وفي ما يلي النص الكامل لكلمة سماحته خلال هذا اللقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
قدِمتم خير مقدم، وعطّرتم بحضوركم الحميمي والدافئ- أيّها المعلّمون الأعزّاء ومدراء التربية والتعليم -أجواء عملنا وحياتنا.
أوّلًا؛ إنّه شهر رجب، فرصة لعبادة الله. يمكن لحياتنا بطولها وعرضها أن تكون أرضيّة للعبوديّة الصحيحة، حيث أنّ السعادة الحقيقيّة هي في هذه العبوديّة. بعض المناسبات تزيد من فرصنا، ومنها شهر رجب المبارك. لنُعدّ أنفسنا ولندعو لبعضنا أن يوفّقنا الله لبناء ذاتنا في هذا الشهر، وفي شهر شعبان، وفي شهر رمضان المبارك، فنتقدّم خطوة إلى الأمام ونتسامى إلى الأعلى.
من جملة فرص هذا اللقاء وهذا اليوم أيضًا تقديم التحيّة لذكرى بعض الشهداء الأجلّاء، وعلى رأسهم شهيدنا العزيز المرحوم الشهيد آية الله مرتضى مطهّري، الذي هو مفكّرنا الكبير، ومعلّمنا، والمجاهد في سبيل الفكر والعقيدة الإسلاميّة. وقد وصل الى هذه السعادة حيث نال من الله تعالى باستشهاده شهادة قبول جهاده الطويل؛ هنيئًا له! وكذلك الشهيد محمد علي رجائي والشهيد محمد جواد باهُنر اللذان قضيا جلّ عمريهما في التربية والتعليم؛ إنسانان مجاهدان وتقيّان ومخلصان في خدمة التربية والتعليم في البلاد، ونحن شهدنا عن كثب جهود هذين العزيزين في هذه المجالات على مدى سنين طويلة، وخلال الفترة القصيرة من حياتهما بعد الثورة.
إنّ لقاءنا بالمعلّمين في كلّ سنة له هدفٌ أساسيٌ وعدّة أهداف جانبيّة. الهدف الأساسي هو التكريم الرمزي للمعلّم. نرغب من خلال لقائنا هذا إظهار حبّنا واحترامنا لمنزلة المعلّم. هذه الخطوة الرمزيّة هي عملٌ واجبٌ وضروريٌ، يجب أن يكون تكريم المعلّم ومهنة التعليم عامّاً شاملًا في مجتمعنا، وينبغي أن يفتخر المعلّمون بكونهم معلّمين، أن يفتخر الجميع إذا ما سلّموا على المعلّم وأبدوا له الاحترام. كلّما ارتفع مقام المعلّم ارتقت منزلة التربية والتعليم في المجتمع.
ينبغي أن يفتخر المعلّمون بكونهم معلّمين، أن يفتخر الجميع إذا ما سلّموا على المعلّم وأبدوا له الاحترام. كلّما ارتفع مقام المعلّم ارتقت منزلة التربية والتعليم في المجتمع.
إنّ قِصَر النظر في التعامل مع المعلّم هو خسارة للمجتمع، يجب العمل على منع هذا الأمر. النظرة للمعلّم ينبغي أن تكون نظرة تجليل وتكريم. الكثير من الأعمال والمهن والوظائف في البلاد لها بهارجها وبريقها ومظاهرها المتنوّعة لكن منزلتها جميعًا هي أدنى بكثير من منزلة التعليم ومهنة التعليم. هذا ما يجب أن نفهمه وندركه جميعنا.
حينما يُروى عن الرسول الأكرم (ص) قوله: "إنّما بُعثت معلّماً" (1)، فهذا أجلُّ افتخار أن يعتبر الرسول نفسه معلّمًا. مستويات التعليم ومضامينه متفاوتة ومختلفة بالطبع، ولكن في المراتب العليا وفي مراتب ودرجات أمثالنا، فإنَّ حقيقة التعليم واحدة، وهي مصدر افتخار؛ هذا هو ما نوَد بيانه. نرغب من خلال هذا اللقاء أن نعرب عن مدى احترامنا وتكريمنا للمعلّم. إنّنا مدينون للمعلّم وله الفضل والمنّة علينا، وعلى أبنائنا وأعزّائنا وعلى كلّ الذين يهمّنا مستقبلهم. كلّ الناس يشتركون في هذه القضيّة وجميعنا مدينون لفضل المعلّم وممتنون له. هذا هو لبُّ كلامنا وأصل القضيّة.
و لكن ثمّة نقاط جانبيّة؛ إحداها: خطابٌ إلى المعلّمين أنفسهم، وأخرى: نخاطب بها المدراء والمسؤولين في القطاع الهام والواسع للتربية والتعليم.
ما يتعلّق بالمعلّمين هو أن يعلَمَ المعلّم العزيز بأنّ عمله ليس التعليم فقط، أو بعبارة أخرى ليس تعليم مواد الكتب والعلوم المقرّرة فقط. على المعلّم أن يُعطي العلم، وعليه في الوقت نفسه أن يُعلّم منهج التفكير وعمليّة التفكير، وكذلك أن يشمل بعمله تعليم السلوك والأخلاق. إذا أخذنا التعليم بمعناه الواسع فإنّه يشمل هذه الساحات الثلاث:
الأول: تعليم العلم؛ أي تدريس محتويات الكتب والعلوم التي ينبغي لأولادنا -رجال ونساء بلادنا في المستقبل- أن يتعلّموها؛ هذا واحد من الأعمال.
العمل الثاني: هو تعليم التفكّر وهو أهمّ من الأول. يجب أن يتعلّم أطفالنا كيف يفكّرون -الفكر الصحيح والمنطقي- وينبغي أن يتمَّ إرشادهم إلى التفكّر الصحيح. إنّ النظرة السطحيّة وتعليم السطحيّة في قضايا الحياة يشلّ المجتمع، ويسبّب الفشل والشقاء للمجتمع على المدى البعيد.
ينبغي تأصيل وترسيخ التفكّر في المجتمع. لذلك، لاحظوا، إنّنا عندما نذكر الشهيد مطهّري مثلًا، لا نهتمّ فقط بعلم الشهيد مطهّري، بل نهتمّ أيضًا بفكر الشهيد مطهّري. إذا امتلك شخصٌ ما تفكيرًا وفكرًا، فإنّ هذه الروح ستؤدّي إلى اكتشاف قضايا العلم المهمّة. إذا تمّ إعداد شبابنا وعلمائنا كمفكّرين، فإنّ ذخائر علومهم سوف تطرح العشرات بل المئات من المسائل الجديدة وأجوبتها. إذًا، الاستفادة من العلم إنّما تصبح ممكنة بواسطة التفكّر.
إنّ النظرة السطحيّة وتعليم السطحيّة في قضايا الحياة يشلّ المجتمع، ويسبّب الفشل والشقاء للمجتمع على المدى البعيد.
الأمر الثالث: هو السلوك والأخلاق؛ أي تعليم السلوك والأخلاق، فهذه الأمور التي وردت في كلمة الوزير المحترم (2): نمط الحياة ونوع السلوك.
نحن شعبٌ له مثله العليا وأفكاره السامية وقممه الشامخة المحدّدة -إذا اتّسع المجال فسأطرح بعض النقاط في هذا المجال- التي نطمح للوصول إليها. وهذا الأمر يستلزم أناسًا صبورين، عقلاء، متديّنين، مبدعين، مبادرين، شجعان، بعيدين عن الكسل، عطوفين، رحماء، ذوي سلوك مؤدّب، أتقياء، يشعرون أنّ آلام الآخرين هي آلامهم.
صناعة الإنسان وتشكيل وبناء الإنسان المطلوب في الإسلام هو أمرٌ يحصل بالتربية. كذلك، فإنّ كلّ الناس لديهم قابليّة التربية. قد يتقبّل البعض التربية متأخّرًا والبعض أسرع، البعض قد تترسّخ التربية لديه وتدوم أكثر، والبعض قد تفارقه بسرعة أكبر، لكن كلّ الناس معرّضون للتغيير والتبدّل الذي يحصل بالتربية. وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى عناصر أصليّة ومنها المعلّم. بالـتأكيد، فإنّ الأب والأمّ والأصدقاء وغيرهم مؤثّرون، لكنّ تأثير المعلّم هو تأثير أعمق وأبقى. هذه هي المهمّة التي يجب على المعلّم أن يأخذها على عاتقه.
بناءً على هذا؛ المعلّم يُعلّم العلم، ويُعلّم التفكّر، ويُعلّم الأخلاق والسلوك أيضًا. إنّ تعليم الأخلاق والسلوك ليس شبيهاً بتعليم العلم بحيث يقرؤها الإنسان من الكتب فقط ويدرّسها. درس الأخلاق لا يمكن نقله بواسطة الكتب، السلوك مؤثّر أكثر من الكتاب والكلام. أي إنّكم في الصف وبين التلاميذ تدرّسونهم بسلوككم. بالطبع يجب القول والبيان بالكلام أيضًا، ويجب إسداء النصيحة، لكنّ تأثير السلوك أعمق وأشمل. سلوك الإنسان يبيّن صدق الكلام، هذا هو ما نقوله للمعلّمين. هؤلاء الطلّاب أمانة في أيدي المعلّمين؛ يجب الانتباه لهذا المعنى والاهتمام به. إذا قام معلّمونا -إن شاء الله- برفع مستوى الأطفال والتقدّم بهم الى الأمام بهذا الأسلوب- أي بالنظر لهذه العناصر الثلاثة- فأتصوّر أنّ ذلك سيكون له تأثيرات أساسيّة كبيرة في مستقبل المجتمع. بالتأكيد، هناك الكثير من الأعمال الجيّدة أنجزت بعد الثورة على هذا الصعيد. حيث إنّ المعلّمين بالتزامهم وبحضورهم في ميدان الثورة -سواء في سنوات الدفاع المقدّس أم بعد ذلك قدّموا الكثير من الإنجازات والتأثيرات. حينما أقرأ بعض هذه الكتب حول المعلّمين؛ أجد أنّ تأثير المعلّم [الذي شارك في جبهات الدفاع المقدّس واستشهد] على أفكار التلاميذ هو تأثير عميقٌ وعجيب وهذا ما يلاحظه الإنسان بوضوح.
إنّ تعليم الأخلاق والسلوك ليس شبيهاً بتعليم العلم بحيث يقرؤها الإنسان من الكتب فقط ويُدرّسها. درس الأخلاق لا يمكن نقله بواسطة الكتب، السلوك مؤثّر أكثر من الكتاب والكلام.
هناك نقطة حول التربية والتعليم والإدارة هي مسألة وثيقة التحوّل البنيوي في التربية والتعليم. إنّ وثيقة التحوّل -والتي تمّ تنظيمها وإعدادها وإقرارها بحمد الله في الأعوام الأخيرة- لم تحصل دفعة واحدة؛ منذ بدايات الثورة وانتصارها كانت هذه الوثيقة من الأحلام والآمال الكبرى. لأنّ نظام التربية والتعليم في بلادنا كان قد قام على أساس تقليد أنظمة التربية والتعليم الغربيّة، بالشكل نفسه والمضمون نفسه وتقريبًا بالترتيب نفسه. كان لا بُدَّ من تحوّل أساسي في قطاع التربية والتعليم، سواء في الشكل والقالب أو في المضمون. حسنٌ؛ لقد نضجت هذه الفكرة التي راودت الكثيرين طوال أعوام بشكل تدريجي لتظهر على شكل وثيقة التحوّل.
إننا لا نقول أنّ وثيقة التحوّل هذه هي الحد الأعلى من الطموحات والتوقّعات، كلا، فلكلّ أمر هناك حدٌ أعلى يمكن تصوّره -من الممكن إن شاء الله أن تعملوا وتتقدّموا إلى الأمام وتتراكم تجاربكم وتضيفوا بعد مضي زمن معيّن شيئًا إلى ما هو موجود عندكم اليوم- ولكن حاليًّا هذه الوثيقة هي بين أيدينا، ويجب التعامل معها بمنتهى الجديّة. ما أقوله وأوصي به المسؤولين والمدراء المحترمين هو النظر بجديّة وحزم لوثيقة التحوّل البنيوي في التربية والتعليم، بشكلٍ عملي يتجاوز التصريحات الرسميّة.
حسنٌ، إذا أردنا لوثيقة التحوّل هذه أن تتحقّق كما يجب -كما أشاروا إلى ما قلناه سابقًا- فمن الضروري وجود خارطة طريق وبرنامج. إذا لم تتحوّل أفكارنا، والأفكار الكليّة التي يتبنّاها المسؤولون والمخلصون، إلى برنامج عملي، فسوف تبقى في عالم الذهنيّات ولسوف تهترئ وتبلى. لا بُدَّ من برنامج تنفيذي عملي. أعدّوا هذا البرنامج التنفيذي بمشورة وإشراف المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة -الذي يُمثّل مركزًا ثقافيًّا عظيمًا ومرجعًا لاتّخاذ القرارات والمسؤولون مشاركون فيه -وقوموا بصياغته وتدوينه ونفّذوه خطوة خطوة؛ حين تشعرون أنّ هذه الخطوة قد نُفِّذت نعمل على قطع الخطوة التالية. بعض الأعمال يجب إنجازها بشكل متزامن ومتوازٍ مع بعضها البعض.
هناك مسألة في جهاز إدارة التربية والتعليم هي مسألة الموارد البشريّة. كما أشاروا (3) فإنّ قطاع التربية والتعليم يُشكّل أكبر منظّمة ومجموعة رسميّة في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. هناك أكثر من مليون موظّف يعمل في هذه المنظّمة العملاقة، وهم يتعاملون بشكلٍ مباشر مع إثني عشر مليون طالب، وبشكلٍ غير مباشر مع عشرات الملايين من أولياء الأمور. شبكة عظيمة كهذه على جانب كبير من الأهميّة.
وإنّ الطاقات والكوادر التي ينبغي أن تُستخدم وتُوظّف في مثل هذه الشبكة العظيمة يجب أن تتحلّى بخصوصيّات معيّنة. إحدى هذه الخصوصيّات هي أن يكونوا مفعمين بالدوافع والهمم العالية والنشاط. أمّا العناصر المُتعَبة والمستهلَكة وعديمة الإبداع -من الذين أنفقوا كلّ ما كانوا قد تعلّموه سابقًا ولا يعرفون شيئًا جديدًا آخر أبدًا- يجب عدم الاستعانة بها كعناصر أساسيّة وكوادر في مراكز القرار! لتكن الأولويّة للطاقات الشابّة والنشيطة والمتحفّزة والمتديّنة والثوريّة من الذين تكون القضيّة الأصليّة في التربية والتعليم هي هدفهم وهمّهم الأساس، أي تربية الإنسان. يجب الاستعانة بهؤلاء واستخدامهم والاستفادة منهم؛ هذه قضيّة. بناءً على هذا، فإنّ المسألة الأولى والأهم برأيي، على مستوى الإدارات العامة والمستوى العالي لقطاع التربية والتعليم، هي أن ينظروا ويدقّقوا ليروا من أيّة طاقات وكوادر بشريّة يستفيدون؛ يجب أن يستقطبوا ويستخدموا الطاقات والعناصر المتديّنة والثوريّة والنشيطة والمُحبّة والعاشقة لعملها والمستعدّة لخوض غمار الميادين الشاقّة في مجال أهداف التربية والتعليم؛ هذا هو العمل الأهم.
لتكن الأولويّة للطاقات الشابّة والنشيطة والمتحفّزة والمتديّنة والثوريّة من الذين تكون القضيّة الأصليّة في التربية والتعليم هي هدفهم وهمّهم الأساس، أي تربية الإنسان.
المسألة الثانية: هي جهات الدعم. واجب ومسؤوليّة جميع الأجهزة والمؤسّسات في الحكومة دعم قطاع التربية والتعليم. سواء المؤسّسات المختصّة بالتخطيط والميزانيّة أو الأجهزة التي تصادق على هذه الميزانيّات في مجلس الشورى الإسلامي، يجب عليهم جميعًا أن تكون نظرتهم للتربية والتعليم مثل هذه النظرة؛ فلا يتصوّروا أنّ هذا القطاع قطاع يستهلك التكاليف والميزانيّات فقط- وهذه نظرة نشاهدها في بعض الأحيان، إذ يقولون أنّ جهاز التربية والتعليم هو قطاع يستهلك ويكلّف- كلّا، إنّه جهاز كلّما خصّصتم ميزانيّاتٍ له وأنفقتم عليه أكثر فستربحون أضعافًا مضاعفة. إنّه قطاع سيتخرّج منه صُنّاع الثروة في المستقبل، وصنّاع العلم في المستقبل، وصنّاع الحضارة في المستقبل، ومدراء المستقبل. ليس من الصحيح أن نتصوّر أنّ التربية والتعليم تحمّلنا نفقات ومصاريف فقط. كلّا، فلا يوجد أرباح ومكاسب أكبر من مكاسب التربية والتعليم. كلّ ما تشاهدونه في كلّ أرجاء البلاد من مؤشّرات ومظاهر التقدّم والإنتاج والإبداع، فإنّ جذوره هنا. أصلحوا هذا القطاع فيصلح عندها كلّ شيء! بناءً على هذا، فإنّ إنفاق الأموال والميزانيّات على التربية والتعليم وتنمية المصادر الماليّة للتربية والتعليم من الأعمال الأساسيّة، التي نأمل أن يوليها المسؤولون الحكوميّون الاهتمام اللازم.
ليس من الصحيح أن نتصوّر أنّ التربية والتعليم تُحمّلنا نفقات ومصاريف فقط. كلّا، فلا يوجد أرباح ومكاسب أكبر من مكاسب التربية والتعليم.
قضيّة أخرى هي أنّ المدراء الذين نختارهم -كما أشرت في وسط كلمتي- يجب أن يكونوا مدراء ينصبّ اهتمامهم على القضيّة الأصليّة في التربية والتعليم. إنّ النزعات والتوجّهات السياسيّة والحزبيّة والفئويّة وما إلى ذلك هي سمّ مهلك للتربية والتعليم. لقد شاهدنا، في فترة من الفترات طوال هذه الأعوام المتمادية -حين جرى الاهتمام والتركيز على هذه الأمور أكثر- مدى الضرر والخسارة التي لحقت بالتربية والتعليم. راقبوا واحذروا! فليكن التعامل مع مختلف مسائل قطاع التربية والتعليم بحيث تكون القضيّة الأهمّ بالنسبة لمدير أي قسم أو دائرة في هذا الجهاز العظيم الواسع قضيّة التربية والتعليم، أن تكون قضيّة تربية الإنسان، وتربية الطاقات الثوريّة. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء! أقول لكم هنا: إنّما نشدّد على الطاقات والكوادر الثوريّة والمتديّنة فلأنّ أمامنا دربًا طويلًا؛ أمام هذا الشعب دربٌ طويل. الهدف الذي رسمناه نحن للجمهوريّة الإسلاميّة على أساس التعاليم الأساسيّة للثورة -وحين نقول نحن، لا أقصد بهذا العبد الحقير، بل المقصود هو الشعب الإيراني ومسؤولو الثورة وأصحاب الثورة وأهلها- هذا هدف، وهو هدفٌ سام جدًّا. الهدف هو خلق مجتمع نموذجي. إنّكم تريدون وفي إطار إيران العزيزة -والواقعة من الناحية الجغرافيّة في منطقة حسّاسة جدًّا من العالم- أن تصنعوا مجتمعًا يكون ببركة الإسلام وتحت راية القرآن، أسوة ونموذج. نموذج في الأبعاد الماديّة والتقدّم المادي، وفي الوقت نفسه أسوة ونموذج في الأبعاد المعنويّة والأخلاقيّة.
لقد حقّق الغربيّون نقلة نوعيّة في المجال المادي وقاموا بقفزة في فترة من الفترات، بيد أنّ هذه القفزة كانت منفصلة ومتعارضة مع الحركة الأخلاقيّة. كانت قفزة ماديّة مئة بالمئة. في البداية، لم يدرك أحدٌ ما الذي حصل! لكن ها هم الآن قد بدؤوا يفهمون بالتدريج، فهم يشعرون بخسائر لا تعوّض تصيبهم شيئًا فشيئًا. لا يتوهمنّ أحد أنّ حضارة ماديّة محضة وبعيدة عن المعنويّة ستستطيع أن تروي شعوبها ماءً هنيئًا زلالًا. كلا! سوف يلاقون الأمَرَّين، وها هم الآن يعانون الأمرّين. ليس بسبب هذه التظاهرات في شوارع أوروبا وما إلى ذلك، كلا، إنّ مصيبة الغرب هي أعمق من هذه الأمور. إنّ حاجة الإنسان الضروريّة والأساسيّة، قبل كلّ شيء، هي للأمن الروحي والأمن الأخلاقي والأمن الوجداني وراحة الضمير. وهذه الأمور مفقودة في البيئات الغربيّة، وسوف يزداد الوضع سوءًا يومًا بعد يوم. حين تطّلعون على ما يقوله كتّابهم ونقاّدهم ومفكّروهم، تشاهدون بوضوح كيف أنّهم ومنذ سنوات ارتفعت أصواتهم وقرعوا جرس الإنذار، وها هم ينشرون أخبار وأسرار الزوايا المظلمة والفاسدة وكيف أنّ الفساد يتضاعف في مجتمعهم. هكذا هي الحياة الماديّة. نعم، هم تطوّروا من النواحي العلميّة والتقنيّة وما شابه؛ أنجزوا أعمالًا كبيرة، لكنّ الجانب الآخر من القضيّة بقي متروكًا ومعطّلًا وهذا ما يشلّهم ويطرحهم أرضًا. إنّ المجتمع الذي يهدف إليه الإسلام هو مجتمع ذو مستوى عال من النواحي الماديّة؛ أي على مستوى الثروة والعلم ومستوى الحياة، وكذلك على مستوى الأخلاق والمعنويّات؛ أيضًا؛ يجب أن يكون في ذلك المستوى العالي، أو أعلى منه. هكذا مجتمع يصبح مجتمعًا إسلاميًّا. إنّكم تريدون صناعة هذا المجتمع، وأمامكم درب طويل جدًا. هذا الهدف ممكن التحقّق، فلا يقولنّ أحدٌ لا يمكن، بلى، فالكثير كان يظنّ أنّها غير ممكنة لكنّها تحقّقت بالفعل.
لا يتوهمنّ أحد أنّ حضارة ماديّة محضة وبعيدة عن المعنويّة ستستطيع أن تروي شعوبها ماءً هنيئًا زلالًا
حين يشدّ شعبٌ ما همّته ويقوّي عزيمته، فإنّه سيقوم بأعمال جبّارة. سينجز أعمالًا تاريخيّة. أثبتت مجتمعاتنا أنّها قادرة أن تكون كبيرة ومزدهرة وحيويّة وناضجة ومثمرة. الإنسان كائنٌ لا حدود له ولا نهاية لآفاقه ولا يمكن حصره وإحصاء أبعاده. مع كلّ هذا التطوّر العلمي لا تزال الأجزاء الرئيسيّة من دماغ الإنسان غير معروفة. هذا ما يقوله العلماء المتخصّصون في أبحاث الدماغ! هذا الوجود الجسدي للإنسان غير معروف، فما بالك بالوجود المعنوي والروحي والباطني للإنسان؟ قدرات الإنسان كبيرة جدًّا، إنّنا قادرون على القيام بأعمال كبيرة وكثيرة، بوسع الإنسان أن يوائم بين الرُّشد المادي والمعنوي بشكل كبير. حسنٌ، نريد أن نصل إلى هذه الأهداف، وهذه الأهداف بحاجة إلى إنسان فالإنسان قبل كل شيء آخر. الإنسان أهمُّ من الطريق، في المسير لدينا طريق ولدينا الشخص الذي يسير على الطريق، الإنسان الذي يسير على ذلك الطريق أهمُّ من الطريق نفسه. إذا لم يكن هناك سائر على الطريق فلن ينفع الطريق المعبّد بالإسفلت! ولكن إذا كان هناك سائر ذو همّة عالية على الدرب فلن يضرّه عدم وجود الطريق الإسفلتي. تشاهدون هؤلاء المتسلّقين إلى أين يصعدون في أعالي الجبال، لا يوجد طريق، لكن هناك أقدامٌ وهِمَم. يمكن التقدّم ويمكن الصعود إلى الأعالي، يمكن استكشاف الطاقات والقدرات غير المعروفة واستخدامها. يمكن حلُّ العُقد، الواحدة تلو الأخرى. كل هذا بحاجة إلى إنسان. وهذا الإنسان إنّما يتخرّج من قطاع التربية والتعليم. وكذلك للجامعات أهميّتها أيضًا، والأجواء في المجتمع بدورها مهمّة، والإذاعة والتلفاز كذلك، ولكن ليس لأيِّ من هذه المؤسّسات والأجواء والقطاعات أهميّة كأهميّة الركيزة الأولى، أي المرحلة الابتدائيّة. تقع على عاتق المعلّمين والمدراء في هذا الجهاز العظيم مثل هذه المسؤوليّة، وعليه، فنحن نؤكّد ونعتمد على أن يكونوا متديّنين وثوريّين. بهذه الروح الدينيّة والثوريّة يمكن التقدّم في هذا الدرب؛ حتى لو كان وعرًا ومليئًا بالعقبات يمكن لهم التقدّم ويمكن تجاوز الموانع والعقبات والعبورمن فوقها، بشرط وجود الروح الثوريّة والتديّن والالتزام الديني والثوري؛ هذه أيضًا نقطة هامة.
الإنسان كائنٌ لاحدود له ولا نهاية لآفاقه ولا يمكن حصره وإحصاء أبعاده.
هناك قضيّة المناهج والبرامج الدراسيّة والكتب الدراسيّة. يجب الانتباه والتدقيق كثيرًا في الكتب الدراسيّة، إذ ينبغي أن تكون متقنة، فالمضمون والأفكار والكلام الضعيف في هذه الكتب مضرّ. ليس أنّه غير مفيد بل هو مضرّ وكذلك الانحرافات السياسيّة أو الانحرافات الدينيّة أو الانحراف عن الحقائق والوقائع، وجود تلك الانحرافات في هذه الكتب مضرّ. الذين يتولّون مسؤوليّة هذه العمليّة يجب أن ينجزوا هذا العمل بمنتهى الأمانة والدقّة.
وقد ذكرتُ هذا للوزير المحترم في الطريق قبل قليل. قلت له: جامعة المعلّمين هذه أو جامعة إعداد المعلّم حسب التعبير القديم -هي جامعة، ولكنّها تختلف عن الجامعات العاديّة. فضلًا عن المميزات الموجودة في الجامعات الأخرى، فإنّ ميزة إعداد المعلّم وتخريجه تختصّ فقط بهذه الجامعة. ولهذا الأمر طبعًا شروطه ومقتضياته. ينبغي الاهتمام بهذه الجامعة بمنتهى الجديّة.
قضيّة أخرى هي قضيّة التربية والإدارة التربويّة؛ كانت هناك تقصيرات وعدم اهتمام، وتعطّلت هذه الإدارة في فترة من الفترات ثم أعادوها ثم عطّلوها مرّة أخرى. الإدارة التربويّة هي عبارة عن مجموعة تبذل كلّ جهدها وهمّتها في التصدّي للقضايا التربويّة، والتي هي تلك الجوانب والأبعاد الفكريّة والمعنويّة والثوريّة والسلوكيّة والأخلاقيّة -هي إدارة مهمّة جدًّا، سواء على مستوى الوزارة أو على المستويات الأدنى.
آمل أن يشملكم الله تعالى جميعًا بلطفه ورحمته، وإن شاء الله تكون الروح الطاهرة لإمامنا الخميني العزيز -الذي فتح أمامنا هذا الطريق- مسرورة منكم، وأن تكون أرواح الشهداء الأبرار الطيّبة، وخصوصًا الشهداء من المعلّمين ومن الطلبة الجامعيّين، مشمولة بالألطاف الإلهيّة إن شاء الله.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الهوامش: