يذكّرنا يوم 13/9/1993 بإطار صورة كانت، حتى بضعة أشهر قبل ذلك التاريخ، بعيدة عن أذهان أهل الانتفاضة الثائرين والحاملين الحجارة بأيديهم، إطار الصورة التي منحت المؤسسات المروجة للقيم الغربية «جائزة نوبل» لأصحابها على توقيعهم اتفاقية أوسلو: بيل كلينتون وياسر عرفات وإسحاق رابين.
 

الهدف الرئيسي لـ«أوسلو» هو السيطرة على الانتفاضة الأولى والمقاومة الناشئة

عام 1987، اندلعت انتفاضة في فلسطين واستمرت أكثر من أربع سنوات. في هذه الانتفاضة، استشهد 1160 فلسطينياً واقتلع الصهاينة أكثر من 140 ألف شتلة من الأراضي الزراعية الفلسطينية. بدأت انتفاضة الحجارة عندما دهست شاحنة إسرائيلية بعض العمال الفلسطينيين واستشهد أربعة منهم. رأى الفلسطينيون هذا الحادث قتلاً متعمداً، وفي اليوم التالي، أثناء تشييع الجثامين، ألقوا الحجارة على مقر للكيان الصهيوني في جباليا. في المقابل، أطلق جنود الاحتلال عيارات نارية من الجو، وردّ الفلسطينيون أيضاً بإمطارهم بالحجارة وقنابل المولوتوف. كانت هذه المواجهات الشرارة للانتفاضة الفلسطينية الأولى.

في أعقاب الأمر الذي أصدرته الحكومة الإسرائيلية للجيش في 21/12/1987 باعتقال الفلسطينيين المتهمين بمحاربة إسرائيل وقمعهم بكل طريقة ممكنة، اشتدت نضالات الشعب الفلسطيني. إثر ذلك، تشكلت مجموعات شعبية عفوية لتحدي القوانين الإسرائيلية ودعم الفلسطينيين.

مع بداية 1988، استمرت الانتفاضة واتخذت شكلاً ملموساً أكثر وظهرت على الساحة العالمية والإقليمية كقضية أساسية ودولية لها وزن وخصائص مختلفة. في الانتفاضة الأولى، استشهد المئات على يد الجيش الإسرائيلي، فيما قُتل 160 إسرائيلياً على أيدي المناضلين الفلسطينيين. من أجل السيطرة على الانتفاضة الشعبية في فلسطين وصعود المقاومة، صمّم النظام الصهيوني تسوية تمنح الفلسطينيين في الظاهر امتيازات لا يمكن تحقيقها، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وهذا مقابل الاعتراف الرسمي بالوجود المزيف للكيان من «منظمة التحرير الفلسطينية» التي كانت الحركة الرئيسية في الكفاح ضد المحتل في ذلك الوقت.

في 13/9/1993، وقّع إسحاق رابين (رئيس وزراء الكيان الصهيوني) وياسر عرفات (رئيس اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير») اتفاقية أوسلو في واشنطن بحضور الرئيس الأمريكي آنذاك، بيل كلينتون. وفق ذلك، يعترف الطرفان ببعضهما بعضاً ويعلنان «أسس تحقيق السلام والانسحاب التدريجي» للنظام الصهيوني من الضفة الغربية وقطاع غزة.

«تكبّد الشعب الفلسطيني في انتفاضته السابقة (الأولى) خسائر جسيمة، وقدّم في سبيل الإسلام وتحرير الأرض الإسلامية كثيراً من الشهداء والجرحى، لكن مفاوضات أوسلو قضت بإيقافها في النهاية. ماذا كانت نتيجة "أوسلو"؟ إذا ما أعطت شيئاً شحيحاً للجانب الفلسطيني وسمّته امتيازاً، فإنما كان ذلك لإخماد شعلة الانتفاضة والتقليل من وهجها. فما إن رأت (سلطات الكيان) مشكلتها قد انحلّت وأحسّت خطأً أنّ الشعب الفلسطيني لم يعد قادراً على استئناف الانتفاضة والمقاومة والمواجهة، حتى أوقفت إعطاء ذلك المقدار الضئيل من الامتيازات وكشفت عن أهدافها الذاتية التوسّعية. إنّ آلية عملية التسوية ومشروع أوسلو وضعا الشعب الفلسطيني في حالة جعلتهم يدركون أنه لا سبيل لديهم سوى الانتفاضة» (الإمام الخامنئي، 24/4/2001).

بعد «أوسلو» إلى مؤتمر مدريد عام 2000، عُقدت اجتماعات واتفاقات عدة بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني لتحقيق بنود «أوسلو». لقاءات واتفاقات كانت فقط لمصلحة الكيان الصهيوني للسيطرة على حركات المقاومة. وفق «أوسلو»، تشكلت قوة الشرطة الفلسطينية، وكُلفت مهمة السيطرة على المقاومة خاصة في غزة. بناءً على ذلك بدأت عملية دخول قوات الشرطة الفلسطينية إلى القطاع عام 1994، وازدادت مسؤوليات السلطة في المجال الأمني، وزادت هذه السلطة عديدها في الشرطة إلى نحو 40 ألف شخص لأداء مهماتها، فصار ذلك أكبر عدد من قوات الشرطة مقارنة بعدد السكان في العالم. وكانت السلطة، التي مقرها في رام الله، قد أقامت ثمانية أجهزة أمنية مختلفة، لم تتردد في اتخاذ أي إجراء في التعامل مع المعارضين لها، وتعاونت مباشرة وعلناً مع الأجهزة الأمنية الصهيونية والأمريكية.

أدى هذا الوضع إلى زيادة الميزانية الأمنية إلى حد أنها في عام 2000 شكّلت 70% من إجمالي ميزانية رام الله، وكان ذلك على حساب الاقتصاد الفلسطيني والمؤسسات التعليمية والحريّات السياسية والأنشطة المؤسساتية الاجتماعية. وفي نيسان/أبريل 2000، رأت شخصيات فلسطينية بارزة ومنظمات حقوقية أن «أوسلو» كانت «كارثة اقتصادية وسياسية» على الفلسطينيين، فدعت إلى استقالة ياسر عرفات عبر وثيقة نُشرت في واشنطن. وفق هذه الوثيقة انخفض نصيب كل فلسطيني من معدل الدخل الفردي بنسبة 30% وتضاعف معدل البطالة في الضفة وغزة ثلاث مرات من 1993 إلى 2000.(1)

 

درس «أوسلو» الكبير

«معاهدة أوسلو في 1993 وبعد ذلك المشاريع التكميلية الأخرى التي أدارتها أمريكا، وواكبتها البلدان الأوروبية الاستعمارية، التي فُرِضت واحدة تلو أخرى على كاهل الجماعات الاستسلامية العديمة الهمّة من الفلسطينيين، انصبت معها مساعي العدو كافة على صرف الشعب والجماعات الفلسطينية عن خيار المقاومة بوعود فارغة ومخادعة وإشغالهم باللعبة الرعناء في الساحة السياسية» (الإمام الخامنئي، 1/10/2011).

بعد مرور سنوات على توقيع «أوسلو»، استمر الكيان الصهيوني في المماطلة ولم يحدد مصير القضايا الأساسية التي كان ينبغي حسمها بحلول 1998. وفقاً لاتفاقات أوسلو كانت السلطة تسيطر عملياً على المناطق السكنية الفلسطينية، كان الصهاينة يسعون منذ مدة طويلة إلى التخلي عن المسؤوليات المزعجة لهم، مثل الملاحقات الأمنية وتحصيل الضرائب وتقديم الخدمات المدنية إلى الطرف الآخر، من أجل ممارسة استعمار مريح على أرض فلسطين.

عندما خفّ وهج مشروع التحرير والحروب العربية ضد إسرائيل وصارت السلطة مسؤولة عن قمع المعارضين المسلحين للكيان الصهيوني في الضفة وغزة، تمكن هذا الكيان من تحقيق حالة من الهدوء النسبي وزيادة نموه الاقتصادي. في هذا الوضع، وصل الناتج المحلي الإجمالي للكيان الصهيوني من 15 مليار و300 مليون دولار عام 1983 إلى 105 مليارات و400 مليون دولار عام 2000، ما يشير إلى نمو يبلغ 7 أضعاف (689%) في هذا المجال. فلم يعد الكيان يعتمد على المساعدات الأمريكية والخارجية التي شكلت عام 1983 نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي لهذا الكيان.(2)

«إن الفرصة التي مُنحت لعملية التسوية كانت لها آثار مخرّبة في مسار مقاومة الشعب الفلسطيني وكفاحه، لكن فائدتها الوحيدة هي إثبات أن لا صحة لتصوّر "النظرة الواقعية" على الصعيد العملي. أساساً إن أسلوب تشكّل الكيان الصهيوني وطريقته على نحو لا يمكن معه أن يكفّ عن نزعته التوسعية وقمعه وسحقه حقوق الفلسطينيين» (الإمام الخامنئي، 21/2/2017).

 

«أوسلو» والمصير الملهم للعبر

إن مصير الفائزين بـ«جائزة نوبل للسلام» بعد «أوسلو» ملهم للدروس. اغتيل ممثل الصهاينة في أوسلو، إسحاق رابين، عام 1995 على أيدي متطرفين صهاينة معارضين للاتفاقية. والشخصية المقابلة له، ياسر عرفات، توفّي مسموماً بنحو مريب عام 2004، بعد ظهور بعض التغييرات في سلوكه وتصرفاته مع الصهاينة، إثر خيبة أمله من تنفيذ «أوسلو»، وتأييده الانتفاضة الثانية.

«أثبت مصير عرفات أن المفاوضات مع أمريكا والحكومات الغربية الأخرى وكذلك مع المحافل الدولية العديمة الفائدة تجربة مريرة وغير ناجحة لفلسطين. التلويح بغصن الزيتون في الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن له نتيجة سوى اتفاقية أوسلو الخاسرة، ثم انتهى بمصير ياسر عرفات وما فيه من عبر» (الإمام الخامنئي، 22/5/2020).

«اليوم حتى المخططون والمدافعون الفلسطينيون عن "أوسلو" لا يدافعون عنها اليوم لأنهم أدركوا عملياً أنّ إسرائيل كانت تريد فقط أن تحل مشكلتها، أي أنْ تتخلص من مواجهة ثوار الحجارة، وتقلل من قابلية تعرّضها للأضرار» (الإمام الخامنئي، 24/4/2001).

 

1.  صحيفة الخليج (الشارقة، الإمارات، 8/5/2000).

2. كتاب القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، للأستاذ الدكتور محسن محمد صالح. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت.