بسم الله الرحمن الرحیم
أسأل الله تعالی بتضرّع و خشوع أن یتقبّل حج الحجاج و ضیوف بیته العزیز، و أن یکون هذا الحج مما یرضاه و ینزّل به الخیرات و البرکات علی المجتمعات الإسلامیة. کما لا بد أن أتقدم بالشکر الصمیمی للقائمین علی الحج و الزیارة سواء فی البعثة، أو فی منظمة الحج و الزیارة، أو فی الأجهزة التی تتعاون و تعمل فی المتن أو الهوامش، و أطلب من الله تعالی لکل واحد من هؤلاء العاملین الدؤوبین و المسؤولین المحترمین الأجر و الثواب.
النقاط التی ذکروها سواء السید قاضی عسکر، أو رئیس المنظمة المحترم، و الأعمال و الخطوات التی قاموا بها أو التی یراد أن یقوموا بها کلها خطوات جیدة و لازمة. لتنصبّ المساعی و الجهود علی تحقیق کل ما یتمناه هؤلاء المدراء المخلصون کی نستطیع تقریب الحج من حیث الشکل و المعنی و القالب و المضمون ممّا أراده الله تعالی منا، و نستطیع أداء هذا الواجب العظیم و هذه الفریضة الحاسمة - و هی ذات خصوصیات غیر موجودة فی أیة فریضة إسلامیة أخری، فهی خاصة بالأمة و العالم کله - کما أراد الله تعالی لنا و لکم إن شاء الله.
الظروف تختلف.. ظروف الحج هذه السنة ظروف خاصة. تجلی و ظهور عظمة خاتم الأنبیاء (صلی الله علیه و آله و سلم) فی أعین الأصدقاء و المحبین، و کذلک فی أعین الأعداء، من خصوصیات الحج فی هذا العام. ما ارتکبته الأیدی الآثمة للأعداء بتوجیهها الإهانة لساحته المقدسة فی أمریکا قضیة لها وجهان أو جانبان: من جهة تدل علی عمق البغضاء و الأحقاد التی یکنّها الأعداء و المستکبرون و عملاؤهم لرسول الرحمة و العزة و الکرامة و لصاحب أرقی و أعظم المحامد الإنسانیة و البشریة علی مرّ التاریخ و الحیاة الإنسانیة فی کل العالم. فالحدث یدلّ علی مدی عدائهم للرسول الأکرم (ص). من ناحیة یوجّهون هذه الإهانات و من ناحیة أخری یتخذ ساستهم مواقف فی هذه القضیة لا تختلف إطلاقاً عن مواقف العداء ! هذا وجه من وجوه القضیة. و قد کان هذا مفیداً جداً للعالم الإسلامی. حتی أصعب الناس تصدیقاً أدرک بین من و من یقوم الاصطفاف و المواجهة الأصلیة فی الوقت الراهن، و ما هو محور الصراع بین جبهتی الحق و الباطل.. فقد تبیّن أن الصراع یدور حول محور أصل الإسلام و محور أصل وجود خاتم الأنبیاء (صلی الله علیه و آله و سلم). کان هذا حدثاً قام به العدو لکن العالم الإسلامی انتفع منه، لأنه عرف العدو و عرف سبب عدائه و عرف محور الخلاف بین الحق و الباطل. هذه هی الصراعات الیوم.. و باقی الکلام الذی یسطره المستکبرون فی العالم ضد الشعوب المسلمة کلام فرعی و أکاذیب و ذرائع، فلقد اتضح ما هو أصل القضیة. هذا وجه للقضیة.
الوجه الآخر للقضیة هو هذا التحرک الهائل للمسلمین. لاحظوا ما الذی یحدث الیوم فی العالم الإسلامی، و أی غلیان و حمیّة تبدیها الشعوب الإسلامیة. و غالبیتهم لم یروا هذا الفیلم لکنهم اطلعوا علی أن مثل هذه الإهانة قد حصلت.. لاحظوا أی غلیان و فوران یشهده العالم الإسلامی. البلدان الإسلامیة و الشعوب المسلمة سارت و تحرکت من دون أن یطلب أحد منها ذلک و من دون أن یحضها أحد علی ذلک. راحت تهتف بمحبة رسولها و مودته بکل وجودها و من أعماق قلوبها. هذا شیء له قیمة کبیرة، و هو مشهد عجیب. فی البلدان الغربیة نفسها حیث تتربّع الأصنام الکبیرة و المستکبرون و الطواغیت المتمردون، و یخططون دوماً ضد الإسلام و الأمة الإسلامیة، فی أوربا، و فی أمریکا، و فی شتی البلدان غیر المسلمة، نزل المسلمون و حتی بعض غیر المسلمین إلی الساحة. هذا أیضاً وجه آخر للقضیة، و هو علی جانب کبیر من الأهمیة. لقد دلّ کل هذا علی إمکانیات العالم الإسلامی للتحرک.
سبق أن قلنا إن نقطة التقاء المسلمین هو الوجود المبارک للرسول الأکرم (ص). أی إن الوجود المقدس لخاتم الأنبیاء هو النقطة التی یجتمع فیها کل المسلمین و الفرق المختلفة و النحل المتفاوتة و المذاهب و العقائد المتعددة فیعترفوا کلهم بحقیقة واحدة. هناک لا یعود معنی للسنة و الشیعة و الفرق المختلفة و المعتدل و المتطرف و ما إلی ذلک، فالکل متحدون متفقون بقلوبهم و أرواحهم حیال هذا المرکز و هذا المحور و هذا القطب العقیدی الإلهی الإسلامی. هذا ما یظهر الیوم و یبرز فی العالم الإسلامی، و یجب اغتنامه کفرصة.
هنا تکتسب البراءة من المشرکین معناها فی الحج. الحج مکان یجتمع فیه المسلمون من کل أنحاء العالم الإسلامی. ثقافات مختلفة و أعراق مختلفة و لغات مختلفة و شتی الألحان و اللهجات و اللغات - علی حد تعبیر الإمام الحسین (علیه السلام) فی دعاء عرفة المبارک - تجتمع کلها هناک و تتفق. هذه الوحدة التی یلاحظ شکلها الجسمانی و المادی فی اجتماعات الحج الکبیرة یجب أن تتعمّق و یشعر الجمیع أنهم أمام خطر واحد و عدو واحد، و یتبرّأ الجمیع من أعماق کیانهم من هذا العدو. هنا یظهر معنی البراءة من المشرکین فی الحج.
مقام الوجود المقدس للرسول الأکرم (ص) و مرتبته لیست بالشیء الذی نستطیع نحن البشر بألسنتنا القاصرة الناقصة و بفهومنا القاصرة أن نصوّرها، إنما نحن نعشق فقط و نبدی الإخلاص و التخضّع، و لا نستطیع أکثر من هذا. الرسول من یقول عنه الله تعالی: «إن الله و ملائکته یصلون علی النبی» (1). الذات الإلهیة المقدسة تصلی علیه و ملائکة الله تعالی تصلی علیه، فمن نحن حتی نستطیع فهم مقامه و معرفته؟ لکننا نحبّه و نعشقه و نؤمن بکلامه. یجب الحفاظ علی هذا الشیء کمبدأ من مبادئنا. یجب أن نؤمن بکلام رسولنا و نصمد علیه، ألا و هو کلام التوحید و الإسلام و القرآن. ینبغی أن یکون الحج مظهراً لهذا.
من مؤامرات العدو الکبیرة - و قد أحبطت إلی حد کبیر و الحمد لله، لکن یجب علی الجمیع الحذر - بث الخلافات داخل هذا المشهد المتلاحم العظیم. إننا متفقون علی المبانی و الأصول و أهم قضایا الإسلام، لکنهم یریدون لنا أن نصطدم ببعضنا بذریعة بعض الاختلافات النظریة و العقیدیة و العملیة. نعم، الفرق و النحل الإسلامیة تختلف فی مسائل شتی، لکن لنقل: إننا مقابلکم یا أعداء الإسلام و یا من توجّهون مثل هذه الإهانات للوجود المقدس للرسول الأکرم متفقون متحدون. لیعلم أعداء الدین و المستکبرون و مدراء الجبهة المعادیة للإسلام أن الأمة الإسلامیة متحدة متفقة بوجههم، حتی یبعدوا ظنون بث الخلافات عن أذهانهم، و ییأسوا من زرع الفرقة و الشقاق بیننا. مبلّغونا و کل واحد من أبناء شعبنا و مدراؤنا و أتباع المذاهب المتنوعة، و سنّتنا و شیعتنا کلنا یجب أن ندقّق فی هذا الشأن، و نحذر، و لا نسمح للعدو بتأجیج الخلافات فی ما بیننا، فنصبّ غضبنا علی بعضنا، و ننشغل ببعضنا، و ینقذ هو نفسه من غضب الأمة الإسلامیة. سیکون هذا خطأ کبیراً. هذه نقطة أساسیة بخصوص الحج فی هذه السنة.
نقطة أخری جری التأکید علیها مراراً و من الضروری أن نذکرها هنا هی أن الحج رغم کونه واجباً سیاسیاً و اجتماعیاً و مظهراً للوحدة و تجسیداً لاجتماع المسلمین للتعبیر عن براءتهم من المشرکین - و هذا مما لا شک فیه - لکنه إلی ذلک مجموعة زاخرة بالمشاعر المعنویة. هذا شیء یجب أن لا ینسی. منذ بدایة الحج و من الإحرام الذی ترتدونه للعمرة فی المیقات إلی آخر الواجبات و الفرائض الموجودة فی الحج یتموّج ذکر الله.. هذا ما یجب أن نتذکره. ذکر الله تعالی یطهّرنا و یمسح عن قلوبنا الأدران و یبعدنا عن الغفلة و یقلل فینا حبّ الدنیا و التکالب علی الزخارف المادیة و المال و المناصب و الشهوات الجنسیة و غیر الجنسیة. و هذا ما نحتاجه الیوم و فی کل حین. من أجل أن یستطیع المرء السیر فی الدرب بصورة صحیحة و لا ینحرف عن الصراط المستقیم الحق یحتاج أن ینمّی ذکر الله فی قلبه دوماً. و فی هذا السیاق فإن الحج من أفضل الفرص، و هو فرصة منقطعة النظیر من بعض النواحی. ما أرجوه هو أن تلاحظوا ما الذی تفعلونه و مع من تتحدثون فی کل واحد من الأعمال و الفرائض و المناسک التی تقومون بها و فی التلبیة التی تبتدئون بها. و فی الطواف و السعی و المیقات و أماکن الوقوف و فی کل عمل من أعمال الحج اعلموا مع من نتکلم و مع من نتعامل و لمن نسعی و نجهد أنفسنا. لا نبعد هذا الذکر و الخشوع و التضرع عن أنفسنا حتی للحظة واحدة. هذا من الأمور المهمة. و علی رجال الدین المحترمین خصوصاً و مسؤولی القوافل و المرتبطین بالأفراد التنبّه إلی هذه النقطة.
و النقطة الأخیرة هی أن العلاقات مع الإخوة المسلمین فی العالم الإسلامی یجب أن تتصاعد و یجری إحیاؤها فی هذا القطب المهم. العلاقات هنا لیست علاقات بین حکومات. علاقات الحکومات علاقات رسمیة و لسانیة من أجل أمور أخری. الأواصر بین أبناء الأمة الإسلامیة أواصر قلبیة، و هی تحصل بتواصل أفراد الشعوب مع بعضهم. فی اللقاءات مع الإخوة المسلمین من البلدان الأخری لیتحدث من یستطیع أن یتحدث و یجید اللغات الأخری، لیتحدثوا بالمحبة و المجاملات و الترکیز علی نقاط الاشتراک. و الذین لا یجیدون اللغات الأخری لیظهروا العطف و المحبة بأعمالهم، و علیکم الصبر علی بعض الصعاب و العنف. أحدهم قد یصطدم جسمه بکم فابتسموا له. حاولوا أن تخلقوا هذه الأواصر و التواصل بأعمالکم، و لیس من أجل صیانة سمعة و عزة إیران و الشعب الإیرانی و حسب - و هذا بالطبع مهم جداً فی محله - إنما لأجل مدّ هذه الجسور و الأواصر القلبیة. إنهم مسلمون مهما کانت أعراقهم و لغاتهم و مذاهبهم. هم أیضاً کما أنتم جاءوا حباً للکعبة و للرسول، و یسیرون فی نفس الطریق، و هم أیضاً یتحدثون مع الله. أظهروا هذه الوجوه المشترکة ما استطعتم إلی ذلک سبیلاً، حتی یدرکوا أن هذه الوجوه المشترکة موجودة. حینما یشعر المسلم من أقصی أنحاء الأرض أن له فی البلدان الأخری و بین الشعوب الأخری إخوة فسوف تتقوّی روحه و معنویاته و یکتسب الثقة بنفسه، و ینقذ نفسه من أحوال الضعف و الخور التی ترید الأیدی المستکبرة الخبیثة فرضها علی المسلمین. ینبغی تعزیز هذه الحالة.
نسأل الله تعالی أن ینزل برکاته علی حجّاجنا و کل حجّاج العالم الإسلامی. و ستشملکم جمیعاً إن شاء الله الأدعیة الزاکیة لسیدنا الإمام المهدی المنتظر (أرواحنا فداه) و نستطیع جمیعنا إن شاء الله بالاستمداد من الأرواح الطاهرة للأولیاء و الشهداء و الروح الطاهرة لإمامنا الخمینی الجلیل أن نسیر فی الدرب الذی یرضاه رب العالمین.
و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة الأحزاب، الآیة 56 .