لطالما سمعت اسم علي رضا توسّلي أو «أبوحامد» لواء «الفاطميّون». وقد أجريت قليلاً من البحث في الساحة الافتراضيّة للتعرّف أكثر على هذا المدافع عن المقدّسات. طبعاً، هذا الأمر يعود إلى الفترة الزمنيّة التي كنت فيها شأني شأن الكثيرين من الكتّاب وصانعي الوثائقيّات في هذه الديار أحمل هاجس الذهاب إلى سوريا والحضور في ميادين الصراع داخل ذاك البلد.

كانت المرّة الأولى التي ركّزت فيها بشكل جدّي واحترافي على اسم هذا الرجل الهزاري وسيرته، وبدأت التفكير بجوانب شخصيّته المتعددة، في يوم من أيام شتاء العام 2019. كنت جالساً على كرسيّ بجانب نافذة طائرة شركة واروش أراقب البحر وحقول الأرز والسهول على امتداد المسار بين مدينتي ساري ومشهد. كنت قد تكفّلت كتابة سيرة حياة الشهيد توسّلي وها أنا ذاهبٌ إلى مشهد لكي أجري الحوار الأوّل مع أسرته وعائلته وأقاربه وأصدقائه.

لم يطل الأمر كثيراً حتى أدركت أنني أتعامل مع رجلٍ خاصّ واستثنائي من النواحي كلّها. أفغانيٌّ شيعيٌّ من قبيلة وقوم هزارة، وقد نذر حياته كلّها لمكافحة الظلم والاستبداد واعتداء الأجانب والرجعيّة الدينيّة، وفي السعي والجهاد من أجل تحقيق استقلال الوطن وإرساء العدل والمساواة وإحقاق حقوق الشيعة في أفغانستان. مع بدء أبحاثي، راودني وسواس هو: ما الاسم الذي ينبغي أن أضعه كعنوان لهذا العمل؟ لقد كان هذا الأمر يشغل بالي دائماً أثناء الكتابة بشكل جدّي وحقيقي. وما أشارت إليه مقابلات الأشخاص الذين أجريت معهم حوارات حول التعريف بالخصائص الفرديّة لعلي رضا توسّلي، هو كونه خفيف الجناحين ورجلاً لا يعرف الهدوء والجلوس. فحسب أقوالهم، لم يكن هذا المجاهد يمكث في مكان واحدٍ طيلة فترة جهاده، ولقد كان يحزم حقيبة سفره دائماً ويسارع للالتحاق بميدان الصراع الذي تقف جبهة الحق على إحدى طرفيه في أقل وقت ممكن.

في ذلك الوقت كنت أشعر بأنّي أواجه إنساناً يتمتّع بانسيابيّة خاصّة وغير دائمة. إنساناً يؤدّي به البقاء في مثل هذه الحالة أو المكان الذي يفتقد إلى التحديات، إلى التجزّؤ والإعياء والفساد. والسؤال الذي كان يتبادر إلى ذهني هو: ما هي العمليّات الموجودة في الطبيعة والتي يمكن أن تنطوي على مثل هذه الخصائص. بدا لي النهر مناسباً. فهو في حالة سريان وجريان دائمة، ويصبح مستنقعاً في حال توقّف عن الحركة. لم يرُق لي هذا الاسم كثيراً. ولم يكن لديّ دليلٌ منطقيٌّ على عدم الاختيار هذا. ثمّ فكرت بالريح. الريح أكثر انسيابيّة ونفوذاً وعبوراً من النهر. فكّرتُ في نفسي، قد تؤدّي الريح حقّ المفهوم أكثر. فغدت الرياح مطلع الاسم الذي تقرر أن يكون العنوان لهذا الوثائقي. ثمّ فكرت أكثر وتوصلت إلى أنّه لا بدّ لهذه الريح أن تكتسب هويّة معيّنة.

هكذا وجدتُ علي رضا توسّلي، فهو على الرغم من كلّ الوجوه التي كانت تحذّره من الانقياد نحو أرضٍ معيّنة واتباع قومٍ محدّدين، امتلك هويّة بارزة جدّاً وجليّة إلى حدّ كبير، وهي كونه أفغانيّاً. إذاً رأيت أنّه من الضروري أن أجعل للريح هويّة جغرافيّة تتناسب طبعاً مع الخصائص الخاصّة والاستثنائيّة لهذا الرّجل. وأيّ علامة محليّة أفضل من سلسلة جبال «هندوكوش» تستوعب كلّ هذه الخصائص. عليه، تمّت تسمية الريح بهندوكوش.

بدا لي هذا الاسم كاملاً، لكنّه لم يكن كافياً وكاملاً. كان ينقصه شيءٌ معيّن. كانت كلمة «هندوكوش» تحمل كلّ الاحتياجات على مستوى الشخصيّة التي كنت أحتاجها لعلي رضا، والتي كنت أرغب أن ألخّصها بكلمة واحدة. لكنني كنت أشعر بأنّه لا يزال ينقصها شيءٌ أيضاً. بعد تسمية الوثائقي، تركت العمل عليه مؤقّتاً وواصلت أبحاثي حول هذا القائد الشيعي.

يُجبر علي رضا توسّلي في سنيّ النشأة على الهجرة إلى إيران بسبب الظروف السيئة والخطيرة في موطنه ومحلّ ولادته، وفور دخوله إلى إيران، يسير على خطى والده وشقيقه الأكبر اللذَين كانا من طلّاب العلوم الحوزويّة، ويختار مسار العلم والمعرفة. ولكي ينهل من فيض العلماء الشيعة، يقيم بداية في حوزة نجف آباد العلميّة ومن بعد ذلك في حوزة قم العلميّة. بعد فترة وجيزة، يتمّ إرساله إلى جبهة كردستان في زيّ التعبئة من أجل المشاركة في جبهات الحرب المفروضة وانطلاقاً من شعوره بالتكليف، ويبقى في متاريس المعركة ضدّ الانقلاب الداخلي ثلاثة أشهر.

ومع انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان وبدء الحروب الأهليّة داخل هذا البلد، يعود إلى ربوع الوطن ويحمل السلاح ليشارك في ميادين القتال ضدّ الذين نسجوا أخيلة وأوهام تمزيق هذا البلد، فحياته إنّما تستمرّ مع مواصلته النضال.

لكن بعد حادثة 11 أيلول وشنّ أمريكا الهجوم على أفغانستان بذريعة القبض على بن لادن، تشهد الأوضاع تبدّلاً بزاوية 180 درجة على عكس مصالح جبهة المقاومة، فيقرّر علي رضا توسّلي مرغماً مغادرة الوطن. تبدأ مرحلة جديدة في حياة علي رضا توسّلي منذ هذه الفترة. مرحلة تستمرّ عشرة أعوام تجلب معها اليأس والاكتئاب. لكن توسّلي لم ينقطع عن العمل العسكري طيلة هذه الأعوام العشرة.

ومع بدء الحرب الأهليّة في سوريا وتهديد حرم السيّدة زينب (س) وحرم السيّدة رقيّة (س)، يدوّي نداء الرحيل في قلبه المنكسر فلا يتريّث لحظة بل ينطلق بلهفة مع عدد من قدامى رفاقه في الجهاد للمشاركة في جبهات الحرب داخل سوريا.

وهو الذي كان قد أنهى للتوّ عامه الأربعين، يبادر فوراً إلى تنظيم المجاهدين الأفغان الحاضرين في جبهات الحرب داخل سوريا ويشكّل خلال فترة وجيزة لواء «الفاطميّون» العسكري. تتوالى العمليّات واحدة تلو الأخرى بمشاركة أبطال الشيعة الأفغان وقيادة علي رضا، وتتوالى الفتوحات كذلك الأمر.

يتنقّل علي رضا من مكانٍ إلى آخر، كالريح. أحياناً في حلب ومرّة في دمشق وضواحي حرم السيّدة زينب (س) وفي بعض الأحيان على مقربة من مطار دمشق الدولي وفي أحيان أخرى في مرتفعات اللاذقيّة وحمص وحماة.

تتعرّف الوحدات العسكريّة النشيطة في جبهات الحرب سريعاً على رجلٍ يخرّج بإدارته العسكريّة الخاصّة للمجاهدين الفاطميّين، من تلك الجثث الصغيرة والنحيفة والوجوه المعروفة، مقاتلين يعني حضورهم في أيّ عمليّة ضد داعش أو جبهة النصرة أو الجيش السوري الحرّ توقيعاً سريعاً على تحقيق النصر في تلك العمليّة.

كانت أبحاثي في مشهد وطهران وقم وأخيراً في سوريا نفسها على وشك أن تنتهي، وكنت لا أزال حائراً في ما سأختاره من اسم. وخلال الأيام الأخيرة من رحلتي إلى سوريا أتيحت لي فرصةٌ عظيمة، واستطعت زيارة «تل قرين»، حيث استشهد علي رضا توسّلي. كان مكاناً غريباً. لم أكن أصدّق أنني على بعد كيلومترات قليلة من حدود الكيان الصهيوني الغاصب. كانت مرتفعات الجولان من شرقها إلى غربها تمتدّ أمام ناظريّ. هناك، لفتت انتباهي صفة التمرّد في رياح سلسلة جبال «هندوكش». لقد كان علي رضا توسّلي كرياح «هندوكش» المتمرّدة في أفغانستان، فهو قاتل حتى آخر أنفاسه وحتى القطرة الأخيرة من دمائه ضدّ الظلم دون أن يهدأ ويسكن، وبلا هوادة.