الكاتبة: د. عبير شمص

دائماً ما كانت رفعة الأمم مرهونة بتذكّرها لعظمائها المعطائين، واجتماعها حول قائدها وهاديها. أولئك العظماء، ومنهم الشهداء، يصبحون أمثلة للشعوب بما يتحلّون به من خصال الجود والبذل والسهر والعمل والإنتاج، فكيف إذا كانت هذه الخصال خالصة لوجه الله وفي سبيله؟ حينها يصبح من ثمارها الخلود، ويغدو من السمو المشاركة في إحياء ذكراهم واقتباس لمحات من حياتهم وفكرهم لمن فهم آثارهم وتأملها وسار عليها.

كان القائد الفريق الحاج قاسم سليماني أحد هؤلاء العظماء الذين ارتقوا شهداء في سبيل الله. كان له من الفضل ما جعله محط وفاء من شعوب وأمم بأسرها. لعل دعوة عائلات الشهداء من إيران وفلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق وغيرهم للمشاركة في عربون الوفاء له ولأخيه القائد الحاج أبي مهدي المهندس كانت دليلاً على هذا الوفاء المتجذر في قلوبهم.

بهذه الخواطر دخلت المكان المهيب. هنا حيث دأب قائد الثورة الإسلامية، سماحة آية الله العظمى السيد علي  الخامنئي، على ملاقاة الحشود من مختلف فئات المجتمع، من مثقفين وعمال.

 عند دخولك القاعة، تحيطك رهبة المكان ويعتريك خشوعٌ وأنت تنتظر لحظة إطلالة الإمام المفدى. هنا، بجانب الشباب وكبار المسؤولين وأسر الشهداء القادة، حيث ارتفعت أصوات الصارخين بالولاء وإعلان الثبات. هنا حيث ارتفعت صور رموز مقاومة الاحتلال من الشهداء القادة من كل البلدان التي لم تطبّع مع عدوها المحتل ولم تصمت أمام طغيانه ومجازره. لقد جاءت وفود من هذه الشعوب لتتوحد مشاعرها ونهجها في هذا المكان.

غصت الحسينية بعائلات الشهداء وحضور من الجرحى، بالإضافة إلى فعاليات إعلامية. عند سؤالنا لعائلات السعداء عن أحبائهم، كان الرد انتصاراً وثباتاً وتسليماً، وترددت كلمات السيدة زينب (عليها السلام) على مسامعنا: «ما رأينا إلا جميلاً». حقاً، يُذهل السائل والمراقب من هذا المجتمع المقاوم.

ما لبثت حرارة المجد أن توهجت عندما وصل الحديث عن شهادة سيد شهداء الأمة سماحة السيد حسن نصر الله. ها هي الدموع تنهمر كأنهار لا تعرف التوقف، ونتساءل عن هذا الشوق العامر في القلوب وعن هذا الحزن الذي لا ينتهي. عند السؤال عن مصدر هذا الثبات، أجابتنا زهراء نصر الله، زوجة الشهيد حسن نعمة من بلدة عيناتا الجنوبية، قائلة: «اتصل بي زوجي قبل استشهاده بمدة قصيرة وأخبرني أنه لم يأكل منذ خمسة أيام، وأنه صامد ولن يتراجع ولن يسمح للعدو بالتقدم قيد أنملة في أرضنا، وكذلك أصحابه جميعهم. أوصاني بالصبر والاحتساب عند استشهاده، وتربية أبنائنا للسير على خطاه». هي عند استشهاده، ومع علمها بأنه بقي تحت الأنقاض لمدة عشرين يوماً، صبرت واحتسبت، منفذةً وصيته.

أما والدة زوجة الشهيد إبراهيم علي بعلبكي، فتروي أنها حزنت على استشهاد زوج ابنتها، ولكنّ حزنها الأكبر كان على الشهيد العظیم السيد حسن نصر الله. تشير إلى صورته المعلقة على حائط الحسينية مع رفاقه الشهداء، وتعلن: «أصبحنا أيتاماً بعد فقده».

في هذا المحفل العابق بنفحات زكية من عطاء الدم والصبر، تُجمع عائلات الشهداء على معالم إيمانية، منها: «أن هذه الحرب كانت تدار بالرحمة الإلهية في جوانبها كلها، ورغم قساوة الصورة والوجع، ولكنّ محطاتها كافة لها ارتباط بعالم الملكوت، وكأن يداً من الغيب قد امتدت لتعزز الصبر والسلوان في نفوس الناس، وتبث العزيمة والإرادة للمضي قدماً والثبات دون تزلزل».

تجلّت الرحمة الإلهية بوضوح في القدرة على التحمل، إذ نزحت معظم العائلات بلا سند ولا كفيل. كما تجلّت في سيل الدماء الزكية التي طهرت القلوب الفاقدة، فكان تقبل الفقد بصورة عجيبة، لا مثيل له في التاريخ. تجلت الرحمة الإلهية الكبرى في الاختبار العظيم الذي كتبه الله لنا، وهو استشهاد شهيدنا الأقدس في أشد اللحظات حرجاً وحاجةً إليه. كل عتمة عشناها كانت شهادته أظلم منها. إنه اختبار هزّنا وزلزل أمننا، ولكن الرحمة كانت ترافق المصيبة واليسر كان ملازماً للعسر، لأن الاستحقاق كان توجّهنا إلى المعصوم وطلب الخلاص على يد المنتظر والدعوة بإلحاح لتعجيل الفرج.

كلام عائلات الشهداء، من البلدان كافة، يشبه بعضه، حتى لتخالهم عائلة واحدة. لقد فقدت إحدى أمهات الشهداء الإيرانيين في تفجيرات حادثة كرمان الإرهابية ابنها ذا السبعة عشر عاماً، فتصر على تعريفنا بولدها، وتدلنا على صورته وهي تحمل شقيقه الرضيع الذي وُلِد بعد استشهاده، وتعلن بكل فخر أنها ستصطحبه لزيارة مرقد الحاج قاسم سليماني ولن تخاف من الأعداء أو التفجيرات، وأنه سيسير على درب شقيقه ولن يترك السيد القائد وحيداً.

كأن دموع عائلات الشهداء من أمهات وزوجات تتعانق لتشكل سيلاً يؤمن بأنه سيجرف العدو الصهيوني ومنشئته أمريكا، فهما أصل الشرور في العالم.

في هذا المكان، جاء الحشد ليشكو إلى ملهمهم القائد فقد شهيدهم الأقدس ليواسيهم. ما زالت وصيته حاضرة فيهم: «إذا ادلهمّت عليكم قطع الليل، فلوذوا بالإمام». لقد أصبح هو السند والكفيل للمقاومة ومجتمعها، تلهف القلوب لرؤياه، وعند حضوره تسود السكينة فتشعر القلوب بالعز والفخر، فتتعالى قبضاتها وصرخاتها معلنة له: «سنبقى معك، ولن نترك هذا الطريق حتى لو قُتلنا وقُطّعنا وحُرقنا، سنبقى معك يا ابن فاطمة».

عندما بدأ خطاب من يرونه نائب الإمام، عمّ سكون لا يوصف، وساد الهدوء في النفوس والقاعة. توجه الجميع إلى كل كلمة ونفس، فوصلت الطمأنينة من وجوده كأنها شعاع يخترق وجه الماء. من القرآن الكريم، تدفق غيث السكينة الروحية بفيض الخطاب، وأخذ الصوت الرخيم يسرد حكاية الشر والمكائد منذ بدء الخليقة، مشيراً إلى مصابيح الحياة التي بها يُستنار في عتمة التحديات، مفصلاً إستراتيجيات المسار الإلهي والاستقرار لكل مؤمن مجاهد في وجه الشرور.

يحكي فيستمع الحضور بجوارحهم وقلوبهم كلها إلى قضايا «الدفاع المقدس» في إيران والعراق وسوريا ولبنان، موضحاً أسبابها ومعاييرها وآثارها. في تعبير القائد  السيد علي الخامنئي، تجلى للحاج قاسم حضوره، فهو صاحب الدور القوي في مواجهة الاحتلال الأمريكي الذي هاجم مدن العراق، ووقفت بوجهه مجموعة من الشباب المؤمنين المتحصنين في صحن أمير المؤمنين (عليه السلام) في مدينة النجف الأشرف. كانوا خالي الوفاض من السلاح والطعام، ولكن الحاج قاسم شعر بتكليفه وبدأ التواصل معهم، فساعدهم وأنقذهم من أمريكا التي كانت تسعى إلى البقاء بعد إسقاط نظام صدام، وبذلك ساعد في إعادة العراق إلى يد العراقيين ليختاروا حكامهم بأنفسهم. ثم جاء دور «داعش»، إذ صنعها الأمريكيون بعدما اكتشفوا أنهم لا يستطيعون التدخل مباشرة في العراق والمناطق الأخرى. كان الشهيد سليماني هو الذي دخل الميدان ووقف ضد «داعش». لقد تألّق الشباب العراقيون في هذه القضية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن دور الشهيد سليماني كان حاسماً، ولو لم يكن هو، لما أمكن ذلك.

صدق الشاعر الذي ألقى شعراً في اللقاء، إذ شبّه الحاج قاسم بالعباس (عليه السلام)، لأنه أملهم وحاميهم، وهو، كما شبيهه، اغتيل غدراً وقُطعت يداه، وكانا مطيعين لوليهما، وكل منهما بكى إمامه عليه. الشهيد في مجتمعنا هو ثقافة دفاع عن المظلوم ورفع الخطر عنهم، لذا يبقى حياً إلى الأبد. «المنتصر في نهاية المطاف هو قوة الإيمان وأصحاب الإيمان».

لقد فاض شعور العزة والولاء في قاعة إحياء الذكرى الخامسة للشهيد الفريق الحاج قاسم سليماني ورفيقه وأخيه الحاج أبي مهدي المهندس. بعد مرور خمس سنوات على استشهاده، تقول عائلات الشهداء بحرقة قلب جلية: «لو أمدّ الله بعمره إلى الآن، لما حدثت هذه الأحداث كلها، فقد كان رعباً للأعداء، ولكنه في كل حال حيٌّ وأثره باقٍ مع حاملي اللواء».

في ختام اللقاء، علت صرخات الجمع بالتكبير وهتافات حسينية و«هيهات منا الذلة»، تأكيداً لما قاله السيد القائد، والتزاماً ويقيناً بأن النصر الإلهي حتمي، وأعداء الحق سيُسحقون تحت أقدام المؤمنين. تحوّل لقاء الوفاء إلى ثورة حقيقية وإعلان ولاء.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا التقرير، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir