إنّ المعادلات العسكرية الجديدة التي تغيرت بعد رد إيران على القواعد العسكرية في الكيان الإسرائيلي هي اعتداء يقابله ردّ.
سابقاً كان الاعتداء يتمادى ولم تكن إيران من جهتها ترى الظروف مناسبة تماماً للرد بهذه الطريقة المباشرة والمؤلمة. كانت إيران تعتمد ما أُطلق عليه الصبر الإستراتيجي، اليوم ومع هذا الرد يبدو أننا انتقلنا إلى مرحلة انتهاء الصبر الإستراتيجي، وعلى الكيان الصهيوني أن يتوقع الرد مقابل أيّ اعتداء؛ يعني على قادة هذا الكيان أن يحسبوا ألف حساب قبل أي اعتداء مقبل؛ هذه هي المعادلة التي رسمتها قيادة الجمهورية الإسلامية فيما يتعلق بالصراع المتواصل مع هذا الكيان، وهي في الوقت نفسه رسائل إلى الحلفاء الدوليّين لهذا الكيان، وإلى الدول الإقليمية أيضاً؛ بأن تعيد حساباتها وتفكّر في طبيعة العلاقة مع هذا الكيان و في طبيعة العلاقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
في الواقع، إنّ التبعية الإسرائيلية للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص انكشفت منذ طوفان الأقصى. هذا الطوفان وبما يحمل من تراكمات لقدرات المقاومة كشف تراكم التراجع في قدرات العدو؛ التراجع الاستخباري والأمني وفي قدرات الجيش والمعنويات، وتبين أن هذا الكيان لا يمتلك القدرات التي تستعرضها الدعاية السياسية والعسكرية والإعلامية، ويفسر ذلك هرع الدول الكبرى لحمايته؛ أي الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية الأمريكي والوزير الألماني والرئيس الفرنسي؛ الذين جاؤوا لإدارة الحرب ضد حركة حماس. اليوم هذا الأمر يتكرر مع الوعد الصادق ومع الرد التأديبي الإيراني لهذا الكيان.
فكرة الرد التأديبي مهمة وإستراتيجية؛ لأن المطلوب هو أن يؤدي الرد إلى تأديب هذا العدو وردعه حتى لا يكرّر عدوانه. خلال معركة طوفان الأقصى احتاج العدو إلى امدادات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا بالصواريخ ليستكمل حربه ضد الشعب الفلسطيني، وفي معركة الوعد الصادق احتاج إلى أنظمة الصواريخ المضادة عند الدول الكبرى لردع ومواجهة المسيرات والصواريخ الإيرانية. الإسرائيليون أنفسهم يتساءلون اليوم؛ لو لم يقف هؤلاء إلى جانبهم لكانت مئات المسيرات والصواريخ سقطت على رؤوس المستوطنين وقياداتهم داخل الكيان.
مسألة التبعية الصهيونية للغرب والولايات المتحدة أصبحت واضحة؛ هذا الكيان تحول من ذراع عسكري للغرب يحمي مصالح الغرب في بلادنا إلى ذراع مكسورة تحتاج إلى الحماية والإصلاح، وإلى الترميم والتدخل الخارجي لحمايتها؛ هذه هي المعادلة الجديدة أيضاً التي كشفتها بشكل واضح عملية الوعد الصادق.
من المؤسف حقاً أن تقف بعض الدول العربية وتسهم في صد المسيرات الإيرانية المتوجهة نحو فلسطين المحتلة، والتي كانت ستسقط على رؤوس الصهاينة المستوطنين والقواعد العسكرية، ومن المؤسف أيضاً أن بعض هذه الدول وقفت على مدى ستة أشهر تتفرج على مأساة الشعب الفلسطيني لا تفعل شيئاً، وبعضها يشارك في الحصار، ولايقدم أي مساعدة لأهل غزة الذين يعانون الجوع والحصار والأمراض، وهذه الدول نفسها ربما لا ترغب في انتصار حركة حماس، ولا أن تكون الجمهورية الإسلامية هي التي تتصدى بشكل مباشر،وترسل الصواريخ والمسيرات لضرب الكيان الصهيوني، هي لا ترغب في ذلك. وربما تصغي إلى أوامر الولايات المتحدة، هذه الدول تخاف من المعادلة الجديدة في المنطقة؛ المعادلة التي جعلت إيران بعد هذه الضربة في قيادة المشهد الإقليمي، و في الموقع المتقدم بين الدول العربية والإسلامية، ولهذا السبب ذهب البعض ليقلل من أهمية هذه العملية التاريخية.
وفي كل الأحوال إيران التزمت الدفاع عن هذه القضية منذ الثورة الإسلامية قبل أكثر من 40 عاماً وتحمّلت الكثير. تحمّلت العقوبات والاعتداءات والتهديدات والاغتيالات كلّها بسبب موقفها من القضية الفلسطينية. اليوم سنحت الفرصة للردّ بسبب اعتداء أحمق معزول دولياً الإعتداء على مؤسسات دبلوماسية لا أحد في العالم يستطيع أن يبرّره. الكيان الصهيوني معزول بسبب هذه الضربة وهذه الفرصة التي استفادت منها إيران لتوجه ردّاً معترَفاً به في المواثيق الدولية. وبالتالي باقي الدول العربية ومعظمها ليست ضمن هذا التوجه؛ هناك دول تتعاون مع إيران، وتتعاون مع حركات المقاومة، وفيها حركات مقاومة، ولكن بعضها أقرب إلى السياسة الأمريكية والمصالح الأمريكية وفق حساباتها. والأمور وفق ما ينتج عن الميدان في المواجهة، وعندما تقود إيران هذه المواجهة مباشرة _وقد سبق أن قامت بهذا الدور في دعم حركات المقاومة_ فإنها تتصدر المشهد الإقليمي والمشهد العربي والإسلامي، وسمعنا وقرأنا مواقف الشعوب في البلاد العربية والإسلامية إزاء الرد الإيراني والذي عدّوه أمنية وموقفاً صائباً إلى جانب الشعب الفلسطيني وهو يختلف عن مواقف باقي الدول العربية والإسلامية.
الأوضاع في المنطقة طبعاً لاتزال في مرحلة تحول بانتظار نتائج المعركة في غزة، وبانتظار إعلام العدوّ وقف إطلاق النار الذي سيعني هزيمته المباشرة، وهو كما بات معلوماً لم يحقق إنجازًا عسكرياً واحداً، كما أنه لم يحقق أي إنجاز سياسي، وهو معزول على المستوى الدولي أصلًا بسبب المجازر البشعة التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني، واليوم أي معادلة جديدة في الشرق الأوسط سيكون لمحور المقاومة فيها دور أساس، وسيكون اليمن أحد أطرافها، و إيران التي لا يستطيع أحد أن يتجاهل وجودها ودورها خصوصاً بعد هذا الرد التأديبي على الكيان الصهيوني الذي أثار اهتمام وانتباه دول المنطقة، والتي بتقديري ستسعى إلى التقارب أكثر مع إيران، والتي لن ترى بعد اليوم في التحالف مع إسرائيل ضمانة لها، بل على العكس سترى أنها لن تكون في حاجة إلى التعاون مع هذا الكيان الذي فقد قدرة الردع وعاش حالة من الرعب إثر الرد الإيراني، وعلى الأرجح ستذهب إلى التعاون أكثر مع إيران، وهذا طبعاً لن يخدم المصالح الأمريكية ولا المصالح الإسرائيلية.
يؤكد ذلك أن الجمهورية الإسلامية اعتمدت سياسة واضحة وثابتة وصادقة طوال العقود الأربعة الماضية تجاه القضية الفلسطينية، وأن خيار الرد كان خياراً دقيقاً وجريئاً وشجاعاً، وقد استفادت من الأوضاع الدولية ومن الجهود الدبلوماسية، وهي خطوة تؤدي في نهاية المطاف إلى حضور فاعل وقوي للجمهورية ولمحور المقاومة على مستوى المنطقة، وإلى المزيد من عزلة "إسرائيل" وضعفها وعدم ثقة المستوطنين بالجيش ولا بالقيادة السياسية وهذا بالتأكيد من علائم شيخوخة هذا الكيان وانهياره.