بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيّدنا و حبيب قلوبنا أبي القاسم محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديين، سيما بقية الله في الأرضين.
أحمد الله تعالى على أن وفّقني مرة أخرى لأكون بينكم يا أهالي قم المتوثبين المؤمنين الثوريين الواعين في مدينة العلم و الجهاد. فمدينة قم، مدينة محبوبة، و هي مدينة النهضة و الثورة، و مدينة العلم و الاجتهاد، و مدينة الولاية و الإمامة، و مدينة الحوزة العلمية، و مدينة العلماء الكبار، و المهد التاريخي الذي لا ينسى لإمامنا العظيم سماحة آية الله العظمى الخميني، و مدينة المراجع العظام، و مدينة المحدثيين و الفقهاء و العلماء و المفسرين و المؤلفين الإسلاميين البارزين، و هي مدينة تتمتع بمفاخر استثنائية و بالتاريخ الذي لا ينسى، سواء في العلم أو في الثورة و الجهاد.
و لهذه المدینة الکریمة ثلاثة نقاط بارزة ملفتة للنظر من بين كل هذه النقاط المشرقة. النقطة الأولى: هي وجود المرقد الطاهر و المضجع الشريف للسيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، هذه السيدة العظيمة التي نبعت من جوار مرقدها لأول مرة، هذه العين المتفجّرة و المتدفّقة و شملت بركاتها كافة أنحاء العالم لا سيما العالم الإسلامي. النقطة الثانية هي العلم و الفقه و الحديث الذي حملت هذه المدينة رايته، و الحوزة العلمية التي ما زالت قائمة في هذه المدينة المقدسة منذ ألف و مائتي عام و إلى الآن. إن العلماء العظام و الفقهاء الكبار و الفلاسفة البارزين و المحدثين الفضلاء و المؤلفين الأجلاء قد تخرّجوا جميعاً من هذه المدينة أو التجأوا إلى هذه المدينة و أقاموا فيها في ظل نور بضعة الإمامة و الولاية: أي السيدة المعصومة (عليها السلام). النقطة الثالثة، هي ما تتميزون به يا أهالي هذه المدينة المؤمنين و الشجعان و الواعين و العارفين بالزمان. منذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها هذه النهضة على ساحة الوجود، كان أبناء هذه المدينة أول من لبّى و مدّ يد العون للإمام. إنني لا أنسى ذلك اليوم في المسجد الأعظم بمدينة قم، عندما بدأت الأسابيع الأولى للكفاح و النهضة العظيمة لرجال الدين أتى أهالي مدينة قم من مختلف الشرائح إلى محفل درس إمامنا العظيم، فرفعوا أصواتهم و قالوا إننا كنا و لا نزال ندعمكم، لماذا لا يتقدم هذا المشروع إلى الأمام كانت القضية قضية لائحة مجالس المدن و الولايات. أهالي مدینة قم ساندوا الإمام منذ أول خطوة في الکفاح. و يوم وجّهت تلك العناصر العميلة و الخائنة الإهانة للإمام في ذلك اليوم أيضاً كانت هذه المدينة و أبناؤها و هؤلاء الشباب، و هؤلاء الأمهات و الأخوات و الزوجات هم الذين قاموا بالثورة. و هؤلاء الشباب الذين انطلقوا إلى الشوارع و قدموا الشهداء و تلقوا الضربات و تحمّلوا الضغوط، لكنهم وقفوا صامدين.
لقد كان نضال أهالي مدينة قم تمهيداً لكفاح الشعب الإيراني. فتواجدكم في شوارع مدينتكم علّم أهالي المدن الأخرى، و أوضح لهم الطريق. لذلك فهموا بأن عليهم أن يدخلوا الساحة، و أن يضعوا اللامبالاة جانباً و قاموا بهذا الأمر، فهبّت هذه العاصفة العظيمة و نشط البركان الهائل و هزّ العالم بأسره و حقق الحرية للشعب الإيراني. ثم، عندما حان وقت الدفاع عن النظام الإسلامي الجديد، كنتم أنتم أيضاً يا أهالي قم في الطليعة. و كان شبابكم و کتائبکم و التعبويون منكم و كذلک عوائلكم و أمهاتكم و آبائكم، کانوا هم الذين دخلوا الساحة بشجاعة و تضحية كبيرة و استطاعوا أن يلعبوا دوراً بارزاً جداً. و إنني لأشعر بالسرور بينكم، كما أحس بالهدوء إذ أتحدث معكم حول إحدى قضايا الثورة المهمة و العديدة.
ما أريد أن أقوله لكم اليوم أيها الجماهير الأعزاء، هو أن الشعار الأساسي لثورتنا مكوّن من هذه الكلمات الثلاث: الاستقلال، الحرية، و الجمهورية الإسلامية. الجمهورية الإسلامية هو ذلك النظام الذي خاض الميادین، و يسیر قدماً بفضل جهوده و يشق الطريق رغم التحديات التي واجهها و یواجهها. إن شعار الحرية، هو من ضمن الشعارات المغریة للغاية، و قد تحدثوا عنه كثيراً و كتبوا البحوث و ألفوا الكتب و أطلقوا الشعارات. لقد قيل الكثير حول الحرية، تارة باعتدال و تارة بإفراط و تارة أخرى بتفريط. إن شعار الحرية ظل حيّاً و لكن شعار الاستقلال بقي معزولاً علی العکس من الشعارین الآخریین.
إن شعار الاستقلال لهو من أهم الشعارات. لو لم يكن الاستقلال، لما استطاع شعب أن يتطلع بعین الأمل إلى حريته و شعار حريته. و هناك من یرید أن یصبح الاستقلال في خبر کان، بعضهم يفعل ذلك عمداً و بعضهم سهواً و بعضهم جهلاً و البعض الآخر خباثة. إنني أريد اليوم أن أتحدث لكم أيها الإخوة و الأخوات الاعزاء، حول قضية الاستقلال بما یتيحه لنا الوقت.
ما معنى الاستقلال؟ و ما هو مفهوم الاستقلال و قيمته بالنسبة لشعب ما؟ معنى الاستقلال هو أن یتمکن الشعب من تعيين مصيره بنفسه، لا أن يتدخّل الآخرون و الأغيار و يقرّروا مصيره بتدخلاتهم الخيانية و المغرضة. هذا هو معنى الاستقلال. فلو سلب شعب استقلاله، أعني إذا تحكّم الأجانب في مصيره - و هم غیر مخلصین له طبعاً - فإن هذا الشعب سيفقد شيئين. الأول عزة نفسه و مفاخره و الشعور بهويته، و الثاني مصالحه. إن العدو الذي يتحكم في مصير الشعب لا يهمّه أمره و لا يهتم بمصالحه. و الذي يأتي ليضع مخالبه في رقاب شعب ما، فإنه لا يفكر بالدرجة الأولى - أولاً و آخراً - إلّا بمصلحته. و الشيء الذي لا يعيره أدنى اهتمام هو مصالح ذلك الشعب الذي فقد استقلاله، و عندنا الكثير من النماذج في هذا المجال في القرن التاسع عشر و من ثم في القرن العشرين.
لقد جاء المستعمرون الأوربيون و هيمنوا على مناطق عديدة من آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية فأذلوا شعوبها و قاموا بسلب ثقافتها و هويتها و ثرواتها. حتى إنهم سحقوا لغاتها، و خطوط كتابتها و تاريخها و تقاليدها. لقد بقوا في تلك البلدان قدر استطاعتهم، ثم رحلوا عنها. لقد شاهدت بأم عيني بعض هذه النماذج و سمعت عن بعضها و قرأت عن البعض الآخر.
و من هذه النماذج دولة الهند الكبيرة و الواسعة. أتى الإنجليز من أقاصي الأرض و احتلوها بالتزوير و الخداع أولاً، ثم لجأوا إلی السلاح و القوة العسكرية. لقد هيمنوا على هذه الأرض لسنین متمادية و أذلوا الجماهير و قتلوا الكبار و قضوا على ثروات الهند. إن الإنجليز ملئوا خزائنهم و جيوب أصحاب رؤوس الأموال من رؤوس أموال الهند و ثرواتها و تركوا الهند تعاني الفقر و المسكنة و البؤس. و لم يتوقف هذا على الثروات المادية فحسب، بل سلبوا منهم الثروات المعنوية و فرضوا لغتهم عليهم. و اليوم فإن اللغة الرسمية في الهند و باكستان و بنغلادش - و التي كانت تتشكل منها شبه القارة الهندية قديماً و التي كانت مستعمرة للحكومة البريطانية - لا تزال اللغة الإنجليزية! كانت في تلك المنطقة عشرات اللغات المحلية، نسخ الإنجليز هذه اللغات و قاموا بمحوها بقدر استطاعتهم. حينما يفقد شعب لغته، فإن هذا يعني أنه ينقطع عن تاريخه و تقاليده و تراثه القيم و لا يطلع عليها.
لأتحدث لكم حول نموذج آخر، عندما كنت رئيساً للجمهورية، قال لي رئيس البيرو في أمريكا اللاتينية: لقد عثرنا حديثاً على حضارة شامخة جداً في حفريات جرت في بلدنا. كان يقول: لقد سيطر المستعمرون أعواماً متمادية على البيرو، لكنهم لم يسمحوا لشعب بيرو و مثقفيهم و أصحاب الرأي فيهم، أن يفهموا بأنهم كانوا يتمتعون بمثل هذه الحضارة في الماضي! أي إنهم كانوا يحولون دون أن يعرف الناس تاريخهم و يفخروا بماضيهم!
النموذج الآخر هو الجزائر، هذا البلد العربي المسلم. فقد أتى الفرنسيون و هيمنوا على ذلك البلد على مدى عشرات السنين، و جعلوه مسخراً لهم بقوة السلاح و أقاموا لهم حكومة، و جعلوا حكامهم و ضباطهم سائدين في ذلك البلد، و كان أول ما قاموا به هو القضاء على الآثار الإسلامية و حتى اللغة العربية. عندما كنت رئيساً للجمهورية جاء أحد المسؤولين الجزائريين الكبار إلى طهران و زارني. كان يريد أن يقول شيئاً أثناء الحديث، و لكنه لم يستطع أن يعبر عنه باللغة العربية! مع أنه كان يتحدث باللغة العربية، لم يكن يدري كيف يمكن التعبير عن ذلك الحديث باللغة العربية! فالتفت إلى وزير خارجيته و سأله بالفرنسية عن معنى ذلك الحديث بالعربية؟ فأخبره بذلك، ثم استخدم اللغة العربية! أي إن زبدة و نخبة الشعوب، ظلوا معزولين عن لغتهم بسبب تأثير الاستعمار. و قد تحدث معنا المخلصون الجزائريون بعد ذلك و قالوا إننا بذلنا جهوداً كبيرة لإعادة اللغة العربية بعد إزالة الاستعمار.
أعزائي، أيها الإخوة و الأخوات! إن فقدان الاستقلال في أي بلد يؤدي إلى مثل هذه الحالة، فيسلب جماهير ذلك البلد هويتهم الوطنية و مفاخرهم و ماضيهم التاريخي، و ينتهب ثرواتهم المادية و يسلبهم لغتهم و هويتهم الحضاریة أيضاً. هذا هو الوضع عندما تهيمن قوة كبرى على بلد ما. لقد كانت هذه هي الحالة في عهد الاستعمار. في العهد التالي بعد الاستعمار - و الذي يعرف بعهد الاستغلال - كان هناك وضع آخر. طبعاً لم يستعمر بلدنا أبداً، أي إن الأجانب لم يستطيعوا أن يأتوا إلى هذا البلد و يشكلوا حكومة غير إيرانية، تشكيل حكومة إنجليزية مثلاً، لأن الإنجليز كانوا يهيمنون على بلادنا. فالشعب الإيراني لم يسمح لهم بذلك، لكنهم قاموا ببسط نفوذهم داخل إيران قدر ما استطاعوا و كلما سمحت لهم الفرصة بذلك.
إنني أريد أن أقدم لكم أربعة نماذج من تاريخنا القريب، أي تاريخ المائة عام الأخيرة و هذه النماذج الأربعة تثبت لنا ما يتعرض له بلد و شعب حينما تسود قوة أجنبية أجهزته السياسية و الثقافية.
