أعتقد أنّني كنت في أحد شوارع رفح، أركض مسرعًا نحو أصدقائي لأرى ما الذي حلّ بهم، بجسد مثخن بالجراح وحالٍ سيّئ، كنت أشعر بحرارة تدفّق الدّم على جلدي عندما استيقظت من نومي. الشمس كانت قد أشرقت، وكان عليّ أن أستعدّ لأذهب إلى ملجئنا. ركبتُ سيّارة متّجهًا نحو وجهتي المعتادة، شارع فلسطين، ووصلت إلى حسينيّة الإمام الخمينيّ (رحمه الله). لم يغب المشهد الذي رأيته في الحلم عن ناظري ولو للحظة؛ كان جسدي مفعمًا بالألم، وكأنّني ما زلت أحمل آثار تلك الجراح. كنت ألمس بيدي اليمنى يدي اليسرى وجنبي، خشية أن يكون هناك أثر دم قد تبقّى فيلوّث السجّادات الزرقاء لحسينيّة الإمام. كنت أذكّر نفسي بأنّ ما رأيته كان مجرّد حلم، لكن كون ذلك الحلم حقيقةً كان يشتّتني ويعيدني إلى عمق تلك المشاهد العجيبة.
مضطرًّا، جلست في زاوية، ليست بزاوية تمامًا، ولأوّل مرّة جلست أمام عدسات الكاميرا في حسينيّة الإمام الخمينيّ (قده). لامس وجهي طرف ثوب مزخرف بالورود لإحدى الحاضرات في مؤتمر الوحدة، والتي كانت ضيفة الحسينيّة، أثناء مرورها بجانبي، أظنّ أنّها جاءت من ماليزيا. رفعت رأسي لأردّ بابتسامة على اعتذارها اللطيف، لكن فجأة شعرت بأنّ روحي تحترق، فقد لاحظتُ ما كُتبَ على الجدار المقابل بخطّ أخضر جميل: «طبیبٌ دوّارٌ بطبّه»، إنّها كلمات سيّد الأحرار في العالم، عليّ عليه السلام، في وصف قائد المجاهدين عبر التاريخ، النبيّ الكريم[الأكرم] محمّد صلّى الله عليه وآله. لم أكن أرمش، لكنّ الكتابة أصبحت تتلاشى شيئًا فشيئًا أمام ناظري... همست وقلت: «أين أنت يا طبيبنا؟ هل ترى آلام أحرار أمّتك من غزّة إلى لبنان وسوريا؟ هلّا شفيتَ هذه الجراح بجمالكَ البهيّ ونفحتكَ الدارئة للآلام؟ هل ترى حال السائرين على خُطاك، يا روح العالم؟ هل أنت راضٍ عن فدائيّي أمّتك؟ أوفّينا؟» كنت أحدّث نفسي وأبكي في الوقت نفسه. عادت إليّ الآلام نفسها التي رأيتها في عالم الرؤيا، وشعرت مجدّدًا بحرارة الدّم الذي سال على جسدي.
امتزج بكائي بابتسامة لطيفة، فقد انبعثت فجأة أصوات فتيات صغيرات يأتين مع والدتهنّ من خلفي. كانت الأمّ تحاول إشغالهنّ حتّى قدوم سماحة القائد. بدأنَ يتحدّثنَ بصوت خافت: «يا بنات، انظرن جيّدًا إلى كلّ شيء حولكنّ، ستشتقْنَ لهذا اليوم طوال حياتكنّ، وستتذكّرْنَ دائمًا زيارتكنّ هذا المكان». «هل ترينَ كم هو بسيطٌ كرسيّ القائد؟» «يا بنات، انظرنَ إلى هناك! يا إلهي! إنّه اللواء حاجي زاده! يا إلهي، إنه يدخل الآن». لفت تعبيرهنّ عن شدّة فرحهنّ انتباه الحاضرين. أنزلت رأسي وهززته وابتسمت، وقلت في نفسي: "يا هذه! ينبغي للبناتِ في سنّ الثامنة أو العاشرة أن يشعرنَ بالفرح والحماسة لرؤية شخصيّات ديزني وسنو وايت وباربي، شأنهنّ شأن بقيّة أطفال العالم. ماذا زرعتِ في قلوبهنّ حتّى أصبح لقاء قائد القوّة الصاروخيّة، رمز حرّيّة الأحرار في العالم، مصدرًا لهذا الكمّ من السعادة والفرح لهنّ؟! بوركَت تربيتكِ الصالحة يا عزيزة قلبي[أيّتها العزيزة]...
كانت عيناي معلّقتين على تلك الستارة الخضراء فاتحة اللون، بانتظار قدوم سيّدنا الذي أطلّ أخيرًا. كان يبدو أكثر صلابة وقوّة من أيّ زمنٍ مضى، ضجّت الحسينيّة بهتاف الحاضرين الذين راحوا يرحّبون بقدوم عزيزهم، وكذلك فعل الضيوف العرب والأفارقة والماليزيّون وغيرهم من المشاركين في المراسم.
بدأ القارئ يتلو القرآن بصوت يجعل الروح تنفصل عن الجسد وتحلّق عاليًا: {وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة، 286). عادت بيَ الذاكرة إلى حلمي، عضضت على شفتي وبكيت بحرقة، بحجم كلّ الألم الذي شعر به الجميع في غزّة ولبنان خلال هذه الأيّام، وبحرارة تفوق حتّى آثار الدّم في حلمي. لم أتمالك نفسي حتّى بدأت أنتحب بصوت عالٍ. عندها بدأ سماحة القائد كلمته: «بسم الله الرحمن الرحيم»، ومع كلّ كلمة كنت أستمع إليها، كنت أرتشف سكينة إلهيّة تهدّئ من روعي شيئًا فشيئًا.
دائمًا ما كان النظر إلى السماء يُهدّئ من روعي عند الشعور بالألم أو الانزعاج. فشعوري أنّني، رغم أحزاني وأفراحي، لست سوى جزء صغير تحت هذا السقف المترامي الأطراف واللامتناهي، كان يجعل أحزاني تبدو ضئيلة. تمامًا كشعور المرء بالسكينة عند رؤيته شخصًا كأنّما يقف على قمّة، ويرى التاريخ بأكمله من هناك ليرشدك إلى المسار الذي يجب أن تسلكه لتواصل هذا المسار التاريخيّ، فتطمئنّ أنّك لست متروكًا، وأنّ حالك اليوم ليس سوى جزء من مسار ينبغي أن تسلكه. عندما يتحدّث مرشدك الرّوحيّ ومرادك، بهدوئه المعتاد، عن المشروع الإلهيّ والغاية من إرسال الرسل، ويُفصّل لك الأمور، تجد نفسك مستقرًّا وتأخذ نفسًا عميقًا بعمق كلّ التاريخ وكلّ المجاهدين الأحرار السابقين، وبعمق معاناتهم التاريخيّة من أجل إيصال الإنسان إلى هدفه المنشود. قال حكيمنا: «نحن اليوم بحاجة إلى تشكيل أمّة إسلاميّة؛ يجب أن نسعى وراء هذا الأمر. إذا تحقق ذلك، فلن يتمكّن العدوّ من السماح لمخلوق قذر خبيث مثل الكيان الصهيونيّ بأن يرتكب كلّ هذه الجرائم في هذه المنطقة. ترون اليوم ما يفعله الكيان الصهيونيّ! في غزّة بنحو، وفي الضفّة الغربيّة بأسلوب آخر، وفي لبنان وسوريا أيضاً بنحو مختلف! إنّهم يرتكبون الجرائم بكلّ ما للكلمة من معنًى!» زأرت الجموع غاضبةً: «الموت لإسرائيل». بصراحة، لم أشعر من قبل بهذا القدر من الغضب وأنا أهتف بهذا الشعار... مسحت دموعي بيدي اليمنى ورفعتها لأصرخ «الموت لإسرائيل»، وهناك، أقسمت أنّ هذه اليد ستتلطّخ بدمائي في سبيل هذا الشعار، تمامًا كما في حلمي.
غرقتُ في مراقبة جميع تفاصيل اللقاء والحسينيّة ومن فيها، حين تحدّث سماحة القائد بحزن وأسى عن "العيون المغلقة لحكّام بعض دول العالم الإسلاميّ" تجاه الجرائم التي ترتكبها هذه العصابة المجرمة. وجدّد العهد مع العلماء الأحرار من الشيعة والسنّة، داعيًا إيّاهم إلى أن يتحدّثوا، ويكتبوا، وينظموا الأشعار، ويربّوا الأجيال على ضرورة بناء الأمّة الإسلاميّة، حتّى نستطيع بعد سنوات أن نأمل في استيقاظ الحكومات وانضمامها إلى القلوب المتلهّفة في المجتمعات الإسلاميّة تجاه بعضها البعض. تلك القلوب المتلهّفة في لبنان، وإيران، والعراق، واليمن، والأردن، وسائر البلدان الإسلاميّة، التي تتلهّف شوقًا لقلبها النابض: فلسطين.
عندما سمعت عن غفلة بعض الحكّام وافتقارهم إلى الدافع، تخيّلت نفسي على الفور في مستشفيات لبنان وفلسطين، بجوار الأسرّة و"العيون المصابة والدامية" لرجال الأمّة المقاومة. فّكرتُ أن لا بدّ من وجود دلالات ومؤشّرات في الظلمة المؤقّتة أو الدائمة لعيون هؤلاء العباد الصالحين. فأغمضت عينيّ بدوري، محاولا بعض الشيء مواساة ولمس العالم المظلم الذي ينبغي لإخوتي وأخواتي اللبنانيّين والغزّاويّين التعوّد عليه من اليوم وإلى الأبد. أحيانًا، تكون الظلمة مسارًا هادئًا وفارغًا للوصول إلى النبع النورانيّ الفيّاض والأبديّ... وكأنّ العيون المضرّجة بالدماء هي ثمن استيقاظ العيون المغلقة والغافية.