بسم الله الرحمن الرحيم
«لم يعد أيّ شيء آخر يهم الآن... لا أستطيع أن أعيش حياة طبيعية»، هذه كلمات شابة أمريكية شاركت في مسيرة احتجاجية أمام مبنى الكونغرس يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في واشنطن. تقول هذه الكلمات رداً على سؤال أحد الصحافيين عن سبب تركها عملها في تلك الساعة وتعريض نفسها لخطر الاعتقال أو تعليق الدراسة والمجيء إلى هنا للمشاركة في مظاهرة دعماً لشعب غزة.
تُسمعُ في هذه الأيام والليالي في مدن الدول الأوروبية والأمريكية جملٌ مثل: «لم أستطع البقاء في المنزل. أمضينا الليلة بأكملها هنا لعلّنا نفعل شيئاً. السكوت والجلوس مشاركة في الجريمة. أرى نفسي مسؤولاً تجاه الأطفال الفلسطينيين. جئت لأبقى إنساناً...».
في هذه الأيام والليالي، تجذب الصور والفيديو حشوداً كبيرة من المدن الأوروبية والأمريكية لدعم الشعب الفلسطيني. ولا تزال التظاهرات مستمرة منذ نحو شهرين رغم القيود التي فرضتها الحكومات الغربية، كما سَجّل حجم التجمعات في بعض المدن مثل لندن وواشنطن أرقاماً قياسية جديدة.
إن الدعم والتأييد المنقطع النظير لشعوب العالم في النصف الغربي من الكرة الأرضية هو من ناحيةٍ ظاهرةٌ مذهلة ومشرّفة لكن الأمر في الوقت نفسه معقّد بعض الشيء ويستلزم التحليل. يتجلى تعقيد هذه الظاهرة عندما ينمو حجم الدفاع عن الشعب الفلسطيني ونوعيته، أي الدعم الواسع والمستمر من الدول الأوروبية والأمريكية لـ«شعب مسلم شرق أوسطي» يتعرض للقصف والإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني، وذلك في أرضية سياسية وفكرية وثقافية وإعلامية لا تعدّ خصبة لمثل هذه الإنماءات أساساً.
في أمريكا، يجري استهداف الفرد بنحو متوسط بأكثر من 4000 إعلان في الفضاء المجازي كل يوم.[1] إعلانات تدعو الناس أساساً إلى النزعة الاستهلاكية المبنية على النظرة المادية.[2] عام 2021 أنفقت الشركات التجارية الأمريكية الكبيرة 1.6 مليار دولار سنوياً على الإعلانات المخصصة للفئة العمرية للأطفال والناشئة[3] من أجل ضمان استمراريتها (هي سياسة ناجحة طبعاً، ففي 2018، أنفق الناشئون الأمريكيون وحدهم 77.2 مليار دولار على شراء المنتجات)[4]. إن ثقافة الفردانية والنزعة الاستهلاكية المنظمة في أمريكا الرأسمالية الليبرالية غليظة وقديمة لدرجة أن الملحن الموسيقار الشهير أرنولد شوينبيرج يُبهتُ مقابلها: «إعلان يدهس فيه رجل طفلاً بسيارته وجسد الطفل ملقيٌّ على الأرض أمام سيارته. يضع الرجل يديه على رأسه بيأس، ولكن لا ليقول عبارة مثل: يا إلهي، ماذا فعلتُ!، فالشرح أسفل الصورة يقول: نأسف، لقد فات الأوان للحزن. جدِّد عقد التأمين الخاص بك مع شركة التأمين... في الوقت المحدد»[5].
قد لا يكون من المبالغة القول إنه في بيئة الثقافة الغربية اليوم، أي المجتمعات التي تسود فيها الثقافة الرأسمالية الليبرالية، النجاة من سطوة الفردانية المادية التي تنتجها وتسوّقها قيَمٌ مثل: «أنا أشتري، فأنا موجود» أمر صعب وربما مستحيل. هذه الهيكلية الفكرية والثقافية تضع دائماً احتياجات الآخرين وحزنهم وظلمهم في مرتبة ثانوية، وتضع الذات المادية للإنسان وتلبية احتياجاته في مقدمة جهود الإنسان واهتمامه. والآن، هذا الحجم ونوعية الدعم المقدم إلى الشعب الفلسطيني في مثل هذه البيئة الثقافية جدير بالتأمل.
ثمة عنصر آخر يجعل الدعم الواسع النطاق من الشعوب الأمريكية والأوروبية للشعب الفلسطيني أكثر إثارة للدهشة وجاذبية، وهو أن شعب غزة مسلم وعربي. يخلُص جاك شاهين في كتابه «الصورة النمطية السيئة للعرب: كيف تحط هوليوود قدر الشعوب» بعد تمحيص ألف فيلم هوليوودي بين 1896 و2000 إلى أن نحو 7% فقط، أي 64 فيلماً، كانت لها مقاربة طبيعية ومنصفة تجاه الشخصيات والمفاهيم الإسلامية والعربية، وأكثر من 93% من الإنتاجات، أي 936 فيلماً، لها توجهات رُهاب العرب والإسلام. مع أن نطاق بحث شاهين كان يصل إلى 2000، أي قبل 23 عاماً، فإن منهج رهاب الإسلام والعرب يبدو ضمن جدول أعمال هوليوود وعمالقة الإعلام الغربي، لأنه في السنوات الأخيرة تصدّرت أفلام في هوليوود تظهر الصورة المقلوبة والمغرضة للإسلام والمجتمعات الإسلامية والعرب، مثل «القناص الأمريكي»[6] و«خزانة الألم»[7] و«آرغو»[8] وحصدت جوائز «الأوسكار».
ما السر في صرخة أهالي غزة الذين استطاعوا من على بعد آلاف الكيلومترات أن يكسروا سياج أساطير هوليوود المصطنعة من الشهوة والغضب، ويجعلوا طفل غزة الأعزل - ليس مصفّحاً مثل «باتمان» ولا مغنّجاً مثل «باربي» - محور اهتمام جزء كبير من شعوب الغرب؟ وفقاً لحقيقة ما يجري في غزة اليوم يكون المفتاح لفهم ذلك - على الأقل - جزء من الإجابة عن هذا السؤال.
ماذا يجري في غزة اليوم؟ منذ نحو شهرين، تتعرض غزة، وهي واحدة من أكثر المناطق كثافة في العالم من حيث عدد السكان، لقصف الكيان الصهيوني ليل نهار. ألقت «إسرائيل» عشرات آلاف الأطنان من المتفجرات، أي ما يزبد عن ثلاث قنابل ذرية، على النساء والأطفال والشباب والشيوخ الفلسطينيين، وقطعت عنهم المياه والغذاء والوقود. يموت الأطفال الخدّج تحت أجهزة التنفس الصناعي في المستشفيات بسبب نقص الوقود والكهرباء، كما قُصفت المستشفيات. وفي المجمل، استشهد أكثر 15 ألف فلسطيني، منهم ما نحو 8000 طفل.
تجري المواجهة في غزة اليوم بين شعب وقوة خبيثة تماماً في أبشع صورة ممكنة. ولفت قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، إلى هذه القضية في خطابه الرابع بعد قصف غزة: «ليس الميدان ميدان غزّة و"إسرائيل". إنّه ميدان الحقّ والباطل. الميدان ميدانُ الاستكبار والإيمان: في جانبٍ قوّة الإيمان وفي الطرف الآخر قوّة الاستكبار» (1/11/2023). بشهادة الطفل الغزّي المظلومة لكن المقتدرة والمشرّفة، ترك أثراً ساطعاً عنه وجعل اليهود في نيويورك وطلاب جامعة هارفرد وممثلي حزب «العمال» البريطاني وحتى بعض أعضاء مكتب جو بايدن يتأثرون أيضاً. إن الصمود القوي والمنتصر والمظلوم لأهالي غزة أمام هذا الظلم المطلق للكيان الصهيوني ومؤيديه سطّر تأثيراً يمكن أن نسميه «الأثر الغزّي».
يمكننا أن ننظر إلى «الأثر الغزّي» ببُعدين. البعد الأول المقاومة والصمود الأصيلان والجليّان لأهالي غزة، فقد استطاعا أن يُظهرا عبر حركة تبيينية الوجهَ الحقيقي لـ«القيم الغربية» من حقوق الإنسان والمرأة والطفل، التي أشربَت للناس وخاصة الشباب الغربيين على مدى قرون، وأن يفضحاها ويهزّا العقل والقلب في الإنسان الغربي. البعد الثاني مقاومة أهالي غزة التي لا مثيل لها أمام الكيان الصهيوني الهمجي خلال الشهرين الماضيين، والتي سطّرت مشاهد كانت غائبة عقوداً عن الثقافة المادية والمجردة من الروحانية للرأسمالية الغربية الليبرالية. هي مشاهد تظهر الشجاعة والصبر والشرف والاستقلال عن الاحتياجات والدوافع المادية والشخصية، بل تتحكم فيها. المثال على ذلك مشهد الأب الفلسطيني في غزة بعدما انتشل ابنه العزيز الشهيد من تحت أنقاض منزله الذي دمرته الصواريخ الإسرائيلية-الأمريكية، وكانت قيم العدالة والحرية المبلورة في القضية الفلسطينية حاضرة وبارزة جداً لديه، فكان يحمد الله، أو مشهد الفتى الجريح الذي يقرأ آيات من القرآن أثناء إجراء عملية جراحية له من دون تخدير. لقد أوجدت مقاومة الفلسطينيين في غزة جاذبية كثيرة لدرجة أنها لفتت انتباه بعض الناس في الغرب إلى الجذور والأسس الفكرية لهذه المقاومة، ولذلك، وأثناء قصف غزة، ظهرت موجة من مطالعة الإسلام والقرآن بين مناصري فلسطين من الغربيين وغير المسلمين.[9]
من ناحية إن الأثر الغزي فضحَ خواء القيم الديموقراطية الليبرالية المزعومة، ومن ناحية أخرى، بيّن بعض الجمالات الإنسانية المفقودة في العصر الحديث. يبدو أن منع تأثيرها الملهم والمحيي في حشد الباحثين عن العدالة وطالبي الحرية في العالم أمر مستحيل حتى في عصر الذكاء الاصطناعي والحروب الإعلامية المركّبة.
[1] https://www.forbes.com/sites/forbesagencycouncil/2017/08/25/finding-brand-success-in-the-digital-world/
[2] https://www.globalactionplan.org.uk/files/kids_for_sale.pdf
[3] https://www.statista.com/statistics/1361594/kids-advertising-spending-usa/
[4] https://finance.yahoo.com/news/what-american-teens-spend-money-on-180051795.html
[5] MacDonald, Malcolm, 'In the Wilderness (1933–51)', Schoenberg, 2nd edn, Master Musicians Series (New York, 2008; online edn, Oxford Academic, 3 Oct. 2011), https://doi.org/10.1093/acprof:oso/9780195172010.003.0004, accessed 15 Nov. 2023.
[6] American Sniper.
[7] The Hurt Locker.
[8] Argo.
[9] https://www.theguardian.com/books/2023/nov/20/palestine-quran-islam-americans-tiktok