كاتب: هادي قبيسي

 
طرح الإمام السيد علي الخامنئي "دام ظله" في لقاء خاص مع أعضاء المؤسسة العليا للفقه مبحثاً مقتضباً لكنه شديد الأهمية ما يجعل من التأمل فيه والتوسع في مطالبه تعمقاً وتفريعاً مهمة ذات بال، كيف وقد طرحه الولي الفقيه الواقف على الإشكالات المعاصرة التي تنبع منها آفاق الإبداع والتطور. طالب الإمام في خطابه بالبحث عن الآثار العملية الواقعية للفلسفة الإسلامية، وهو مبحث يخلص الفلسفة ذاتها من إشكالها العملي إذ وقعت في وادي النظر وفقدت اتصالها بالحياة، وهو مسار لا يهدف من وجهة نظر الإمام إلى إيجاد بديل فـ "ما يدير الحياة هو الفقه"(1) ، بل إن انفراد الفقه بالسبر العملي ونجاح الفقيه في إخراج الفقه إلى الحياة العامة، ناتج عن افتقار الفلسفة للإمتداد العملي "السبب هو أن الفلسفة الإسلامية لم يكن لها على مرّ الزمان امتداد عملي. بمعنى أن حكمتنا النظرية هذه لم تمتد وتتوسّع إلى الحكمة العملية. هذا والحال أنّ الفلسفات الغربية التي هي من حيث كونها فلسفات أقلّ محتوى وأضعف بكثير من الفلسفة الإسلامية، لها امتداداتها العملية. أي إنّكم إذا اعتقدتم مثلاً بفلسفة كانط أو هيغل أو ماركس فستكون لكم رؤيتكم حول نظام الحكم، وحول الفرد، وحول العلاقات الاجتماعية. أمّا ما هي مقتضيات فلسفة الملا صدرا أو فلسفة ابن سينا أو غيره في نظام الحكم أو القضية الفلانية فهذا ما لم يتّضح لنا منه شيء؛ لا أنّها لا تحتوي شيئاً، [بل] تحتوي بالتأكيد. وتوصيتي للفلاسفة والمشتغلين بالفلسفة كانت دوماً أن يجدوا هذه الامتدادات؛ لأنّني أعتقد أنّ لها آثاراً. هذا الامتداد موجود، لكنّه لم ينل نصيبه من الاهتمام والجهد" .(2) 
إنه تحول جديد في الإطار الفلسفي يطرحه الإمام الخامنئي، بعد أن كان الإمام الخميني قد أعطى للعرفان والفلسفة حقهما في الخطاب السياسي واستخرج منهما مبادئ وواجبات تطبيقية، فمن التوحيد اشتق الثورة وبناء الدولة، واليوم يطالب الإمام الخامنئي بالبحث العلمي التفصيلي في هذا المجال، ومن مجالات التطبيق كان ثمة ذكر في خطابه لمسألة نظام الحكم، وهو أوسع ميدان تطبيقي للشريعة، وهو ما سيكون محل اهتمام هذه الوريقات البسيطة التي لا تعدو كونها محاولة أولية لطرق هذا الباب. 

مفهوم معرفة النفس 
اخترنا أحد المفاهيم الإسلامية التي تحمل المغزى الفلسفي، ويتحمل أن يكون له امتدادات تطبيقية ومقتضيات عملية واقعية، وهو معرفة النفس، ليكون عنوان هذه المحاولة، وهو عنوان مركزي في الفلسفة الإسلامية وليس تفريعاً جزئياً، وفي ذلك أهلية للبحث عن آثاره التطبيقية وفق إرشاد الإمام الخامنئي مد ظله العالي. 
معرفة النفس عند أهل البيت عليه السلام
يضع أهل البيت عليهم السلام معرفة النفس في قمة المعارف وأهمها وأكثرها فائدة وهي مقدمة لسائر المعارف الأخرى، فيصح أن نطلق عليها أم المعارف، وإن كانت في هذا الموقع الهام والحساس في المعرفة الإنسانية فإن أثرها العملي وناتجها الفعلي سيكون في أهمية موازية بطبيعة الحال، فمنها تبدأ إذن كل الكمالات المعرفية، ويمكن أن تتأتى من تحقيق المعرفة بالنفس الكمالات العملية المختلفة وهنا نأخذ قول الأمير عليه السلام في الميدان الأخلاقي "من عرف نفسه جاهدها ومن جهل نفسه أهملها"، وقال عليه السلام "من عرف قدر نفسه لم يهنها بالفانيات"، وفي المجال الإجتماعي قال عليه السلام: "من عرف نفسه فهو لغيره أعرف"، وقال كذلك "كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟"، وفي المجال المعرفي "من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم" وقال كذلك "لا تجهل نفسك، فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء"، ومن هذه الأصول يبدأ البحث في الآثار العملية لهذه المعرفة الجليلة. فهي إذن معرفة تؤسس لكمال الإنسانية في العلم والعمل والإجتماع، وهي مدماك محوري في بناء الإنسان، وكما يقول الإمام علي عليه السلام "معرفة النفس أنفع المعارف".
قيمة هذه المعرفة بحد ذاتها ورد فيها اشارات كثيرة منها ما ورد عن الإمام علي عليه السلام "عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها" وقال  "كفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه"، فمبدأ التحضر الإسلامي والمدنية المتعالية القائمة على الاستنارة والإدراك واكتشاف القابليات الإنسانية كلها تبدأ من هذا الأساس، وعليه نأخذ من الإمام علي عليه السلام قوله الصريح "من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات"، والطرق الأخرى من فلسفات واتجاهات ابتعدت عن هذه الأولوية وهذا المنطلق التأسيسي، اختارت الطريق الوعر وابتعدت عن الغاية "من شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات، وارتبك في الهلكات". وهي معرفة متلازمة ومندكة في الشريعة الإلهية "أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه".

ميادين النفس ومعرفتها 
النفس الإنسانية ليست شيئاً واحداً، بل إن أنفسنا مركبة من عناصر مختلفة، فبعضها مجرد غيبي وبعضها ملموس مادي، وبعضها في مكان وسط بين المادي والمجرد كالعقل الذي يصل بين النشأتين في تكوينه. الجانب المجرد من أنفسنا يأخذها نحو الحرية والإطلاق من القيود، أما الماديات التي فينا فهي تأخذنا إلى التقييد، وفي معرفة كل من المجالين تكامل وأبواب للسعادة والإنسانية والوصول إلى النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة. 
في روحانية النفس وتجردها وبقائها بعد الموت وانتقالها إلى العالم الآخر وحياتها فيه معرفة تتفرع منها قضايا كثيرة، نأخذ منها صلة الإنسان بالبارئ عز وجل فهذه النفس التي بين جنبينا باقية بإذنه متعلقة به في وجودها واستمرارها وتقلب أحوالها بيده، كما ورد في آيات كثيرة وورد عن آل بيت رسول الله صلوات الله عليهم الكثير من الكلام في هذا الباب منه ما جاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه في محادثته لأحد الدهريين المنحرفين "ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبك وعزمك بعد اناتك واناتك بعد عزمك وشهوتك بعد كرامتك وكرامتك بعد شهوتك ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ورجائك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّد على قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه" .(3)
ومن جهة ثانية فإن الإنسان قد أتيحت له كرامة كبرى في المناجاة مع خالقه والإتصال به، فيحادثه ويتوسل إليه ويناجيه، وهذه المناجاة هي مصدر الغنى والحياة والسعادة كذلك، ففيها أعظم التكريم ومنها سكن القلوب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ومنها يتولد شوق المعرفة وطلب اللقاء والإزدياد في إدراك تعلق النفس وارتباطها بمصدر وجودها. 
أما معرفتنا بالقيود والحدود المحيطة بهذه النفس حال وجودها في هذا العالم الدنيوي، وتقيد الروح بالجسد المادي، فتلك معرفة تدلنا على فناء النفس بما هي وجود دنيوي ينتهي بالموت، وهي مخلوقة مركبة من أجزاء كثيرة جداً، من الذرات إلى الخلايا إلى الأعضاء فالجسد الكلي، وهي ضعيفة محدود القوى المادية، مفتقرة إلى الغذاء والماء والهواء والدواء باستمرار، وعاجزة عن القيام بمفردها بأبسط حاجاتها، مضطرة إلى الإستعانة بغيرها من الأنفس، وهي في هذا العالم محتاجة إلى التعارف والتواصل والتعايش مع الآخرين، فالإنسان اجتماعي لا يمكنه العيش منفرداً، وهذه المعايشة فيها الحب، العداء، التواصل، التعليم، التعلم، التكافل، التسخير المتبادل. 
وإلى ذلك كله تضاف مسؤولية الإنسان عن نفسه وعائلته ومجتمعه بل عن الإنسانية، مسؤولية دنيوية وأخروية في آن، فهو لم يخلق عبثاً وحياته ووجوده مرتبطان بغاية عليا تستحق كدح الحياة، فالإنسان مسؤول ولم يترك سدىً في الدنيا ولا في الحساب الأخروي. 
على أن هذه المعارف بكلها قد تكون عقلية أولية، بحيث إذا سئلنا عنها نستطيع الإجابة، وقد ترتقي لتكون شعورية حقيقية، بحيث نتصرف على أساسها، فلا نعيش في الوهم، بل تكون حينها الحياة الحقيقية والسعادة الفعلية. 
هذه بعض من معالم معرفة الفرد بنفسه، ويمكن الكلام مطولاً عن هذه العناوين وسواها لو كان المجال متاحاً، فهو يحتاج إلى بحث منفصل، وقد بذل علماؤنا من المحدثين والفلاسفة والفقهاء والأخلاقيين والواعظين الكثير من الجهد في هذا السبيل، إلا أننا نكتفي هنا بالإشارة حتى لا نطيل، ولا نترك هذا المرتكز التأسيسي للبحث دون عناية أو التفات. 

