كتب علي مراد*
ما تزال كلمة قائد الثورة في الجمهورية الإسلامية في إيران سماحة السيد علي الخامنئي التي ألقاها يوم الثلاثاء الماضي في افتتاح أعمال «المؤتمر الدولي السادس لدعم الانتفاضة الفلسطينية»، ما تزال تلقي بظلالها على المتابعين والمحللين والساسة في العالمين العربي والإسلامي كما في الغرب. كلام القائد جاء في وقت عصيب (كما ذكر سماحته في الكلمة) وفي ظروف استثنائية تمر بها القضية الفلسطينية على كافة المستويات.
في الشكل، مجرد أن تُفتَتح أعمال المؤتمر بكلمة السيد القائد الخامنئي، فهذا خير دليل على أهمية ما أراده المنظّمون من وراء فكرة المؤتمر بنسخته السادسة والأهداف المرجوّة بشكل عام بعد مضي ستة أعوام على انعقاد المؤتمر الخامس. أما في مضمون الخطاب الذي يستحق بأن يطلق عليه توصيف "نداء"، فقد تضمّنت كل جملة نطق بها القائد تشريحاً دقيقاً للقضية الفلسطينية. فعند سرده لأحداث تاريخية بارزة من عمر القضية، يوصّف السيد حقيقة ما جرى بنظرة العارف للأمور والشاهد عليها، ويدعو في الوقت نفسه إلى الاتعاظ والاستفادة من التجارب عند الحديث عن المقاومة وصوابية خيارها، وفي الوقت نفسه يعلّل سبب رفض واستبعاد الخيار الاستسلامي المسمّى "عملية التسوية" لأثره الهدّام على القضية الفلسطينية. لعل أبرز ما جذب أسماع وأنظار الحاضرين في قاعة المؤتمرات (وأنا منهم) بالإضافة الى المشاهدين والمستمعين عبر وسائل الاعلام، كان التراتبية التي ضمّنها القائد في كلمته، فهو وصّف الأحداث الماضية والحاضرة وشرح الخيارات المتاحة وعرض عناوين برنامج العمل الذي ينبغي اعتماده لإعادة قضية فلسطين على رأس سلّم أولويات المسلمين في العالم.
في مضمون الخطاب الذي يستحق بأن يطلق عليه توصيف "نداء"، فقد تضمّنت كل جملة نطق بها القائد تشريحاً دقيقاً للقضية الفلسطينية
إن دعوة القائد في كلمته إلى وحدة الدول العربية والإسلامية من أجل فلسطين جاءت في وقتها، في ظل ما تعيشه منطقتنا والعالم الاسلامي من فتن وقلائل لا يستفيد منها الا الكيان الصهيوني أولاً وآخراً، وهو حدد للمشاركين في المؤتمر وكل من سمع وشاهد خطابه أن أيها المسلمون: "إن الكيان الصهيوني وخلفه أمريكا ألهياكم في الفتن والمشاكل والحروب العبثية الهادرة للطاقة، التي تعصف ببلدانكم، ليخلوا لهما الجو لاستكمال المشروع الخبيث على أرض فلسطين، فلا تعطوهم المقومات للاستمرار في مخططهم المدمِّر". رغم كل ما حصل ويحصل في المنطقة من اقتتال واختلاف تورّطت فيه بعض الحكومات التي وصفها سماحة القائد بـ "الغافلة"، بقيت قضية فلسطين حاضرة في وجدان الكثيرين من أبناء الأمتين العربية والإسلامية، ومن هنا ينبع إيمان سماحته بأن محاولات تحريض أبناء الملة الواحدة بعضهم على بعض لن تفلح في عملية استبدال العدو بنظر أبناء الأمة الإسلامية. قبل خطاب قائد الثورة بأيام، كانت ترد الأخبار في الصحف الأمريكية والعالمية عن أحلاف ومتغيرات سياسية إقليمية عنوانها تهيئة شعوب المنطقة والعالم الإسلامي للدخول في مرحلة اعتبار بعض الأنظمة الرسمية في المنطقة الكيان الصهيوني صديقاً، بل وحليفاً في المستقبل الذي على ما يبدو لن يكون بعيداً. القائد في كلمته وصف هؤلاء بـ "المتلبسين بثياب الأصدقاء"، وحذّر سماحته منهم معتبراً أنهم "يرمون إلى حرف مسار المقاومة وانتفاضة الشعب الفلسطيني للاستفادة من ذلك في صفقاتهم السرية مع أعداء الشعب الفلسطيني".
لم يترك القائد مجالاً يتعلق بالقضية الفلسطينية والمقاومة والسبيل الواجب اتباعه للصمود وتحرير الأرض إلا وذكره ووصّفه بشكل دقيق وبالغ الصراحة. قدّم في خطابه عرضاً دقيقاً لجدوائية فكرة المقاومة وما يمكن أن تنجزه في وجه الآلة العسكرية الصهيونية المدعومة من الأمريكي. عند حديثه عن أسباب توقف تمدّد دولة الصهاينة في كل المنطقة، يعطي السيد المقاومة حقها الذي حاول كثيرون سلبها إياه والانتقاص من دورها وإنجازاتها في جنوب لبنان وقطاع غزة، ويعلّل الأسباب التي تجعل المتابعين بصدق تاريخ الكفاح الفلسطيني ضد الصهاينة، إن العين بإمكانها مقاومة المخرز والانتصار عليه والشواهد كثيرة وحاضرة. ذهب الكثيرون إلى حد اعتبار كلمة القائد ميثاقاً كاملاً، على كل فصائل المقاومة والقوى الحية في فلسطين اتخاذه برنامج عمل للمرحلة المقبلة بكل ما تحمله من صعوبات وحاجة للتضحية والصمود مع اشتداد الصلف الصهيوني بحق أبناء الشعب الفلسطيني، والقائد يعلم علم اليقين أن دعم المقاومة مادياً ومعنوياً في هذا الوقت الحساس كفيل بإعطاء انتفاضة القدس (الثالثة) التي وصفها سماحته بـ "المظلومة" دفعة معنوية ونفسية قوية لإبقاء جذوتها مشتعلة على أرض فلسطين.
لم يترك القائد مجالاً يتعلق بالقضية الفلسطينية والمقاومة والسبيل الواجب اتباعه للصمود وتحرير الأرض إلا وذكره ووصّفه بشكل دقيق وبالغ الصراحة. قدّم في خطابه عرضاً دقيقاً لجدوائية فكرة المقاومة وما يمكن أن تنجزه في وجه الآلة العسكرية الصهيونية المدعومة من الأمريكي
رسالة وتوصية مهمة وجهها سماحته للفصائل الفلسطينية، حول الوحدة والاستفادة من الاختلاف، الذي اعتبره طبيعياً ما دام بعيداً عن النزاع والاشتباك، كون الانقسام الحاصل بين حركتي فتح وحماس أدى استمراره إلى آثار سلبية هدامة جاءت لتضعف من مقومات الصمود والتأثير على نضال ومقاومة الشعب الفلسطيني. وهنا جاءت نصيحة القائد الأبوية لفصائل المقاومة الفلسطينية عندما دعاها للإعتبار من ماضيها والتنبّه إلى أنّ المقاومة وفلسطين أسمى وأهم من أن تنشغل بالخلافات الإقليمية أو الداخلية أو الطائفية، وهي رسالة قوية المضمون، إيجابية النتائج والمفعول في المستقبل، كون الاصطفافات والخلافات الإقليمية والطائفية التي عصفت بالمنطقة في الأعوام الستة الماضية امتد أثرها الى جميع القوى في الإقليم وخارجه، وهنا يقدم السيد نصيحة تحمل وجهين من الأثر الإيجابي: أولاً تريح فصائل المقاومة في عملها وتركيزها على مهمّتها في مقارعة العدو وتحرّرها من أي التزامات خارج قضيتها، وثانياً تساهم في تخفيف حدّة الخلافات بين دول المنطقة انطلاقاً من كون فلسطين قلب الأمة وبوصلتها التي لا تختلف الشعوب العربية والإسلامية على عدالتها ومظلوميتها وواجب دعمها وإن كان بالموقف فقط، وهو أضعف الإيمان.
نبَّه القائد فصائل المقاومة إلى أن المقاومة وفلسطين أسمى وأهم من أن تنشغل بالخلافات الإقليمية أو الداخلية أو الطائفية
يعلّمنا سماحة السيد القائد في كلمته كيف نصل إلى هدفنا المنشود المتمثّل بتحرير أرض فلسطين والمقدّسات بكل ثقة وثبات، معتمدين على إيماننا بربّنا وبنصره لنا بالدرجة الأولى، ثم على إيماننا بكل خطوة في طريق المقاومة والكفاح وإن صغُر حجمها، فعندما يعتبر أن "المقاومة لم تستطع تحرير فلسطين لكنها استطاعت إبقاء هذه القضية حية"، يكون سماحته هنا يخاطب لاوعينا الذي يحاول إعلام الغرب المتصهين أن يغسله عبر بثّه أخباراً ومواضيع من شأنها أن تثبّط عزائم الشعوب المسلمة لجعلها تتخلى عن فكرة تحرير فلسطين وإيمانها بحتمية تحقيق الله سبحانه وعده الإلهي بدخول المسجد محرِّرين - الذي ذكره في قرآنه - وهذا من أعظم ما يمكن للقائد أن يبثّه في نفوس أبناء الأمّة لحثّهم على متابعة المسيرة وعدم الإكتراث إلى المثبّطين، والتمسّك بالإيمان المطلق أنّ فلسطين ستعود.
*علي مراد: كاتبٌ وصحافيٌ لبناني، باحثٌ في الشؤون الخليجية وناشطٌ في قضايا مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني.