كتب بشار اللقيس

بحثاً عن العائلة الجديدة المعثور عليها بفضل القدر، جاء مارتن بوبر عام 1887، إلى القدس ومعه حشد من يهود شرق أوروبا. كان مارتن يطمح للقاء ذاته في "أنا" الآخرين.  "نحن نعيش نوّماً في عالم نائم، ومتى يُهمس في آذاننا "أنت" تتجدد لقيا نشأتنا من جديد". متأثراً بالرومنسية الألمانية كان بوبر آنذاك، وأسوة بفيخته لم ير في الإنسان إنساناً إلا بين الناس. يعود لهذا الفيلسوف المتصوف فضل تسمية نتنياهو مشروعه عن الشرق الأوسط الجديد بمكان تحت الشمس، وهو العنوان الأكثر حضوراً في كتاب بوبر "أنا وأنت: je et tu".  عاش بوبر في جبل صهيون حتى أواخر القرن التاسع عشر، وتوفي بالقرب من حي ميتشريم [البوابات المئة] اليهودي. المفارقة هي أن هذا الحي نفسه لم يُصدِر، وإلى اليوم،  أي نص أدبي أو ثقافي بالرغم من قِدمه وعراقته، لقد ظل ميتشريم شاهداً على الشرخ في المجتمع الإسرائيلي، مثلما ظل شاهداً على الشرخ الدولي من المسألة الصهيونية.

في ميتشريم، مثّل اليهود السفرديم بالإضافة لمتصوفي اليهود في شرق أوروبا، طليعة "جيل الصابرا"- أو المهاجرين الأوائل- في اسرائيل. بحسب عوني فرسخ، لعب اليهود أواخر القرن التاسع عشر، دوراً ريادياً على المستوى الثقافي والاقتصادي في فلسطين. في القدس وحدها، بلغ تعداد مدارس القرّاء اليهودية وحدها 43 مدرسة من أصل ما يُقارب الثمانين. إلى اليوم لم يُمط لثام الدور الذي لعبته السلطنة العثمانية في استقدام اليهود إلى أرض فلسطين. وبالرغم من انطلاق دعوة العودة إلى فلسطين من سراييفو مع يهودا القلعي عام 1834 -فترة "المسألة المشرقية"-. إلا أن  أياً من الباحثين لم يستقرئ الموجة الأولى للهجرة اليهودية بمنظور صراع الهويات والمسألة المشرقيّة.

ثمة ما تكشف عنه الرسائل المتبادلة بين ضياء الخالدي، رئيس بلدية القدس والنائب في مجلس المبعوثان العثماني، وزادوك خان كبير حاخامات فرنسا في آذار من العام 1899. تظهر الرسائل آنذاك، أن ثمة الكثير من التعاطف مع اليهود بالرغم من الحذر الكبير من الصهيونية. لا يؤكد اليهود نيتهم في تلك المراسلات تأسيس "دولة محاربة"، أو أقله هكذا ادعى بن غوريون، الذي أكّد على الجنبة الإقتصادية التي ستعود على السلطنة والمسلمين بالفائدة شرق الساحل السوري. واقعاً، كان لقد وجد العثمانيون في اليهود موازنا طبيعياً للأقليات المسيحية في الساحل السوري، كما وحاجزاً يحول دون تمدد مصر ناحية المشرق العربي.

للأدب العبري في تلك المرحلة رؤيته ودلالته.  تقدم رواية الأديب ناتان بيستيرسكي أجمون "أيام وليالي" بعضاً من الرؤية اليهودية المُتخيّلة لتلك المرحلة. وبالرغم من صدورها في وقت متقدم عن مرحلة الهجرة الأولى، إلا أنها عكست وإلى حد كبير ميثة الإطار المرجعي للعقل اليهودي المؤسس للهجرة الأولى. هكذا نجد في الشطر الأول من الرواية أن ثمة شاب يهودي، معجب بشخصية الشيخ سعيد، جاره المسلم، لدرجة يطلب منه أن يصير أباً جديداً له بدلاً من والده الذي امتنع عن القدوم إلى فلسطين. لكنه وفي سياق الأحداث يعود الشاب عن الفكرة بعدما تبين له استحالة قيام جاره بهذا الدور. واقع الأمر، تغص الأدبيات الأولى لروائيي الهجرة الأولى بأشكال من الهستوغرافيا التشاركية المُتخيلة.  لحاييم برينر رؤية مشابهة خطها في "نبوءة مساء"، وكذلك ليوناثان راتوش في رؤيته الكنعانية. باختصار ثمة ما لم يُحكى عن الهجرة الأولى لليهود إلى فلسطين، تلك الهجرة التي شملت التيار الأثوذوكسي الصوفي، والتي أفضت لتحولات أعادت  بناء أسس وعيه وإدراكه.

*                                                    *                                                        *

كان اسمه شوليك وكُنّي في "اسرائيل" لاحقاً بشاؤول. وُلد شوليك في مدينة لودج البولدنية عام 1910، ونشأ يتيماً بعدما توفي والده أواخر الحرب العالمية الأولى. على الضد من مواقف أخيه الذي انتمى للبوند (الحركة الإشتراكية الصهيونية في بولندا)، لم يجد شوليك في خزانة الأسفار اليهودية ما يفي خزين أسئلته ورؤاه، فتخلى سريعاً عن عقيدة والديه وانضم للحزب الشيوعي. ظلّ هذا الشاب ماركسياً حتى أواخر عام 1939 عندما دخلت القوات السوفياتية إلى وارسو وأعدمت كل قيادات الحزب الشيوعي هناك. عاش الشاب اليهودي حياتاً جد متقلبة، عام 1940 دخل مع اخته  الاتحاد السوفياتي، وبناءاً على مشروع ستالين انتقل في شاحنة إلى كازاخستان. لم يحتمل اليهودي الثائر المجتمع الزراعي هناك، وفضّل العودة إلى مسقط رأسه. مرة أخرى كانت بولندا بالنسبة له موطن المفارقات، هذه المرة عندما التقى أخاه الصهيوني على الحدود البافارية. لقد شاءت المفارقة أن يتلقّى أخاه تأشيرة إلى الولايات المتحدة ليكمل حياته هناك، وأن يجد شوليك نفسه في طريقه إلى شواطئ حيفا من خلال مرسيليا. عاش شوليك في اسرائيل لكنه قلما تحدث باليهودية الصرفة. لقد ظلت الييدشية (لغة يهود شرق أوروبا) اللغة الرئيسة بالنسبة إليه، وظل وطنه بنظره دائماً وأبداً: بولندا.

 تعتبر حكاية هذا الرجل أنموذجاً في سرديات الهجرة الإسرائيلية الثانية والثالثة، وهي الهجرات التي امتدت منذ هزيمة الثورة الروسية في العام 1905، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. كيهود غيتو فيلنا، ظل الصابرا ينظرون للمهاجرين الجدد، على أنهم أحفاد أولئك الذين مسّهم اليأس فراحوا ينشدون اللهو والعبث في مسعاهم الآري. كان غيتو فيلنا عام 1942، أنموذجاً للانحلال والاحباط والقنوط من المشيئة الإلهية للتاريخ اليهودي. كان الصابرا يجدون في المهاجرين الجدد وعاصمتهم تل أبيب، خطراً على الهوية اليهودية. في المقابل كان جُل أبناء الهجرة الثانية والثالثة يتطلعون لأنفسهم على أنهم أبناء الطبقة الكادحة في وارسو، أولئك الذين كانوا يقفون بثياب العمل تحت المطر لساعات كيما يستمعوا لشعر بيريز ماراكس، واتزك مانجر، أو حتى نثر نومبرغ وهو يتغنى بكتّاب الييديش القدامى. سيترك هذا الانقسام أثره في المؤسستين الثقافية والأمنية، مثلما سيؤسس لانقسام جهوي جديد، لا بين الييديش والصابرا فحسب، بل وبين الييديش وأبناء الهجرة الخامسة.

في استقراءهما تاريخ المؤسسة الأمنية يتوقف كلاً من بني موريس وإيلان بلاك، عند الخلاف في توجهات مؤسستي الموساد والشين بيت بُعيد "حرب الاستقلال" -بحسب التسمية الإسرائيلية-، عام 1948. كان الأول أقرب لجهاز أمن أشكينازي، يعمل بأمرة المابام – حزب العمل في ما بعد- والوكالة الصهيونية، أما الثاني وبالرغم من قيادته الأشكينازية إلا أنه اعتمد بشكل رئيس، على الكتلة السفاردية، -السورية والعراقية على وجه التحديد-. واقع الأمر لعبت  الحرب العالمية الثانية ومن بعدها "حرب الاستقلال"، دورها في إعادة هيكلة بنى المؤسسة الأمنية. لقد كان على شريحة الوافدين الجدد من أبناء الهجرة الخامسة إعادة هندسة شبكة جديدة من السياسة تجمع اءتلاف المهمشين. صبيحة الثالث من كانون الأول من العام 1944، وبينما كانت قوات من المظليين اليهود المتطوعين تنزل في الشرق من أوروبا، كان التحالف بين كتلتي الشرقيين واليهود الألمان، يأخذ دوره في مواجهة الثقل السياسي والاجتماعي لأبناء الهجرة الثانية. عبر حزب حيروت –الذي أسسه بيغن- آنذاك، عن التوجه الجديد  من خلال نقده لسياسات الحكومة في مسألة تعويضات المحرقة. واقع الأمر، لقد جمع العداء للييديش بين كتلتين ظلتا حتى مطلع الخمسيسنيات غير مؤمنتين باسرائيل ومشروعها بنحو كلي.

مرحلة الخمسينيات، كانت شاهدة أيضاً على شرخ آخر بين المهاجرين ذوي الأصول الجرمانية والمؤسسة السياسية. في كانون الأول من العام 1953 اتهم زعيم اليهود الهنغار مالكيل غرينوالد، عضو حزب المباي ]العمل فيما بعد[ اسرائيل كاستنر، بأنه لم يقم بما فيه الكفاية لانقاذ إخوته في أوروبا من بطش الـSS –أو الشرطة النازية-. رفضت الحكومة الاتهام بادئ الأمر، لكن غرينوالد عاد وربح دعواه أمام المحكمة عام 1955. بعد سنتين اغتيل كاستنر على يد قاتل مأجور تبيّن فيما بعد أنه على صلة بالشين بيت. طويت صفحة الأزمة آنذاك بالمعنى السياسي، لكنها ظلت تختمر في النفوس وفي النصوص الخبيئة حتى أواخر السبعينيات.

*                                                    *                                                        *

يعتقد أنه بطل مسادا، كانت مسادا في القرن الأول للميلاد قلعة معلّقة فوق البحر الميّت. بعدما غزا تيتوس القدس، اختار بعض المقاتلين اليهود، ممن ظلوا على قيد الحياة، الموت في مسادا بدل الوقوع بين أيدي الغزاة. أثناء الحرب العالمية الثانية كان بيغن في وارسو أحد المسؤولين الأساسيين في حركة بيتار. لم ير بيغن آنذاك في وارسو القلعة الأخيرة. بُعيد دخول القوات السوفياتية فر بيغن من وارسو تاركاً وراءه أهله ورفاقه. ماتوا جميعاً وظل هو على قيد الحياة. يُقال، خاض بيغن فيما بعد الحروب نيابة عن المعركة التي هرب منها بالأمس.

مع بيغن عبّر أبناء الهجرة الخامسة عن عميق رؤاهم وتطلعاتهم. يشعر الشرقيون من أبناء هذه الهجرة بالحاجة لأن يكون العرب أدنى منهم. إذا كانت أصوات اليهود الشرقيين تشكل قوة بيغن الرئيسية فهذا يرجع بشكل رئيس لكون بيغن متشدد مع العرب، يقول جان هيلد. إنها قضية انتقام. يفتدي بيغن الشرقيين من خطيئة مشاركتهم في الحضارة العربية. ولا يحملهم عبء الدم الذي سفك بحق الفلسطينيين عام 1948. بيغن لا يقترح مشروعاً اسرائيلياً غربياً، هو يذكّرهم فقط بأن لله صوت البندقية. بيغن "نظيف" يقول الشرقيون. هو لم يقترح شيئاً. مع بيغن تجاوزت اسرائيل عتبة الحلم المتوسطي "الفرنسي". لم تعد مرسيليا مرتكز الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وفي الآن عينه لم تعد اسرائيل أوروبية.

من كاراباخ الجبلية على الحدود الأرمنية-الآذرية تطلع بيغن للعالم اليهودي. ثمة مؤشرات عميقة الدلالة في تصريحات بيغن عن يهودية كاراباخ العليا منتصف الخمسينيات. أواخر عام 1958، ألقت السلطات السوفياتية القبض على 500 قطعة سلاح إسرائيلي الصنع، مضافة لكمية هائلة من الذخائر. بُعيد ثلاثين عاماً، عادت مسألة كاراباخ للظهور، لكنها عادت هذه المرة على يد أحد أبرز ضباط الموساد "أرييل وايزمن"، في بحثه عن أصل الشعب اليهودي. واقع الأمر، تصاعدت أبحاث الهستوغرافيا اليهودية بُعيد الستينيات، لكنها ارتكزت في تطلعها هذه المرة لمنطقة الخزر (ما بين الفولغا وقزوين). هكذا وبدون سابق انذار، استعاد النقد التاريخي فجأة الحديث عن شيء خبيء في تاريخ المنفى. كانت رسالة الطبيب والسياسي الهودي في ديوان الخليفة عبد الرحمن الثالث الأندلسي، واسمه حسيداي بن شبروط (915- 975)، إلى يوسف بن أهرون -ملك الخزر- مادة لهذه الاستعادة المستأنفة. في الآن عينه شكلت "شهادة كامبريدج"، وهي رسالة باللغة العبرية ليهودي من بلاط الملك يوسف –يُرجح أنها كانت جوابية على رسالة الحاخام حسيداي- النص المرجعي لخارطة العقل المعرفي الجديد.

بإمكاننا القول، ثمة انزياح في الإطار العام الاسرائيلي من رؤى الشراكة المتوسطية –فترة حكم حزب العمل- للتطلع ناحية الشمال في عهد اليمين الجديد. ستعيد هذه المسألة لا شك، بلوَرَة المسألة اليهودية بشكل كامل، مثلما ستعيد في الآن عينه موضعة اسرائيل بالنسبة للعالم القديم، وانقسامات الهويّة فيه. تنفتح السرديات الهستوغرافية حالياً على غير وجهة وحِدى، ثمة الكثير من الرؤى التي عادت لاسترجاع شراكات المنفى الخبيء.

تبدو اسرائيل راهنا كما الرسم الذاتي لصاموئيل شارون ]والد أرييل شارون[ غير المكتمل. هي لم تستكمل طيلة تجربة اليمين ملامح الأبوة الجديدة التي أخذها اليمين نفسه على عاتقه. واقع الأمر، لم تزل "اسرائيل" وإلى اليوم كياناً يشوبه الكثير من الغياب، كرسم صموئيل الذاتي الذي اختار أرييل شارون أن يختتم به مذكراته. ثمة وجه غير مكتمل المعالم. هكذا هي "اسرائيل" اليوم، لم تزل تبحث عن أبوّة تجد فيها بنوّتها. ثمة الكثير من الغياب، ثمة الكثير من الرماد تحت وطأة هذه الشمس.

  • إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir