بسم الله الرحمن الرحيم
أود اليوم أن استقطع جزءاً من وقت الدرس لأتحدّث قليلاً عن أحد أبرز الأحداث و أهمّها و هي حادثة الثاني و العشرين من بهمن، و التي نعيش على أعتابها هذه الأيام.
لقد قيل الكثير الكثير و دوّنت العديد من الدراسات و المؤلّفات و المواضيع حول هذه الحادثة، لكنّ الحقيقة، و بالرغم من كل ذلك هي أنّ هذه الحاثة بقيت بالنسبة لنا مبهمة من حيث أهميتها و عظمتها و أبعادها المختلفة. فنحن نعلم جيداً بل و نرى أنّ الثاني و العشرين من بهمن يمثل حدثاً عظيماً جداً، لكن وجودنا ضمن هذه الحادثة و بالقرب منها يجعلنا غير قادرين على إدراك أبعادها الحقيقية بصورة صحيحة. و التاريخ سيكون كفيلاً بإبرازها لاحقاً. لكن الذين يراقبون عن بعد، و ضمن رؤية مقارنة؛ يستطيعون أن يدركوا كم هي عظيمة هذه الحادثة كلحظة تاريخية.
إنّ الثاني و العشرين من بهمن، يوم انتصار الثورة الإسلامية قد طوى صفحة الذل و الهوان التي عاشها الشعب الإيراني. لقد كان هذا الشعب محتقراً و مهاناً على مدى قرون من الزمن. فمنذ القدم، و قبل ظهور حقبة الاستعمار، كان الشعب يرزح تحت نير استبداد سلاطين الجور الذين اعتادوا إهانة الشعب و تحقيره. و لو رجعتم إلى المدونات التي تركها بعض الملوك و السلاطين أو أبنائهم لوجدتم أنّهم كانوا يعتبرون ايران ملكاً خاصاً بهم، و في هذا الملك هناك رعية تعمل لصالح هؤلاء الملوك و السلاطين. أمّا هل لهذه الرعية حقوق؟ كلا. هل تملك إرادة؟ كلا. و هذا التصور عن البلد و عن الشعب كان سائداً لدى ملوك ذلك الزمان، لقد كان انطباعاً سيئاً و مغلوطاً إلى أبعد الحدود. لقد كانوا يتصورون أنّ كل شيء عائد لهم، و كل ما في ايران ملك شخصي متعلق بهم، و أي شخص يقوم بعملٍ ما أو يؤدي مهمة فهو يقوم بواجبه تجاههم. و من يقصر في عمله يعتبر شخصاً متمرداً قد أضرّ بمصلحة السلطان الجائر المستبد!
هذا بالنسبة لتلك الحقبة، أمّا الحقبة المعاصرة، و بالتحديد الفترة التي أعقبت الثورة الدستورية، لم يتغيّر الموقف كثيراً و بقي الانطباع الذي ذكرناه من قبل سائداً إلى نهاية العهد الملكي. فعلى سبيل المثال كان الملوك البهلويون يتظاهرون بالتطلّع نحو التطوّر و المدنية المعاصرة، لكن الواقع شيء مختلف، فهم كانوا يرون البلاد ملكاً شخصياً عائداً لهم، و بيدهم مقدّرات الشعب.
أمّا الحقبة الأخيرة، فقد أضيف لها أمر جديد، و هو التدخّل الأجنبي. و قد بدأت هذه الحقبة بانتهاء مرحلة الدولة القاجارية، و وصلت إلى ذروتها إبان العهد البهلوي. ذلك أنّ البريطانيين قد اختاروا رضا خان لتولّي العرش و هيئوا له مستلزمات الحكم و بدأوا يملون عليه. و أعقبه ولده الذي جاء بواسطة البريطانيين أيضاً، و هذه من المسلمات التاريخية، و ليس أمراً ندعيه نحن. و قد كنّا في السابق نقول ذلك انطلاقاً من تحليلاتنا السياسية الخاصة، لكن بعد سقوط الدولة البهلوية ظهرت الكثير من الوثائق التي تثبت أنّ البريطانيين هم من جاء بهؤلاء إلى سدة الحكم. فكان هؤلاء أداة لتنفيذ الخطط الأجنبية في المنطقة، ففي البدء كانوا أداة للبريطانيين، لكنّهم تحولوا بعد حكومة مصدق إلى أداة للأمريكان. و بالرغم من استيائهم من بعض السياسات الأمريكية التي تملى عليهم بسبب تعارضها مع مصالحهم الشخصية ـ و ليس بسبب تعارضها مع مصلحة الشعب ـ إلا إنّهم كانوا ملتزمين بالتنفيذ دون قيد أو شرط. و كان الأمريكان يتولون تشكيل الحكومة، و يحدّدون رئيس الوزراء. و عندما يريدون تحذير الشاه أو تلقينه درساً كي لا يفكر بشق عصا الطاعة، يفرضون عليه رئيساً للوزراء مرفوضاً من قبله، و قد حدث ذلك مراراً عديدة، أي عندما يجدون الشاه يكره شخصاً كرهاً شديداً يحاولون فرضه عليه و يقولون لا بدّ أن يكون هذا رئيساً للوزراء، و بالتالي لا يملك الشاه حيلة سوى الانصياع و الطاعة. لقد كان الأمريكان يعبثون بمقدرات البلد على هذا النحو، و لم يكن هذا واقع الملف النفطي فقط، بل كان نفوذهم يشمل كل قطاعات و مفاصل البلد، سواء على الصعيد النفطي أو الصناعي، أو السياسة الخارجية و الدولية. و لو تبين أنّ مسؤولاً ما أصبحت لديه ميول نحو جهة ما ـ كالمعسكر الشرقي في ذلك الوقت أو غيره ـ فسيتم إقصاؤه عن المسؤولية أو إحالته إلى جهة يرونها مناسبة بحسب مصلحتهم. لذلك نجد أنّ البلد كان ميداناً للصراع بين القوى، و القوة المسيطرة آنذاك كانت هي الولايات المتحدة. أمّا الشعب فقد كان مسلوب الإرادة و مجرداً عن أية قوّة أو قرار.
إنّ أكبر مصيبة يبتلى بها بلد أو شعب ما، هو أن يتم تجاهله و إهانته و تحقيره في داره، و كل السلبيات منشؤها ذلك: فالمعضلات الاقتصادية و الأزمات الثقافية و تجاهل عقائد الشعوب و مبادئها و ثقافاتها كل ذلك نتيجة طبيعية للاحتلال.
لقد كان أحد أبرز أهداف الثورة الإسلامية المباركة، قطع دابر المحتل، لذلك كانت الشعارات التي يطلقها الشعب آنذاك جزءاً منها يستهدف القضايا الخارجية، منها شعارات مناوئة للولايات المتحدة و بريطانيا و حلفاء الشاه و كذلك مناوئة لإسرائيل. و لو رصدنا الضمير الشعبي على مرّ الزمان لوجدناه رافضاً للاحتلال، لكن الاختلاف يكمن في أنّ هذه الثورة قد نادت بالشعارات الإسلامية و رفعت راية الإسلام و دعت إلى التمسك بالدين و الهوية الدينية و قد تقدّمها كبار العلماء و خيرة مراجع الدين، و بذلك جعلت روح الاستقلال تسري في جسد الشعب.
و قد أدرك الشعب أنّه سيتمكّن من خلع لباس الذل من خلال التمسّك بالإسلام، و قد شكّل ذلك منطلقاً للنضال فيما بعد.
طبعاً لا يخفى عليكم، فالشعب كان يميل للإسلام و يرغب فيه بشدّة، و في سبيل الإسلام جاءت تلك التضحيات الجسيمة التي سطرها أبناء الشعب، و لو كان الدافع هو نيل الاستقلال فقط من دون وجود دافع إسلامي، فنستطيع أن نجزم بأن مثل تلك التضحيات الاسطورية لم يكن لها وجود، بل لكان مستقبل الثورة مجهولاً، لذلك بدأ النضال الكبير منذ اليوم الأوّل مستلهماً من الإسلام و من معطياته و نتائجه و آثاره و بركاته ـ التي تمثلت بالجمهورية الإسلامية ـ و كذلك ما اعتبر جوهراً لهذه النهضة ـ أي إيمان الناس الراسخ، وتوكلهم على الله، و تمسّكهم بسيادة الدين و حاكميته.
و لا يتوهم أحد بأنّ المشروع المنظّم الهادف للإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية قد انطلق في الآونة الأخيرة، كلاّ فمنذ اليوم الأوّل و منذ أن أدركوا هذه الحقيقة ـ و هي أنّ هذا النظام يرتكز على الإسلام و يتقوّم به ـ بدأ العمل الجاد للإطاحة به. غير إنّ مشكلة العدو التي ما فارقته منذ ذلك الحين و إلى الآن تكمن في عدم إحاطته بواقع البلد و جهله بحقيقة الشعب الإيراني. فالعدو لا زال غير قادر على إدراك كيفية تأثير المفاهيم الإسلامية و الحقائق المعنوية في نفوس هذا الشعب. الأمر الذي أدى إلى إخفاقه و تخبطه في التعاطي مع هذا الملف.
هذا و العدو قد أقدم على كل ما استطاع أن يقوم به، فقد جرّبوا شتى الطرق و الوسائل، و ركزوا على مشاريع غير مكلفة لكنها في الوقت نفسه تحقق لهم مآربهم. كإيجاد انقلاب عسكري، أو استخدام عملائهم في الداخل لزعزعة الاستقرار الداخلي، أو تحريك تيارات و أحزاب لإضعاف النظام و تقويضه، أو ترويج شعارات لسحب البساط من تحته، أو استخدام الرشى لشراء الذمم، أو تسخير الإعلام و التكنولوجيا، حتى أنّهم لجأوا إلى القوّة العسكرية، و عندما لم يفلحوا قاموا بتقديم الدعم و الإسناد للمعتدي على مدى سنوات عديدة.
أمّا بالنسبة لما حصل مؤخراً، و ما صدر من تصريحات تهدد بالحرب، فهو من ناحية من النواحي أمرٌ يبشّر بالخير، فمن الواضح أنّ ذلك يعكس إخفاق العدو في كافة مساعيه السياسية و الأمنية و الإعلامية، إذ لو أنّه نجح في تلك المساعي ـ و كما هو معلوم فالعدو خبير و متخصص بها ـ و حقق أهدافه لما فكر في المشاريع المكلفة، فالحرب تعدّ بالنسبة لكل دولة من أكثر المشاريع كلفةً و خطورة، و لذلك عندما نجد الإعلام الأمريكي يصعد من لهجته، و الرئيس الأمريكي يتعرض لإيران و الشعب الإيراني على هذا النحو، فهذا ما يعكس فشل الإدارة الأمريكية الذريع في المساعي السياسية و الإعلامية و الأمنية طيلة هذه السنوات. إنّ الهدف من وراء كل هذه الأعمال هو إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في السابق، و فرض سلطتهم الجائرة الجهنمية على البلد و على الشعب الإيراني، بما يتلائم و متطلبات المرحلة الراهنة، آملين أن يثيروا الرعب في نفوس المسؤولين و المتصدين في الجمهورية الإسلامية، و أن يؤججوا الخلافات و التناحر بينهم، و أن يزعزعوا استقرار الشارع و ثقته بمسؤوليه.
إنّ التهديد لا يعني بالضرورة الإقدام على فعل شيء، إنّما للتهديد آثار أخرى منها إرعاب الطرف المقابل و دفعه لليأس و التسليم و بالتالي للتخلّي عن المسؤولية، أو إيجاد الخلاف و التناحر بين أطراف القيادة، أو بينهم و بين الشعب، أو زعزعة ثقة الشعب بالقيادة.
من هنا تكتسب المظاهرات التي ستنطلق غداً ـ بمناسبة الثاني و العشرين من بهمن يوم انتصار الثورة الإسلامية ـ أهميّة كبرى لما تحمله من معان و آثار تنعكس على حركة الأمة. و إنّني على يقين بأنّ الشعب و بفضل الله سبحانه سيسجّل غداً إلى جانب قادته، حضوراً حاشداً في المظاهرات، كما عهدناه في كافة الميادين الأخرى، بكل صلابة و اتحاد و نشاط و عزيمة و قوّة، و سيلقّن أعداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية مرّةً أخرى درساً لن ينسوه.
اسأل الله تعالى، أن يهب لنا ـ نحن المتصدّين الذين وافقنا على تحمّل المسؤولية تجاه هذا الشعب ـ قدراً من الوعي نتمكّن معه من إدراك منزلة هذا الشعب و وعيه و حركته، لنكون قادرين على أداء واجبنا تجاهه.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.