وفي ما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي في ذكرى المبعث النبوي الشريف:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أبارك هذا العيد العظيم، الذي يُمكن اعتباره- بالنسبة لعامة المسلمين بل للبشرية عامة- أعظم وأحلى ذكرى في كلّ التاريخ، لكم أيّها الحضور الكريم، الضيوف الأعزاء، ممثلو الدول الإسلامية المشاركون في هذا اللقاء وإلى عموم الشعب الإيراني الذي واصل هذا النهج بكل إخلاص وصدق، ويواصله بالجهاد والفِداء. كما أبارك هذا العيد للأمّة الإسلامية ولجميع أحرار العالم.

لقد وَرَدَ في الروايات بخصوص ليلة المبعث، أنّ السماء لَمْ تُرخ بظلالها على ليلة كتلك الليلة، أي لم يَشْهد التاريخ ليلةً كليلة المبعث، ففي صباح تلك الليلة كُرّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب الإلهي، وبُعث بالرسالة العظيمة والخالدة على مرّ العصور. البعثة عمل عظيم وشاق. عَظَمة الأعمال تتناسب والمشاكل والصعاب التي تعترض مسيرها. وعادةً ما تكون الصعاب التي تواجِه الأعمال والخطوات الصغيرة، صغيرةً. بينما تواجِه الأعمال العظيمة معارضات ومصاعب كبيرة. لقد توالت الصعاب التي واجهت الدعوة خلال حياة النبي، سواء في مكة أو في المدينة، ومن مختلف الجوانب، وهذا الأمر لم يقتصر على نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، فقد واجه جميع الأنبياء والرسالات هكذا معارضات. لكن بالطبع، كانت المعارضة التي واجهها نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ، أشدّ وأشمل "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" (1) فقد ساعد شياطين الإنس والجن بعضهم بعضاً في مواجهة الدعوة الإلهية، وفي مواجهة السعادة البشرية. "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ" (2) أي أن الأفئدة الغافلة، الساذجة، عديمة الفكر، الغُلُف، تَتَقبلُ هذه الأصوات المعارضة والمناوئة لدعوة الأنبياء الإلهية. كانت البداية مع بدء عصر البعثة وعصر ظهور الرسالة الإلهية، واستمرّت بأشكال مختلفة حتى آخر يوم من عُمر النبي المبارك، وما تزال مستمرة من بعده إلى يومنا هذا. ففي كلّ مكان يوجد دعوةٌ، توجد مخالفةُ الشياطين لها، وكلّ مكان كان درباً للأنبياء، وُجد المعرقلون لهذا الدرب.

بالطبع، فإن حركة التاريخ تتجه نحو الحق. ولو نظرتم إلى مُجريات التاريخ، فسترون أنّ دعوات الأنبياء أصبحت، يوماً بعد يوم، أدْوَمَ، وأوسع، وأكثر أُنساً وقُرباً لأذهان الناس وقلوبهم. الشياطين يعملون، لكن طبيعة العالم وحركته تتّجهان سَمْتَ الحق. وهذا موجود. وقد وُجدت دائماً قلوب تعي الحقيقة، وتنشُر المعارف الإلهية، الحقائق الإلهية والأخلاق الإلهية، وبأشكال مختلفة في المجتمعات. لكنّ وُجدت المعارضة أيضاً وبأشكالها المختلفة. وهي موجودة اليوم.

لقد أثبتت الدعوات غير الإلهية اليوم، كالدعوة الماركسية ودعوة الأنسنة (الهيومونيسم) والدعوة التحررية (الليبرالية) بأنها غير قادرة على تأمين السعادة للبشر

لقد أثبتت الدعوات غير الإلهية اليوم، كالدعوة الماركسية، التي جذبت أنظار العالم إليها في يوم من الأيام، ودعوة الأنسنة (الهيومونيسم)، والدعوة التحررية (الليبرالية)، التي أحكمت قبضتها على حضارات العديد من مناطق العالم، بأنها غير قادرة على تأمين السعادة للبشر، فيَمَّمت القلوب وجهها شطر الإسلام. ففي أي بُقعة علا صوت العدالة والمطالبة بالعدالة، فهو صوت الإسلام، ولو لَمْ يعرف المُنادون مصدر هذا النداء. وأينما ارتفع صوت الكرامة الإنسانية، فهو نداء الإسلام، نداء الأديان، وبالتأكيد فإنّ محور كل هذه النداءات، هو الإسلام والإيمان، وفي أي مكان يؤمن الناس بالقرآن ويعتقدون به، تشتدّ فيه العداوة للإسلام وللقرآن، وهذا ما تشاهدونه اليوم.

تتلطّى السياسة في العالم خلف تلك الأذهان المريضة والخبيثة، التي تستبيح كل الحُرمات في معادتها لنبيّ الإسلام. ولا يمكن التصديق بأنّ استمرار وانتشار إهانة الإسلام ومُعاداة الإسلام والمسلمين في العالم، هو بمعزلٍ عن توجيهات الأجهزة الاستخبارتية، وعن الدعم المالي للقوى العظمى. وأنتم تشاهدون نماذج ذلك في العالم، أعني مناهضة الإسلام. بالطبع هم يجدون لأنفسهم الحُجج، ففي بعض تصرّفاتنا نحن المسلمين انحراف وتصلُّبٌ وتحجرٌ وأعمال خاطئة تتّخذها الشياطين مستمسكاً علينا، كي يتحقّق مصداق الآية الشريفة "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ" على المسلمين معرفة ذلك.

يجب نشر الدعوة الإسلامية بكل صراحة وشجاعة وصدق، وبالتزامن مع الركن الأساس للدعوة الإسلامية، ألا وهي العدالة. قال تعالى "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً" (3) هاتان خصيصتان من خصائص الدعوة الإلهية، خصيصتا الكلمة الربوبية: الصدق والعدل، وعلى المسلمين أن يُظهروا ذلك في أنفسهم. وهو كفيل بجذب القلوب، وإدخال كلمة الإسلام إليها. بالطبع فإنّ العَداء أيضاً موجود، وسيستمر. يجب التصدّي للعَداء، كما تصدّى له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . وكما تصدّى له المؤمنون بالإسلام، والمؤمنون بالحقيقة والعدالة على مرّ العصور.

لا يمكن التصديق بأنّ استمرار وانتشار إهانة الإسلام ومُعاداة الإسلام والمسلمين في العالم، هو بمعزلٍ عن توجيهات الأجهزة الاستخبارتية، وعن الدعم المالي للقوى العظمى

نحتاج اليوم نحن المسلمين إلى الوعي، نحتاج إلى معرفة الخريطة العامة لحياتنا ومعرفة مواجهة الأعداء لنا وللإسلام. إذا عرفنا المخطّط (المؤامرة)، فسوف نختار الطريق الصحيح. لكن المشكلة تكمن في أنّنا نحن المسلمين أحياناً، لا نعرف ما هي المُخطّطات بالشكل الدقيق، لذا نصبح جُزءاً منها. وللأسف هذا ما ابْتُلي به العالم الإسلامي هذه الأيام. فمُخطّط الأعداء هو بثّ الفُرقة بين المسلمين. ومُخطّط الأعداء هو إثارة النّعرات المذهبية بين المسلمين. ومُخطّط الأعداء هو حَرْفُ وُجْهَة الأُمة الإسلاميّة عن الخصوم والأعداء الحقيقيّن، أي الرأسمالية الفاسدة المُفسدة، والصهيونية، إلى أماكن أخرى.

في يوم من الأيام، ناهض العالم الإسلامي الصهيونية الغاصبة، فوصفها الأعداء في دعاياتهم، إنها مُعادةٌ للسامية، مع أنها لم تكن كذلك، إذ يعيش اليهود في الدول الإسلامية، كغيرهم من أبناء الديانات الأخرى - اليهودية، المسيحية والإسلامية - إلى جانب بعضهم بعضاً. يعيش اليوم في وطننا، اليهود والمسيحيون والمسلمون، وبعض أتباع الديانات الأخرى، معاً في ظل أمن الإسلام. المسألة ليست معاداة السامية، فهم يكذبون ويُحرّفون قضية مناهضة الصهيونية الغاصبة والمحتلة، والظالمة وقاسية القلب، على أنّها معاداة للسامية. لكن الغرب نفسه، قد ابْتُلي اليوم بمعاداة الإسلام والمسلمين، وهم يُقدّمون الدعم، ويُؤازرون الّذين يوجّهون الإهانات للإسلام وللرسول الأعظم. هذه هي معاداة الإسلام، وهي موجودة عندهم. كما أنهم يُروِّجون لمعاداة المذاهب المُخالفة في المجتمع الإسلامي، معاداة الشيعة، تلك هي سياستهم. يجب أن يتنازع المسلمون فيما بينهم، أن يتلهّوا بالنّزعات، السنّة ضدّ الشيعة، والشيعة ضدّ السنّة، والهدف من ذلك هو صرف نظرهم عن العدوّ الرئيسي، فلا يعرفون مَن الّذي يناهض الإسلام، ولا يعرفون مَن الذّي يَنْصُب الأفخاخ الخطرة للإسلام. علينا أن نعي ذلك، على الشعوب أن تعي ذلك، على السياسيين أن يعوا ذلك، وعلى المثقفين أيضاً أن يعوا ذلك.

يجب أن نعرف ما هي مُخطّطات الأعداء. فإذا عرفنا ما هي مخطّطاتهم، حينها يمكننا أخذ التدابير اللازمة لمواجهة مؤامراتهم. لكن إن بقينا نجهل مُخطّطات الأعداء، فلن نستطيع إلى ذلك سبيلا، سنخطئ اختيار الطريق، وسنخطئ التصرّف. هذه هي مُخطّطات الأعداء: أن تتلهّى الأمّة الإسلامية بعضها ببعض، وأن يثيروا النعرات فيما بينها، وهذا ما فعلوه هذه الأيام، فيُقتل الآلاف، وتُراق الدماء، وتنصرف الأمّة الإسلامية عن اهتماماتها الرئيسة، وتغفل عن التطوّر الذي يجب أن تصل إليه، وذلك بهدف تأمين مصالح المستعمرين، مصالح أصحاب النفوذ الظالمين، وهذا ما فعله الاستعمار في يوم من الأيام.

المسألة ليست معاداة السامية، فهم يكذبون ويُحرّفون قضية مناهضة الصهيونية الغاصبة والمحتلة، والظالمة وقاسية القلب، على أنّها معاداة للسامية

أقول لكم، لن يستطيع الغربيّون محو وَصمة عار الاستعمار عن تاريخهم. ولن تستطيع شعارات الدّفاع عن حقوق البشر، وشعارات الدفاع عن الديمقراطية، أن تجعل ما قام به الغرب المُدّعي في آسيا وأفريقيا، وفي أمريكا اللاتينية وفي جميع الدول التي رزحت لسنوات طوال تحت نير الاستعمار، طيّ النسيان. هذا ما فعلوه زمن الاستعمار، ويكملون المؤامرة اليوم لكن بطرق أُخرى، وهم ما زالوا يسعون إلى نفس الأهداف. حسنٌ. علينا أن نكون واعين، أن نعي ما نقوم به، علينا أن نعرف خارطة طريقنا.

إنّ الإتحاد بين المسلمين، والتوافق، والتعاضد والتعاون، من الأمور الضرورية والملحة جداً. وندعو جميع الدول الإسلامية، وجميع الحكومات الإسلامية، إلى التبصّر في جميع الأمور، ليروا مَنْ هم الخصوم، وندعوهم أن لا يخطئوا في معرفة العدوّ، وأن لا يخطئوا في معرفة مخطّطات الأعداء، وليعرفوا مرامي الأعداء، وليعرفوا أين تكمن سعادة شعوبهم.

أتمنّى من الله المتعال وببركة يوم المبعث، وببركة الاسم المبارك والمقدّس لخاتم الأنبياء، أن يُعرّف الله جميع الشعوب الإسلامية طريقها، وأن يوقظنا جميعاً من غفلتنا، وأن يوفّقنا إن شاء الله، ويوفّق الأمّة الإسلامية للوصول إلى قمم السعادة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

الهوامش:

  1.  سورة الأنعام، الآية 112
  2.  سورة الأنعام، الآية 113
  3.  سورة الأنعام، الآية 115