لماذا معرفة النفس ؟  
مسائل الفلسفة الإسلامية كثيرة ومتعددة، وهي متصلة ببعضها كونها تفسر الكون برؤية شاملة توحيدية، وقد دخلت مفاهيم وقضايا كثيرة من خارج الحقل اللغوي الإسلامي، إما من خلال التلاقح والمجادلة مع الفلسفات الأخرى واما من خلال ابداعات الفلاسفة المسلمين في انتاج مصطلحات جديدة. من خصوصيات المسألة التي اخترناها (معرفة النفس)، انها مستندة إلى النص المباشر لأهل بيت العصمة صلوات الله عليهم، فهي مشتقة من الأصل لا الفرع، كما أن التوكيد عليها وعلى محوريتها بين كل المعارف الاسلامية من قِبَل أهل البيت سلام الله عليهم (معرفة النفس أنفع المعارف) يعطيها الأهلية لتكون محوراً في تطلعاتنا لا مجرد قضية جزئية. من ناحية أخرى فإن سؤال معرفة النفس فطري ونشعر به في وجداننا يقرع أبواب القلب لأننا نحتاج جميعاً إلى التحرر من كل تغرب عن الذات أو جهل بها وهو مفتاح أساسي في السلامة النفسية والشعور بالتلاؤم. فعندما نتحدث عن نظام اجتماعي يتمحور حول معرفة النفس نكون على صلة وجدانية بمن نتوجه اليهم ونطرح فكرة النظام عليهم. كما اننا سنوضح الصلات بين الحياة الاجتماعية وضروراتها وبين آفاق المعرفة الإلهية والقرب من الله جل وعلى، وبين اختبار كل ذلك في معترك التدافع السياسي.
إن وضع معرفة النفس هدفاً لنا في حياتنا العامة هو بحد ذاته يخلق تحولاً في الوعي والادراك لأنه شعار قريب من الوجدان وحفرته يد أهل العصمة، وهو بالتالي عندما يطرح يوجد تغييراً في التطلعات الفردية والاجتماعية كما أن هذا الشعار يستطيع أن يعطينا الإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تطالعنا في الإشكاليات العامة والتفصيلية التي نعيشها.
من ناحية منهجية، يسأل عنها المتخصصون والمشتغلون علمياً في هذا المجال، فإن معرفة النفس تجمع بين أبعاد فلسفية متعددة، فهي ذات صلة بعلم المعرفة، وعلم الوجود، وعلم الأخلاق، وبذلك تتحقق في هذا المفهوم الصفة الفلسفية المتكاملة، لا بل إنه أحد أخص فيوضات أهل البيت عليهم السلام في جامعيته وتماميته، كما عبرت كلماتهم سلام الله عليهم. وعليه، فإن معرفة النفس ليست مسألة معرفية حصراً، وإنما متصلة حتماً بإخراج النفس من العدمية إلى الحقيقة، وكذلك هي منبع لحركة الإنسان وفعاليته، فهي مفهوم معرفي وتطبيقي في الآن عينه وهذا ما يجعل المفهوم الذي وصلنا من أهل بيت العصمة سلام الله عليهم مناسباً للبحث عن امتداداته العلمية السياسية والإجتماعية.  

أين نحن من هذه المعرفة ؟ 
نفوسنا الخبيئة قابلة للظهور من خفاءها، فكل ما يحيا منها نُعنى به وننشغل، وكل ما يذوي منها يحتجب ويُهمل فيخفى. تماماً كما الجسد والحواس حين يموت جزء أو يصاب بالشلل لا يعود في الوعي موجوداً، ويعجز الإدراك عن الوصول إليه. الغاية العادلة للنفس البشرية تتمثل في ظهور كل أبعادها في مواضعها المناسبة عبر ميزان تحدده شريعة العليم الموجد التي تشيد كيان الإنسان العادل تحت ظل الطاعة لله والعبودية له وهو أقصى غاية السعادة. الإنسان الكامل يرتقي فوق ذلك حيث يبدأ من نفي الذاتية والنفسانية وهذا أمر أخر، لأننا نروم الحديث عن مجتمع واقعي لا عن فرد مثالي نموذجي طالما أننا نبحث عن نظام سياسي مناسب لحياة اجتماعية متكاملة ومعاصرة.
معرفة النفس قضية أدرجت في الفلسفة الاسلامية وتمت معالجتها من منظار فردي في حين أن آية التعارف {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} تبين أن سبب ايجاد الاختلاف البشري هو الوصول إلى المعرفة بالأنفس من خلال التعارف فيما بينها، كما أن أحاديث "المؤمن مرآة أخيه المؤمن" يبين درجة أخرى في التعارف، فمعرفة النفس يمكن أن تشمل معرفة الروح وحقيقة وجود النفس وتعلقها بنافخها وموجدها وعجزها عن الاستقلال عنه، كما يمكن أن يطال العوالم الأخرى لحياة هذه النفس التي أشرنا إليها وهي اجتماعية وسياسية، مضافاً إلى أن حياة الإنسان مقسورة على الاجتماع فلا يمكننا أن نعنى بجوانب حياتنا المختلفة منفردين، فمنذ الولادة نفتقر إلى عناية شاملة مع الاستواء والأشد نحتاج دوماً للتعاون والتكامل في كل ميدان. فلا تكتمل إذن حياة النفس الانسانية إلا بالعناية الاجتماعية التي تستكمل نواقصها وحاجاتها، فإن كانت العناية شرعية منقادة للتوجيه الرباني أتيح لأوسع مدى من الجماعة أن ينال حياة حقيقية، اما ان كانت العناية عبثية او اختزالية تهتم ببعض نواحي الحياة الحقيقية وببعض مجالات النفس الانسانية فإن السعاة الخلص ينفردون بالسعادات الفعلية.
الصلة بين السكينة والمعرفة بالنفس
الإنسان مسؤول عن ذاته وهي موجود فريد يجمع الكثير من المختلفات والمتناقضات وقد وصفها أمير المؤمنين (أعجب ما في الانسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضدادها، فان سنح له الرجاء أذله الطمع، وان هاج به الطمع أهلك الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وان عرض له الغضب إشتد به الغيظ، وإن أسعف بالرضا نسى التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن إستولت عليه العزة، وان جددت له نعمة أخذته العزة، وان أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وان عضته فاقة شغله البلاء، وان أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر وكل افراط له مفسد( ، ولذا هي محتاجة إلى التدبير والعناية وإلا وصلت إلى التعاسة والبؤس، وأول التدبير أشار له الأمير في كلامه (عرفت الله بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم)، فهنا أمر بين أمرين فلا يستقل الإنسان بنفسه ولا تُرفع مسؤوليته عنها. وبطبيعة الحال يحتاج هذا التدبير إلى المعرفة بالنفس وحاجاتها الضرورية ومقادير تلك الحاجات سواء كانت معنوية أو اجتماعية أو مادية، فإن كان المرء جاهلاً بشيء من الحاجات الحقيقية لنفسه فسيفقد إمكانية التدبير فيها، وهذا ما يؤدي إلى عطش روحي وشعور دائم بالغربة عن النفس ناتج عن الجهل بها. ولذلك فإن المعرفة متصلة بالسكينة. ومن ناحية أخرى فإن تحقيق شيئاً من الحاجات الحقيقية يؤدي إلى الولادة المعنوية بحيث تحيا النفس الحياة المقدرة لها ويتم انقاذ أبعادها المختلفة من الإهمال والموت والعدمية.  وبالتالي فإن السكينة والتلاؤم المؤدي لحياة النفس تزيد من معرفتنا بأنفسنا وتؤهلنا للقيام بخطوة أخرى نحو الاستزادة من هذا البحر اللامتناهي الذي يؤدي إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وهو متيسر لمن يمشي على هدي التوجيه الإلهي الذي يريد أن يفتح للإنسان الفرصة الفريدة التي تميزه عن سائر الموجودات،  فرصة معرفة الله والقرب من الموجد وهو ما يبينه الحديث القدسي (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف).
نحن هنا على مفصل أساسي في بحثنا وهو يتعلق بتحول معرفة النفس من اشتغال فردي إلى تفاعل إجتماعي، وإذا نظرنا إلى كتاب الوحي لوجدنا أنه يمتلئ بالحديث عن الفئات الإجتماعية المختلفة وخصائصها وحاجة الإنسان الضرورية التي كرستها الشريعة لتحديد موقفه من سائر الفئات. حيث أن التوجيه الإلهي جعل هذا الموقف من الفئات البشرية المصنفة على أساس المعرفة بالله مقارناً للإيمان بالله سبحانه، وحينما تتحدث الآيات عن المؤمن تتحدث عن جماعة المؤمنين، فمضافاً إلى تعريف الإنسان لنفسه من خلال سلوكه والتزامه الشرعي فإنه يعرّف نفسه وفق النص القرآني على أساس اجتماعي ضمن جماعة المؤمنين، وحتى في العبادةة هناك إشارة إلى الجماعة كما في آية {إياك نعبد وإياك نستعين}، كما أن الصلة بالله سبحانه وتعالى مقرونة بالصلة الإجتماعية كما في آية {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، فلا انفصال بين الثقة بالله والاعتصام به وبين الاجتماع بين المؤمنين.
المؤمن يسكن إلى أخيه المؤمن، فحينما تقع النفس في موقعها الاجتماعي الملائم لها تتخلص من التشوش والقلق والاضطراب {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}، وان السكنى إلى الأزواج والإخوان والأولياء هي (قرينة) الطمأنينة ومقدمة لها كما في الآية {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}، والطمأنينة فرع الإيمان ومقدمة للرجعى إلى الله {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}، فالسكينة بداية والطمأنينة غاية، لأن حفظ النفس وصيانة فطرتها وخلاصها من الشوائب التي تؤدي إلى الاضطراب وفقدان الإنسان للألفة مع نفسه وللسيطرة عليها، ولذلك فإن تحصيل المعارف الفطرية يسهل وينمو في ظل المسكن الاجتماعي، وربما أن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله (حب الوطن من الإيمان) يفيد في هذا المورد. 
النظام السياسي هو الذي يرعى المنبت الأرضي للنفس الإنسانية فيهتم بكل مناحي الحياة، ومع تطور الحضارة تكثفت وازدادت مسؤوليات السلطة العامة أو الدولة، ومع تطور المواصلات والاتصالات أصبح التفاعل بين الكيانات الدولتية متجاوز للمكان والزمان بحيث أصبح التفاعل والتدافع بين الهويات والأنفس الاجتماعية المتمايزة ينال قسطاً كبيراً من الاهتمام والاشتغال الانساني.
بناء على ذلك فإن معرفة النفس التي قُدمت في النص الشريف لأهل البيت عليهم السلام على أنها ذات معرفة الله أو مقدمة لصيقة لها وبها (من عرف نفسه فقد عرف ربه) تحتاج في مثل هذه الحالات، في مثل هذا الزمان إلى رؤية شمولية تخفف من حجم الاحتجابات والانشغالات والحجب والاضطرابات المتكثرة التي أصبحت مانعة للإنسان من معرفة نفسه وربه.
كما أننا اليوم كأفراد في حياتنا الشخصية نتأثر بما يحصل في العالم من أحداث وما يُطرح من أفكار وما تمارس من حروب فكرية وثقافية، وفي هذه الظروف التي لم تعد فيها للدول تلك الحصانة الثقافية والمعرفية، فإن افتقاد جماعة للحد الأدنى من التحصين والهوية والشخصية التي توفرها الدولة من خلال الرعاية في الداخل والندية في الخارج. فإن النفس الإنسانية ستكون في مهب الريح.
النظام الذي نطمح إليه يُعنى بمعرفة الإنسان بنفسه في وجودها الملكوتي وتعارفها السياسي وتكافلها الاجتماعي وتمايزها الثقافي مما يوفر للإطار الأوسع من الجماعة البشرية المؤمنة السير المتدرج والمنسجم والمتعاون والمنتظم تحت اشراف الولي العارف بنفسه وبربه. وهذا النظام يقوم على أساس ترابط وتكامل هذه المجالات الأربعة، ويؤدي إلى سعادة الفرد والمجتمع في حدودها القصوى الممكنة، في الدنيا والآخرة. وغاية هذه المجالات الأربع واحدة، غير أنها متفرعة بحسب الميادين والمجالات الواقعية، فمعرفة النفس في جوهرها الملكوتي هو تحقيق لمقام الإنسانية والسعادة الدنيوية والأخروية للفرد الذي عاد إلى روحانيته وطهارته الأولى مسافراً إلى ربه وخالقه، أما التعارف السياسي ففيه معرفة الإنسان لذاته من خلال طلب الحق وحراسته ونشره، وعبر تحقيق العدل في بلاده وفي العالم. التكافل الإجتماعي فيه معرفة الإنسان لذاته من خلال المرآة الإجتماعية ونضج الصفات الفطرية الجمالية الرحمانية عبر العمل في خدمة الآخرين، والتمايز الثقافي فيه معرفة الإنسان بذاته من خلال وعيه لخصائص الرسالة الإلهية وتطبيقاتها العلمية والثقافية وإدراك دوره الرسالي بما فيه من نضج للصفات الفطرية المعرفية والجمالية. 
ويحقق كل ذلك من خلال حضور الغاية الأساسية وهي معرفة النفس في كل الميادين التي تتحمل مسؤوليتها الدولة الحديثة في انسجام وتطابق مع أصول نظام الدولة الإسلامية مضيفاً إليه رؤية فلسفية تغطي مجالات مباحة في الشريعة وحاجات ضرورية للإنسان المعاصر وتقارب فلسفياً الأهداف العليا للشريعة الكاملة التي عنى بتطبيقها الإمام الخميني سلام الله عليه عبر بناء دولة ورث أمانتها الإمام الخامنئي مد ظله العالي.

نظام يربط الهوية الثقافية بالهوية الوجودية
القضايا الاجتماعية التي كانت محل اهتمام الوحي الإلهي سواء كانت عبادية مثل الحج وصلاة الجمعة أو سياسية كالجهاد ومواجهة الغزو الثقافي، والتي أكد عليها الإمامان الخميني والخامنئي تعكس رؤيتهما تجاه الشريعة كنظام شامل يجمع بين المصالح الفردية العليا والصالح العام للجماعة الإنسانية، كما أن إيمان الفرد لا يكتمل إن أهمل هموم المسلمين فيخرج عن إسلامه بذلك ( من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)، فالفاقد لإسلامه هو بطريق أولى فاقد لمعرفته بنفسه ومعرفته بربه ترتيباً على ذلك، فلا يمكن إذن أن نحيا حياتنا الإسلامية والروحانية دون أن نحيا هويتنا الثقافية والاجتماعية المتناسبة مع الشريعة والتوجيه الإلهي والخاضعة لهما (فيد الله مع الجماعة والغنمة الشاردة للذئب)، فإن كنا مسلمين مؤمنين ذوي فطرة حية فإن الصفات الرحمانية المودعة في تلك الفطرة ستدفعنا تلقائياً وعفوياً نحو العناية بأمور المسلمين العامة ومنها هويتهم الثقافية وظروفهم في كل المجالات والمستويات مشاركين في قيام ونمو النظام الاسلامي المؤدي إلى حياة النفس حياة ناضجة مليئة بالفعالية والواقعية، حيث يعيش المرء كل الصفات التي تعشقها الفطرة التي أودعت بالنفخة الالهية حياة طيبة سارية في المجتمع ككل.

نظام يفجر الطاقات المعرفية للانسان في كل المجالات.
إعتدال النفس وتوازنها وعدم اهمالنا لأي من التوجيهات الأساسية للوحي الإلهي وانفتاح المجال لنا للتعبير عن ما تختزنه قلوبنا من حب للصفات المثالية والكمالية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرتنا في إطار اجتماعي يعترف بمعرفة النفس هدفاً محورياً، وينظم مجالات انشغالنا بحيث تسهم كلها جميعاً بذلك الهدف المحوري، هذا النظام سيؤدي إلى انفجار معرفي من خلال الارتباط بمصدر المعرفة الحقيقي ( لَيسَ العِلمُ فِي السَّماءِ فَيُنزَلُ إلَيكُم ، ولا في تُخومِ الأَرضِ فَيُخرَجُ لَكُم ، ولكِنَّ العِلمَ مَجبولٌ في قُلوبِكُم ، تَأَدَّبوا بِآدابِ الرّوحانِيّينَ يَظهَر لَكُم)، {واتقوا الله ويعلمكم الله}، ومن خلال التعارف الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومن خلال الاشتغال داخل الأطر التي ينسقها النظام نفسه، مضافاً إلى ان حياة النفس الحقيقية بما تؤديه من سكينة وطمأنينة وبصيرة في معرفة الحياة وحقيقتها، كل ذلك ممهد لرفع حجب الضنك والجهالة، محفز للفكر والقلب معاً على الاغتراف من المعارف المتاحة للانسان، وعلى بذل الوسع في نشر تلك المعرفة خدمة للآخرين بما يسهم إسهاماً جوهرياً في بناء مجتمع مكافح متعلم قادر على إثبات وجوده في عالم ترتكز كل منافساته وصراعاته على المعرفة، ويستند مستكبروه في ظلمهم على المعرفة أيضاً، فلا بد من الثقة بالنفس ومعرفتها بالتمكن من تثبيت الأقدام في ساحة المنافسة البشرية.

غايات النظام :
يهدف هذا النظام إلى تدبير كل حركة المؤسسات العامة وتنظيم الحياة الإجتماعية باتجاه معرفة النفس، من حيث هي هدف جوهري للحياة الإنسانية، وهذا ما يميزه عن الأنظمة التي لم تستند إلى الوحي الإلهي في بنائها وممارساتها الواقعية. 
تتفاوت أهداف الأنظمة السياسية بحسب ثقافاتها، وتختلف في التعبير عنها، فأحياناً تتحدث عن أولوية الفرد أو الجماعة، وأحياناً أخرى عن أولوية الحرية أو الانتظام، وهي أهداف سلوكية بمعنى أنها تحاول تنظيم السلوك الانساني بتسهيل الحياة الاجتماعية. اما الفكرة التي نحاول هنا توضيحها فهي تضع الغاية العليا لحياة الإنسان هدفاً لها، وتنظم الحياة الاجتماعية ككل لتحقيق تلك الغاية. وهي غاية معرفية اجتماعية لا فردانية وغاية معنوية لا اقتصادية، انما تهدف من خلال النظام والانتظام إلى عيش الإنسان حياة زاخرة بالتلاؤم مع فطرته الأصلية وتجلياتها المعنوية والمادية والاجتماعية.
فالنظام ينبغي أن يكون انعكاساً للتفس الإنسانية ومرآة لها، فحيث أن غاية النظام السياسي هو توفير الظروف المناسبة لحياة الإنسان فينبغي أن يكون شاملاً لكل أبعاد النفس البشرية ولكل بعد حاجاته الخاصة المختلفة عن حاجات الأبعاد الأخرى، كما أن تركيب النظام ينبغي أن يكون وفق تراتبية عوالم ومجالات النفس البشرية، وفي حال كان النظام اختزالياً مقتصراً على جانب إنساني دون جانب مثل الأنظمة المادية اضطربت حال الإنسان ودخل في حالة القلق والاكتئاب وفي حال كان النظام فاقداً للتماثل مع تراتبية النفس البشرية فوضع ما هو متعالٍ في موازاة ما هو أدنى أو أسفل منه فسيحصل النقص في تكامل الإنسان وولادته المعنوية وبالتالي يحصل الخلل في معرفته بنفسه ويعيش الصراع الداخلي والاغتراب عن الذات. 
ولا شك أن المجتمع الذي يمكن أن يتبنى هذا النظام هو مجتمع متنوع ومتفاوت، فلا نصل إلى فعالية هذا النظام دفعة واحدة، بل أنه سيكون حصيلة كفاح وتدافع وتآلف بين الفئات المتفاوتة تتحمل مسؤوليات الفئات التي تؤمن بهذا النظام وتعرّف نفسها من خلال كونها الخادمة للفئات الأخرى.
يمكن أن ينعكس تطبيق هذه الفكرة على النظام في مجالات التدبير، التكافل، التدافع، التربية، الاستعمال، العمران، الخدمة، التبادل، التفكر، التعارف، بما هي الانشغالات الكلية في حياتنا الاجتماعية، بحيث يصبح الانسان الكلي وتحقيقه الحياة المتوازنة هدفاً لكل فعالية حياتية يقوم بها الفرد أو مؤسسة النظام، فالحكومة والجمهور يتكاملان في هذا السعي.
قد لا يمكن حصر مجالات اهتمام الإنسان وانشغاله على الصعيد الإجتماعي، لكن ثمة عناوين أساسية يمكن الإستفادة منها لتوضيح هذا الميدان، ونستفيد منها هنا تحديداً في محاولة تشخيص أثر فكرة النظام السياسي الذي نطرحه، على المجتمع في الواقع الفعلي، حتى لا تكون الفكرة مجرد تفسير أو شغل لغوي لا فائدة منه. 

تنظيم الحياة الإجتماعية 
العناوين الأساسية التي اقترحناها للنشاط الإنساني الإجتماعي هي : التدبير، التكافل، التدافع، التربية، الاستعمال، العمران، الخدمة، التبادل، التفكر، التعارف. هذه الوظائف قائمة بشكل ضروري في كل مجتمع، على تفاوت واختلاف نسبي، وهي وظائف تفاعلية من طبيعة المعايشة والحياة الإجتماعية. 
إذا لم يعنى النظام بهذه التفاعلات فستكون معرفة النفس لدى أفراد الجمهور ناقصة فوضوية ومنحصرة بفئة، أما إن اعتنى النظام بهذا الهدف كغاية محورية يجعل المعرفة متكاملة منتظمة عامة. 
النظام الإسلامي يخدم غاية المعرفة بالنفس من خلال عناوين كثيرة، ويجعل محور حركته تطبيق الشريعة والطاعة للخالق ونبيه وأهل بيته عليهم السلام، ما يؤدي إلى العدالة والإنتظام والإزدهار والتكامل وحماية الدولة والمجتمع من العدوان المادي والمعنوي، مستنداً إلى الولاية والسلطة التي تنبع منها. النظام الإسلامي يضع نصب جهده التوازن في الغايات المادية والمعنوية للشريعة، ليوجد انتظاماً قابلاً للحياة والإستمرار. 
إن وضع معرفة النفس هدفاً محورياً للنظام، يعني في الحقيقة بناء الإنسان الحقيقي الذي يتعامل بواقعية مع نفسه والمجتمع والعالم، وهو ذات هدف النظام الإسلامي، لكن المائز هنا، هو جعل الغاية المعنوية مشخصة ومركزية وواضحة في كل حركة ظاهرية واجتماعية، بحيث أن التفاعلات الإجتماعية تغدو ذات مغزى واضح وهدفية محددة، ويعطى لها القسط الوافي من الجهد بحيث لا تكون أثراً مترتباً ضرورياً، ولكن هدفاً شاخصاً وبيّناً، وهذا ما يؤدي إلى الإزدهار المعنوي والمعرفي والإجتماعي الكبير والمضطرد، فالإختلاف مع النماذج الإسلامية الأخرى ليس في الوجهة ولكن في تفعيل المعنى ومحوريته من النظام، وعليه تكون المؤسسات المعنوية هي الحاكمة على النظام لا المؤسسات المادية، وهي التي لها الأولوية في الموارد والجهد والإهتمام والسلطة والبرامج، فهي المنطلق الأساسي للإزدهار والمنافسة والريادة والحراسة. 
الوظائف الإجتماعية العشرة التي أشرنا إليها، تتضمن في ذاتها غاية النظام الكلي، أي معرفة النفس، وهذا التضمن مشروط بأن يكون النظام ككل متجهاً نحو تلك الغاية، بحيث يسهل لكل الفئات السير نحو الهدف المحوري المحدد. 
وتصب كل مجالات النشاط الإنساني الإجتماعي في معرفة النفس وفق الترتيب التالي : 
-    التدبير: معرفة سلطة الإنسان وخلافته ونضج الصفات الإلهية الجمالية والجلالية
-    التكافل: معرفة العجز الإنساني وظهور الصفات الفطرية الرحمانية 
-    التدافع: المعرفة الندية والتمايز مع الجاهلين ومعرفة القيومية الإلهية في نصرة الرسل والمستضعفين
-    التربية: معرفة الربوبية الإلهية وأسرارها من خلال التمثيل الإنساني
-    الإستعمال: معرفة موقع الخلافة ودورها وأحكامها وعبودية الإنسان وماديته وقصوره 
-    العمران: معرفة العدالة والإقتصاد في ما استخلف الإنسان عليه ومعرفة الملكية الحقيقية 
-    الخدمة: تجلي الفيض الإلهي في الإنسان الخادم، ومعرفته بالقيومية الإلهية
-    التبادل: معرفة حدود النفس واحتياجها إلى غيرها
-    التفكر: معرفة القابليات والغايات والموجد وتعلق النفس به، وارتباط عالم الإبتلاء بعالم الجزاء 
-    التعارف: معرفة النفس بغيرها من نقائض ومرايا ونظائر وأشباه

تنظيم الحياة السياسية : 
البدء بالتغيير يحتاج إلى رؤية وصفية ورؤية عملية، الأولى تتضمن معرفة الواقع الحالي الذي نرغب بتحسينه وتعديله وتتضمن وصفة للواقع الذي نريد الوصول إليه والحالة التي نفضل أن نكون عليها في المستقبل. الرؤية العملية هي الأخرى تعنى بتجديد طريقة الإنتقال من الوضع القائم إلى الوضع المرتجى، وطرق التغيير مختلفة ومتنوعة، فقد يكون التغيير جذرياً يغير الكثير من الأسس القائمة، أو يكون تطويراً يطال بعض الأسس والأصول التي اعتدنا عليها، أو استكمالياً يرمم ويتمم بعض النقائص الموجودة. ونقطة بداية التغيير قد تكون بدءاً من الحالة الواقعية والظروف الفعلية التي يراد تعديلها، حيث نبدأ بتحديد نقائصها واختلالاتها، أو يكون الإنطلاق ابتداءً من الحالية المثالية والتفكير في كيفية إسقاطها على أرض الواقع بعد التأكد من أن الواقع بحاجة للسير إلى تلك الحالة المثالية.
 المجتمعات المسلمة تعيش في ظروف سياسية وثقافية متفاوتة بشكل كبير، فبعض منها يعيش في ظل نظام سياسي مادي بالكامل، مع فولكلور مؤسسة دينية شكلية، والآخر يعيش في ظل دولة تقدم نفسها حارسة للدين كما تركيا أو السعودية مثلاً، وتمارس في الوقت عينه سياسات مادية متغربة في مجالات عديدة تناقض فيها أسس الوحي والشريعة، والبعض الآخر يحاول أن يتماثل بشكل هادئ وسلس مع الإتجاه والتوجيه الإسلامي دون الدخول في عملية تحول سريع وجذري، والبعض الآخر يعيش في مجتمع تعددي دينياً وعرقياً ومذهبياً، وهناك نموذج الدولة الثورة الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية في إيران وتواجه تحديات الأصالة والمادية في الوقت عينه، وتعالج بكل ما أوتيت من قوة مشكلات وتحديات التعدد الثقافي الطولي والعرضي داخل مجتمعها المستهدف من كل ناحية والذي تستغل القوى المعادية له هذا التعدد للنفاذ إليه واختراقه.
أمام هذا الطيف الواسع من التجارب الحالية السارية أمامنا، نطرح السؤال حول ما إذا كانت هذه المجتمعات قادرة على الحفاظ على هويتها الوجودية الروحانية بما في ذلك من علاقة متبادلة مع هويتها الثقافية الإجتماعية. إن التحديات الماثلة أمام تلك المجتمعات تجعل من قضية معرفة النفس مسألة ذات مغزى تاريخي وحياتي معاصر، فهي تصل بين البعد الوجودي وفلسفة حياة الإنسان وبين حقائقه الكلية من جهة، وبين تفاصيل حياته السياسية من جهة أخرى، ولذا فهي قضية فلسفية وسياسية عامة تشترك فيها المجتمعات الإسلامية الحالية المختلفة الظروف. فالنفس البشرية التي تحفل بالعوالم المختلفة من العالم الروحاني الغيبي وصولاً إلى العالم الحسي المادي، مروراً بالعوالم المعنوية والإجتماعية والسياسية، هذه النفس تتصل بطبيعة الحال بكل القضايا والميادين، أما الإشكال الذي يحفز بحثنا هنا، فهو أن الإنسان قد ينسى نفسه وتطغى عليه إحدى الميادين دون غيرها فيخرج عن حد الإعتدال الشرعي. فكل القضايا والميادين التي يهتم بها البشر إنما تتصل بالنفس البشرية وغاياتها وحاجاتها، سواءً كانت غايات وحاجات متوهمة أو متضخمة، لكن كل الحركة البشرية إنما تدور مدار النفس واندفاعها ورغبتها اللامتناهية في الكمال.  
رغم ذلك فإن إسقاط مفهوم فردي الطابع على واقع سياسي واجتماعي عام وكلي، يحتاج إلى تحديد السياق الذي تتيسر فيه إمكانية الإسقاط تلك، فمن الناحية التداولية أولاً من غير المستساغ في البيئة الإسلامية الوصل بين الضفتين الفلسفية والإجتماعية دون اجتراح تعديلات لغوية، فالكلمة الفلسفية الإسلامية لا يزال ينظر إليها على أنها من عالم آخر غير الواقع السياسي ولا مساس لها به، لا بل أنها مطهرة ومتعالية عنه في نظر الأغلبية، كما أن تلك الكلمة لا تزال غارقة في الفردية ولم تجري مجرى التعميم المعنوي، الذي يجعل كلمة مثل (معرفة النفس) قابلة لحمل دلالة اجتماعية عمومية، بل يمكن أن تبقى موجودة في التداول الفلسفي في خلفية المشهد دون أن تدخل الميدان السياسي، حتى وإن وضعت في سياق الفلسفة السياسية وفق نظرية متكاملة، لذا فإن إخراج مفهوم يتعلق بالروحانية المتعالية إلى حركة الحياة اليومية يحتاج إلى توضيح عملي تطبيقي. فعندما نستحضر (معرفة النفس) في أذهاننا تتداعى لدينا أفكار تتعلق بذاتنا الفردية وبالإستبطان والتأمل الداخلي العميق، بعيداً عن قضايا السياسة والمجتمع، وهذا لأننا لم نتلقى هذه المفردة إلا في هذا السياق، فلم نستطع أن نربط فيما بينها وبين المجالات الأخرى، وظلت أسيرة السياق الذي اعتدنا عليه. 
السؤال المهم الآخر هو أننا إذا أخذنا (معرفة النفس) هدفاً وغاية لرؤية فلسفية سياسية وطرحنا على أنفسنا إشكالية التطبيق في الحياة الواقعية، فإلى أي مدى نحتاج إلى طرح جذري؟ أم أننا نحتاج فقط إلى طروحات مساعدة لنظرية النظام السياسي الإسلامي، طروحات تتعلق بسياسات خاصة بالظروف المعاصرة التي تمر فيها المجتمعات الإسلامية، فهل أن هذه الرؤية المطروحة تستطيع أن تؤدي إلى تغييرات حقيقية وتحدد إجراءات واقعية وعملية؟ هذا ينبغي التطلع إليه عندما نتحدث عن الآثار والفوائد والقيم المضافة التي ينبغي أن تظهر من هذا المجهود أو المحاولة النظرية. 
المفهوم الذي اعتمدنا عليه لخوض تجربة تقصي الإمتدادات العملية لمفردة فلسفية إسلامية، وفق إرشادات الإمام الخامنئي دام ظله الوارف، هو مفهوم معرفي، يتحدث عن (معرفة) وله آثار وجودية حاسمة كما يقول صدر الدين الشيرازي بعد مقدمات في كتابه الثوري الموسوم بـ (رسالة الأصول الثلاث) : "إذاً، فمن لا معرفة له بالنفس لا وجود لنفسه، لأن وجود النفس هو عين النور والحضور والشعور. فاتضح من هذه المقدمات، أن من لا يعرف نفسه لا يعرف ربه، ولا نصيب له من حياة النشأة الأخرى {اذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}" . (4)
بناءً على طبيعة المفهوم المعرفية، فإننا عندما نريد أن نستخرج منه تطبيقات واقعية لا بد أن تلامس أولاً العناية بالمعرفة العامة، أي المهام والإلتزامات الثقافية للنظام العام، وإذا تعاملنا مع افتراض يتحدث عن نظام إسلامي حالي قائم أمامنا، وتوصلنا إلى ضرورة الإستفادة من (معرفة النفس) في دعم وتطوير ذاك النظام، فإن الإحتكاك الطبيعي سيكون في المؤسسة الثقافية للنظام الإسلامي، لكن هل يمكن أن يتعدى ذلك؟ وبأية شروط؟ لا شك أن النظام الإسلامي يعطي للمهام الثقافية والإلتزامات المعنوية أولوية عليا، وينحو إلى مواءمة تطبيقها وتنفيذها مع ظروف المجتمع بحسب الإمكانيات والفرص، وهذا ما يجعل من عملية تطوير المهام والسياسات الثقافية للنظام عملياً ذا أثر كبير في الحياة السياسية والإجتماعية في الدولة الإسلامية، فبعد إرساء (معرفة النفس) غاية وفلسفة محورية للنظام يبدأ البحث عن متطلبات تحويلها غاية للدولة ككل. 
في المرحلة الأولى نعتبر أن مجرد النحو بمفهوم (معرفة النفس) منحىً تطبيقياً ووضعه في واقع العمل والحياة العامة في موقع المحور والغاية، فإن هذا امتداد عملاني له، يخرجه من الدائرة الفردية، إلى الدائرة العملانية والاجتماعية، وهو امتداد ذو مقتضيات تلقائية تبدأ بربط كل أجزاء النظام بتلك الغاية ربطاً نظرياً وعملياً، يدمج مراتب النظام المختلفة في إطار نظري واحد، ومن ثم يسري في الشرايين الثقافية للنظام، ويعطي المعارف والعلوم والتربية والتزكية مواقعها داخل منظومته المنسجمة، وبعد استشراف السياسات المفترضة والتي تلبي الحاجات الثقافية، ندرس حاجة السياسات تلك إلى تعديلات مناسبة في البنى المؤسساتية والقانونية، أما التعديلات والرؤى السياسية العامة التي تطال بنية النظام العامة وتخدم تطبيق المفهوم فيمكن أن تتمخض عن مسار تجريبي يتخلله تحقيق أجزاء أساسية من الغاية بحيث يحصل التغيير الإجتماعي الذي يتطلب مواءمة سياسية كلية. ولا شك أن إعادة التوازن إلى الأولويات الحياتية ككل يغير بشكل عميق في شكل ومضمون السياسات القائمة داخل منظومة سياسية، دون أن يحررها من التحديات التاريخية الجارية، وما تفرضه من مواكبة وتكيف، على أن تغيير السياسات بالأساس سيتطلب تعديلات بنيوية جزئية في الحد الأدنى، غير أن السؤال المتروك للتجربة الواقعية وإفرازات السعي التاريخي هو إمكانية ظهور الحاجة لإجراء متطلبات بنيوية أساسية. 
أما مع افتراض تعاملنا مع مجتمع إسلامي لم تقم فيه حكومة إسلامية، مثل النماذج التي أوردناها آنفاً، وهي نماذج حالية موجودة في أغلبية بلدان عالمنا الإسلامي، فإننا نحتاج إلى مقاربة تطبيقية مختلفة، تبدأ من تحقيق حول أولوية المهام الثقافية والإلتزامات المعنوية لدى الفعاليات الإسلامية القائمة في تلك المجتمعات، وتأطير مشروعها وفق المنظور الكلي الذي نقترحه تحت عنوان (معرفة النفس) وهو منظور يجعل من الغاية مرتكزاً لا التوصيف والتفسير فحسب، فهو مفهوم يبحث ويتحرى عن التغيير في الواقع عبر تحديد هدف واستجلاء الطريق المؤدي إلى هذا الهدف. 
المنظور الذي نطرحه يتميز بأنه فرداني وإجتماعي في الوقت نفسه، كما هو سياسي ونظري، وإنساني وإلهي كذلك، وأيضاً دنيوي وأخروي، فهو يعكس مقولة الأمة الوسط، فالأمة الوسط عارفة بنفسها، ولذلك هو مفهوم توحيدي بامتياز، في نفس الوقت الذي ينسجم فيه مع الطبيعة الذاتية لعصرنا، وهو عصر يبحث فيه الإنسان عن ذاته المشتتة والمفككة بفعل الحداثة والتكنولوجيا، فهو بمثابة جذر ذو طبيعة ذاتية إسلامية يبنى عليه إنطباقات إجتماعية وموضوعية، ويستطيع أن يفسر مجالات واسعة من السياسات الثقافية في النظام الإسلامي، فالمعرفة بالله غاية للنظام الإسلامي، والمعرفة بالنفس هي اسم آخر أو باب مباشر لتلك المعرفة. 
وبذلك فإن أحد نتائج هذا البحث النظر في الحديث الوارد عن أهل بيت العصمة (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ولكن من منظار يشمل الفردي والاجتماعي معاً، وهذا في الحقيقة من بركات وفوائد الثورة الفكرية التي أطلقها الإمام الخميني قدس سره والتي أخرج بها الدين من الحالة الفردية إلى الحالة الإجتماعية التاريخية، وأخرج بها المعرفة الدينية من الحالة العلمية النظرية إلى الحالة العملية الواقعية.
من ناحية أخرى فإن الإختلالات القائمة في المجتمعات الإسلامية على صعيد تحقيقها لمتطلبات (معرفة النفس) على تفاوت كبير بين التجارب المختلفة، تعكس ضرورة الإهتمام بهذه الإختلالات، خصوصاً وأن للأزمات الثقافية آثاراً في المعارف الوجودية، وإن لم تكن آثاراً قهرية حتمية وعامة على جميع الأفراد فإنها في الواقع تطال الأعم الأغلب كل بحسبه، وهذا ما يضيف إلى القيمة العملية والفوائد التطبيقة للمفهوم. 
المعرفة هي ميزة الإجتماع البشري، وكل حركة يقوم بها الإنسان إنما تحتاج إلى علم، ومعرفة النفس والثقة بها في تحمل المسؤوليات أو التحدي مع الآخر المتعدي على نفسه وغيره، هي معرفة حاضرة في كل آن وحاجة ماثلة وحيوية في كل موقف، فمن تصرف في حياته أو بعض مواقفه وهو في حالة من الجهل بنفسه غائباً عن وجوده ناسياً لربه، فإنما تتأثر حياته ومواقفه في كل جزئياتها وتفاصيلها، وعليه فإن هذا المفهوم الحيوي يخرج من البوتقة العلمية إلى فضاء أوسع، فمعرفة النفس أم المعارف وإلى هذا أشارت أحاديث أهل البيت عليهم السلام، وعليه فهي مدماك أساسي يوجه حركة الإنسان وقراراته ومواقفه. 
في الزمن الحالي، يقوم ماثلاً أمامنا نظام سياسي إسلامي معاصر إستند في بنيته على مفهوم فقهي راسخ هو ولاية الفقيه، ونحن حينما نبحث عن مفهوم فلسفي معرفي لنشيد عليه مسعىً مساهماً في النظام السياسي الإسلامي، إنما نفعل ذلك بالإستناد إلى وجود نظام فعلي وواقعي، كان من نتائجه طرح أسئلة جديدة في الباب الفلسفي/ السياسي، يعمل بحثنا اليوم فيها شغلاً وسعياً ولو بشكل أولي، وهذا النظام القائم يخدم غاية معرفة النفس في ثلاثة اتجاهات أساسية: أولها الولاية للفقيه بما هي ولاية العارف بنفسه المعرف للآخرين بأنفسهم، وثانيها التوحيد العملي في المجالات السياسية والإجتماعية ونظم الحياة بما يتلاءم مع المعرفة بالله وبالنفس، وآخرها تطبيق الشريعة بما هي قانون الحياة المعنوية وشرط للمعرفة ودوامها ونمائها. وهذه الركائز الثلاث متلائمة متداخلة ومتكاملة فيما بينها كبنيان متكامل للنظام الإسلامي. إذن المفهوم الذي نقاربه في هذه العجالة ليس أساساً لنظام، وإنما مرآة فلسفية لنظام قائم، قد تجاورها مرايا أخرى كثيرة تستند إلى مفاهيم فلسفية أخرى، و(معرفة النفس) تتحرك هنا وفق رؤية تكاملية مع النظام الإسلامي الحالي. 
الإنتقال من المفهوم الفلسفي النظري لـ (معرفة النفس) إلى الحالة العملية يبدأ من طرح أسئلة تطبيقية على مستوى الفرد، ومن ثم الإنتقال بها إلى المجال العام. من الأسئلة الهامة التي تتبدى حين التفكر في الجانب العملي الفردي السؤال عن خصائص الإنسان العارف بنفسه، وكذلك خصائص التفاعل الإجتماعي للفرد العارف بنفسه؟ وبالتالي ما هي شروط ومتطلبات الإنسان العارف بنفسه في الحياة الإجتماعية المعاصرة؟ وما هو أثر التكنولوجيا بأشكالها المختلفة على معرفتنا بأنفسنا؟ وأخيراً بأي شروط يستطيع الإنسان حينما يحقق المعرفة بنفسه أن يعيش في ظل مجتمع متعدد ثقافياً؟ نظام إسلامي أمريكي؟ نظام إسلامي علماني؟ نظام إسلامي متوازن؟ أسئلة تحتاج اشتغالاً جاداً ونطرحها هنا للتمهيد لهذا التحول من النظري إلى العملي كخطوة أولى. 
هذا الإنسان المتكامل سيقف على جبهة المقارنة والتحدي مع الإنسان المسلم المعاصر ونماذجه المختلفة، من الإنسان الوظيفي، البيولوجي، المتصوف الفرداني، التكنولوجي المستلب، التنافسي النزاعي، العلمي الموضوعي، وسائر حالات فقدان التوازن. سيعود الإنسان الفطري البسيط المتوازن القادر على التعامل مع الحداثة بكل تمثلاتها بتوازن دقيق، وكل ذلك يستند إلى تطبيقه للشريعة الإلزامية بكل تفاصيلها، رغم أنه يضيف إليها إلتزامه الواعي بسيره نحو معرفته بنفسه وحفظه لتلك النفس، من خلال التعامل المستنير مع الوظائف والمجالات والمهام وفق الغاية العليا. 
بعد ذلك نعرض لبعض خصائص المجتمع الذي يطمح بشكل جماعي لتحقيق هذه الغاية المتعالية، فهو يحتاج في ذروة المسعى التكاملي إلى قيام دولة ترعى الإنسان وتنظم حياته ليكون إنساناً كاملاً عارفاً بنفسه، يعيش الحياة المثلى المتطورة باستمرار في المعرفة والثقة بالنفس والتلاؤم مع قابلياتها التكوينية الفطرية، وفي هذا المجتمع يشتغل العارفون بأنفسهم على استكمال الآخرين وإرشادهم إلى أنفسهم، لبلورة وصياغة مجتمع يسير نحو اكتشاف الإنسان الحقيقي والتعامل الواقعي مع الذات الإنسانية، وفي هذا المجتمع كل الوظائف الفردية والإجتماعية والسياسية تخدم الغاية العليا، ويمارس الإنسان تلك الوظائف مع المعرفة بأنها ذات غاية تتعلق بمعرفته بنفسه بشكل واعي، وتنظم تلك الوظائف بحيث لا تؤثر سلباً على تحقيق الغاية. وهذا ما يؤدي نظرياً إلى أن تخطو التجربة السياسية الإسلامية خطوة إلى الأمام، بحيث نستطيع أن نحملها عناوين توصيفية من قبيل : دولة المعرفة، نظام العدالة في المعرفة، نظام الحياة المعرفية، الإجتماع الحقيقي. 

معرفة النفس وصلتها بالنظام السياسي 
أغلى ما عند الإنسان نفسه، والنفس الإنسانية أرقى المخلوقات وهي التي تحمل قابلية الخلافة، فالخلافة قابلية تحتاج إلى استثارة وهي غير تامة وتبنى بالإستكشاف الواقعي. ولذلك سنكون حيثما تحركنا في هذه الحياة ساعين إلى استكمال هذه النفس وتعزيز شخصيتنا، سواءً كان سعياً مادياً أو معنوياً، شرعياً أو محرماً، عن معرفة بالنفس أو عن جهل بها، فإن الرغبة واحدة لكن الحركة تختلف، إما تكون حقيقية أو تكون متجهة نحو الأوهام والخيالات المختلقة. 
المعرفة بخصائص النفس في زمان حضورها المؤقت في عالم الدنيا، هي معرفة بطبيعة الخلقة التي هي انعكاس للإرادة الإلهية التي أعطت النفس الخصال المناسبة لساحة الإبتلاء وغاية البلاء للتكامل، وبما يتناسب مع طريق عودة الروح إلى ربها وفوزها الأكبر بالحرية اللامحدودة. 
النظام السياسي الإسلامي يعنى بهندسة ورعاية سير الإنسان في هذا الطريق، وهذا النظام هو حصيلة مجهود بشري جماعي للوصول إلى التكامل وإلى العودة إلى الله، كما أن الجهد الجماعي بحد ذاته هو سير تكاملي بما فيه من التكافل والخدمة، وهو استكمال المتقدمين للمتأخرين ومد يد المساعدة لهم، كما أنه ضرورة إلزامية بحسب ظروف وخصائص ساحة الإبتلاء الإلهي وخصائص الإنسان، فهو مضطر للقيام بجهد جماعي للوصول إلى الكمال، وذروة الإجتماع والتكافل هو النظام السياسي. 
هذا النظام التكاملي ينبغي أن يوفر أفضل الظروف الممكنة للتعامل مع خصائص النشأة الإنسانية بما يناسبها، حتى يصل الإنسان إلى غايته، بحيث يجعل إمكانية التعامل مع النفس على أساس تكوينها الهادف أكثر يسراً وأكثر عمومية، فلا يكون محصوراً في فئة محدودة منعزلة. فمضافاً إلى أن النظام الإسلامي يتيح لنا المعرفة بأنفسنا، فإن وظيفته تكمن في أن يسمح للإنسان بالعمل والسعي بناءً على تلك المعرفة الواقعية، ليعيش التلاؤم والطمأنينة المتأتية منه.
إلى هنا نكون قد أوجزنا في معرفة النفس الذاتية، في المقابل ينبغي الإشارة إلى معرفة النفس التفاعلية، وهي معرفة تنشأ من خلال المعايشة الإجتماعية ضمن العائلة والمجتمع والدولة والجماعة البشرية، وهي تفضي إلى مجموعة معارف ضرورية : معرفة التماثل والمساواة التي تنشأ منها العدالة، معرفة الكرامة الإنسانية التي ينشأ منها رفض الظاغوت والظلم، معرفة الإختلاف التي تنشأ منها المشاركة مع حفظ الخصوصية، معرفة الإستقلالية وتنشأ منها رفض التبعية والعبودية، معرفة الرحمة وتنشأ منها العناية بالإنسان وخدمته. 

التأثير في النظام السياسي : 
النظام الإسلامي القائم حالياً يتألف من مركب يجمع النظام السياسي المعاصر من جهة وولاية الفقيه من جهة أخرى، وإلى جانبه مجموعة من المؤسسات التي تستوفي الغايات الإسلامية، مثل : مجلس الخبراء، مجلس تشخيص مصلحة النظام، الحرس الثوري، البسيج، لجنة إمداد الإمام الخميني، جهاد البناء، الحوزة الدينية، القرض الحسن، وغيرها من المؤسسات التي تتحرك في موازاة الدولة الحديثة القائمة، مستكملةً الوظائف المختلفة التي يمليها الطرح الإسلامي. 
الآثار المترتبة على اعتماد مفهوم (معرفة النفس) غاية محورية للنظام، يمكن أن تنعكس على شكل تعديلات بنيوية هامة تزيد في تماسك النظام الإسلامي، وتوحد مراتبه ومستويات اهتمامه ومسؤولياته المختلفة في منظور واحد. 
ما سنطرحه هنا يقع في سياق المحاولة أو التجربة في ميدان تطبيقات الفلسفة الإسلامية، ما قد يفتح الباب أمام خيارات أخرى سواءً على صعيد اختيار مفاهيم فلسفية إسلامية أخرى والنظر في مقتضياتها التطبيقية، أو حتى في اختيار مفهوم آخر سوى (معرفة النفس) يكون مكملاً لطرحنا الأولي هنا، على أن المفاهيم الفلسفية الإسلامية متصلة اتصال العنقود بناءً على أصلها ومنشئها التوحيدي وجذرها الوحدوي، كما يمكن أن يتم النظر في تطبيقات وامتدادات عملية لـ (معرفة النفس) مختلفة عن التي سنقترحها هنا، على أن ما نطرحه هو نظرة أولية تحتاج إلى المزيد من التأمل وتستفيد من النقد، وإذا أخضعت للتجربة سينالها حظ من التطوير بناءً على معطيات الواقع المباشر. 
يقضي الإقتراح أن يتم تركيب النظام وفق الحاجات الإنسانية الأساسية، وبناء الإنسان المدرك لذاته في جميع أبعادها، فتكون مؤسسات النظام غير منفصلة عن تلك الحاجات، بل إن لكل حاجة مركزية مؤسسة ركنية تلحق بها المؤسسات الأخرى، فتكون الحاجات المعنوية هي مقسم تصنيف المؤسسات، وتأتي الحاجات المادية في دوائر تابعة لها، بدلاً من أن تكون وظائف النظام المادية المباشرة هي المقسم الرئيس، بدلاً من أن تكون الحاجات الجوهرية للنفس الإنسانية ملحقة بها في منظمات تطوعية تأخذ مكانها بحسب الظروف والتيارات الثقافية والإتجاهات الإجتماعية. 
موقع الولي الفقيه هو محل تجلي الصفات الكمالية الجمالية والجلالية المودعة في فطرة الإنسان، والتي تظهر في سلوكه وتدبيره لأمر الأمة في نظام يعتمد معرفة النفس غاية له يغدو هذا الولي والمعرّف بانسانية الإنسان المُظهر لمكنون فطرته وبذلك يكون هو المصدر الأول للمعرفة الحقيقية للأنفس البشرية بذاتها كونه تظهير الواقع لقابليات تلك الأنفس، وهو النموذج الأقرب للإنسان الكامل.
بهذا الترتيب يكون النظام الإسلامي منسجماً مع غايات الشريعة الكلية، وتخرج الوظائف المادية للنظام من حالة الإضطرار إلى حالة الهدفية، ومن حالة الثنائية في الوظائف إلى حالة الخدمة الكلية للإنسان الموحِّد الموحَّد، وتصبح الأهداف المعنوية والمادية للنظام متصلة اتصالاً عضوياً واضحاً يمكِّن النظام الإسلامي من تحقيق حالة الإنسجام الداخلي، وتخطي مشكلات التوليف بين النظام الحداثوي والنظام الإسلامي.
الغايات المركزية للنظام الإسلامي الذي يعتمد مفهوم (معرفة النفس) محوراً له، هي أربعة وظائف أشرنا إليها قبلاً، وتتضمن معرفة النفس في : وجودها الملكوتي، تعارفها السياسي، تكافلها الإجتماعي، تمايزها الثقافي. تتحول هذه الغايات إلى عناوين المؤسسات الركنية للنظام، وتحتها تنتظم المؤسسات المتعارف عليها في النظام الحداثوي مع تعديلات شكلية وجوهرية على تلك المؤسسات، وهنا نقدم الخارطة الأولية لهذا المشروع. 
-    الوجود الملكوتي : الحوزة الدينية، مؤسسة الصلاة، مؤسسة القرآن الكريم، العتبات المقدسة، خطباء المساجد، الإعلام الديني. 
-    التعارف السياسي : وزارة الخارجية، البسيج، الحرس الثوري، وزارة الأمن، مجلس الأمن القومي، لواء القدس، مجلس الإنترنت المركزي، وزارة الدفاع، وزارة العقيدة السياسية. 
-    التكافل الإجتماعي : وزارة الإقتصاد، وزارة التكافل، القرض الحسن، جهاد البناء، لجنة الإمداد.   
-    التمايز الثقافي : وزارة الإنتاج العلمي، وزارة الثقافة، الفنون، الشباب والرياضة، الإعلام، وزارة التربية، وزارة التبليغ، وزارة تصدير الثورة. 

الأهداف والقيمة المضافة للمؤسسات الركنية: 
-    الوجود الملكوتي : الغاية ليس تطبيق الشريعة، بل تطبيق الشريعة طريق لمعرفة النفس وهي المعرفة العليا. 
-    التعارف السياسي : الغاية ليست الإنخراط السياسي والمشاركة وتحقيق الحاجات المباشرة، وإنما هناك غاية حاكمة هي التعارف السياسي. 
-    التكافل الإجتماعي : النجاح الإقتصادي مقدمة للتكافل الإجتماعي، الذي يخضع لعملية تدبير متكاملة تهدف إلى تحقيق المجتمع المتكافل. 
-    التمايز الثقافي : التعليم والتربية والثقافة والفنون والنشاط الشبابي، يهدف إلى بناء الإنسان المتمايز ثقافياً، في مجتمع الرسالة الإلهية المتجهة نحو البشرية ككل. 

خاتمة : 
قدمنا في هذه الوريقات طليعة المعالجة الفكرية التطبيقية لمفهوم (معرفة النفس)، وإذا كان صلب هذه المعالجة يتعلق بالنظام السياسي، فإننا قد اكتفينا هنا بالإطار العام للنظام، ولم ندخل في المعالجة التفصيلية التي تطال تأثيرات (معرفة النفس) على مستوى محددات النظام السياسي ومكوناته المعنوية والبنيوية. فإن الفكرة التي طرحت أعلاه تحتاج إلى الإستفادة من مصهر النقد والنقاش كي تتبلور وتتوضح، وكيما تغدو مدماكاً تأسيسياً مقبولاً يبنى عليه بحث التفصيل المتعلق بالنظام السياسي وهو بحث واسع. ليصار بعد ذلك إلى التفريع والإنتقال إلى قضايا لا تقل أهمية، منها مثلاً ما هو تأسيسي من قبيل السؤال عن المسار التدريجي لمعرفة النفس، ومنها ما هو سياسي من قبيل السؤال عن آثار شمولية النظام المقترح على مقبوليته وحياته وفعاليته، ومنها ما هو عملي مثل السؤال عن المشكلات الفردية والإجتماعية المعاصرة التي يواجهها نظام مماثل. كما أن ثمة مجالاً واسعاً جداً في هذا المضمار، وهو يتعلق بالإستقراء المفيد للتراث الإسلامي في هذا الموضوع، وهو تراث ثري وعميق. 
 

الهوامش:

1- كلمة الإمام الخامنئي في لقائه أعضاء المؤسسة العليا للفقه والعلوم الإسلامية - 04/03/2019.
2- كلمة الإمام الخامنئي في لقائه أعضاء المؤسسة العليا للفقه والعلوم الإسلامية - 04/03/2019.
3- أصول الكافي، باب التوحيد.
4- الشيرازي، رسالة الأصول الثلاثة، ص 120.
 

  • إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir