دخل مؤخّرًا أعضاء فريق كبير (15 ضابطًا) من وكالة التجسس التابعة لمنظمة "CIA" الأمريكية، إلى بيروت، وتوجّهوا إلى سفارة واشنطن في عوكر. وعقدوا اجتماعًا مع "شيري بيكر" مسؤولة مكتب المخابرات الأمريكية في السفارة. وقد ركّزت أمريكا جهودها على تحريض الجماعات الداخلية في لبنان ضد حزب الله. ما هو تقييمك في هذا الصدد؟

في المعلومات التي نشرها الزملاء في جريدة الأخبار اللبنانية، نقلًا عن مصدر أمني لبناني رفيع المستوى، عن قدوم وفد من الضباط (15 ضابطًا) إلى السفارة الأمريكية في عوكر، وعقدهم الاجتماعات مع مديرة مكتب CIA في لبنان، شيري بيكر، هذا يؤكد لنا بالدليل الملموس الدور الأمريكي في الهجوم الصهيوني الإرهابي على لبنان فيما يرتبط بالاغتيالات التي حصلت، ولم يعد خافيًا بأن الأمريكيين، عبر استخباراتهم وبالتحديد CIA، لهم دور كبير في عملية اغتيال سماحة السيد الشهيد حسن نصرالله، إضافةً إلى قادة آخرين. الأمريكيون ساعدوا الصهاينة في عملية تحديد أماكن قادة المقاومة، وبالتالي عندما تحركت وكالة المخابرات الأمريكية باتجاه لبنان، وأرسلت وفدًا من الضباط لعقد اجتماعات مع أطراف وجماعات داخلية في لبنان، كان هذا الأمر ضمن خطة لاستكمال برنامج الضغط من أجل الوصول إلى أهداف تصبّ في مصلحة واشنطن؛ للهيمنة على قرار لبنان، وتغيير وجه لبنان. هكذا يقولون، يقولون بنحوٍ واضح ووقح بأنّ هدفهم هو تغيير وجه لبنان، أي نقل لبنان من حالة المقاومة إلى مشروع الاستسلام للهيمنة الأمريكية والصهيونية. فمن الناحية العملية أنا أتحفظ على مصطلح (استغلال) ما فعله العدو الصهيوني في موضوع الاغتيالات، وأن واشنطن أتت لتستغلّ الوضع. لا، هناك مخطط مرسوم مسبقًا بين الأمريكيين والصهاينة، وقد جرى توزيع الأدوار فيه، والأمريكيون أتوا ليتحركوا أمنيًّا وسياسيًّا في لبنان؛ من أجل إنجاح الهدف العام المتمثّل بمحاولة إضعاف المقاومة، وضربها، ودفعها للانهيار، وبالتالي للسيطرة على القرار المستقل في لبنان.

أما ما يتعلق بمساعي واشنطن في لبنان، وتلك الاجتماعات مع هذه الجماعات اللبنانية والأحزاب اللبنانية، أقول: هذه الأحزاب معروفة الانتماء والولاء منذ عقود، بل ومنذ قرون، فلطالما كانت هناك علاقة للغرب وللدول الاستعمارية مع أطراف في لبنان، وهذه الأطراف تبني وجودها على أساس العلاقة مع الغرب، وهؤلاء كانوا موجودين منذ أيام السلطنة العثمانية في منطقة جبل لبنان، ولاحقًا – بعد تأسيس لبنان الكبير عام 1920 – كانت لهم علاقات مع فرنسا وبريطانيا، ومؤخّرًا مع الولايات المتحدة الأمريكية. كانت هذه القوى السياسية تنظر إلى حزب‌ الله، وإلى المقاومة في لبنان، وإلى شخص السيد نصرالله (رضوان الله عليه)، على أنه تهديد لوجودهم؛ لأن وجودهم كما قلنا مبنيٌّ على العلاقة والارتزاق من هذا الغرب الاستعماري. وطبعًا، اشرأبّت أعناق هؤلاء، وظنوا بأن هذه الفرصة هي الفرصة المؤاتية؛ لأنهم - خلال السنوات الماضية - كانوا يطلبون من واشنطن بأن تأتي وتتحرك ضد المقاومة في لبنان، والأمريكيون آنذاك، حاولوا عبر التظاهرات التي انطلقت عام 2019، والتي قالوا عنها أنها ثورة، حاولوا أن يصلوا إلى أهداف معيّنة، عبر اعتماد أساليب حرب مركّبة، وعلى رأسها: الحرب الناعمة، والتضييق الاقتصادي، والضغط، والحصار، لكنّ الأمريكيين فشلوا آنذاك في النيل من المقاومة.

هناك أنباء جديدة تشير إلى أن السفيرة الأميركية في بيروت تمارس ضغوطًا على القوى السياسية اللبنانية لتقديم قائد الجيش جوزيف عون مرشّحًا للرئاسة. وقالت السفيرة الأميركية في هذا الصدد: «عندما يصبح عون رئيسًا، سيكون مسؤولًا عن اختيار قائد الجيش، وسيختار مَن يقف في وجه حزب الله». ما هو هدف واشنطن من هذا الإجراء؟

اعتقد الأمريكيون أن اغتيال القيادة، وخاصةً سماحة السيّد والقادة الجهاديين، وأن هذا العدوان الصهيوني، والغارات المكثفة،  كل ذلك سيؤدي إلى الانهيار الذي يتمنون حصوله من أجل أن يتحركوا سياسيًّا باتجاه بيئة المقاومة؛ لكي يقولوا لهذه البيئة أن نموذج المقاومة الذي كان يقوده السيد نصرالله سقط، وبالتالي عليكم أن تتبعوا توجهاتنا القائمة على الاستسلام للأمريكيين والإرادة الغربية والصهيونية. لكننا شاهدنا في ردات الفعل أمرًا آخر، كان هناك إصرار على التشبث بالمقاومة، والتأكيد على أن اغتيال نصرالله هو تجسيد حيّ للثورة الحسينية، وفق قاعدة مفادها: لا يمكن، أو لا يتّسق أن نصف أنفسنا بأننا حسينيون، ثم ننظر إلى اغتيال القادة على أنه انكسار وضعف، بل على العكس، عندما سننظر إلى اغتيال قادتنا، وعلى رأسهم السيد نصرالله، على أنه تجسيد للنموذج الكربلائي، فإن هذا يزيدهم عزيمة، ويزيدهم إصرارًا وتمسّكًا بالمقاومة. ولذلك نشاهد في ردات الفعل على الصعيد الشعبي؛ أن هناك تأكيدًا من غالبية السواد الأعظم في بيئة المقاومة على خيار المقاومة، وخاصة بعد انتخاب الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًّا جديدًا لحزب ‌الله، وشاهدنا كيف تصاعدت عمليات المقاومة، وكيف تمّ قصف العمق الصهيوني، وكذلك الخسائر الصهيونية في المناورة البرية في جنوب لبنان، هذا كلّه أعاد المعنويات التي نَسفتْ جهود واشنطن في إطار محاولتها توظيف قوى داخلية لتزييف الوعي أولًا، ثم فرض واقع جديد لاحقًا من خلال تشكيل السلطة عبر انتخاب رئيس جمهورية، وإعادة تشكيل حكومةٍ تكون على الهوى الأمريكي والصهيوني، وهذا لن يحصل.

يقال إن وكالة الاستخبارات الأميركية التي تتولى "شيري بيكر" مسؤولية مكتبها في سفارة بيروت، أدّت دورًا في جمع معلومات تتعلق بشخصيات حزب الله، وتسليمها إلى إسرائيل لاغتيالها. وكمثال على ذلك، يمكننا الإشارة إلى المحاولة الفاشلة لاغتيال أحد كبار الشخصيات في حزب الله، وهو وفيق صفا (رئيس لجنة الاتصالات والتنسيق في حزب الله)، والتي كانت نتيجة لجهود استخباراتية أميركية. ما هو رأيك في هذا؟

طبعًا، كما أشرت في البداية، الأمريكيون هم شركاء الصهاينة في محاولة الوصول إلى بعض القادة في المقاومة، وما حصل في محاولة اغتيال "الحاج وفيق صفا" خير مثال على ذلك، لذلك أنا أعتقد بأن هذا المسعى لدى الأمريكيين في محاولة الوصول إلى قادة المقاومة لن يتوقف، من خلال توفير معلومات استخباراتية وأمنية للعدو، من أجل أن ينفذ الاغتيالات. طبعا مكتب CIA في بيروت، في سفارة عوكر، يتولى هذه المسألة، وطالما أن العدوان مستمر؛ سيبقى هذا البرنامج قائمًا في محاولة الوصول إلى قادة المقاومة, وباعتقادي أن المقاومة تفطنت إلى هذا الأمر، وقد اتخذت احتياطاتها بشكل فعّال، مما حال دون وصول العدو إلى بقية القادة الذين يقودون الآن المواجهة العسكرية الجهادية في جبهات الجنوب، وفي استهداف العمق الصهيوني أيضًا، وحتى في المناورة السياسية.

أما ما يتعلق بمحاولة أمريكا إيصال أشخاص معينين يدورون في الفلك الأمريكي، هذا لم يعد سرًّا، فنحن منذ سنوات نعرف بأن واشنطن تفضّل انتخاب قائد الجيش "العماد جوزيف عون" رئيسًا للجمهورية، وقد اعتقدوا بأن هذا المناخ الذي تشكّل بعد اغتيال السيد نصرالله، والسيد هاشم صفي الدين، وباقي القادة الجهاديين، أصبح مؤاتيًا لمحاولة فرض مرشّحهم الذي يطلبون منه طلبات تكاد تكون أوامر.

بطبيعة الحال، الجيش اللبناني هو مؤسسة وطنية جامعة لكل الطوائف، والعبث بهذه المؤسسة من قِبل الأمريكيين كان ينبغي أن يستدعي شجبَ واستنكارَ القوى اللبنانية على اختلافها وتنوع توجهاتها، لأن هذه المؤسسة هي الوحيدة التي تجمع أبناء الطوائف والمذاهب تحت قبة واحدة في لبنان، لذلك فإن عبث الأمريكيين بهذه المؤسسة كان ينبغي أن يلاقي ردات فعل رافضة من قِبل بعض القوى السياسية المعروفة الموقف من المقاومة، ولكننا شاهدنا تماهيًا مع هذا العبث الأمريكي؛ لأن هناك قرارًا اتُّخذ في واشنطن، وكانوا يعملون على تنفيذه، ولا يزالون. ولكن في نهايه المطاف: التعويل مثلًا على الإتيان بالعماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، ثم يقوم هو باختيار قائد للجيش يكون وفق نفس التوجه، هذا الأمر لن يحصل، فمحاولة تغيير وجه لبنان بعيدة عليهم، وهي محاولة صعبة التنفيذ. ربما إذا كان هناك قرار في واشنطن بأن يذهب لبنان إلى الفوضى وإلى عدم الاستقرار؛ فسيبقى التعويل على الوصول إلى هذه اللحظة ضمن نفس الخانة، ولكنهم يعرفون بأنهم سيخسرون الكثير والكثير من الأوراق والنفوذ وأوراق الضغط في لبنان إذا أقدموا على هذه الخطوة المتهورة والخطيرة.

أثارت صور سفارة "عوكر" الواقعة على بعد 13 كيلومترًا شمال بيروت، الكثير من الجدل. تبلغ مساحة هذه السفارة 120 ألف متر مربع، وقد تبادر إلى الأذهان هذا السؤال: ما أهداف سفارة بهذا الحجم في مساحة صغيرة؟ وتشير بعض وسائل الإعلام اللبنانية إلى هذه السفارة على أنها مكان للتجسس على المقاومة. هل تُعدّ سفارة واشنطن وكرًا للتجسس؟

طبعًا، اللبنانيون اليوم، وخاصة جمهور المقاومة، باتوا يعرفون أو يفهمون لماذا أقدمت واشنطن على تشييد مبنى بهذه الضخامة وبهذا الحجم ليكون مقرًّا لسفارتها. هذة السفارة يُراد لها من قِبل أجهزة المخابرات الأمريكية، وأجهزة الحكومة الأمريكية، أن تكون مقرًّا أو قاعدة أساسية - ليس على صعيد لبنان فقط، بل على صعيد المنطقة أيضًا - لإدارة عمليات التجسس، والاغتيال، والتتبع، وجمع المعلومات، وإدارة حركات سياسية، وربما انقلابات وثورات ملونة، كل هذا سوف يُطبخ في هذه السفارة.

نحن الآن شاهدنا فريقًا كبيرًا من الضباط، لطالما كان لبنان يُدار من قِبل بضعة ضباط لا يتجاوز عددهم لا أصابع اليد الواحدة، أمّا أن يُرسلوا فريقًا من 15 ضابطًا إلى سفارتهم في عوكر؛ فهذا مؤشّر على أن هناك عمليات معقدة كبيرة الحجم والطابع، وربما تتجاوز الحدود اللبنانية، فنحن نشاهد ونسمع قادة جيش العدو، وحتى ساسة العدو، وعلى رأسهم المجرم نتنياهو، يتحدثون - منذ ما قبل العدوان الشامل على لبنان - عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط، لكي يحصلوا على شرق أوسط جديد، وهذا الأمر يتطلب مشاركة أمريكية كبيرة، من السفارة الأمريكية الكبيرة جدًّا في بغداد، إلى السفارة الأمريكية الكبيرة جدًّا في عوكر في لبنان، والقواعد العسكرية والاتفاقات التي عقدوها مع الأردن، وما يُحكى مثلًا أنه بعد هذه الحرب ستكون هناك قاعدة أمريكية كبيرة في فلسطين المحتلة في الكيان الصهيوني. لذلك، أنا أعتقد بأن واشنطن - ضمن محاولة منع مشروع طردها من المنطقة - تعزز من عمليات وجودها في أوكار التجسس التابعة لها في هذه العواصم، وتحديدًا في بيروت، أي قرب بيروت في عوكر، مقرّ هذه السفارة الضخم هو من أجل أغراض تشغيلية لمحاولة إداره الفترة القادمة بعمليات أكبر مما كان قائمًا في السابق.