كيف غيّرت عملية «طوفان الأقصى» المعادلات ودَفَعت مشروع التطبيع إلى الهامش؟

في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2023، لم يشهد العالم يومًا عاديًّا يمكن أن يُطوى في النسيان، إذ شنّت المقاومة الإسلامية الفلسطينيّة صباح ذلك اليوم عمليّة تاريخيّة حملت اسم «طوفان الأقصى»، تمكّن المجاهدون خلالها من التوغّل في مستوطنات صهيونيّة عدّة تقع في غلاف قطاع غزّة.[1] مع بدء العمليّة، أَسَرَ مجاهدوا المقاومة عشرات العسكريين الصهاينة، بينهم عدد من الضبّاط.[2] وقد حقّقت عمليّة «طوفان الأقصى» إنجازاتٍ بارزة، من أهمّها تحطيم الهيبة العسكريّة والأمنيّة للكيان الصهيوني، إذ يمكن القول إنّها وضعت حدًّا لأسطورة «الجيش الذي لا يُقهَر» على المستويين العسكري والأمني.[3]

ومن أبرز إنجازات عمليّة «طوفان الأقصى» التاريخيّة كان دورها في وقف قطار تطبيع العلاقات بين الدول العربيّة والإسلاميّة مع الكيان الصهيوني، وهو إنجاز يجمع المحلّلون والمراقبون السياسيّون على الإقرار به. وفي هذا السياق، كتب محمد غازي الجمل، وهو محلّل في شؤون المنطقة، في تقريرٍ له: «أدّت عمليّة طوفان الأقصى إلى تراجع مسار تطبيع العلاقات. ومن الناحية الاجتماعيّة، ارتفعت شعبية حركة حماس لدى الرأي العام العالمي بعد عمليّة طوفان الأقصى، ولا سيّما مع بدء الإبادة الجماعيّة التي يرتكبها الكيان الصهيوني»[4]. إنّ مراجعةً ولو سريعة للتطوّرات المتعلّقة بتطبيع العلاقات في الأشهر التي سبقت عمليّة «طوفان الأقصى» تُظهر بوضوح أنّ هذه العمليّة أدّت إلى توقّف ذلك المسار، أقلّه في شكله العلنيّ.
 

قُبيل «طوفان الأقصى»؛ التحرّك في مسار توسيع العلاقات الاستراتيجيّة مع المطبعين

قبل انطلاق عمليّة «طوفان الأقصى»، وقعت تحوّلات عدّة أظهرت أنّ قطار تطبيع العلاقات بعد توقيع اتّفاقيات «أبراهام» بين الكيان الصهيوني وكلٍّ من الإمارات والبحرين والمغرب بين عامَي 2020 و2021 كان يسير بوتيرة أسرع. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تطوير العلاقات الاستراتيجيّة بين الكيان الصهيوني والإمارات في الفترة التي سبقت «طوفان الأقصى»؛ فقد تجسّد أحد أهمّ أوجه هذا التعاون في اليمن، وتحديدًا في جزيرة سقطرى. في الواقع، تحوّلت جزيرة سقطرى ذات الأهميّة الاستراتيجيّة العالية إلى «رمز النجاح» في تعزيز العلاقات بين "إسرائيل" والإمارات؛ فبعد أن بسطت الإمارات سيطرتها على الجزيرة في حزيران/يونيو 2020، بدأت بالتعاون العسكري والأمني والاقتصادي مع الكيان الصهيوني هناك. تكمن أهميّة هذا التعاون في الموقع الجيوسياسي المحوري لجزيرة سقطرى المشرفة على البحر الأحمر والمتحكّمة بممرّات النقل البحري.[5] وعليه، وضعَ الكيان الصهيوني قبل عمليّة «طوفان الأقصى» استراتيجيّة توسيع علاقاته الاستراتيجيّة مع الدول المطبّعة في سلّم أولويّاته.
 

استضافة وزراء خارجيّة عرب لتوسيع التطبيع

من التطوّرات الأخرى التي سبقت عمليّة «طوفان الأقصى» وأظهرت رغبة الكيان الصهيوني في توسيع مسار التطبيع، استضافته وزراء خارجيّة البحرين ومصر والإمارات في «قمّة النقب». انعقدت هذه القمّة في آذار/مارس 2022 بمشاركة وزير الخارجيّة الأمريكي آنذاك، وأدّت في نهايتها إلى تأسيس «منتدى النقب»، وهو مبادرة أطلقها كيان الاحتلال بهدف تعزيز التنسيق الأمني والعسكري مع الدول المطبّعة. وكان من أبرز أهداف إنشاء «منتدى النقب» تقديم التسهيلات الاقتصاديّة لدولٍ مثل مصر لتمكينها من لعب دورٍ في احتواء فصائل المقاومة الإسلاميّة الفلسطينيّة في قطاع غزّة.[6]
 

