بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوكل عليه و نصلي و نسلّم على حبيبه و نجيبه و خيرته في خلقه سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين و صلّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين. قال الله تعالى في محكم كتابه: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ و اللّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ)).(1)
تمرّ علينا اليوم ذكرى شهادة أمير المؤمنين و مولى المتقين الشخصية الأكثر شموخاً في التأريخ الإسلامي بعد رسول الله (ص).
و من هنا أدعوكم أخوتي المستمعين و المصلين الأعزاء و نفسي لتقوى الله و اتباع أمره و نهيه.
إنّ اقتداءنا بأمير المؤمنين و اتخاذه إماماً لنا، يحتم علينا التمسّك بالإيمان و مراعاة التقوى، ذلك أنّ علياً هو إمام المتقين و أمير المؤمنين.
إن من الأمور التي لا يمكن محوها من الذاكرة، التميّز على صعيد العمل و السلوك الذي امتازت به هذه الشخصية العظيمة و الذي اتضح جلياً أبان فترة حكومته الوجيزة التي شملت تلك الرقعة الواسعة، و بقي مناراً يضيء على مدى التاريخ.
إن المنازل المعنوية و الخصائص السلوكية و السمات الشخصية التي تفرّد بها هذا الرجل العظيم ـ و التي أفردت لها مصادر السير و التاريخ فصولاً كاملة تروي فضائل أمير المؤمنين، من علم و تقوى و شجاعة و أسبقية في الإسلام و زهد و ورع و غير ذلك مما يستحيل حصره من السمات العظيمة و المثيرة للدهشة، و المضيئة كالشمس في رابعة النهار ـ فكل واحدة من هذه الصفات لها مكانتها و منزلتها، لكن ما أظنّه أبرز الصفات شموخاً و عظمة، سيرته عليه السلام في إدارة دفة الحكم و شؤون الدولة. فالاختبار الاكبر يكمن هنا. عندما تكون السلطة بيد أمير المؤمنين و هي تشمل تلك الرقعة الواسعة من العالم الإسلامي، ثمّ نجده عليه السلام يسير بمثل هذا السلوك، فهذا أمرٌ مدهش لا نجد له نظيراً على الإطلاق، فهو خير قدوة لنا و محتذى.
إنّ السبب الذي جعل كل مطلع على السيرة العلوية يأسف بشدة لقصر فترة حكومة علي عليه السلام، يعود لعلمه بهذه الحقيقة و هي أنّه لو كتب للمنهج العلوي الاستمرار لفترة أطول لربما كان التأريخ سيأخذ منحىً مختلفاً، و يتغيّر مصير البشرية إلى الأبد، و لانتهى عصر أنظمة الجور القائمة على الفساد و المال و الشهوات و الظلم التي تلاعبت بمصير الشعوب و حمّلته الكثير من الآلام و الويلات و لم تخل منها حقبة من حقب التاريخ البشري.
إنّنا اليوم نقف إزاء هذا المنهج ـ أي المنهج العلوي ـ و إنّني لأجد أكثر الأمور أهميّة لنا و نحن في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، هو التقيّد و الاقتداء قدر الإمكان بهذا المنهج. و لو تسنّى لنا ذلك لانتفع الشعب الإيراني، و بتبعه كافة أرجاء العالم الإسلامي، بل و العالم أجمع من حكومتنا. إذن لا بدّ أنْ يكون جل سعينا منصباً على الاقتراب قدر الإمكان من المنهج المذكور.
كما أنّ حكومة أمير المؤمنين عليه السلام تعتبر نموذجاً يحتذى به على صعيد إرساء العدل و حماية المظلوم و الاقتصاص من الظالم و نصرة الحق مهما كانت الظروف. و لا يخفى أنّ المنهج المذكور لا يبلى بمرور الأيام و ليس مؤطراً بإطار زمني أو بيئي محدّد و بالتالي يمكن اعتماده و استثماره في مختلف الظروف و الأحوال و على مختلف الأصعدة، علمياً و اجتماعياً و غير ذلك ممّا يضمن للبشرية سعادتها.
و نحن لا نقصد بذلك استخدام ذات الأدوات التي تم استخدامها في تلك الحقبة أو تقليدها، ليشكل البعض علينا: بأنّ هذه الأدوات قد تغيّرت بمرور الوقت و ظهرت أدوات مختلفة أكثر حداثة و جدوى. بل مرادنا هو الاقتداء بذلك المنهج على صعيد التوجّه و المنحى الذي اختطّه و سار عليه نظام الحكم العلوي، و هو كما هو معلوم، لا يبلى و لا يتلاشى، بل يستمر حيّاً إلى الأبد. فنصرة المظلوم ـ على سبيل المثال ـ نقطة مضيئة في الحياة البشرية، و كذلك مقارعة الظالم و رفض الرشوة من القوي، و الثبات على الحقيقة، كلّها قيم إنسانية ثابتة لا يعتريها القدم و التجدد، و لا تغيّرها الظروف و الأحوال. و يعبّر عن هذه القيم بالأصول، فعندما نقول حكومة أصولية، أي حكومة ملتزمة بهذه القيم و المبادئ الثابتة التي لا تبلى. و الملفت أنّ ما يؤرّّق طغاة العالم و مستكبريه هو هذا النمط من الالتزام. فهم يستشيطون غضباً كلّما لاحظوا مواقف الحكومة الإسلامية المتمثلة بنصرة الشعوب المظلومة كالشعب الفلسطيني و الأفغاني، و عدم مداهنة الدول المستكبرة. و هذا هو سبب ما تشاهدونه من التشويه الإعلامي المستمر للأصولية و الراديكالية لدرجة أنّها أصبحت شتيمة تتناقلها أفواه الأعداء و أبواقهم الإعلامية. إنّ هذه الأصول هي ذاتها التي تقوّض مصالحهم و تقضي على مطامعهم، لذلك تجدهم لا ينفكون عن محاربتها. و ما دعاهم للخروج على أمير المؤمنين هو التصدّي لهذه الأصول و المبادئ.
إذن لا بدّ أن يكون جهدنا منصباً في هذا الإطار.
و قد يقول أحدهم، لم تطرحون هذا الموضوع على الناس، أليس من الأفضل أنْ تدونوا ذلك ضمن كتاب و تعمّموه على مفاصل الدولة ليُخضِع المسؤولون سلوكهم لهذه المعايير و يحسنوا أداءهم؟! أو تقوموا بتوجيه النصائح للمسؤولين و ليس للشعب!
أقول: أولاً: ليست جميع الأمور أو أغلبها يمكن تدوينها ضمن دستور أو قانون. فهذه من جملة الأمور التي لا تتحقّق إلاّ بالإيمان و العقيدة و اليقين و الإصرار و العزيمة و الإرادة الحديدية الناشئة من تلك العقيدة.
طبعاً لا يخفى عليكم، فما كان قابلاً للتعميم؛ نعمّمه، و ما كان قابلاً للامتثال؛ نأمر به، لكن يبقى أنّ التعاميم و الأوامر ليست كفيلة بحلحلة كافة المشاكل.
لا شك إنّنا لا نغفل عن نصيحة المسؤولين، لكن النصيحة لوحدها غير كافية. فلا بدّ لهذه الأصول و الحقائق أن تتحوّل إلى ثقافة يعتاد عليها المجتمع و تنمو أهميتها لديه فتتحوّل إلى أبرز مطاليبه التي يطمح لتحقيقها. فعلى المجتمع أن يطالب المسؤولين في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، بمقارعة الظلم و التصدّي للظالم و المفسد.
و لا بدّ أن تكون المعايير التي بحوزة القائد الأعلى و أركان النظام هي:
التصدّي للظلم، و عدم مداهنة الظالم، و عدم التسليم للاستبداد، و صيانة الكرامة الإنسانية، و السعي لإحقاق الحق في كافة أشكاله و أنماطه و على جميع الأصعدة و الميادين.
من هنا تجدني أطرح هذه المواضيع على عموم الناس، كما كان أمير المؤمنين عليه السلام يطرحها على عموم الناس أيضاً. فحتى كتبه عليه السلام التي كان يبعث بها إلى أشخاص محدّدين، لم يكن مضمونها خافياً على عامة الناس، فالجميع كان يطلع عليها. هذا بالنسبة للكتب و الرسائل، أمّا الخطب فقد كانت بطبيعة الحال موجّهة للعامة على ما هو معروف.
فعلى سبيل المثال، بدأ أمير المؤمنين عليه السلام خلافته بالمساواة بين الناس في العطاء من بيت المال، و قد جرت سنّة من قبله و لمدة حوالي عشرين عاماً على تفضيل بعض الأشخاص بالعطاء على البعض الآخر ضمن معايير معينة، كالأسبقية في الإسلام و الهجرة و النصرة و.. الخ.
و قد كانت الأموال ترد إلى بيت المال من خلال الغنائم، أو ربما الزكاة، و لم يكن الحال على ما هو عليه الآن من إدارة للشؤون المالية، فقد كانت الأموال تعطى للأفراد مباشرة بتفضيل بينهم وفقاً للمعايير التي تمّ ذكرها، و قد استمر الحال على هذه الشاكلة إلى أن تولّى أمير المؤمنين عليه السلام دفّة الخلافة، عندئذ أخذ بالمساواة في العطاء و أرجأ التفضيل بالتقوى إلى الله تعالى، فمن كان أشد ورعاً و تقوى فأجره على الله. و لكل امرء الحرية في الكسب الحلال، فمن كان يكد و يتعب و يحصل على المال فماله له، لكنّني أقسم بيت المال بالسوية.
إلاّ أن البعض نصحوا أمير المؤمنين بخطورة هذا المنهج و العدول عنه، لما سينجم عنه من تموضع البعض و تشكيل جبهة قد تطيح بالحكومة العلوية بسبب تعرض مصالحهم للخطر! فأجابهم أمير المؤمنين: ((أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام و الله لا أطور به ما سمر سمير و ما أم نجم)) (2).
وفي موضع آخر جاء في كتابه لعثمان بن حنيف: ((ألا و إنّ لكل مأموم إماما يقتدي به و يستضيء بنور علمه، ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه)) (3). ثم قال: ((ألا إنّكم لا تقدرون على ذلك و لكن أعينوني بورع و اجتهاد)) (4).
إنّ المخاطب بكلام أمير المؤمنين هذا ليس ابن حنيف وحده فحسب بل كلامه موجّه إلينا أيضاً: ((و لكن أعينوني بورع و اجتهاد)).
إذن لا يمكننا أن نختار مساراً مغايراً لما اختاره أمير المؤمنين، فهو يشق على نفسه و يشدّد عليها، و في المقابل يستغل القائد أو المسؤول في حكومتنا منصبه لإشباع رغباته و إعمار دنياه؟ إنّ هذا أمر غير ممكن و ليس صحيحاً أبداً.
و قد تحدّثت في السنة الماضية في مثل هذه الأيام و قلت: من المرفوض جداً أن يتاجر المسؤول و المتصدّي في النظام الإسلامي بمنصبه و يكون حاله حال التجار. فالمناصب العليا في نظام الجمهورية الإسلامية ليست متاجر أو رؤوس أموال تستغل لجني الأرباح الطائلة و اعمار الدنيا. فلا يحق للمتصدّي و المسؤول في نظام الجمهورية الإسلامية أن يقارن نفسه بالأثرياء و الوجهاء، و لا أن يقارن نفسه بأركان الأنظمة الجائرة. فالوزير أو المدير العام أو المتصدّي بشكل عام في النظام الجائر، يتمتّع بحياة مترفة و بثراء فاحش، فمن الخطأ أن نقارن أنفسنا و نحن في ظل نظام الجمهورية الإسلامية بهؤلاء، و نقول: نحن وزراء و مدراء أيضاً! كلاّ فالحالة في النظام الإسلامي مختلفة تماماً. فالمنصب في النظام الإسلامي ليس فرصة استثمارية، بل هو مسؤولية و خدمة و وظيفة تقع على عاتق المتصدّي لها. و هذا ما أرشدنا إليه أمير المؤمنين. (5)
يكتب عليه السلام لابن عباس: ((فلا يكن حظك في ولايتك مالاً تستفيده و لا غيظاً تشتفيه و لكن إماتة باطل و إحياء حق)). (6)
و قدم عليه أحدهم في خلافته يطلب منه مالاً فقال عليه السلام: ((إنّ هذا المال ليس لي و لا لك، و إنما هو فيء للمسلمين و جلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، و إلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم)). (7)
إذن هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام لمواجهة هذا القبيل من المطالب.
لقد كان أهم شيء بالنسبة لأمير المؤمنين إرساء العدل و نصرة المظلوم و التصدّي للظالم ـ أيّاً كان المظلوم و أيّاً كان الظالم ـ فإنّه عليه السلام لم يشترط في المظلوم المراد نصرته، الإسلام. تصوروا أنّ شخصاً كأمير المؤمنين عليه السلام على هذه الدرجة من الإيمان و التقوى و التمسك بالإسلام، و الشخصية الأبرز في تاريخ الفتوحات الإسلامية، تصوروا أنّ مثل هذا الشخص لم يضع الإسلام شرطاً في نصرة المظلوم. فمثلاً نجده في حادثة «الأنبار» و هي الحادثة التي أغارت فيها خيل الشام على الأنبار ـ أحد مدن العراق ـ و قتلوا عامله عليه السلام و انتهكوا حرم المسلمين، فخرج عليه السلام بنفسه غضبان فمضى الناس فأدركوه، فقام فيهم خطيباً ـ بخطبة (8) هي من أكثر خطب النهج تأثيراً، و هي التي عرفت لاحقاً بخطبة الجهاد ـ فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: إنّ الجهاد باب من أبواب الجنة... و استمر يحث الناس و يدفعهم للتصدّي لما وقع من ظلم كبير قائلاً: .. و لقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة فينتزع حجلها و قلبها قلائدها و رعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع و الاسترحام، فبالنسبة لأمير المؤمنين ليس هناك فرق في نصرة المرأة التي استبيحت، أكانت مسلمة أم معاهدة ـ يهودية أو نصرانية أو مجوسية ـ فالكل يجب نصرتهم على السواء.
ثم قال سلام الله عليه: فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديراً.
و جاء في كتابه الشهير لمالك (9) : و لا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، فنصرة المظلوم و ضمان حقوق الإنسان في العرف العلوي لا يشترط فيها الانتماء للإسلام أو غيره، فكل إنسان جدير أن يتمتّع بهذا الحق.
فانظروا إلى هذا المنطق الرفيع، و هذه الراية التي نشرها أمير المؤمنين و ظلّت خفاقة على مدى التأريخ! في حين نجد البعض يتمشدق اليوم بشعار حقوق الإنسان و ينادي به دون أن يكون له أي مصداقية، بل هو كذب محض، و رياء بحت، و شعارات خاوية لا تجد لها تطبيقاً على حيّز الواقع. فهم لا يراعون حقوق الإنسان في أي مكان، حتى في بلدانهم ذاتها، فأنّى لهم بذلك على الصعيد العالمي؟! إنّ حقوق الإنسان بمفهومها الحقيقي لم تجد تنظيراً واقعياً، و تجسيداً حقيقياً إلاّ في السيرة العلوية، التي سطّر صفحاتها أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
إنّ مهمّتنا اليوم و نحن نعيش عام المنهج العلوي، أن نسير على خطى أمير المؤمنين و نتبع سيرته. فإطلاق شعار القضاء على الفساد المالي و الاقتصادي في هذا العام، يحتم على كل من يتبع سيرة أمير المؤمنين و منهجه، أنْ يتمسّك بهذا الشعار و يجسّده على أرض الواقع. و على كل ملتزم بالصلاح و الإصلاح ـ بكل ما للكلمة من معنى ـ أن يسير وفق هذا المنهج.
و على أجهزة الدولة و مفاصلها ـ و كافة السلطات، القضائية و التنفيذية و التشريعية ـ أن تعتبر نفسها مكلّفة بتجسيد هذا الشعار على صعيد الواقع، و تتجنّب إبقاءه رهين الألفاظ و الكلمات، شعاراً فارغاً لا محتوى له.
إنّ مكافحة الفساد، أحد دعائم النظام الإسلامي و ركن من أركانه الأساسية، و هذا هو منهج أمير المؤمنين. فقد سار بهذا المنهج دون خشية من أحد، حتى ممّن كان يتأمل منه فضلاً أو عطاء أو حماية أو غض طرف. فكلّما وجد عليه السلام موطناً للفساد، اجتثّه. و لا شك إنّنا غير قادرين على مجاراة أمير المؤمنين، و لسنا ندّعي ذلك، بل و لا نليق ـ أقصد أنا نفسي ـ بمقام السائرين على خطى أمير المؤمنين، لكن هذا لا يمنعنا من السعي و مواصلة العمل. و على الجميع أنْ يعتبر هذا الأمر تكليفاً موجهاً إليه و واجباً ملقى على عاتقه.
لا أنْ تقوم عوامل الضغط بإثارة الصخب و الضوضاء و تهديد كل جهة تحاول مكافحة الفساد و القضاء عليه. طبعاً على أي جهاز يعمل على مكافحة الفساد أن لا يخضع للتهديدات. بل عليه مواصلة السير في هذا الطريق بكل جديّة و مثابرة دون إعارة التهديدات أي اهتمام، فالله سبحانه ناصركم، و الشعب حاميكم.
إنّ ما أفهمه هو أنّ الشعب لا يفرح بشيء بقدر فرحته بالمساعي التي يبذلها نظام الجمهورية الإسلامية الرامية إلى نصرة المظلوم و إحقاق الحق لعامة الناس من خلال مكافحة الطغاة و المفسدين و الطامعين.
و على جميع السلطات، تشريعيةً و تنفيذية و قضائية، العمل بهذا الاتجاه، و لا أخفيكم إنّ المرء أصبح يشاهد اليوم انجازات حقيقية على أرض الواقع، لكن ذلك لا يمنع من وجود أشخاص قد يتهاونون في أدائهم بعض الأحيان، و هو ما نرجو أن نشهد نهايته بأقرب وقت.
فنحن عندما نحتفي بذكر أمير المؤمنين و نخلّد ذكراه، يجب أن ينعكس ذلك على سلوكنا و أدائنا. و لا يكفي أن نخرج إلى الناس يومياً و نطالبهم بالاقتداء بأمير المؤمنين دون أن ندرك بأن المسؤولية العظمى تقع على عاتقنا و نحن نمسك بزمام النظام في الجمهورية الإسلامية.
آمل أن يسدد الله المسؤولين في الجمهورية الإسلامية و يوفقهم للسير على خطى أمير المؤمنين و الاحتذاء به عليه السلام. طبعاً ليس خفياً عليكم ما واجهه أمير المؤمنين و تحمّله في هذا الطريق. و تصادفنا اليوم ذكرى شهادته سلام الله عليه. و الملفت أنّ أحداً لم يكن يسمع شكواه (عليه السلام) أيام حياته. صحيح إنّه قد اشتكى من الناس و وبّخهم من على المنبر مرّات عديدة، لكنّ شكواه الأساسية لم تكن تلك فحسب، و لم تكن بسبب تثاقل الأمّة و عزوفها عن الجهاد فقط؟ فلقد کان قلبه الشريف يتقطّع ألماً، و كان يتوجّه إلى خالقه سبحانه و يناجيه ـ كما ورد في دعاء كميل الذي علمه إياه أمير المؤمنين ـ إلهي و سيدي و مولاي و مالك رقي إلى أن يقول في الفقرة التي طالما هزّت سمعي و فؤادي و فكري: يا من إليه شكوت أحوالي (10) فكان قلبه يعتصر ألماً (11)، و كان لا يشكو بثّه و حزنه إلاّ إلى الله سبحانه. لقد كان جل قلقه ناشئاً من حجم المسؤولية العظيمة تجاه واقع الأمة و الوضع الذي آلت إليه أحوالها، و الاتجاه الديني في النظام الإسلامي الذي كان حديث العهد آنذاك. و لا يخفى أنّه عليه السلام لم يتنصّل عن تحمّل المسؤولية و أداء المهمّة الملقاة على عاتقه مثقال ذرّة.
و عندما استقبلت هامته الشريفة سيف الغدر في المحراب لم تكن الكلمات التي قالها ـ كما ورد في مصادر السيرة ـ سوى: بسم الله و بالله و على ملّة رسول الله، فزت و ربّ الكعبة. لقد كانت تلك الليلة العظيمة ليلة مصاب و عزاء للمسلمين جميعاً، بينما كانت لأمير المؤمنين ليلة فوز و نصر و سرور. فقد كان عليه السلام ينتظر تلك الساعة بفارغ الصبر. و الذي يظهر من الأخبار أنّ تلك الليلة صادفت ليلة الجمعة، و هناك من ذكر أنّ ليلة الحادي و العشرين ـ أي ليلة شهادته عليه السلام ـ هي ليلة الجمعة، و مهما يكن، فلقد أمضى الأمير سلام الله عليه تلك الليلة في بيت أم كلثوم و تناول الافطار لديها بالصورة التي سمع أغلبكم بها ـ بالخبز و الملح، الخبز فقط دون أي شيء آخر ـ و قد جيء له بالخبز و اللبن لكنّه اكتفى بالخبز و الملح، و مكث طول الليل مشتغلاً بالعبادة و الصلاة. ثم غادر إلى المسجد قبل أذان الفجر، و أيقظ من كان نائماً في أطراف المسجد، ثم رفع صوته بالأذان و عندما فرغ عمد إلى المحراب و شرع في الصلاة، لكنّه ما إن وصل إلى نصفها حتى ارتفع صوت المنادي عالياً: تهدّمت و الله أركان الهدى، و الملفت أنّ الناس كانت واقفة على فحوى هذه الجملة، لكنّ المنادي لم يكتف بها، و إنّما أستدرك قائلاً: قتل عليّ المرتضى.. (12)
صلى الله عليك يا أمير المؤمنين.
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ و لَمْ يُولَدْ * و لَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (13)
اللهم! نقسم عليك بمحمد و آل محمد، صلّ على أمير المؤمنين بأفضل صلاتك و بارك عليه بأفضل بركاته و اشمله بوابل رحمتك. اللهم! و اجعلنا من خيرة شيعته. اللهمّ! أيّد و سدّد شيعة أمير المؤمنين و محبّيه أينما كانوا و أينما حلّوا، و انصرهم نصراً عزيزاً و زدهم قرباً منه و تمسكاً به. اللهمّ! انصر الإسلام و المسلمين و أعزّهم بعزّك، و اخذل أعداءهم. اللهم و كل من وقف و صدّ عن الطريق الذي خطّه أمير المؤمنين فاستأصل شأفتهم و أقطع دابرهم و ردّ كيدهم و مكرهم و كل ما يحيكونه للإسلام و المسلمين إلى نحورهم.
اللهم! شعبنا العزيز، أعزّه و قوّ شوكته. اللهم! و ذلل على أمتنا المؤمنة المضحية كل أمر مشكل. اللهم! بارك و ارحم و تلطّف بكل من يعمل لخدمة الأمّة في سبيل إعلاء كلمة الإسلام و المسلمين. اللهم! اجمع بين قلوب أبناء هذه الأمّة و زدها ألفة يوماً بعد يوم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما علي أمير المؤمنين و الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سبطي الرحمة و إمامي الهدى عليّ بن الحسين زين العابدين و محمّد بن عليّ باقر علم النّبيّين و جعفر بن محمّد الصّادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرّضا و محمّد بن عليّ الجواد و عليّ بن محمّد الهادي و الحسن بن عليّ الزّكيّ العسكري و الحجّة بن الحسن القائم المهدي صلوات اللَّه عليهم أجمعين و صلّ على أئمّة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين. أوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه.
أتوجّه بالدعوة لجميع المصلين الكرام برعاية التقوى و استثمار ما تبقى من أيام هذا الشهر الفضيل ـ شهر الفضل و البركة و الرحمة ـ راجياً للجميع التوفيق في نيل رضا الله و مغفرته و رضوانه.
هناك قضيتان تعتبران اليوم من أهم قضايا العالم الإسلامي ـ و هما في الوقت ذاته ذاتا صلة وثيقة بشأننا الإيراني و بأمننا القومي ـ إحداهما: القضية الأفغانية، و الثانية: القضية الفلسطينية. و الملاحظ في كلا القضيتين وجود هجمة شرسة يتعرّض لها المسلمون. أمّا القضية الأفغانية فإنّها على ما يبدو بدأت تسير باتجاه الحل، آملين أنْ تنتهي الأمور لما فيه خير و صلاح الشعب الأفغاني.
لكن الذي حصل في بداية شهر رمضان هو أنّ الشعبين المظلومين بدءا يتعرضان لقصف مكثّف من قبل القوات الأمريكية و البريطانية. لم يرحموا فيه الصائمين و لا النساء و لا الأطفال و لا العجزة. فاستهدفوا المدنيين و ارتكبوا أبشع الجرائم الحربية التي لا تمحى من الذاكرة، كاستهداف السجناء الذي راح ضحيته المئات منهم، و استهداف الأبرياء و المدنيين في المناطق المختلفة.
من ناحية أخرى، شهدت الأيام القليلة الماضية عدداً من الهجمات قام بها حليف أمريكا ـ أي الكيان الصهيوني الغاصب ـ و استهدف المسلمين الأبرياء في شتى أنحاء فلسطين، و استخدم فيه أنواع الدبابات و الطائرات و السفن الحربية، و راح ضحية ذلك الكثير من المدنيين و الأطفال و المنازل و المدارس و المستشفيات. إنّه وضع مؤسف و غريب حقاً! فمتى تعي الأمّة الإسلامية و تفيق من غفلتها؟ إنّ كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي أصبحت مستهدفة من قبل الأعداء. و هم لا يكتفون بذلك، بل يزفون البشرى تلو البشرى بأنّهم سيستهدفون بلداناً أخرى كالعراق و الصومال!
إنّهم ينوون مداهمة العالم الإسلامي تحت ذريعة مكافحة الإرهاب و ذلك لتأمين مصالحهم و مطامعهم، دون أن يتعرّضوا بأي شيء لأكبر جهاز إرهابي في العالم ـ أي الكيان الصهيوني ـ و ليس هذا فحسب، إنّما لا يتخلون عن دعمه و إسناده في سائر المواقف. و نحن هنا نتسائل: إذا لم تكن مهاجمة الدور و المنازل الآمنة بالدبابات إرهاباً، فما هو شكل الإرهاب؟! و إذا لم يكن قصف السكان بواسطة مقاتلات الـ F 16 و الهليكوبترات إرهاباً، فكيف تكون صورة الإرهاب إذن؟!
إنّ هاتان القضيتان تعدّان اليوم من أهم القضايا، و بدوري سأتحدّث عن كل واحدة منهما بشكل منفصل.
أمّا بالنسبة للقضية الأفغانية: فنحن مسرورون إزاء وجود نوايا حقيقية لتشكيل حكومة ائتلافية تضم سائر الأطراف و القبائل و الطوائف الأفغانية و تضمن الصلح و الاستقرار و الثبات للشارع الافغاني.
فانتهاء الصراعات الدموية التي دامت أكثر من عشرين عاماً و كلّفت الشعب الأفغاني المظلوم الغالي و النفيس، يشكّل بالنسبة لنا خبراً عظيماً و بشرى سارة جداً، ذلك أنّ الشعب الأفغاني شعب مسلم يؤلمنا ما يؤلمه و يسرّنا ما يسرّه، و ثانياً: إنّ أفغانستان تقع إلى جوارنا و بالتالي فأمنها و استقرارها يمس أمننا و استقرارنا. فأي ناحية منها تكون مستقرة سينعكس ذلك على استقرارنا و سيكون بطبيعة الحال أمراً مرضياً بالنسبة لنا.
لكن علينا هنا الالتفات إلى عدّة أمور:
الأمر الأول: أنْ لا تحاول الولايات المتحدة الامريكية القيام بتوظيف قضية سقوط نظام طالبان لصالحها و تسجّله كنصر سياسي و فتح عظيم تم على يديها و تقوم بالترويج لذلك. إذ لا يخفى عليكم أنّه لو لا تدخّل الشعب الأفغاني و القوات و الميليشيات الأفغانية المنتشرة في كافة أرجاء افغانستان لما كان باستطاعة القصف الجوي إسقاط أي نظام سياسي. لقد كان للشعب الأفغاني الدور الأساسي في إنهاء نفوذ طالبان، و لو لا تدخل الشعب لاستمرّت امريكا بالقصف أسابيع و شهوراً مرتكبة أفضع الجرائم دون أن تحرز أي تقدّم.
الأمر الآخر هو: صحيح أنّ هناك على ما يبدو جهود حثيثة لتشكيل حكومة ائتلافية في افغانستان، لكنّ هذا الأمر يجب أن لا يكون سبباً في تناسي الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة في أفغانستان.
إنّ الشعب الأفغاني ليس هو الوحيد المعني بهذه القضية، فكل شخص يكون بمقدوره تمييز الحقائق و تقييم أداء الدول و سلوكها، و اتخاذ المواقف منها، يدين هذا الظلم و يرفضه. و ذلك أمر ليس من شأنه أن يمحى من ذاكرة الشعوب، بل سيبقى محفوراً في ذاكرة التأريخ و شاهداً على مر الأجيال.
الأمر الثالث الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار، هو أنّنا لن نتدخّل في الشأن الأفغاني على الإطلاق ـ من يأتي على رأس السلطة و من لا يأتي ـ لكنّنا في الوقت ذاته نقف إلى جانب الشعب الأفغاني و ندعمه، على غرار ما كان عليه الأمر منذ أكثر من عقدين حيث لم يأل الشعب الإيراني و حكوماته المتتابعة جهداً في خدمة الشعب الأفغاني المسلم.
إنّ قوافل المعونات التي تمّ إرسالها الأسبوع المنصرم، تستحق غاية المدح و الثناء و الشكر للشعب الإيراني الكريم، و أنا أجد من واجبي أن أتقدّم بالشكر الجزيل لكل من أسّس و ساهم و شارك و عمل على إرسال الهدايا للشعب الأفغاني الشقيق.
لقد كان الأفغان ـ الشعب الأفغاني المتواجد في أفغانستان و الجالية الأفغانية المتواجدة على أراضينا ـ على مدى أكثر من عقدين يتمتّعون بحماية الدولة الإيرانية و شعبها. فنحن ندعم الشعب الأفغاني، و لا بدّ أنّ تكون الحكومة التي تتولّى شؤون هذا الشعب، تتمتّع بتأييده و قبوله.
كما أود أن أشير إلى أنّ على كل حكومة تود استقطاب تأييد هذا الشعب ـ الذي عانى ويلات الحروب و النضال لأكثر من خمس و عشرين عاماً ـ أنْ تلتفت إلى أمرين مهمّين: الأول: الإسلام، و الثاني: الاستقلال. فالشعب الأفغاني شعب مسلم، متمسّك بمبادئ الدين الإسلامي. معنى ذلك أنّ أصول الإسلام و مبادئه تعتبر خطاً أحمر بالنسبة لهذا الشعب، و بالتالي فكل حكومة تنوي تسطيح العامل الإسلامي في المجتمع تملقاً منها للغرب و الأمريكان، عليها أن تعلم أنّها ستسقط من أعين الشعب الأفغاني و لن يكون لها أي مستقبل في هذا البلد.
إنّ الشعب الأفغاني كان و لا يزال يناضل من أجل الإسلام و نيل الاستقلال. إنّ هؤلاء قوم لا يركعون للأجنبي و لا يخضعون لأي محتل، فمثلاً الصفعة التي تلقاها السوفيات في أفغانستان لم يتلقوا مثلها في أي واحدة من بلدان أوربا الشرقية. فقد حدث في كل من دول هنغاريا و تشيكوسلفاكيا و بولندا مثل ما حدث في افغانستان ـ من اقتحام للقوات السوفيتية ـ لكن أيّاً من هذه الدول، التي دخلها الجيش السوفيتي السابق و احتلّها، لم تؤلم الاتحاد السوفيتي بمثل ما آلمته صفعة الأفغانيين. و قد لاحظتم مؤخراً الموقف الحازم و الصريح للأفغان إزاء تدخّل بعض الدول العدوانية في الشأن الأفغاني الأمر الذي يعكس حجم الغضب و التذمّر الذي يشعر به هذا الشعب إزاء التدخّل الأجنبي.
إنّ على كل جهة تتولّى سدّة الحكم في افغانستان ـ بغض النظر عن طبيعة الجهة التي تتولّى الحكم، و كيفية إدارتها لشؤون البلاد ـ أن تركّز على عنصري الإسلام و الاستقلال، كي تتمكّن من إعادة الأمن و الاستقرار للبلد.
الأمر الآخر الذي أود الإلفات له: أنّ على سائر القبائل و القوميات المنتشرة في افغانستان ـ البشتو، و الطاجيك، و الهزاره، و الهرات، و الأزبك، و الغزلباش، و غيرهم من القبائل الصغيرة الأخرى ـ الاتحاد فيما بينها و تجنّب الخلافات بكل أشكالها و أنماطها، سواء أكانت قومية أم عنصرية أم طائفية، و أن يجهدوا للعيش إلى جانب بعضهم البعض، و تحمّل بعضهم البعض الآخر، كي يتمكنوا من بناء البلد الذي دمّره الأعداء و المحتلون، و عزّزت ذلك الحروب الداخلية و التعصّبات القومية و الطائفية. على الجميع أن يتحد و يتعاون و يتعاضد من أجل ذلك.
كما و ليعلم الأمريكان و البريطانيون و الغربيون بصورة عامة، أنّهم غير قادرون على إحراز أهدافهم و تحقيق مآربهم و أطماعهم عبر التواجد على الأراضي الأفغانية. فلو عزموا على البقاء في أفغانستان تحت أي ذريعة و مسمّى، فليعلموا أنّهم يضعون أنفسهم في مواجهة الشعب الأفغاني برمّته، و سيتعرّضون لضربات موجعة من هذا الشعب.
إنّنا نرفض كل أشكال التدخّل في الشأن الأفغاني و نرفض السياسات التي تتبعها الدول المهيمنة و المعتدية و المحتلة في أفغانستان. و في الوقت ذاته ندعو إلى انسياب المعونات و المساعدات الدولية التي تساهم في بناء البلد و إنقاذه من الدمار، بشرط أن لا تصاحبها قرارات تساهم في تكريس النفوذ و الهيمنة.
أمّا بالنسبة للقضية الفلسطينية، فهناك أمر مهم يجب على العالم الإسلامي الالتفات له و التركيز عليه، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدأ الرأي العام العالمي يتحوّل باتجاه مراقبة هذه الأحداث و ما تلاها من الهجوم على أفغانستان و غيره، الأمر الذي أوجد حالة من الغفلة عن القضية الفلسطينية ممّا دفع بالكيان الصهيوني لاستثمار هذا الواقع و تشديد حملاته و مداهماته للمدن الفلسطينية و ارتكاب أفظع الجرائم بحق الفلسطينيين. و قد بلغت جرائمه في الأشهر الأخيرة حدّاً قام معه باقتحام المدن و المنازل السكنية بالدبابات و غيرها من الآليات العسكرية. و هكذا استثمر الصهاينة أحداث الحادي عشر من سبتمبر أفضل استثمار، و على العالم الإسلامي أن يلتفت إلى هذا الأمر و يهتم به و يتعاطى معه بكل مسؤولية.
طبعاً لا بد من الالفات إلى أنّه لا أحد يبرئ ساحة الأمريكان من المساهمة في ارتكاب هذه الجرائم. فالأمريكان قاموا بمهاجمة أفغانستان تحت ذريعة الإرهاب، و قاموا باعتقال عدد من الأشخاص على أنّهم ارهابيين، لكنهم بالنسبة لحالات القمع و الإرهاب التي تمارس بحق الفلسطينيين، لم يظهروا أي أسف أو اعتراض، ليس هذا و حسب إنّما قاموا بالدعم و التأييد أيضاً!
إنّه لأمر يثير الدهشة و الغرابة حقاً، و هو في الوقت ذاته يشكل عبرة للرأي العام العالمي، فما هذه الإزدواجية في المواقف؟ ثمّ ألا يستحي هؤلاء أن يتحدّثوا عن حقوق الإنسان و الحريات و حقوق الشعوب، ثم يدعمون و يؤيدون كل أعمال العنف و الارهاب و القمع الوحشي؟!
للأسف! لقد فشل كل من الأمريكان و البريطانيين فشلاً ذريعاً في تقديمهم التبريرات للرأي العام العالمي. و برأيي إنّ القيادات الأمريكية قد أوهنت شعبها و أهانته و جعلت موقفه مخجلاً على مدى التاريخ. و هكذا حال القادة البريطانيين، فقد أهين الشعب بسببهم و أصبح موقفه مخجلاً.
و مما يؤسَف له ما آل إليه الموقف البريطاني اليوم، إذ أصبحت بريطانيا تؤدي دور المروّج السياسي و تقوم بمهمة الحادلة التي تعبّد الطريق للأمريكان.
إنّ هذه الدولة التي كانت في يوم من الأيام شيخاً للمستعمرين بحيث لم تشهد المنطقة تاريخاً مظلماً كالتأريخ الذي طوته منذ القرن و نصف القرن من الزمان، فالبصمات السوداء و الجرائم التي خلفتها بريطانيا في كل من شبه القارة الهندية، و في افغانستان، التي نحن بصدد الحديث عنها، و في بلدنا، و في العراق و فلسطين لن تمحى من ذاكرة شعوب هذه البلدان، و الآن و بعد أن فقد هذا العجوز موقعه السياسي السابق المرتبط بالمرحلة الاستعمارية، بدأ يتحوّل إلى دلاّل صغير و مروّج و تابع للسياسة الامريكية، فكلما صدر قرار ما عن الادارة الامريكية سارعت بريطانيا لدعمه و تأييده.
إن الحكومتين الأمريكية و البريطانية تتحمّلان معاً مسؤولية كل هذه الجرائم ـ التي وقعت و تقع على الفلسطينيين ـ ذلك أنّهما شجّعا الكيان المجرم على الاستمرار في جرائمه.
طبعاً ليعلم الجميع إنّ هذه المساعي سوف لن تحل مشكلة الصهاينة. فالحكومة الصهيونية أصبحت اليوم في بركة من الوحل لا تدري كيف السبيل للخروج منها. إنّ الغصب و الظلم لا تحمد عقباهما، و ما نجده اليوم إنما هو نتيجة طبيعية كان من المفروض أن تحصل للصهاينة، و هناك أيام أكثر سوءاً بانتظارهم.
إنّ ما يثير غضب الصهاينة هو هذه الانتفاضة التي تشاهدونها. فجميع الجهود و المساعي الصهيونية و الأمريكية و سائر المخططات و البرامج التي توضع هي من أجل القضاء على الانتفاضة.
لكن يا ترى ما المراد من الانتفاضة؟ الانتفاضة تعني ثورة الشعب من أجل إحقاق حقّه، الشعب الذي صودرت أراضيه، و منازله، و أمواله، و حقوله و مزارعه، ثمّ أهين، و عومل كأقلية مهانة في بلاده المغصوبة. صحيح إنّ هذا الشعب قد تهاون في يوم من الأيام، لكنّ شبابه اليوم نزلوا إلى الساحة، إلى ساحة المعركة و النضال، فهؤلاء الشباب يملكون من الجرأة و الشجاعة ما يبعث فيهم العزم على مواجهة جيش مدجج بالعدّة و السلاح، بالحجارة و الحصى فحسب، و قد حققّوا بذلك انتصارات كثيرة و أصبحوا يشكلون عقبة كأداء أمام العدو لدرجة أنّه أصبح عاجزاً عن تطويق الانتفاضة. فمنذ أكثر من عام على انطلاقها بقيت انتفاضة المسجد الأقصى متوقدة دون أنْ يتمكن الكيان الصهيوني من إخمادها و دون أن يعرف السبيل إلى ذلك.
إنّ جل مساعيهم تستهدف إطفاء هذه الشعلة المقدّسة و القضاء على ثورة الحق هذه. لذلك بدأوا بمضاعفة الضغوط على الناس، ففي الأيام الأخيرة الماضية بدأ الشعب الفلسطيني المظلوم و مدارسه و أطفاله يعاني أقسى الضغوط و الآلالم.
إنّ الجميع مكلّف إزاء هذا الواقع، و بالدرجة الأولى الدول الإسلامية، و مقدمة عليها الدول العربية، فجميعهم يتحمّل المسؤولية. و قد علمنا أنّ الأيام القلائل القادمة ستشهد انعقاد قمة الدول العربية، و نحن مع هذه القمّة، فليعقد مؤتمر الدول الإسلامية، و لتعقد القمّة العربية و ليجدوا حلا لهذه القضية. إنّ عليهم أن يستثمروا مصادر الطاقة الهائلة و الثروة العظيمة المتراكمة و الأعداد البشرية الكبيرة، و إمكانات العالم الإسلامي الزاخرة و قوّة الطرح في المحافل الدولية، في الدفاع عن الشعب الفلسطيني. و أنْ لا يكتفوا بمجرّد مذكّرة أو كلمة خجولة تقال في هذا المحفل الدولي أو ذاك، بل عليهم أنْ يهدّدوا الولايات المتحدّة بقطع العلاقات و اتخاذ مواقف حاسمة منها، و يدعوا الأنظمة الأوربية للتدخّل.
إنّ الأوربيين اليوم يمرون بامتحان عسير. عليهم أن يخوضوا امتحانهم في الدفاع عن حقوق الانسان و الحريات ـ التي ينادون بها ـ بجدارة. فكيف يلتزمون الصمت إزاء هذا الحجم من الانتهاك و الظلم و القمع الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني؟! طبعاً هناك من الدول الأوربية من صرّح ببعض الكلمات الخجولة. لكنّ هذا لا يكفي على الاطلاق. على المؤتمر الإسلامي و على الدول الإسلامية أن تتحمّل مسؤوليتها بكل جدارة.
أمّا بالنسبة لكم أيّها الأحبة، أيّها الشعب الإيراني الكريم! و يا شعوب العالم الإسلامي أجمع! فإنّ أهم عامل مؤثّر و حاسم في مثل هذه القضايا، هو إرادة الشعوب. فالشعوب هي التي ترغم الحكومات على الاستجابة لمطاليبها و ذلك بالضغط عليها. فيوم القدس العالمي على الأبواب، و على الجماهير المسلمة أن تعلن غضبها من الكيان الصهيوني و من حلفائه، و من كلّ من سكت عن الجرائم و اتخذ موقفاً حيادياً من القضية الفلسطينية.
و لا يخفى أنّ جميع العلماء المسلمين في شتى أرجاء العالم الإسلامي، و سائر النخب و المفكرين يتحمّلون جزءاًً هامّاً من المسؤولية. و يجب أنْ لا يخضع العلماء المسلمون و الدول الإسلامية للضغوط الأمريكية فيتخذوا مواقف مناهضة للإسلام كما لاحظنا حصول مثل هذا الأمر في الآونة الأخيرة عندما شهد العالم الإسلامي موقف أو موقفين من هذا القبيل.
إنّ على علماء الدول الإسلامية و مثقفيها و شعرائها و خطبائها و كتّابها و فنانيها و طلابها أن يساهموا في الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم ـ و هذه مسؤولية تقع على عاتقهم ـ فمساهماتهم لها دور فاعل و مؤثر في حماية هذا الشعب المظلوم. إنّ الكلام وحده ليس كافياً، فلا بدّ من توحيد الجهود الشعبية و اتخاذ المواقف الحاسمة التي لا شكّ أنّ تأثيرها سيكون أجدى من أي مساعدات و إعانات تصل إلى هذا الشعب. إنّ هذا تكليف ملزم، نسأل الله تعالى التوفيق للجميع بغية أداء تكليفهم هذا على أتمّ وجه.
وإنّني على يقين، أنّ يوم القدس ـ الذكرى الخالدة التي تركها لنا الإمام الراحل ـ في عامنا هذا سيفوق سائر الأعوام الماضية حضوراً و مشاركةً و تفاعلاً ـ كما فاق يوم القدس الماضي سائر السنوات التي سبقته ـ و سيعلن العالم الإسلامي موقفه للصهاينة الغاصبين، الذين بدأت قشعريرة الخوف تدب في مفاصلهم يوماً بعد يوم. أمّا ما تشاهدونه في الإعلام من التهويل للقدرات الصهيونية فهو لا يدل على وجود قوّة حقيقية للصهاينة، فالكيان الصهيوني بدأ يقترب شيئاً فشيئاً من نهاية عمره المليء بالاستبداد و القمع و الجريمة، و سيأتي إن شاء الله اليوم الذي يشهد فيه المسلمون عودة الأرض الفلسطينية إلى أحضان شعبها و إدارتها من قبلهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ و الفَتْحُ * و رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ و اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (13)
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الهوامش
1) سورة البقرة: الآية 207.
2) تحف العقول: ص 185.
3) نهج البلاغة: الكتاب 45.
4) المصدر نفسه.
5) نهج البلاغه، الكتاب 5؛ «إن عملك ليس بطعمة و لكنه في عنقك أمانة».
6) بحار الأنوار، ج 40، ص 328.
7) نهج البلاغة، الخطبة 232، (في جوابه عليه السلام لعبد الله بن زمعة).
8) نهج البلاغة، الخطبة 27.
9) نهج البلاغة، الكتاب 53.
10) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
11) نهج البلاغه، الخطبة 25.
12) بحار الانوار، ج 42، ص 282 (باختلاف يسير في العبارة الأولى)
13) سورة التوحيد: الآيات1 ـ 4.
14) سورة النصر: الآيات1ـ 3.