أحد هذه النماذج هو نموذج الثورة الدستورية. إنكم تعلمون بأن عهد استبداد الحكومة القاجارية كان قد بلغ ذروته عند الناس. و أدی إلی نهضة الناس و المخلصين في المجتمع، و كان في طليعتهم رجال الدين. كان رواد المشروطة رجالاً من أمثال المرجع المرحوم آية الله الآخوند الخراساني في النجف و ثلاثة من كبار العلماء في طهران هم: المرحوم الشيخ فضل الله النوري، و المرحوم السيد عبد الله البهبهاني، و المرحوم السيد محمد الطباطبائي. و كان هؤلاء يستمدون مساندتهم من الحوزة العلمية في النجف. فماذا كانوا يريدون؟ كان هؤلاء يريدون تحقیق العدالة في إيران و إزالة الاستبداد عنها. و عندما لاحظوا ثورة الجماهير فإن الحكومة البريطانية التي كان لها نفوذ شديد آنذاك في إيران و كانت تتمتع بعناصر بين المثقفين، رصدتهم و منحتهم وصفتها. طبعاً كان هناك بعض المثقفين في عداد المخلصين، فلا ينبغي تضييع حقهم، و لكن عدداً منهم أيضاً كانوا من الخونة و العملاء و كانوا من عناصر الحكومة البريطانية. أجل، لم تكن الدستورية سوى شكل و تجسيد للحكومة الإنجليزية. فهؤلاء المثقفين بدلاً من أن يبحثوا عن إقامة جهاز للعدالة بقالب و شكل إيراني يعمل على تحقيق العدالة، فإنهم جاءوا بالدستورية. فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت النتيجة هي أن تلك النهضة الشعبية العظيمة التي كان يقودها العلماء و التي انطلقت باسم الدين و المطالبة بالدين، أدت بعد فترة قصيرة جداً إلى إعدام الشيخ فضل الله نوري شنقاً في طهران و قبره موجود في هذا المكان. ثم ما لبثوا أن أغتالوا السيد عبد الله البهبهاني في منزله. و بعد ذلك مات السيد محمد الطباطبائي في عزلة و وحدة. ثم أعادوا الثورة الدستورية إلى ذلك الشكل الذي كانوا يرغبون فيه، هذه الدستورية التي أدت أخيراً إلى حكومة تولاها رضا خان!
النموذج الثاني، هو حكومة رضا خان نفسها. فالإنجليز كانوا قد عقدوا اتفاقاً مع الحكومة القاجارية يمنح لهم حق التسلط على كافة الأمور المالية و العسكرية في إيران. فجاء ذلك العالم الواعي المرحوم السيد حسن المدرس و عارض هذا الاتفاق و لم يسمح بالمصادقة على هذه اللائحة من قبل مجلس الشورى الوطني آنذاك. و عندما وجد الإنجليز أنهم لم يصلوا للنتيجة و لا يمكنهم أن يعملوا بهذا الشكل، فكّروا في طريقة أخرى. فهموا بأنه من الواجب عليهم أن يجيئوا بدكتاتور إلى القدرة و یولوه الحکم في إيران حتى يقوم بقمع و كبت السيد حسن المدرس و أمثاله و يتصرف مع الشعب بعنف شديد، و ينفذ المطامع الإنجليزية. و لهذا فقد جاءوا برضا خان إلى الحكم. إن حادثة تولي رضا خان زمام الحکم في إيران من الحوادث المليئة بالعبر في تاريخنا. و اليوم يجب على شباب هذا البلد جميعاً أن يطلعوا على هذه الحادثة. إن حالة الفوضى التي كانت تهيمن على البلاد قبل مجيء رضا خان، تم التغلب عليها بواسطة قبضة رضا خان الفولاذية و دعم الحكومة البريطانية، ثم فرض على البلاد نظاماً قسرياً و استبدادياً استمر خمسة و خمسين عاماً . و تغلغل الإنجليز في الأجهزة السياسية و الثقافية لبلدنا، و وضع الجماهير عرضة للضغوط.
النموذج الثالث، هو نموذج شهريور عام 1320[أیلول 1941 م]الذي عزل رضا خان عن الحكم بواسطة حُماته القدامى و ذهب من إيران. ثم جاءوا بمحمّد رضا بشرط خضوعه تماماً للإنجليز! كان ينفذ لهم كل ما يريدون، و لذلك لم يكن هناك حاجة للاستعمار! و عندما يكون هناك خائن إيراني مستعد لحكم الشعب الإيراني مقابل الدعم الأجنبي و تنفيذ رغبات ذلك الأجنبي في إيران، فلا حاجة و الحال هذه لأن يتعبوا أنفسهم في استعمار البلاد! و هذا ما فعلوه.
ثم جاء النموذج الرابع. و ذلك في شهر مرداد 1332 [آب 1953 م] بعد أن أسقطوا حكومة مصدق - و طبعاً كانوا قد فرضوا العزلة على المرحوم آية الله الكاشاني من قبل، بکل ما تيسر لهم من الخدع التي حيكت آنذاك - ثم عادوا للحكم من جديد و دخلوا إيران و استطاعوا أن يدبروا انقلاب 28 مرداد عن طريق ما یملکونه من نفوذ و عملاء و أنشطة و أن يعيدوا محمد رضا إلى إيران بعد أن کان قد هرب منها. و بذلك استمرت حكومة بهلوي الدكتاتورية السوداء لمدة خمس و عشرين سنة أخرى. هذه مراحل تاريخية أربع مليئة بالعبر.
عندما يسمح شعب لقوة أجنبية بالنفوذ في أجهزته السياسية أو الثقافية فسيكون هذا هو مصيره. و لو لم تحدث الثورة الإسلامية، و لو لم ينطلق هذا الشعب، و هذه الحركة التاريخية العظيمة بقيادة الإمام العظيم، فهل تعلمون ما الذي کان سیحل بالشعب الإيراني اليوم؟ الشعب الذي لم يكن يُعلّم و يُمنح أي بعد من أبعاد التطور العلمي في الغرب، و لم يكن له اختراع و لا اكتشاف و لا بناء، فقد كل مصادره و باع نفطه لهؤلاء الأعداء بثمن أبخس من مياه الأنهار. فكان النفط لهم و مصافي تكريره من عندهم، و كانت الاتفاقيات الطويلة الأمد تعقد لصالح أعدائهم! كما أن أعداء هذا البلد كانوا قد خططوا أيضاً لسائر المناجم و المصادر الطبيعية في البلاد. إنهم كانوا يريدون أن يمحوا الأدمغة المفكرة لهذا الشعب و أن يبقوا على أجهزة البلاد العلمية في أدنی مستوی. لقد قضى الشعب الإيراني أياماً صعبة في مرحلة النفوذ الأمريكي و الإنجليزي في إيران. فالإنجليز تسببوا في تخلف الشعب الإيراني خلال المائة عام الأولى، ثم جاء الأمريكيون من بعدهم و جعلوا البلاد متخلفة بنفوذهم. و لا نزال نری بأم أعيننا حتى اليوم في أية مرحلة جديدة ندخلها، خیاناتهم و سوء أفعالهم و تصرفاتهم.
إن أحد أبرز إنجازات الثورة الإسلامية هو قطع أيدي أمريكا عن هذا البلد، و إن إحدى مفاخر الثورة الإسلامية هو تمکنها من الغلبة على نفوذ أمريكا و قطع يدها و اقتلاع جذورها و إزالة العقبات التي تزرعها في مسیرة هذا البلد.
طبعاً بعض الذين تولوا الحكومة في البداية في هذا البلد و كانت قلوبهم تنبض بحب أمريكا، كانوا يريدون أن لا يسمحوا بتحقيق هذا الإنجاز. لقد شاهدت ذلك بأم عيني عن قرب في مجلس الدفاع الأعلى عام 1358ه. ش. لقد كانوا يعدّون لائحة يتم على أساسها الإبقاء على وفود المستشارين العسكريين الأمريكيين - هؤلاء الذين ارتكبوا كل هذه الجرائم و الخيانات - في جيش الجمهورية الإسلامية، و لكن تحت عنوان آخر! و قد قمت بالحد من ذلك و قلت لهم ما هذا الذي تقومون به؟! و دار بعض النقاش، ثم تركوا الموضوع دون إکماله، و لم يوفقهم الله تعالى بعد ذلك لتنفيذ هذا العمل و ذهبوا. و مرة أخرى، و لم يكن قد مضى من عمر الثورة سوى عام واحد، أعدّ نفس هؤلاء السادة في الجزائر مشروع المحادثات مع الأمريكيين - الأعداء الدمويين لهذا الشعب - و لكن الإمام يمنع ذلك و لم يسمح لهم.
عندما يسمع المرء اسم الإصلاح و الحرية من فم مثل هؤلاء الأشخاص، يحق له أن يسيء الظن. هم الذين كانوا يريدون بعد ثورة متألقة كان حدها المسنون ضد الهيمنة الأمريكية من هذا النوع أن يأتوا بالأمريكيين من النافذة بعد أن خرجوا من الباب مستخدمين في ذلك شتى أسالیب المکر. ثم يأتي هؤلاء الآن ليتحدثوا عن الحرية و الإصلاح و يدعمهم البعض من حثالة و عملاء النظام البائد! فكل إنسان عاقل يحق له أن يشعر بالقلق و يسيء الظن. لقد كان الاستقلال هو بيت القصيد في الثورة الإسلامية، أي الحيلولة دون النفوذ الأجنبي في هذا البلد، أي إن أمريكا و انجلترا و الآخرين لم يعد يحق لهم أن يقوموا بممارسة نفوذهم في قضايا البلد السياسية و الثقافية أبداً.
أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء! لقد تحدثت حول قضية الاستقلال، لأن دستورنا ينص على أن الاستقلال لا يمكن أن يحدّ من الحرية و لا الحرية يمكن أن تحول دون الاستقلال و هذا من الأصول القوية و المتينة للغاية. فلو كان البعض يريد أن يطلق العنان للأعداء و نفوذهم باسم الحرية، فهذا لیس من الحریة بشيء. هذا ما يريده العدو. و هذا هو الفخ الذي ينصبه العدو. فاليوم يوم حساس و إن هذا العهد لعهد حساس.
إنني أقول لكم: نحن نحمد الله على أن مسؤولي البلد، سواء المسؤولين الكبار، أو مسؤولي السلطات الثلاث و رؤسائها وقفوا صامدین أمام الأعداء بكل قوة و صلابة و هم على استعداد لبذل كافة مساعيهم من أجل استقلال هذا البلد و إن الشعب شعب واع يقظ. و لكن هناك البعض لا يرضون إلّا بإهداء هذا الاستقلال الذي تم الحصول عليه من قبل هذا الشعب ببذل دماء هذا العدد الكبير من الشهداء و الجهود التي بذلت في سبيل تحقيقه، إلى أعداء هذا الشعب!
عندما يلاحظ المرء أن أجهزة إعلام العدو - الأجهزة الدعائية العميلة لأمريكا و وكالة الاستخبارات الأمريكية، و الأجهزة الإعلامية الإنجليزية، و الأجهزة الإعلامية للكيان الصهيوني الغاصب - قد استخدمت كافة طاقاتها و شنت حرباً نفسية من أجل لائحةٍ تقدم للمجلس، و راحت تعبر عن مشاعرها الجياشة التي تفوق عواطف الأم، حناناً و رقة من أجل أحد السجناء، أو أحد المسؤولين، فيحق له أن يقع في الشك و أن يتردد في تصديق الكثير من القضایا المزعومة. لقد عقد العدو آماله اليوم على أن يتمكن من استغلال نقاط الضعف و السذاجة، و إعداد موطئ قدم له من جديد في أجهزة البلد السياسية و الثقافية و لكني أقول بأن هذا الشعب یقظ و المسؤولين متيقظون و سيردون على العدو و على أطماعه و كثرة مطالباته بكل قوة.
دستورنا دستور تقدّمي، و قد تم تدوينه بعناية فائقة و دقة متناهية. و على أساس هذا الدستور، يوضع كل شيء في مكانه. و إنني أوصي جميع المسؤولين، و كافة المؤسسات التشريعية و المراكز القانونية و جميع أبناء الشعب بمراعاة القانون. لو احترمنا الدستور، فإن العدو لا يستطيع أن يواصل أطماعه. لا بد من مراعاة القانون، فالقانون سد على الأعداء طريق نفوذهم. و لو لوحظ أن أجهزة الأعداء الدعائية تدافع عن بعض المجرمين في بعض الأحيان، فإن أفضل رد على العدو هو تطبيق القانون. و لو تلقى مثيرو الشغب في أحداث من قبيل أحداث خرم آباد العقاب اللازم - أياً كانوا - عن طريق الأجهزة القانونية لما تجرّأ الأعداء ثانية. بمراعاة القانون و العدالة و الابتعاد عن الخلافات السياسية الجزئية - التي عادة ما تكون مصحوبة بالضجة و الضوضاء - ليس بوسع العدو أن يستمر في مطامعه.
أقول لكم أيها الأعزاء! إن الخلافات السياسية و اختلاف التیارات التي تبدو أحياناً كبيرة للغاية، ليست بهذا الحجم، و لا بهذه الأهمية. الشعب يواصل مسيرته. إن طريق الشعب هو طريق الإسلام و طريق الثورة و طريق الله و طريق الإمام العظيم. الجماهير لا تهتم بهذه التخطيطات المصطنعة، فالأعداء يحبون أن يزرعوا الشقاق بين الأجنحة. لقد قلت مراراً بإخلاص كامل في صلاة الجمعة - و هي لمن أقدس الأمكنة - و كذلك في الأماكن الأخرى و دعوت التيارات السياسية إلى الجلوس معاً و التباحث و أن يتخذوا القواسم المشتركة كأصل و مبدأ لحل الخلافات على أساسها. و إذا شددتم على المبادئ فلن تكون ثمة أهمية للخلافات السياسية الجزئية. فاستجاب البعض لذلك و عاند البعض الآخر و لا يزالون معاندين، فما معنى هذا العناد؟! لماذا يضحي البعض بوحدة الشعب و الوحدة الوطنية و الأمن القومي و المصالح الوطنية و مصالح هذا البلد من أجل الأهداف الفئوية، إذا كانت هذه الممارسات بعيدة عن نفوذ الأعداء، فهي سيئة للغاية، و إذا كانت ذات صلة بنفوذ الأعداء فهي بالطبع أكثر سوءاً!
إنني لا أزال أدعو الجميع من جديد إلى وحدة الكلمة على أساس المبادئ الرئيسية للنظام الإسلامي و على أساس بينات الدستور و على أساس الإسلام و على أساس طريق الإمام و على أساس مصالح الشعب و على أساس مواجهة كل من يواجه هذا الشعب، و هذا طريق واضح يمكن لكل الأخيار و المخلصين و الصادقين الاجتماع عليه.
إن جميع مدراء البلد اليوم يقومون بنفس هذه الدعوة و الحمد لله. فرئيس الجمهورية و رئيس السلطة القضائية و رئيس السلطة التشريعية و الكبار في الحكومة يدعون إلى ذلك جميعاً. هؤلاء يفهمون بأن إدارة هذا البلد الواسع بهذا العدد الهائل من المؤمنين يعد فخراً عظيماً منحه الله لهم. و هم يعرفون أنهم لو مدّوا يد العون لهذه الطاقات العظيمة و هذا الشعب الباسل الوفي و هذه الجماهير التي كان لها تواجدها القوي في الساحة دوماً و حيثما كان ذلك ضرورياً على مرّ هذه الأعوام العشرين، و لو عالجوا مشاكلهم و دافعوا عن مصالحهم و مبادئهم العزيزة و العظيمة - أي سيادة القرآن و الإسلام - فإن ذلك سيكون فخراً عظيماً لهم، سواء عند الله أو عند ملائكته أو عند أجيال التاريخ أو عند الجيل الحاضر في العالم.
إن الجمهورية الإسلامية نظام عزيز في العالم اليوم. و مسؤولو الجمهورية الإسلامية أعزاء لعلاقتهم الوطيدة بالشعب. و هذا ما يدركه رؤساء و مسؤولو هذا البلد، و هو ما يلتزمون به أيضاً بفضل من الله. لكن البعض من ضيقي الأفق و ذوي الشخصيات الضعیفة المحبة للمصالح المادية بأشكالها المتنوعة و أصحاب الأذواق المعوجّة أحياناً - و ينبغي علينا أن نشير إلى الأذواق المعوجة أيضاً لكي يبقى هناك سبيل لحسن الظن - نهجوا طريقاً آخر.
و المهم بالنسبة لهذا الشعب اليوم هو أن يأخذ المسؤولون بنظر الاعتبار العناصر الأساسية لإصلاح أمور البلد على قدر استطاعتهم. و هذه العناصر الأساسية هي ثلاثة: مكافحة الفقر و الفساد و التمييز. هذا هو أساس القضية. فالمسؤولون إذا لم يسكتوا عن الفقر و الفساد و التمييز فسوف يشمل الرضا الإلهي و التوفيق الإلهي و الهداية الإلهية الجميع و لسوف تزول جميع العقبات. هذا الشعب متواجد في الساحة، و هو شعب وفيّ و محبّ للقرآن. لو أردنا تحقيق هذه الأمور، فلا سبيل لذلك سوى الحدّ دون تغلغل الأعداء بكل قوة. لقد كان لإمامنا العظيم قاعدة و قد صرح بها مراراً. كان يقول: حيثما وجدتم الأعداء التقليديين لهذا الشعب و هذا البلد يعيرون الأهمية لشيء ما و يعبرون عن حبهم لأمر ما و يدافعون عن قضية ما، فعليكم أن تسيئوا الظن بفعلهم هذا. إنهم يعبرون أحياناً عن دعمهم لأحد الشخصيات عندما يريدون إفساده، و يدعمون أحياناً أحد عملائهم و يشنون حرباً نفسية من أجل إظهاره على أنه شخصية كبيرة. و لحسن الحظ فإن شعبنا شعب سياسي واع و متيقظ و لن ينخدع بهذه الأشياء.
أما توصيتي الآخرى فهي أن تكسب المراكز القانونية ثقة الشعب. سواء السلطة القضائية أو الحكومة، أو مجلس صيانة الدستور أو مجلس الشورى الإسلامي، أو مجمع تشخيص مصلحة النظام. فإن هذه المؤسسات، مؤسسات قانونية. إن دعايات الأعداء تحاول دوماً أن تقصف أحد هذه المراكز إعلامياً أمام مجموعة من المخاطبين من أجل أن تفقدهم الثقة و الأمل و الاطمئنان، و تقضي على هذه الصلة بين الشعب و المسؤولين. إنني أقول بأن على كافة هذه الأجهزة أن تكسب ثقة الشعب و على الشعب أن يثق بها لأنها بمثابة أمن الشعب. إنني لا أدعي بأنه لن يحدث خطأ، فمن الممكن أن يحدث خطأ، و لكن لكل خطأ سبيل للتلافي و الإصلاح. لو قطعت الصلة بين الجماهير و الأجهزة القانونية، لما بقي هناك سبيل للحوار و التفاهم. و هذا هو ما يريده العدو.
طبعاً على الأجهزة المسؤولة - سواء مجلس الشورى الإسلامي أو مجلس صيانة الدستور أو السلطة القضائية أو الحكومة أو مجمع تشخيص مصلحة النظام و غيرها - أن تراقب جميعاً و أن تحاول دوماً السير في الطريق الدقيق الذي رسمه أمامها الإسلام و القانون - الشرع و القانون - و ذلك بلا تغاض و لا مواربة و لا مداهنة و دون الاهتمام بالأبعاد غير اللازمة، و أن تأخذ الله و الشعب و المصالح الوطنية بنظر الاعتبار و لذلك يبارك الله في عملها.
اللهم نسألك بحق محمد و آل محمد انزل بركاتك على هذا الشعب. اللهم! و انصر هذا الشعب على أعدائه، اللهم! و احفظ لهذا الشعب حصن استقلاله الذي دافع عنه بكل شجاعة. اللهم! و اجعل مسؤولي هذا البلد دؤوبين مسددين و موفقين ليكونوا في خدمة الشعب. اللهم! و احشر شهداءنا الأعزاء مع أوليائهم. اللهم! و احشر إمامنا العظيم مع أجداده الطاهرين. اللهم! و أحينا و أمتنا جميعاًَ للسير في طريق الله و طريق أئمة الهدى و طريق إمامنا العظيم.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته