لم تكن سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في العالم يومًا مجرد أماكن دبلوماسية لتعزيز العلاقات السياسية والدولية مع واشنطن، بل عملت كقواعد عسكرية في الدول المضيفة. وفي هذا السياق، تنظر واشنطن إلى سفارتها في بيروت كإحدى أهم السفارات في غربي آسيا. تعود أهمية لبنان بالنسبة للحكومة الأمريكية إلى عوامل عدة وأسباب مختلفة، من أبرزها وجود حزب الله في هذا البلد، وقربه من الأراضي المحتلة. ترفض أمريكا بنحوٍ قاطع وجود حزب الله في لبنان، إذ تمكن مقاتلوه في عام 2000 من إنزال أول هزيمة على الكيان الصهيوني، وفي عام 2006 استطاعوا، من خلال انتصارهم على تل أبيب، أن يثبتوا أنفسهم كقوة عسكرية إقليمية. يُعدّ حزب الله اليوم تهديدًا وجوديًّا للكيان الصهيوني، مما جعل لبنان - وتطورات الوضع فيه - يكتسب أهمية مضاعفة بالنسبة للأمريكيين[1].

 

مبنى واحد وألف جلجلة؛ هل هذه سفارة أم «وكر تجسس»؟!

تسببت الصور المنشورة عن سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في «عوكر»، التي تقع على بعد 13 كيلومترًا من مدينة بيروت، بجدل واسع في الأجواء العامة والإعلامية في لبنان. يعود سبب هذه المسألة إلى المساحة الكبيرة والمقر الواسع للسفارة من جهة، وتحصيناتها الأمنية من جهة أخرى. تصل مساحة هذه السفارة إلى 120 ألف متر مربع، ما أثار تساؤلات حول الأهداف التي قد تقف وراء بناء سفارة بهذا الحجم في إحدى أصغر دول المنطقة. دفعت صور سفارة «عوكر» (بحجمها الكبير وتحصيناتها الأمنية) بعض الأشخاص إلى وصفها بأنها «قاعدة عسكرية تحت غطاء سفارة»[2].

 

«طوفان الأقصى» وتفعيل خلايا التجسس التابعة للسفارة

بعد عملية «طوفان الأقصى»، ودخول حزب الله لبنان بقوة إلى المعركة ضد الكيان الصهيوني، مما أدى إلى توجيه ضربات قاسية إلى هذا الكيان، بدأت خلايا التجسس التابعة لسفارة الولايات المتحدة في «عوكر» بالظهور تدريجيًّا، ليصبح الطابع الحقيقي للمبنى الذي كان يُشار إليه عادة بوصفه سفارة مكشوفًا للجميع. في هذا السياق، كشف أحد المسؤولين الرسميين رفيعي المستوى في الأجهزة الأمنية اللبنانية عن دخول ضباط كبار من الولايات المتحدة الأمريكية إلى بيروت، واستقرارهم في سفارة «عوكر»، وذلك في صحيفة «الأخبار». وقال هذا المسؤول الرفيع في هذا الصدد: «دخل أعضاء فريق كبير من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، مكون من 15 ضابطًا كبيرًا، إلى بيروت في أوائل شهر أكتوبر 2024، وتوجهوا إلى سفارة واشنطن في عوكر. عقدوا اجتماعًا مع شيري بيكر، مسؤولة مكتب الاستخبارات الأمريكية في سفارة عوكر. يبدو أن جهود أمريكا تركزت على تحفيز الأطراف الداخلية في لبنان ضد المقاومة الإسلامية في هذا البلد»[3].

 

تحضير المجتمع اللبناني لمرحلة «ما بعد حزب الله»!

لا يمكن تجاهل الدور المحوري لليزا جانسون، سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان، في التحرك ضد المقاومة الإسلامية في هذا البلد. كما يبدو، تولّت جانسون، بصفتها مسؤولة عن سفارة واشنطن في «عوكر»، الدور الرئيسي في التصدي للمقاومة. وفي هذا الإطار، كشفت مصادر أمنية ورسمية لبنانية أن جانسون تحمل مسؤولية تحضير المجتمع اللبناني للمرحلة التي يتم الإشارة إليها بـ«ما بعد حزب الله». وأعلنت هذه المصادر أن السفيرة قالت خلال لقاءات مع الأحزاب والتيارات السياسية وغير السياسية، إنه يجب عليهم البدء بأنشطتهم في أسرع وقت ممكن، استعدادًا لدخول المرحلة المذكورة[4].

 

لا يمكن لـ"إسرائيل" وحدها إنهاء المهمة؛ جاء دوركم الآن!

كشف مصدر رفيع في الأجهزة الأمنية اللبنانية عن التصريحات التي أدلت بها ليزا جانسون، سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في بيروت، خلال لقائها مع زعماء الأحزاب والتيارات السياسية المعارضة لحزب الله. وقال المصدر إن جانسون أكدت بنحوٍ صريح على ضرورة الاستفادة من الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني ضد حزب الله بهدف تدميره بنحوٍ كامل. وأضافت أن الهدف الرئيسي ليس تدمير القوة العسكرية لحزب الله، بل القضاء التام على هذه المجموعة. وقالت جانسون للأطراف اللبنانية المعارضة لحزب الله: «لا يمكن لإسرائيل أن تحقق كل شيء عبر الحرب، وآن الأوان لتقوموا بدوركم، وتطلقوا انتفاضة داخلية للتخلص من حزب الله، وخصوصًا أن الظروف الإقليمية والدولية والميدانية لمصلحتكم»[5]. رغم أن تصريحات سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية تعكس تدخلًا خطيرًا من قبل سفارة واشنطن في دعم الكيان الصهيوني، واستخدام إمكانات السفارة لصالح هذا الكيان في حربه ضد المقاومة الإسلامية، إلّا أنها من زاوية أخرى، تُعدّ اعترافًا ضمنيًّا بعجز الصهاينة وفشلهم في التغلب على حزب الله بالاعتماد على قوتهم العسكرية.

 

الفشل في المجال العسكري والتوسل بالمؤامرات السياسية

تُظهر آخر الأخبار من بيروت أن سفيرة الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا على الأطراف السياسية لعقد اجتماعات مشتركة بهدف تقديم قائد الجيش اللبناني، العماد جوزيف عون، مرشحًا للرئاسة. وقد قالت سفيرة أمريكا في هذا الصدد: «عندما يصبح عون رئيسًا، سيتولى بنفسه تعيين قائد قوي للجيش اللبناني، وسنساعد الجيش على كبح جماح كل مناصري حزب الله، وستحصلون على كل الدعم من العرب والغرب. لكن آن الأوان لأن تتحركوا الآن»[6]. بعد فشل الكيان الصهيوني عسكريًا ضد حزب الله في الجبهة الشمالية، لجأت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى المؤامرات السياسية، بوصفها وسيلة لعزل حزب الله، وجعلها جزءًا من أولويات أعمالها.

 

السفير السابق يؤيّد تدخّلات السفارة الأمريكية في بيروت

من حين لآخر، عندما يُذكر الحديث عن تدخلات سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان، يتم إعادة قراءة تصريحات جيفري فيلتمان، أحد سفراء واشنطن في بيروت. قال فيلتمان، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في لبنان بين عامي 2004 و 2008، في خطاب له أمام الكونغرس الأمريكي في عام 2019: «يجب على لبنان الذي يحظى بموقع جغرافي استراتيجي، أن يُحدّد علاقاته مع روسيا، الصين، ايران، وسوريا». الشخص الذي كان المسؤول الرئيسي عن سفارة الولايات المتحدة في لبنان لمدة أربع سنوات، أعلن بكل وقاحة وبصوت عالٍ موقفَ بلاده ضد المقاومة الإسلامية، وقال: «يجب أن يتخلّص لبنان من سلاح حزب الله، فسلاح حزب الله لا يحمي لبنان». كتبت صحيفة «رأي اليوم» في مقال لها تعليقًا على هذه التصريحات: «لعلّ السفير نسي أو تناسى تحرير الجنوب على يد المقاومة وحزب الله، لا يسرّ السفير معادلة القوة التي فرضها حزب الله على الكيان المُحتل! حديث السفير تجاوز مرحلة التدخل الأمريكي في شؤون هذا البلد»[7]. تظهر تصريحات «فيلتمان» في الكونغرس الأمريكي بوضوح نوعية الأفكار التي تتولى المسؤولية الرئيسية لإدارة سفارة الولايات المتحدة في بيروت.

 

ما هو موقف الأمين العام الحالي لحزب الله من السفارة الأمريكية؟

تُظهر إعادة قراءة مواقف الأمين العام الحالي لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أنّ حزب الله لا يرى أيّ دور إيجابي لسفارة واشنطن في بيروت. وفي هذا السياق، قال الشيخ نعيم قاسم في عام 2022: «دور السفارة الأمريكية هو دور تخريبي، ودور استعماري، ودور "إسرائيلي"». وتابع سماحته قائلًا: «أمريكا تبذل جهدها تمامًا لإثارة الفوضى بين الناس عن طريق الضغط الاقتصادي»[8]. يأتي هذا الموقف في سياق الموقف الذي اتخذه «سيّد المقاومة»، الشهيد السيد حسن نصر الله، في عام 2013 تجاه سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان، عندما قال: «السفارة الأميركية في عوكر وكر تجسس، لكن البعض يتجاهل ذلك»[9].