قطار التطبيع في محطة الرياض

كان الكيان الصهيوني المنتشي بتوقيع اتّفاقيات «أبراهام» وبالخطوات التي اتخذها لتوسيع مسار تطبيع العلاقات مع دول أخرى، يسعى لضمّ مزيد من الدول، وعلى رأسها السعوديّة. حتى إنّ ران درمر، وزير الشؤون الاستراتيجيّة في الكيان الصهيوني، ادّعى في 20 آب/أغسطس 2023 انضمام دولٍ عربيّة وإسلاميّة تباعًا إلى اتّفاق «أبراهام»، وقال: «سنشهد في المستقبل انضمام عدد أكبر من الدول العربيّة والإسلاميّة إلى اتّفاق التطبيع مع إسرائيل». وقد ذكر السعودية تحديدًا، مؤكّدًا استعداد تل أبيب لتوقيع اتّفاق تطبيع مع الرياض.[7] وبذلك، كان قطار تطبيع العلاقات قد وصل فعليًا إلى محطة السعوديّة.
 

الإشارات الإيجابيّة نحو توقيع الاتفاق

لم يكن ميل الكيان الصهيوني إلى توقيع اتّفاق تطبيع العلاقات مع السعوديّة أحاديّ الجانب، إذ كان هذا الميل واضحًا أيضًا لدى مسؤولي الرياض. ولهذا الغرض دخلت السعوديّة في منتصف عام 2022 مرحلة من العلاقات التجاريّة والاقتصاديّة مع الكيان الصهيوني. وفي هذا السياق، كتبت صحيفة «الاستقلال»: «قبل عمليّة طوفان الأقصى، كانت السعوديّة تخطو بسرعة نحو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، إذ سمحت في 4 آب/أغسطس 2022 للطائرات الإسرائيليّة بالعبور في أجوائها، كما شارك وزير السياحة الإسرائيلي في 26 أيلول/سبتمبر 2023 في مؤتمر عُقد في الرياض»[8]. إنّ بلوغ السعوديّة والكيان الصهيوني مرحلة قريبة من توقيع اتّفاق تطبيع العلاقات بينهما كان واضحًا في المقابلة التي أجراها وليّ العهد السعودي آنذاك مع إحدى القنوات الأمريكيّة. فقد صرّح محمد بن سلمان في 21 أيلول/سبتمبر 2023، في مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز» الأمريكيّة، قائلًا: «نقترب كل يوم أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل»[9]. وهذا يعني أنّ تل أبيب والرياض، قبل أسبوعين فقط من عمليّة «طوفان الأقصى»، كانتا قد قطعتا بالفعل معظم الطريق نحو تطبيع العلاقات.
 

الفرصة التي انتزعتها «طوفان الأقصى» من الصهاينة

كانت عمليّة «طوفان الأقصى» هي التي قلبت كل المعادلات التي سبقت السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، وسلبت فعليًّا من الكيان الصهيوني فرصة توقيع الاتفاق الكبير مع السعوديّة.[10] وفي هذا السياق، كتب عريب الرنتاوي، المحلّل في «الميادين»: «يجب أن ندرك تمامًا في أيّ ظرف وقعت عمليّة طوفان الأقصى؛ لقد حدث هذا الطوفان في الوقت الذي كان فيه مسار التطبيع قد بلغ محطّته السعوديّة، ولو كان قد اكتمل حينها، لَفُتحت أمامه أبواب المحطّات العربيّة والإسلاميّة الأخرى»[11]. وبناءً على ذلك، فإنّ عملية «طوفان الأقصى» لم تمنع فقط عبور قطار التطبيع من محطّة السعوديّة، بل حالت أيضًا دون فتح المحطات الأخرى.
 

الطوفان الذي دفع «التطبيع» إلى الهامش؛ سقوط «الخطة الشاملة» لتغيير معادلات المنطقة

من أبرز الإنجازات التي حقّقتها عمليّة «طوفان الأقصى» أنّها دفعت مشروع تطبيع العلاقات، الذي كان قبل السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 في صميم المشهد الإقليمي، إلى الهامش. وبهذا، أعادت العمليّة القضيّة الفلسطينيّة - التي كانت تتّجه نحو التهميش - إلى صدارة الاهتمام العالمي، وتوقّف عمليًّا مشروع التطبيع الذي كانت القوى الغربيّة والكيان الصهيوني يعملان على ترسيخه في المنطقة.[12] كان هذا الطوفان شديدًا إلى حدٍّ أنّ بعضهم قال إنّ «طوفان الأقصى فجّر قطار تطبيع العلاقات في محطّة السعوديّة»[13]. بشكلٍ عام، كانت الأجواء العامّة قبل عمليّة «طوفان الأقصى» قائمةً على قبول «التعايش» مع "إسرائيل" وإقامة علاقات طبيعيّة معها، لكن مع وقوع هذه العمليّة عادت القضايا الجوهريّة المتعلّقة بفلسطين - التي طواها النسيان لعقودٍ طويلة - إلى صدارة الاهتمام من جديد.[14] كما قال قائد الثورة الإسلامية، في شرحه لكيفيّة الدور الذي أدّته عمليّة «طوفان الأقصى» في إفشال الخطة الأميركية-الصهيونية الشاملة للمنطقة: «إنّ عمليّة «طوفان الأقصى» وقعت في اللحظة المناسبة تمامًا للمنطقة. وبيان ذلك أنّه كان قد جرى إعداد خطّة شاملة وموسّعة من قبل أمريكا والعناصر الصهيونيّة وأتباعهم وبعض حكومات المنطقة، وقد تقرّر وفق هذه الخطّة الشاملة تغيير العلاقات والمعادلات القائمة في المنطقة، وأن يتمّ تنظيم علاقات الكيان الصهيونيّ مع حكومات المنطقة وفق رغبة الكيان نفسه، وهذا يعني تحكّم الكيان الصهيونيّ بالسياسة والاقتصاد في منطقة غربي آسيا برمّتها، بل في العالم الإسلاميّ بأسره... وفي مثل هذه اللحظة الحسّاسة، بدأ هجوم «طوفان الأقصى»؛ لتذهب كلّ مخططات العدو أدراج الرياح»[15].
 

معارضة الرأي العام؛ عائق كبير أمام مسار التطبيع

أعلن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في أحد أحدث تقاريره بتاريخ 5 آب/أغسطس 2025 أنّ «البيانات الإحصائيّة الجديدة تُظهر بوضوح أنّ الشعوب في العالم العربي تعارض بشدّة تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"». وبناءً على استطلاع أجراه المركز، «فإنّ 89% من العرب يعارضون اعتراف حكوماتهم بـ"إسرائيل". وتشير الإحصاءات على نحوٍ خاص إلى أنّ نسبة السعوديين المعارضين للتطبيع ارتفعت إلى 68%، في حين كانت نسبة معارضة السعوديين لمشروع التطبيع في الاستطلاعات السابقة قد بلغت 38%». وجاء في الجزء اللاحق من تقرير المركز المذكور: «في المغرب أيضًا، شهد التأييد الشعبي للتطبيع انخفاضًا حادًّا من 31% في عام 2022 إلى 13% فقط بعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر. يُظهر هذا الانخفاض مدى هشاشة الأسس التي بُنيت عليها مشاريع التطبيع، ويؤكّد أن المعارضة الشعبيّة في العالم العربي تُشكّل عقبة جديّة أمام مشروع توسيع التطبيع مع الكيان الصهيوني».[16]

في ظلّ المعارضة الشعبيّة الواسعة في الدول العربيّة والإسلاميّة لمشروع التطبيع، وبعد مرور عامين على عمليّة «طوفان الأقصى»، لن يجد المطبّعون طريقًا سهلًا للمضيّ بهذا المشروع، كما أنّ الحكّام الذين قرّروا الانضمام إليه لن تكون الطريق أمامهم ممهّدة. إنّ إعادة تشغيل قطار التطبيع المحتمل في الظروف الراهنة تذكّر بضرورة يقظة الشعوب، ولا سيّما نخب العالم الإسلامي. تشير تحرّكات الأمريكيّين إلى أنّ مسؤولي واشنطن يسعون إلى تطبيع وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، وقد تجلّى هذا الهدف بوضوح في وثيقة قمّة «شرم الشيخ» التي عُقدت بعد وقف إطلاق النار في غزّة، إذ جاء في أحد بنودها بصراحة: «نرحب بالعلاقات الودية والمثمرة بين إسرائيل وجيرانها الإقليميين»[17].

مع ذلك، تُظهر مراجعة الماضي أنّ محاولات واشنطن لإضفاء طابعٍ طبيعيّ على وجود الصهاينة في المنطقة لن تؤدّي إلى نتيجة. ففي 13 آذار/مارس 1996 عُقد مؤتمر مشابه في «شرم الشيخ» بمصر، بمشاركة ممثّلين عن 31 دولة، من بينهم الرئيس الأمريكي آنذاك، بيل كلينتون،[18] بهدف تطبيع وجود الصهاينة في المنطقة تحت عنوان «عمليّة السلام» المزعومة، غير أنّ ما جرى منذ ذلك الحين لم يؤدِّ إلى تحقيق هذا الهدف، بل على العكس، شهدنا تنامي قوّة المقاومة وتصاعد التيّارات المناهضة لـ"إسرائيل" في المنطقة.