بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلی يوم الدين.
من بين کلّ الشعوب الخاضعة للجور قلّما يعقد شعب عزیمته وهمته للقیام بثورة، ومن بین الشعوب التي ثارت ونهضت قلّما شوهد شعبٌ استطاع أن يصل بالأمور إلى خواتيمها ویُحافظ علی مبادئ الثورة بعد تغییره أنظمة الحکم. بید أنّ ثورة الشعب الإیراني العظیمة وهي أکبر الثورات في العصر الحدیث وأکثرها شعبیّة، هي الثّورة الوحیدة التي أمضت أربعین عاماً زاخرة بالمفاخر والأمجاد من دون خیانة لمبادئها، وصانت کرامتها وأصالة شعاراتها في مقابل کلّ المغريات الّتي بدت وکأنّها عصیّة علی المقاومة، ودخلت الآن في المرحلة الثانیة من البناء الذّاتي وبناء المجتمع وصناعة الحضارة. فتحیّة من أعماق القلب لهذا الشعب، وللجیل الذي بدأ هذا المشوار وواصله، وللجیل الذي دخل الآن مرحلة عالمیّة کُبری تتمثّل بالأربعین عاماً الثانیة من عمر الثورة.
یوم کان العالم مُقسّماً بین المعسكر الشّرقي والمعسكر الغربي المادیّین، ولم یکن أحد یتصوّر وقوع نهضة دینیّة کبری، نزلت الثورة الإسلامیة الإیرانیّة إلی الساحة باقتدار وعظمة وحطّمت الأطر التقلیدیة وأثبتت للعالم اهتراء الطروحات والصيغ الفكريّة النمطيّة؛ وطرحت الدین والدّنیا إلی جانب بعضهما البعض، وأعلنت عن بدایة عصر جدید. وکان من الطبیعي أن یُبدي زعماء الضّلال والجور ردّات فعل، غیر أنّ ردّات الفعل هذه کُتب لها الإخفاق. وعلى الرغم من کلّ ما قام به الیسار والیمین الحداثويّان من التظاهر بعدم سماع هذا الصوت الجدید والمختلف، إلی السعي الواسع والمتنوّع لإخماده، إلّا أنّهما اقتربا من أجلهما المحتوم. والآن بعد مرور أربعین احتفاليّة سنويّة للثورة وأربعین من "عشرة الفجر"، زال أحد قطبي العداء المذکورین، وراح الآخر یتخبّط في مشاكل تنمّ عن قرب احتضاره! أما الثّورة الإسلامیّة فلا تزال تواصل تقدمها إلی الأمام محافظةً علی شعاراتها والالتزام بها.
یُمکن افتراض مدّة زمنيّة معيّنة وتاريخ انتهاء صلاحيّة لکلّ شيء، إلا أنّ الشعارات العالمیة لهذه الثورة الدینیة مستثناة من هذه القاعدة، فهي لن تكون عدیمة التأثير والفائدة أبداً، لأّنّها متجذرّة في فطرة الإنسان في جمیع العصور. فالحریّة والأخلاق والمعنویة والعدالة والاستقلال والعزّة والعقلانیّة والإخوّة لا يختص أيّ منها بجیل أو مجتمع دون غیره، حتّی يتألق ويزدهر في حقبة ويأفل في أخری. لا یمکن أبداً تصوّر شعب یعرض عن هذه الآفاق المبارکة. ومتی ما حصلت حالة إعراض أو تبرّم کان السبب إعراض المسؤولین عن هذه القیم الدینیّة ولیس الالتزام بها والسعي لتحقیقها وتطبیقها.
والثورة الإسلامیّة بوصفها ظاهرة حیّة وذات إرادة، هي دوماً مرنة ومستعدّة لتصحیح أخطائها لکنّها لا تتقبل الاستئناف وليست منفعلة. إنّها تُبدي الحساسیّة الإیجابیّة حیال النّقد وتعدّه نعمة من الله وتحذیراً لأصحاب القول من دون عمل، لکنها لا تبتعد أبداً وتحت أيّ ذریعة عن قیمها الممتزجة ـ والحمد لله ـ بالإیمان الدینيّ للناس. والثورة الاسلاميّة بعد تشكيلها للنظام لم ولن تُصاب بالرکود والخمول والانطفاء، ولن تشهد تضاداً أو عدم انسجام بین الغلیان الثوري والنظام السیاسي والاجتماعي، بل ستبقی تدافع إلی الأبد عن نظریة النظام الثوري.
لیست الجمهوریة الإسلامیة متحجّرة وعدیمة الإحساس والإدراك مقابل الظواهر والظروف المتجدّدة، لکنّها ملتزمة أشدّ الالتزام بأصولها ومبادئها، وتتحسّس بشدّة لحدودها الفاصلة بینها وبین منافسیها وأعدائها. وهي لا تهمل أبداً طروحاتها الأساسيّة، ومن المهمّ بالنسبة لها أن تبقی وکیف تبقی. ولا شكّ في أن الفجوة بین ما ینبغي وما هو واقع، قد عذّبت ولا تزال تعذّب الضمائر المنادية بـ [تحقيق] المبادىء، بید أنّ هذه الفجوة يمكن طيّها وتجاوزها، وقد تمّ طيّها في بعض الحالات طوال الأعوام الأربعین الماضیة، ولا شكّ أنها ستُطوی بقوّة أکبر، بفضل حضور الجیل المؤمن المتدیّن العالِم المتحفّز.
لقد كانت ثورة الشعب الإيراني الإسلامیة ثورة قويّة، لکنّها عطوفة ومتسامحة بل مظلومة أيضاً. ولم ترتکب أعمالاً متطرّفة وانحرافيّة سبّبت العار لکثیر من النهضات والحرکات. ولم تُطلق الرّصاصة الأولی في أيّ معرکة حتّی مع أمریکا وصدّام، وعملت في کلّ الحالات علی الدفاع عن نفسها بعد هجوم العدو علیها، وبالطبع فقد سدّدت الضربات في ردودها بقوة. ولم تکن هذه الثورة منذ بدایاتها وإلی يومنا هذا عدیمة الرحمة ولا سفّاکة للدماء، وفي الوقت عينه لم تكن منفعلة ولا متردّدة. [بل] وقفت علانيّة وبشجاعة مقابل العتاة والمستكبرين ودافعت عن المظلومین والمستضعفین. هذه المروءة والشهامة الثوریّة، وهذا الصدق والصراحة والاقتدار، وهذا النطاق [الواسع] من العمل العالمي والإقلیمي إلی جوار مظلومي العالم، هو مصدر عزّة وفخر لإیران والإیرانیین، وسیبقی کذلك إلی الأبد.
والآن ونحن على أعتاب فصل جدید من حیاة الجمهوریة الإسلامیة، أرغب أن أتحدّث إلى شبابنا الأعزاء، الجیل الذي نزل ميدان العمل من أجل أن یبدأ جانباً آخر من الجهاد الکبیر لبناء إیران الإسلامیة الکبری. کلامي الأول حول الماضي.
أعزّائي، لا یمکن معرفة المجهول إلا عن طریق التجربة أو الإصغاء لتجارب الآخرین. الکثیر مما شهدناه وجرّبناه لم یُجرّبه جیلکم بعد ولم یشهده. لقد شهدنا [بدورنا] وسوف تشهدون. إنّ السنوات والعقود المقبلة هي عقودکم، وأنتم من یجب أن تحموا ثورتکم بخبراتکم واندفاعكم وتُقرّبوها مهما أمکن من هدفها الکبیر ألا وهو إیجاد الحضارة الإسلامیّة الحدیثة والاستعداد لبزوغ شمس الوليّ الأعظم (أرواحنا فداه). ولكي نخطو خطوات راسخة في المستقبل، علينا معرفة الماضي بشکل صحیح واستلهام الدروس والعبر من التجارب. وإذا ما غفلنا عن هذه الاستراتیجیّة فستحلّ الأکاذیب محل الحقیقة، وسیتعرّض المستقبل لتهدیدات مجهولة. إنّ أعداء الثورة يعملون، وبدوافع قویّة، علی تحریف الماضي وحتّی الحاضر ونشر الأکاذیب، ویسخّرون في سبيل ذلك الأموال ويستفيدون من کل الأدوات والوسائل. وقُطّاع طرق الفکر والعقیدة والوعي کُثر، ولا یمکن سماع الحقیقة من العدوّ وجنوده.
لقد انطلقت الثورة الإسلامیة والنّظام المنبثق عنها من نقطة الصفر. فأولاً، کان کلّ شيءٍ ضدّنا، سواء نظام الطاغوت الفاسد الذي کان بالإضافة إلی تبعیّته وفساده واستبداده وكونه نظاماً إنقلابيّاً، أوّل نظام ملکيّ یتولّی الحکم في إیران علی ید الأجانب ـ ولیس بقوّته ـ أو الحکومة الأمریکیّة وبعض الحکومات الغربیّة الأخری، أم الوضع الداخلي المتأزّم بشدّة، والتأخّر المخجل على صعيد العلم والتقنیّة والسیاسة والمعنویة وکلّ الفضائل الأخری.
ثانیاً: لم یکن أمامنا أيّ تجربة سابقة ونموذج يُحتذى، ومن البدیهيّ أنّ الثورات المارکسیّة وأمثالها لا یمکن عدّها نموذجاً لثورة انبثقت من صلب الإیمان والمعرفة الإسلامیّة. لقد بدأ الثّوار الإسلامیّون مشروعهم من دون نماذج وتجارب، ولم تتأتّ الترکیبة بین الجمهوریة والإسلاميّة، وأدوات تشکّلها وتطوّرها إلا بالهدایة الإلهیّة وبفضل القلب النیّر والفكر العظيم للإمام الخمینيّ. وكانت هذه أوّل تألّقات الثورة.
وعندها، بدّلت ثورة الشعب الإیراني العالم ثنائيّ القطب يومذاك إلی عالمٍ ثُلاثيّ الأقطاب، ثم بسقوط الاتحاد السوفیاتيّ والدول التابعة له، وظهور أقطاب قوّة جدیدة، أضحی التقابل الثنائيّ الجدید بین الإسلام والاستکبار الظاهرة البارزة في العالم المعاصر ومحطّ اهتمام شعوب العالم. فمن ناحیة، تسمّرت علیها الأنظار الآملة للشعوب الرازحة تحت نیر الظلم، والتیارات المطالبة بالتحرّر في العالم وبعض الحکومات التائقة للاستقلال، ومن ناحیة أخری تركّزت عليها الأنظار الحاقدة والمغرضة للأنظمة التعسفیة والعتاة المبتزین في العالم. وهکذا تغیّر مسار العالم وقضّ زلزال الثورة على الفراعنة مضاجعهم، فابتدأت العداوات الشديدة، ولولا قوة الإیمان العظیمة ودوافع هذا الشعب والقيادة الربّانيّة والمؤیّدة للإمام الخمینيّ العظیم لما أمکن المقاومة حیال کلّ هذه العداوة والظلم والمؤامرات والشرّ.
وعلی الرغم من کلّ هذه المشاكل الاستنزافیة قطعت الجمهوریة الإسلامیة یوماً بعد یوم خطوات أوسع وأكثر ثباتاً نحو الأمام. وقد شهدت هذه الأعوام الأربعون أنواع الجهاد الأكبر والمفاخر المتألقة والتقدم المذهل في إیران الإسلامیة. ویمکن استبيان عظمة التقدّم الذي حققه الشعب الإیراني في هذه الأعوام الأربعین بصورة جيّدة، عند مقارنة هذه الحقبة بالأحقاب المشابهة لها في ثورات کبری من قبیل الثورة الفرنسیة وثورة أکتوبر السوفیتیة وثورة الهند. لقد أوصلت الإدارة الجهادیة المستلهمة من الإیمان الإسلامي والإیمان بمبدأ «نحن قادرون»، الذي علّمه الإمام الخمیني الجلیل لنا جمیعاً، إیران إلی العزّة والتقدّم علی جمیع الأصعدة.
لقد أنهت الثورة مرحلة من الإنحطاط المزمن، وبدأت البلاد، التي تعرّضت خلال العهدین البهلوي والقاجاري لأّشد درجات الهوان والتخلّف، تسیر في طریق التقدّم السریع. ففي الخطوة الأولی بدّلت الثورة النظام الملکي الاستبدادي المخزيّ إلی حکمٍ شعبيّ وسیادة شعبیة، وأدخلت عنصر الإرادة الوطنیة الذي یمثل روح التقدّم الشامل والحقیقيّ، في صلب إدارة البلاد، ثم جعلت الشباب اللاعبین الأصلیین في الأحداث وأدخلتهم في ميدان الإدارة، ونقلت روحيّة «نحن قادرون» إلی الجمیع، وبفضل الحظر الذي فرضه الأعداء علّمت الجمیع الاعتماد علی القدرات الذاتيّة، فکان هذا مصدر خیرات وبرکات کثیرة:
أولاً: ضمنت استقرار البلاد وأمنها ووحدة أراضیها وصیانة حدودها التي تعرّضت لتهدیدات جادّة من قبل الأعداء، واجترحت معجزة الانتصار في حرب الأعوام الثمانیة وهزیمة النظام البعثي وحماته الأمریکان والأوروبیّین والشرقیّین.
ثانیاً: أضحت الداینمو المحرّك للبلاد في میادین العلم والتقانة، وإيجاد البنی التحتیة الحیویة والاقتصادیة والعمرانیة، التي لا تزال إلى الآن ثمارها الیانعة تزداد وتتضاعف یوماً بعد آخر. فآلاف الشرکات علمیّة المحور، وآلاف المشاریع الخاصة بالبنی التحتیة والضروریة للبلاد في مجالات العمران والنقل والمواصلات والصناعة والطاقة والمعادن والصحة والزراعة والمیاه وغیر ذلك، وملایین الخرّيجين الجامعیین أو الطلاب الحالیین، وآلاف الوحدات الجامعیة في شتّی أرجاء البلاد، وعشرات المشاریع الکبرى من قبیل دورة الوقود النووي، والخلایا الجذعیة، وتقنیّات النانو، وتقنیات الأحیاء، وغیرها، وبرتب أولی علی مستوی العالم کلّه، وازدیاد الصادرات غیر النفطیة إلی ستین ضعفاً، وزیادة الوحدات الصناعیة إلی ما یقارب العشرة أضعاف، وتحسّن جودة الصناعات عشرات الأضعاف، وتبدیل الصناعات التجمیعیة إلی تقنیات محلیة، والتمیّز الملحوظ في الحقول الهندسیة المتنوعة بما في ذلك الصناعات الدفاعیة، والتألّق في الفروع الطبیّة المهمّة والحسّاسة واکتساب موقع مرجعيّ فیها، وعشرات النماذج الأخری من التقدم، کانت کلّها حصیلة تلك الروح وتلك المشارکة وذلك الشّعور العامّ الذي حقّقته الثورة للبلاد. لقد کانت إیران قبل الثورة في درجة الصفر من حیث إنتاج العلم والتّقانة، ولم یکن لها في الصناعة من میزة سوی التجمیع والمونتاج وفي العلوم سوی الترجمة.
ثالثاً: أوصلت المشارکة الشعبیّة في القضایا السیاسیّة، من قبیل الانتخابات ومواجهة الفتن الداخلیّة والمشاركة في المواقف والمراحل الوطنیّة ومقارعة الاستکبار إلی الذّروة، وزادت بنحوٍ ملحوظٍ، الأنشطة الاجتماعیة من قبیل المساعدات والنشاطات الخیریة التي کانت قد انطلقت منذ ما قبل الثورة. وبعد الثورة صار الناس یشارکون بشوق فیما یشبه السباق لتقدیم الخدمات في الحوادث الطبیعیة والنواقص الاجتماعیة.
رابعاً: ارتقت الثورة بمستوی التفكير السیاسي لأبناء الشعب ونظرتهم للقضایا الدولیّة بنحو مذهل. وأخرجت عملیات التحلیل السیاسي وفهم القضایا الدولیة في موضوعات من قبیل، جرائم الغرب وخصوصاً أمریکا، وقضیة فلسطین والظلم التاریخي الذي حلّ بشعبها، وقضیة إشعال القوی المستكبرة للحروب وممارساتها الخبيثة وتدخّلاتها فی شؤون الشعوب وما إلی ذلك، أخرجتها من كونها محصورة بشریحة محدودة ومعزولة تُعرف بالمستنیرين، فانتشرت مثل هذه الاستنارة بین عموم الشعب وفي کلّ البلاد وعلی مستویات الحیاة كافّة، وأضحت مثل هذه القضایا واضحة ممکنة الفهم حتّی للأحداث والیافعین.
خامساً: رجّحت کفّة العدالة في توزیع خیرات البلاد العامة. وعدم رضايَ عن فاعلیة العدالة في البلاد، لكون هذه القیمة السامیة (العدالة) یجب أن تتألق کجوهرة فريدة علی جبين نظام الجمهوریة الإسلامیة، وهو ما لم یحصل بعد، ینبغي أن لا یُفهم منه عدم حصول شيءٍ من أجل تکریس العدالة. والواقع أن حصيلة الکفاح ضد اللاعدالة خلال هذه العقود الأربعة لا یمکن مقارنتها بأيّ حقبة أخری في الماضي. ففي نظام الطاغوت کانت أکثر الخدمات ومداخيل البلاد تختص بفئة صغیرة من سکان العاصمة أو أمثالهم في مناطق أخری من البلاد. وکان أهالي معظم المدن وخصوصاً المناطق النّائیة والقری والأریاف في نهایة القائمة وغالباً ما کانوا محرومین من احتیاجاتهم الأولیة والأساسیة والخدميّة. وتُعدّ الجمهوریة الإسلامیة من أنجح الحکومات والدّول في العالم في نقل الخدمات والثروة من المرکز إلی کلّ أنحاء البلاد، ومن مناطق المرفهین في المدن إلی مناطق المحرومین. وإنّ الإحصائیات والأرقام الکبری لمدّ الطرق وبناء البیوت وتشیید المراکز الصناعیة وإصلاح الشؤون الزراعیة وإیصال الکهرباء والماء وإنشاء المراکز العلاجیة والوحدات الجامعیة وبناء السدود ومحطات الطاقة الكهربائيّة وما إلی ذلك، في أقصی مناطق البلاد لهي أرقام تبعث علی الفخر والاعتزاز حقاً؛ ولا شكّ أن کلّ هذا لم ینعکس في الإعلام الناقص للمسؤولین، ولم تعترف به ألسنة الخصوم الخارجیین والداخلیین، إلا أنه واقع قائم وموجود وهو حسنة للمدراء الجهادیین المخلصین عند الله وعند الناس. وبالطبع، فإنّ العدالة المتوقعة في الجمهوریة الإسلامیة التي ترغب في أن تعرف باتّباعها للحکومة العلویة، هي أکثر من هذا بکثیر، وأعین الأمل في تحقیقها مسمّرة علیکم أیها الشباب، وهو ما سوف أتطرّق له في تتمّة حديثي.
سادساً: رفعت من مستوی المعنویة والأخلاق في أجواء المجتمع العامة بشکل ملحوظ. وسلوك الإمام الخمیني وسيرته طوال فترة الکفاح وبعد انتصار الثورة کان له السهم الأوفر في إشاعة هذه الظاهرة المبارکة. لقد تولی ذلك الإنسان المعنوي العارف الورع المنزه عن زخارف الحياة والمظاهر الماديّة رئاسة بلاد، أرصدة إیمان شعبها ذات جذور عمیقة للغایة. ومع أن ید التطاول للإعلام المروّج للفساد والتحلّل طوال العهد البهلوي قد وجّهت لهذه الأرصدة ضربات شدیدة، وجلبت مستنقعاً من الأدران الأخلاقيّة الغربیة إلی داخل حیاة الطبقة المتوسطة وخصوصاً الشباب، إلا أن التوجّه الدیني والأخلاقي في الجمهوریة الإسلامیة اجتذب القلوب الموهوبة والنورانیة، ولا سیما الشباب، فتغیرت الأجواء لصالح الدین والأخلاق. وقد ترافق جهاد الشباب في المیادین الصعبة بما في ذلك ساحة الدفاع المقدّس مع ذکر الله والدعاء وروح الإخوّة والإیثار، وأحيى أحداث صدر الإسلام ووضعها نصب أعین الجمیع. وقد ضحّی الآباء والأمهات والزوجات بفعل شعورهم بالواجب الدیني بأحبّائهم الذین سارعوا إلى جبهات الجهاد المتنوعة، وبعد ذلك عندما واجهوا جثامینهم الدامیة أو أجسادهم الجريحة أرفقوا المصیبة بالشکر. وعمرت المساجد وسادت الأجواء الدینیة بشكل غیر مسبوق. وامتلأت طوابیر الاعتکاف بآلاف الشباب والأساتذة والطلبة الجامعیین والنساء والرجال، کما امتلأت طوابیر المخیمات الجهادیة وجهاد البناء وتعبئة البناء بآلاف الشباب المتطوّعین المضحّین. وازدادت الأعمال العباديّة من الصلاة والحج والصیام والمشي للزیارة والمراسم الدینیة المختلفة والإنفاقات والصدقات الواجبة والمستحبة في کلّ مکان وخصوصاً بین الشباب، وهي إلی الیوم فی ازدیاد وازدهار مطّرد من حیث العدد والنوعیة. وقد حدث هذا کلّه في زمن تسبّب فیه الانحطاط الأخلاقي المتزاید للغرب وأتباعه، ودعایاتهم الهائلة لجرّ الرجال والنساء إلی مستنقعات الفساد، بانعزال الأخلاق والمعنویة في مناطق کثیرة من العالم، فکانت هذه معجزة أخری للثورة ونظامها الإسلامي الفعّال والرّیادي.
سابعاً: برز أكثر ويوماً بعد يوم، رمز الصمود العظیم والمجید والمهیب بوجه العتاة والمستبدّين والمستکبرین في العالم وعلی رأسهم أمریکا الناهبة المجرمة. فطوال هذه الأعوام الأربعین کان عدم الاستسلام وحراسة الثورة وعظمتها وهیبتها الإلهیة ورأسها الشامخ المرفوع مقابل الحکومات المتکبرة والمستکبرة، کان دوماً سمة معروفة لإیران والإیرانیین وخصوصاً شباب هذا البلد. وقد اعترفت القوی الاحتکاریة في العالم، والتي وجدت حیاتها دوماً في التطاول علی استقلال باقي البلدان وسحق مصالحها الحیویة لأجل أهدافها المشؤومة، اعترفت هذه القوی بعجزها مقابل إیران الإسلامیة الثوریة. واستطاع شعب إیران في أجواء الثورة المحيية أولاً طرد عمیل أمریکا والعنصر الخائن للشعب من البلاد، وبعد ذلک وإلی الیوم حال بکل قوّة واقتدار دون عودة هیمنة القوى العالمیّة على البلاد.
أیّها الشباب الأعزاء، هذا جزء بسیط من العناوین الأساسیة لماضي الثورة الإسلامیة الممتد علی مدی أربعین عاماً، الثورة العظیمة الراسخة المتألقة التي ینبغي علیکم بتوفیق الله أن تخطوا الخطوة الواسعة الثانیة للتقدم بها.
وها هي حصیلة جهود أربعین عاماً أمام أنظارکم الآن، بلد وشعب مستقل، حرّ، مقتدر، عزيز، متدین، متقدم في العلوم، صاحب تجارب مهمّة، واثق ومتفائل، له تأثیره الأساسي في المنطقة وصاحب منطق متین في القضایا العالمیة وصاحب الرقم القیاسي في سرعة التقدّم العلمي، صاحب رقم قیاسي في الوصول إلی المراتب العلیا؛ في العلوم والتقنیات المهمة من قبیل الطاقة النوویة والخلایا الجذعیة والنانو والفضاء والطیران وغیر ذلک، ممیّز في نشر الخدمات الاجتماعیة، ممتاز في الدوافع الجهادیة بین شبابه، بارز في نسبة شبابه المؤهلین الکفوئین، والکثیر من الخصوصیات الأخری الباعثة علی الفخر، وهذه کلّها من ثمار الثورة ونتیجة التوجهات الثوریة والجهادیة. واعلموا أنّه لو لم تحصل هذه اللا مبالاة تجاه الشعارات الثوریة والغفلة عن السیاق الثوري في بعض المراحل من تاریخ الأربعین عاماً هذه ـ وهو ما حصل للأسف وتسبب في بعض الخسائر ـ لکانت مکتسبات الثورة أکثر من هذا بکثیر، ولکان البلد متقدّماً بأشواط في طریق الوصول إلی المبادئ الکبری، ولما كانت الکثیر من المشکلات موجودة الیوم.
تواجه إیران المقتدرة الیوم أیضاً کما في بدایة الثورة تحدّیات یخلقها لها المستکبرون، لکن بفارق ذی مغزی کبیر. إذا کان تحدّي أمریکا يومذاك يتمثّل بكفّ أیدی عملاء الأجانب أو إغلاق سفارة الکیان الصهیوني في طهران أو فضح وکر التجسّس، فالتحدّي الیوم سببه وجود إیران المقتدرة علی حدود الکیان الصهیوني، وإنهاء النفوذ غیر الشرعي لأمریکا في منطقة غرب آسیا، ودعم الجمهوریة الإسلامیة لکفاح المجاهدین الفلسطینیین داخل الأراضي المحتلة والدفاع عن الرایة الخفاقة لحزب الله والمقاومة في کلّ هذه المنطقة. وإذا کانت مشکلة الغرب في تلك المرحلة، الحیلولة دون شراء إيران أسلحة بدائیة، فإنّ مشکلته الیوم الحؤول دون نقل الأسلحة الإیرانیة المتطورة لقوات المقاومة. وإذا کانت أمریکا حينها تظنّ أنها بعدد من الإیرانیین البائعین لذممهم وبعدّة طائرات ومروحیات تستطيع التغلب علی النظام الإسلامي والشعب الإیراني، فإنّها الیوم تجد نفسها في مواجهة الجمهوریة الإسلامیة سیاسیاً وأمنیاً، بحاجة إلی تحالف کبیر من عشرات الحکومات المعاندة أو المرعوبة، وبالطبع، سوف تنهزم في المواجهة مع ذلک. إن إیران بفضل الثورة، تقف الآن في مکانة شامخة ولائقة بالشعب الإیراني في أنظار العالم، وقد تجاوزت الکثیر من المنعطفات الصعبة في قضایاها الأساسيّة.
بید أن الطریق الذي طوي وتمّ قطعه سابقاً لیس إلا جزءاً من المسار المجید نحو المبادئ السامیة لنظام الجمهوریة الإسلامیة. أمّا تتمّة هذا المسار والذي لن یکون علی أغلب الظن بصعوبة الماضي، فیجب أن یسار ویطوى بهممکم ویقظتکم وسرعة مبادرتکم أیها الشباب. وعلى المدراء الشباب، والمسؤولون الشباب، والمفکّرون الشباب، والناشطون الشباب في کلّ الساحات السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة والدولیة، وکذلک فی مجالات الدین والأخلاق والمعنویة والعدالة، أن یتحملوا المسؤولیّة ویستفيدوا من تجارب الماضي وعبره ودروسه، ویعتمدوا النظرة الثوریة والروح الثوریة والعمل الجهادي، ویجعلوا من إیران العزیزة نموذجاً تاماً للنظام الإسلامي المتقدم.
النقطة المهمة التي ینبغي علی صناع المستقبل أن یأخذوها بعين النظر هي أنهم یعیشون في بلد نادر من حیث الإمکانیات والطاقات الطبیعیة والبشریة، والکثیر من هذه الإمکانیات بقیت غیر مستفاد منها أو قلما استفید منها بسبب غفلة القيّمين والمسؤولين. وستستطیع الهمم العالیة ودوافع الشباب الثوریة أن تفعل هذه الإمکانیات، وتحقّق قفزة [نوعيّة] ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ من حيث التقدم المادي والمعنوي للبلاد.
إنّ الطاقة الأهم والباعثة علی الأمل في البلاد، هي الطاقات الإنسانیة الموهوبة والکفوءة التي تتحلی ببنیة تحتیة إیمانیة ودینیة عمیقة وأصیلة. فنسبة الشباب دون سنّ الأربعین بین سکان إیران، والتي كان الجزء الأكبر منها نتیجة المدّ السکانيّ الذي عمّ البلاد في الستینیات [الثمانینیات من القرن العشرین للمیلاد] تعدّ فرصة قیمة للبلاد. 36 ملیون نسمة تتراوح أعمارهم بین 15 و 40 عاماً، وقرابة 14 ملیون نسمة یحملون شهادات دراسات علیا، والمرتبة الثانیة عالمیاً في خریجی العلوم والهندسة، وحشود الشباب الذین نشأوا علی الروح الثوریة وهم مستعدون لبذل المساعي الجهادیة في سبیل البلاد، والعدد الملحوظ من الشباب الباحثین المحقّقین والمفکرین العاملین في مجال الإبداع العلمي والثقافي والصناعي وغیره، هذه کلّها ثروات عظیمة للبلاد لا یمکن مقايستها بأيّ ثروة ماديّة.
وما عدا ذلك، تشكّل الفرص والطاقات المادية في البلاد قائمة طويلة، يمكن للمدراء الكفوئين المتحفزين العقلاء من خلال تفعيلها واستثمارها زيادة المداخيل الوطنية بشكل ملحوظ، وجعل البلد ثريّاً غير محتاج، ومعتمداً على نفسه بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومعالجة المشكلات الراهنة. وإيران بتوفرها على واحد بالمائة من سكان العالم تمتلك سبعة بالمائة من احتياطي المعادن في العالم: فالمصادر الجوفية الهائلة، والموقع الجغرافي الاستثنائي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، الأسواق الوطنية الكبيرة، والأسواق الإقليمية الكبيرة، مضافاً إلى مجاورة 15 بلداً تحوي 600 مليون نسمة، والسواحل البحرية الطويلة، والأراضي الخصبة الصالحة للزراعة بمحاصيل زراعية متنوّعة، والاقتصاد الكبير والمتنوع، هي جزء من إمكانيات البلاد، والكثير من هذه الإمكانيات لا تزال غير مستثمرة. ويقال إن إيران هي الأولى عالمياً من حيث الإمكانيات الطبيعية والبشرية غير المستثمرة. ولا شك أنّكم أيها الشباب المتديّن الدؤوب ستستطيعون معالجة هذا النقص الكبير. والعقد الثاني من الخطّة العشرينيّة ينبغي أن يكون زمن التركيز على الاستفادة من الإنجازات السابقة وتفعيل الإمكانيات والطاقات غير المستثمرة، كما ينبغي للبلاد أن تتقدّم في مجالات منها قطاع الإنتاج والاقتصاد الوطني.
والآن أقدم لكم يا أبنائي الأعزاء بعض التوصيات بخصوص جملة من العناوين الأساسية. وهذه العناوين هي: العلوم والبحث العلمي، المعنوية والأخلاق، الاقتصاد، العدالة ومكافحة الفساد، الاستقلال والحرية، العزة الوطنية، العلاقات الخارجية تحديد الأطر والحدود مع العدو، ونمط الحياة.
لكن قبل كلّ شيء، توصيتي الأولى هي الأمل والنظرة المتفائلة للمستقبل، إذ لا يمكن خطو أي خطوة من دون هذا المفتاح الأساسي الفاتح لكل الأقفال. وما أتكلّم عنه هو الأمل الصادق المعتمد على الوقائع الخارجيّة. فلطالما ابتعدت عن الأمل الكاذب الخادع، ولكنّي حذرت وأحذر نفسي والجميع في الوقت عينه من اليأس في غير محله ومن الخوف الكاذب. لقد كانت السياسة الإعلامية للعدو طوال هذه الأعوام الأربعين ـ والآن أيضاً كما هي دوماً ـ وأبرز برامجها وأنشطتها منصبة على تيئيس شعبنا، وحتّى مسؤولينا ومدرائنا، من المستقبل. ولقد كانت الخطط الدائمة لآلآف الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والإنترنتية المعادية للشعب الإيراني تعتمد الأخبار الكاذبة، والتحليلات المغرضة، وقلب الوقائع والحقائق، وإخفاء المظاهر الباعثة على الأمل، وتضخيم العيوب الصغيرة وتصغير أو إنكار الإيجابيات الكبيرة. وبالطبع، يمكن مشاهدة أذنابهم وأتباعهم في داخل البلاد ممن يعملون على خدمة العدو مستغلين الحريات المتاحة. عليكم أنتم الشباب أن تكونوا رواداً في كسر هذا الحصار الإعلامي، فنمّوا في نفوسكم وفي نفوس الآخرين غرسات الأمل بالمستقبل، وانبذوا من نفوسكم ونفوس الآخرين الخوف واليأس. هذا جهادكم الأوّل والأهمّ. ومؤشرات الأمل ـ التي تمّت الإشارة إلى بعضها ـ نصب أعينكم، وحالات النماء في الثورة أكثر بكثير من حالات السقوط، والأيدي والقلوب الأمينة الخدومة أكثر بكثير من المفسدين والخونة والناهبين. والعالم ينظر بعين الإجلال والاحترام للشباب الإيراني والصمود الإيراني والإبداعات الإيرانية في كثير من المجالات. فاعرفوا قدر أنفسكم وجدّوا السير نحو المستقبل، بقوّة الله، واصنعوا الملاحم.
أما التوصيات:
1 ـ العلم والبحث العلمي: العلم هو الوسيلة الأبرز لعزة بلد ما وقّوته. فالوجه الآخر للعلم هو القدرة. وقد استطاع العالم الغربي بفضل علومه تحقيق الثروة والنفوذ والقوة لنفسه طوال مائتي عام، ورغم فقره من حيث الأسس الأخلاقية والعقائديّة، استطاع بفرضه أسلوب الحياة الغربي على المجتمعات المتأخرة عن قافلة العلم، الإمساك بزمام سياساتها واقتصادها. إننا لا نوصي باستغلال العلم كما فعل الغرب، إلا أننا نؤكّد، وبنحو قاطع، على حاجة البلاد لتدفّق ينابيع العلم بين ظهرانيها. والحمد لله أنّ المواهب العلمية والبحثية لدى شعبنا أعلى من المتوسط العالمي. فقد بدأت النهضة العلميّة في بلدنا منذ ما يقارب العقدين من الزمن، وتقدمت بسرعة كانت مفاجئة للمراقبين العالميّين، وهي سرعة تزيد بأحد عشر ضعفاً على متوسط النموّ العلمي في العالم. إن مكتسباتنا العلمية والتقنية خلال هذه المدة، والتي رفعتنا إلى المرتبة السادسة عشرة بين أكثر من مائتي بلد في العالم، وأذهلت المراقبين العالميين وارتقت بنا في بعض الحقول الحساسة والجديدة إلى المراتب الأولى، كلّها حصلت عندما كان البلد يتعرّض لحظر مالي وعلمي. ولقد سجلنا أرقاماً قياسية كبيرة على الرغم من سباحتنا عكس التيار الذي صنعه العدوّ، وهذه نعمة كبيرة يجب أن نشكر الله عليها ليل نهار.
إلّا أنّ ما أريد قوله هو أن هذا الطريق الذي طوي ما هو على أهمّيته سوى بداية ليس أكثر. إننا لا نزال متأخرين جداً عن قمم العلم في العالم، ويجب أن نصل إلى القمم. يجب أن نتخطى الحدود الراهنة للعلم في أهم الحقول والفروع. إنّنا لا نزال متأخرين عن هذه المرحلة كثيراً. لقد بدأنا من الصفر. وإنّ التأخر العلمي المخجل في العهدين البهلوي والقاجاري عندما كان السباق العلمي في العالم قد انطلق لتوه، وجه لنا ضربة قوية وأبقانا متأخرين فراسخ عن هذه القافلة المسرعة. لقد بدأنا الحركة والمسيرة الآن ونحن نتقدم فيها بسرعة، غير أن هذه السرعة يجب أن تستمر على شدتها لسنين طويلة للتعويض عن ذلك التأخر. ولطالما نبهت وحذرت ودعوت بحرارة وحسم وجدّ، الجامعات والجامعيّين ومراكز البحث العلمي والباحثين في هذا الخصوص، إلا أن مطالبتي العامة منكم أيها الشباب الآن هي تسيروا في هذا الدرب بمزيد من الشعور بالمسؤولية و[تعدّونه] كعمل جهادي. لقد تم وضع الحجر الأساس لثورة علمية في البلاد وقدّمت هذه الثورة شهداء من قبيل شهداء الطاقة النووية. فانهضوا وأفرضوا الفشل والإخفاق على العدوّ الحاقد الذي يضمر لكم السوء ويخاف من جهادكم العلمي أشد الخوف.
2 ـ المعنوية والأخلاق: المعنوية بمعنى تكريس القيم المعنوية من قبيل: الإخلاص والإيثار والتوكل والإيمان بالذات وبالمجتمع. والأخلاق بمعني مراعاة فضائل من قبيل حب الخير والتسامح ومساعدة المحتاجين والصدق والشجاعة والتواضع والثقة بالنفس وسائر الأخلاق الحسنة. فالمعنوية والأخلاق هي الموجّهة لكل الحركات والنشاطات الفردية والاجتماعية وهي حاجة أساسية للمجتمع، ووجودها يجعل من أجواء الحياة جنة حتى مع وجود النواقص المادية، وعدم وجودها يجعل الحياة جحيماً حتى مع التمتّع بالإمكانيات المادية.
كلّما نما الشعور المعنوي والضمير الأخلاقي في المجتمع أكثر، أثمر خيرات وبركات أكثر. ولا شك أنّ هذا بحاجة إلى جهاد وسعي، وهذا الجهاد والسعي لن يكتب له النجاح بشكل ملموس من دون مواكبة الحكومات له. والأخلاق والمعنوية حتماً، لا تتحقّقان عن طريق الأوامر والنواهي، وعليه، لا يمكن للحكومات تحقيقها عن طريق القوة القهرية، لكن عليها هي أولاً أن تتحلّى بالسِّيَر والسلوكيات الأخلاقية والمعنوية، وثانياً عليها أن تهيّىء الأرضية لإشاعتها وترويجها في المجتمع، وأن تتيح الفرص للمؤسسات الاجتماعية للعمل على هذا الموضوع، وتمد لها يد العون. كما عليها محاربة المؤسّسات المعادية للمعنوية والأخلاق بأسلوب معقول، وباختصار، أن لا تسمح للجهنميين أن يجعلوا الناس جهنميين بالقوة والخداع.
لقد وفّرت الوسائل الإعلامية المتطورة والشاملة إمكانيات خطيرة جداً للمراكز المعادية للمعنوية والأخلاق، وها نحن نرى الآن بأعيننا، الهجمات المتصاعدة للأعداء على القلوب الطاهرة للشباب والأحداث وحتّى الأطفال بالاستفادة من هذه الوسائل. تتحمّل الأجهزة الحكومية المسؤولة في هذا الخصوص واجبات جسيمة يجب أن تنهض بها بشكل ذكي ومسؤول تماماً. وهذا بالطبع لا يعني إسقاط المسؤولية عن الأشخاص والمؤسسات غير الحكومية. ويجب في المرحلة القادمة إعداد خطط وبرامج شاملة قصيرة ومتوسطة الأمد في هذا الخصوص والعمل على تطبيقها، إن شاء الله.
3 ـ الاقتصاد: الاقتصاد قضية مفتاحية مصيرية. والاقتصاد القوي نقطة قوة وعامل مهم في عدم الخضوع للهيمنة، وفي مناعة البلاد حيال النفوذ والتغلغل، والاقتصاد الضعيف نقطة ضعف ومقدمة لنفوذ الأعداء وهيمنتهم وتدخّلهم. الفقر والغنى يؤثّران في الشؤون الماديّة والمعنويّة للبشر. والاقتصاد بالطبع، ليس هدف المجتمع الإسلامي، لكنّه وسيلة لا يمكن تحقيق الأهداف من دونها. وما تأكيدي على تعزيز الاقتصاد المستقل للبلاد والقائم على الإنتاج الوفير ذي الجودة، والتوزيع العادل، والاستهلاك على قدر الحاجة ومن دون إسراف، والعلاقات الإدارية العقلانية، ما تأكيدي على كلّ ذلك في الأعوام الأخيرة وتكراري له سوى لذلك التأثير المذهل الذي يمكن للاقتصاد أن يتركه في حياة المجتمع حاضراً ومستقبلاً.
لقد بيّنت الثورة الإسلاميّة لنا طريق الخلاص من الاقتصاد الضعيف والتابع والفاسد في عهد الطاغوت، إلّا أنّ الأداءات الضعيفة عرّضت اقتصاد البلاد لتحدّيات خارجية وداخلية. التحدي الخارجي هو الحظر وإلقاءات العدوّ ومغرياته والتي ستكون قليلة التأثير أو حتّى عديمته في حال إصلاح المشكلة الداخلية. أمّا التحدّي الداخلي فعبارة عن العيوب البنيوية والضعف الإداري.
وأهمّ العيوب هي تبعية الاقتصاد للنفط، وتبعيّة بعض القطاعات الاقتصادية للحكومة والتي ليست من اختصاصها، والتركيز على الخارج وليس على القدرات والطاقات الداخلية، والاستثمار القليل للطاقات البشرية الداخلية، وإعداد الموازنات بشكل مختل وغير متوازن، وبالتالي عدم استقرار السياسات التنفيذية للاقتصاد وعدم مراعاة الأولويات، ووجود مصاريف إضافية بل وحتّى إسرافيّة في بعض أقسام الأجهزة الحكومية. ونتيجة لهذا، تحدث مشكلات في حياة الناس من قبيل بطالة الشباب وتدنّي مداخيل الطبقة الفقيرة وما شاكل.
وسبيل الحل لهذه المشكلات هو سياسات الاقتصاد المقاوم، الذي ينبغي إعداد خطط تنفيذية لكلّ جانب من جوانبه، ومتابعته وتطبيقه باقتدار ونشاط وشعور بالمسؤولية من قبل الحكومات. ومن الجوانب المهمة في هذه الحلول، التدفّق الداخلي في اقتصاد البلاد، وصيرورته اقتصاداً إنتاجيّاً وعلميّ المحور، والطابع الشعبي العام للاقتصاد وعدم تصدّي الحكومة له، والتوجّه نحو الخارج [وإقامة علاقات إقتصاديّة معه] من خلال استثمار الإمكانيات والطاقات التي سبق وتمّت الإشارة إليها. ولا شكّ في أنّ مجموعة شابة عالمة متدينة مؤمنة متمكنة في العلوم الاقتصادية داخل الحكومة ستستطيع تحقيق هذه المقاصد. وينبغي للمرحلة القادمة أن تكون ساحة لنشاط مثل هذه المجموعة.
ليعلم الشباب الأعزاء في سائر أنحاء البلاد أنّ كلّ الحلول هي في داخل البلاد، وأن يتصوّر شخص أن «المشكلات الاقتصادية ناجمة فقط عن الحظر، وسبب الحظر هو المقاومة ضد الاستكبار وعدم الاستسلام أمام العدو؛ فالحلّ إذاً، هو الركوع أمام العدوّ وتقبيل يد الذئب» فهذا خطأ لا يغتفر. هذا التحليل الخاطىء بكلّيّته، يصدر بين الحين والآخر على ألسنة بعض الغافلين الداخليين وأقلامهم، لكنّ مصدره مراكز الفكر والتآمر الخارجية التي تبثه وتوحي به بمائة لغة إلى صناع القرار وأصحاب القرار والرأي العام الداخلي.
4 ـ العدالة ومكافحة الفساد: هذان الأمران متلازمان. الفساد الاقتصادي والأخلاقي والسياسي كتلة مرَضيّة في البلدان والأنظمة، إذا ما أصابت هيكل الحكومات عرّضتها لزلزال مدمر ووجهت ضربة شديدة لشرعيتها؛ وهذه قضية جدّية وأساسيّة للغاية بالنسبة لنظام كنظام الجمهورية الإسلامية الذي يحتاج إلى شرعية أعلى من الشرعيات الدارجة وأشدّ رسوخاً من المقبوليّة الاجتماعيّة مقارنة بسائر الأنظمة. ومغريات المال والمنصب والرئاسة قد تتسببت بزلل أقدام البعض حتّى في أكثر حكومات التاريخ نزاهة أي حكومة الإمام علي أمير المؤمنين (علىه السلام) نفسها، وعليه، فمخاطر ظهور هذا التهديد في الجمهورية الإسلامية أيضاً، التي كان مدراؤها ومسؤولوها يوماً، يتسابقون في الزهد الثوري والبساطة في الحياة، غير مستبعد على الإطلاق، وهذا ما يتطلّب الحضور الدائم للأجهزة الكفوءة، ذات النظرة الثاقبة والتعاطي الحاسم، في السلطات الثلاث، فتحارب الفساد بالمعنى الحقيقي للكلمة، وخصوصاً داخل الأجهزة الحكومية.
وبالطبع، فإنّ نسبة الفساد بين المسؤولين في حكومة الجمهورية الإسلامية قليلة جداً، بالمقارنة مع كثير من البلدان الأخرى، خاصّة نظام الطاغوت الذي كان مملوءاً بالفساد من رأسه إلى أخمص قدميه، ومروجاً له، والحمد لله أنّ رجال هذا النظام قد حافظوا في الأعمّ الأغلب على نزاهتهم، لكن حتّى هذا المقدار الموجود غير مقبول. على الجميع أن يعلموا أن النزاهة الاقتصادية شرط لشرعيّة كلّ المسؤولين في دولة الجمهورية الإسلامية. على الجميع أن يحذروا من شيطان الطمع ويفروا من اللقمة الحرام وأن يستعينوا بالله في هذا الخصوص، وعلى الأجهزة الرقابيّة والحكومية أن تكافح، بحسم وبحساسية، انعقاد نطف الفساد ونموّها. وهذا الكفاح يتطلب أناساً مؤمنين ومجاهدين، ذوي نفوس عزيزة، وأيد نظيفة وقلوب نيرة. هذا الكفاح هو جزء مؤثر من المساعي الشاملة التي ينبغي لنظام الجمهورية الإسلامية بذلها في سبيل تكريس العدالة.
تقع العدالة في قائمة الأهداف الأولى لبعثة سائر الأنبياء، ولها في الجمهورية الإسلامية أيضاً المنزلة والمكانة ذاتها. إنّها كلمة مقدّسة في كلّ الأزمنة والبلدان ولن تتحقّق بشكلها الكامل إلا في دولة الإمام صاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه)، لكنها ممكنة بنسبة ما، في كلّ مكان وزمان، وهي فريضة على عاتق الجميع خاصّة الحكام والمقتدرين. وقد قطعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية خطوات واسعة في هذا السبيل، سبقت الإشارة إليها على نحو الإيجاز، وطبعاً ينبغي القيام بأعمال أكثر في إيضاح تلك الخطوات وشرحها لإحباط مؤامرة قلب الحقائق أو لا أقل الصمت والتعتيم التي تمثل في الوقت الحاضر المخطط الجاد لأعداء الثورة.
ومع كلّ هذا أقول بصراحة للشباب الأعزاء الذين يتطلع لهم مستقبل البلاد، يوجد بون شاسع بين ما تمّ إنجازه إلى الآن وما كان ينبغي أن يُنجز. ينبغي لقلوب المسؤولين في الجمهورية الإسلامية أن تخفق دوماً من أجل رفع الحرمان، وتخاف أشدّ الخوف من الفوارق الطبقية العميقة. إنّ اكتساب الثروة في الجمهورية الإسلامية ليس جريمة، بل هو موضع تشجيع وترغيب، لكنّ التمييز في توزيع المصادر والثروات العامة، وإتاحة الفرصة للانتهازيين والمحتكرين، ومداراة المخادعين الاقتصاديين، والتي تؤدّي كلّها إلى انعدام العدالة، هي ممارسات ممنوعة أشد المنع. كما أنّ الغفلة عن الشرائح المحتاجة إلى الدعم، غير مقبولة على الإطلاق. لقد ورد هذا الكلام مراراً على شكل سياسات وقوانين، لكنّ عيون الأمل مسمّرة عليكم أيها الشباب لتنفيذه تنفيذاً لائقاً، وإذا ما أُحيلت إدارة قطاعات البلاد المختلفة إلى الشباب المؤمن الثوري العالِم الكفوء ـ وهم ليسوا قلة بحمد الله ـ فسوف يتحقّق هذا الأمل إن شاء الله.
5 ـ الاستقلال والحرية: الاستقلال الوطني بمعنى انعتاق الشعب والدولة ممّا تفرضه القوى المهيمنة على العالم ومن عسفها وهيمنتها. والحرية الاجتماعية بمعنى حق اتخاذ القرار والعمل والتفكير لكلّ أفراد المجتمع. وهذان كلاهما من القيم الإسلامية، وكلاهما عطايا إلهية للبشر، وليس أيّ منهما تفضّل تجود به الحكومات على الشعوب. ومن واجب الحكومات تأمين هذين الأمرين. إنّ أكثر من يعرف أهمّيّة الحرية والاستقلال هم من حاربوا من أجلهما. ومن هؤلاء الشعب الإيراني بجهاده على مدى أربعين عاماً. والاستقلال والحرية الحاليان الموجودان في إيران الإسلامية هما إنجاز، بل ثمرة دماء مئات الآلاف من الأشخاص المتسامين الشجعان والمضحّين. وهم غالباً من الشباب، لكنّهم في المراتب الإنسانية الرفيعة. لا يمكن المخاطرة بثمرة شجرة الثورة الطيبة هذه، بالتأويلات والتبريرات الساذجة، والمغرضة أحياناً. من واجب الجميع ـ وخصوصاً حكومة الجمهورية الإسلامية ـ حماية هذا الإنجاز بكلّ كيانهم. ومن البديهي أن الاستقلال يجب أن لا يؤخذ بمعنى حصر سياسة البلاد واقتصادها داخل حدودها، كما لا ينبغي تفسير الحرية بشكل متعارض مع الأخلاق والقانون والقيم الإلهيّة والحقوق العامّة.
6 ـ العزة الوطنية والعلاقات الخارجية وتحديد الأطر والحدود مع العدوّ: هذه العناوين الثلاثة تفريعات لمبدأ «العزة، الحكمة، والمصلحة» في العلاقات الدولية. تشهد الساحة العالمية اليوم ظواهر تحققّت أو هي على وشك التحقّق والظهور: الحركة الجديدة لنهضة الصحوة الإسلامية على أساس نموذج المقاومة بوجه هيمنة أمريكا والصهيونية، وفشل سياسات أمريكا في منطقة غرب آسيا وعجز حلفائها الخونة في المنطقة، واتساع [رقعة] الحضور القوي لسياسة الجمهورية الإسلامية في غرب آسيا، وانعكاساته الواسعة في كلّ العالم المهيمن.
هذه بعض مظاهر عزّة الجمهورية الإسلامية التي لا تتأتّى إلا بشجاعة المسؤولين الجهاديين وحكمتهم. إنّ زعماء نظام الهيمنة قلقون، واقتراحاتهم عموماً تنطوي على الخداع والحيل والأكاذيب. إنّ الشعب الإيراني اليوم يعدّ فضلاً عن أمريكا المجرمة، بعض الحكومات الأوروبية أيضاً، مخادعة ولا يمكن الثقة بها. وعلى حكومة الجمهورية الإسلامية أن تحافظ على الحدود الفاصلة بينها وبينهم بدقة، ولا تتراجع عن قيمها الثورية والوطنية خطوة واحدة، وأن لا تخاف تهديداتهم الجوفاء، وأن تأخذ في جميع الأحوال، عزّة بلادها وشعبها بعين النظر، وتعالج مشكلاتها الممكنة الحلّ معهم بطريقة حكيمة، ووفق المصالح، وبالطبع من الموقع والمنطلق الثوري. أمّا فيما يخصّ أمريكا، فإنّ حلّ أيّ مشكلة غير متصوّر معها، والتفاوض معها لن يعود سوى بالخسائر والأضرار المادية والمعنوية.
7 ـ نمط الحياة: ما يلزم قوله في هذا المضمار كثير، فأتركه لمناسبة أخرى وأكتفي بنقطة واحدة هي، أنّ جهود الغرب لترويج أسلوب الحياة الغربي في إيران وإشاعته، قد عرّض بلادنا وشعبنا لأضرار أخلاقية واقتصادية ودينية وسياسية لا تعوض، ومواجهتها تتطلب جهاداً شاملاً وواعياً تتسمّر فيه عيون الأمل أيضاً عليكم أيها الشباب.
في الختام، أتقدّم بالشكر من الشعب العزيز على المشاركة المهيبة والباعثة على الفخر والمحطّمة [لآمال] الأعداء في الثاني والعشرين من بهمن والذكرى الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية العظيمة، وأمرّغ جبهتي على أعتاب الساحة الربوبية شكراً. السلام على الإمام بقية الله (أرواحنا فداه)، والسلام على الأرواح الطيّبة للشهداء الأجلّاء، والروح الطاهرة للإمام الخميني الكبير، وسلامي لكلّ أبناء الشعب الإيراني العزيز، وسلامٌ خاصّ للشباب.
الداعي لكم
السيد علي الخامنئي
22 بهمن 1397هـ.ش
11 شباط 2019م