العامة في المنظومة الروحية والتشريعية والأخلاقية في مجمل كيان الأمة الفكري والروحي والزمني وفي مدارات حضورها في التاريخ والحاضر والمستقبل.

لقد ولد الإمام علي(ع) في قلب الكعبة الشريفة، في المكان الذي يمثل أعرق وأعمق ميراث روحي منذ النبي آدم (ع) ومروراً بالنبي إبراهيم (ع) الذي رفع القواعد من البيت كما ذكر القرآن الكريم، وصولاً ووصلاً بخاتم الأنبياء والمرسلين وخاتم الرسالات والكتب السماويّة الرسول الأكرم محمد (ص)، وهذه صراطية لها حمولتها ودلالاتها العميقة.

لم يولد قبل الإمام علي(ع) أحد في الكعبة المشرّفة، ولن يولد أحد بعده، ولادة لها خصوصيتها وفرادة له خاصة، وهنا تشرق الآية القرآنية من مجمع التلاقي والاندماج العقدي والتشريعي في قوله تعالى: فولوا وجوهكم شطره.

لا يمكن قراءة الإسلام من دون فهم المكانة العلوية والدور العلوي في قيامته وتشكله وحمايته والدفاع عنه وصيانته وتحصينه بين يدي الرسول الأعظم (ص) الأب الأول للمسلمين، كان الدور العلوي وهو الأب الثاني للأمة واضحاً في كافة مواقع التاريخ الإسلامي التأسيسي وبعده إلى يوم استشهاده في بيت الله أيضاً وقد ختم كلماته في المحراب الدامي بقوله فزت ورب الكعبة، الكعبة التي ولد فيها!

كان دوراً استشهادياً عاشقاً لله ورسوله ودينه في أعلى درجات التقرب والقربانية والتضحية إلى لحظة العروج الملكوتي إلى رب الأرباب، رب الدنيا والآخرة.

كما لا يمكن فهم الإسلام على بصيرة واعية من دون المرور بالعقيدة العلوية التي يمثلها نهج البلاغة، الوثيقة التاريخية الحيّة النابضة، نهج البلاغة مختصر مكثفٌ وافٍ لمن أراد الوقوف على المشرب القرآني والفكر الإسلامي والروحانية الإسلامية الأصيلة.

يجب الوقوف ملياً عند صفحات هذا الكتاب الرفيع الشأن، الصادر من قلب الأب النوراني لهذه الأمة، هو نص ناطقٌ ومفتوحٌ للإنسانية المعذبة ونداء إسلامي عميق للبشرية على امتداد المجتمع العالمي.

بإمكان الإنسان أن يولد ولادته الثانية كاملة على يدي بوابة مدينة علم الرسول الأعظم(ص)، وبإمكان الدول والمجتمعات أن تصوغ شخصيتها وهويتها وترسي دعائم سيادتها على إيقاع صفحات نهج البلاغة ونداءاته على كل صعيد يحتاجه الفرد والمجتمع والأمة.

إن أبوية النبي (ص) والإمام علي (ع) للأمة والإنسان أبوية كاملة الشروط والإلزامات والإلتزامات والعهود والعقود ولذلك تجلياتها الماثلة في حاضر الأمة واستحقاقاتها ورهاناتها وحجم حضورها على الخارطة الدولية.

إن من أعظم الحجج البالغة على المجتمعات العربية والإسلامية ما نشهده هذه الأيام، ذكرى انتصار الثورة الإسلامية بقيادة سماحة الإمام الخميني(قده) الذي قوض أعمدة بنيان طواغيت الأرض، وأسقط الخيلاء العالمي وما يحمله من استكبار واستئثار ونشر الدمار والخراب بلا حدود ولا رقيب ولا رادع.

لقد أعاد الإمام الخميني الاعتبار لنظرية الإسلام الروحية والسياسية في قيادة الدولة والمجتمع بعد أن كان قد أعلن الفكر العالمي الأرضي نهاية التاريخ وعقم كافة الأيديولوجيات غير الديمقراطية الصرفة بمبانيها وأرضياتها الخاصة وخلفياتها الثقافية ومبادئها المقررة بعيدا عن الدين ومبادئه وقيمه الإلهية وقواعده وقوانينه وأخلاقه، إعلان كان بمثابة الشطب والإلغاء لكل ما عداها من مرجعيات ونصوص وهويات. لقد قال الإمام الخميني كلمة أخرى، وأعاد الاعتبار للإسلام واستراتيجياته وخطابه العالمي ومن موقع الدولة النموذج، دولة معاصرة يقودها الدين وتحرسها العقيدة.

إن الجمهورية الإسلامية اليوم بقيادة سماحة الإمام الخامنئي (حفظه الله) أهم شخصية معاصِرة، وبما حققته من إنجازات كبرى على صعيد تجديد الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي على قاعدتي الأصالة والمعاصَرة، وعلى صعيد العلم والمعرفة والتكنولوجيا والإدارة والاقتصاد والسيادة والاقتدار ورفعة الشأن واحترام موقع الجمهورية وحضورها وهيبتها في العالم- بالرغم من مرارات الحصار الدولي وظلمه وازدواجية معاييره وفصامه وانشطاره بين مبادئه المعلنة عالمياً في مواثيق حقوق الإنسان والمجتمعات والدول وبين قراراته وسلوكه الاستبدادي التوحشي- تمثل الجمهورية الإسلامية نموذجاً حياً للمجتمعات والدول العربية والإسلامية لقيادة نفسها وسيادتها على أرضها وإنسانها ومقدراتها بعيدا عن الانزياحات ومنظومات التبعية.

لقد خاطب الإمام الخميني الأمة كلها منذ انتصار ثورته الى لحظة رحيله مراعياً خصوصياتها المذهبية والعرقية والطائفية والثقافية وعمل جاهدا ومجاهدا على إيقاظها من سباتها وإعادتها الى ذاتها وسبق الجميع الى حمل قضايا المسلمين المركزية، وكذلك الإمام الخامنئي خاطبها وما زال يخاطبها ويمد يده لإخراجها من أسر التبعية والضياع والتشرذم والموات ويذكرها بتاريخها وهويتها ومبادئها.

إن خلاصة خطاب الإمامين العظيمين وهما أبوا الثورة والجمهورية الإسلامية هي دعوة المسلمين على تنوعاتهم الى ولادتهم الثانية من خلال مرتكزاتهم الإيمانية، لا حاضر ولا مستقبل للعالم الإسلامي من دون ذلك، لا شك أن المسلمين قادرون على تحقيق كامل حضورهم من خلال إعادة الاعتبار لنظرية الحكم في الإسلام على أرضهم وفي مجتمعاتهم من خلال سيادة شعبية دينية مرجعها القرآن الكريم بقيمه ورسالته الروحية والحضارية ومن خلال مقاصد فقههم الإسلامي وتجلياته القانونية وعلى قاعدتي الأصالة والمعاصرة وبإمكان جميع المسلمين التعاضد والترافد المعرفي والفقهي والسياسي لصياغة مستقبل مشرق لهذه الأمة.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir