الكاتب: محمد محسن عليق

"مصير المنطقة يتوقّف على التّحرّرِ من الهيمنة الاستكبارية الأمريكية وتحرير فلسطين من سيطرة الصهاينةِ الأجانب. كلّ الشعوب تتحمّل مسؤولية الوصولِ إلى تحقيق هذا الهدف. على العالم الإسلامي أن يزيل عوامل التفرقة. وحدة علماء الدّين قادرة على أن تكتشف أسلوبَ الحياة الإسلامية الجديدة. وتعاون جامعاتنا من شأنه أن يرتقي بالعلم والتقانة، وبذلك تستطيع أن تضع أساس الحضارة الجديدة. والتّنسيقُ بين وسائل إعلامنا بإمكانه أن يصلح جذورَ الثقافة العامّة. والتلاحم بين قُوانا العسكرية سيبعدُ المنطقة كلّها من الحروب والعدوان. والارتباطُ بين أسواقنا سيحرّر اقتصادَ بلداننا من سيطرة الشركات الناهبة. وتبادل الزِيارات بين شعوبنا سيقرّبُ القلوبَ والأفكار، ويخلقُ روحَ الوحدة والمودّة بينها."*
هكذا، وبوضوح لا يقبل التأويل، أوجز الإمام الخامنئي، في خطبةٍ ذات جمعةٍ عابقة برائحة الشهادة وحضور الجماهير ولهفة الشعوب، وبلسان عربي مبين، أصول منشور"مانيفستو" التحول المطلوب على مستوى الأمة والعالم الإسلامي الذي "يجب أن يفتح صفحة جديدة " كما أنهى خطبته التاريخية.
ولئن كانت بعض مفاهيم هذا التحول البنيوي قد تكررت في بيانات وخطب مفتاحية سابقة لسماحة القائد ، إلا ان هذا التكثيف الإستراتيجي والتببين العميق للآعمال المطلوبة لإدارة التحوّل  الحضاري المنشود، قد أضاء الطريق لكل المفكرين والقادة وصناع القرار والنخب المؤثرة في المجالات كافة ولكل حامل هم وباحث عن التكليف العملي الواقعي .
 أضف الى هذا، أن كلام الإمام وفي هذه اللحظة الحساسة والمصيرية ، قد أزال الكثير من الشبهات الرائجة والإبهام ؛ "كل الشعوب تتحمل المسؤولية ".  عملية بناء الحضارة الإسلامية الجديدة لا تنحصر بدولة خاصة او بشعب معين ولا حتى بالجمهورية الإسلامية الرائدة في ايران . لطالما سمعنا هذه "اللازمة" تلويحاً أو تصريحاً من شخصيات ومدراء مؤثرين في بعض الحركات والأحزاب الإسلامية .
إن فكرة المقاومة، على قداستها لا ترقى لتكون هدفاً وغايةً للعمل والتحرك لدى الشعوب والتيارات المجاهدة . فالمقاومة هي ردة فعل إنساني ضد الإحتلال أو العدوان ومحاولة الهيمنة والإذلال وفرض التبعية سواء كانت سياسية أو ثقافية أو إقتصادية . المقاومة الشاملة هي وسيلة للتحرر ورفع الظلم والإحتلال ولكنها ليست هدفاً ولا غايةً تحدد كل أطر العمل والفكر والحركة .
الهدف الأساسي هو بناء الحضارة الإسلامية الجديدة على طريق التمهيد لإنقاذ البشرية  بالعدل المنتظَر، وكل الإنتصارات والإنجازات التي حققتها حركات المقاومة والنهضة والصحوة الإسلامية، ينبغي أن تجيّر لتحقيق هذا الهدف "الإيجابي" الشامل لإحداث تحول جذري في مشروع الإسلام لتحقيق التكامل والسعادة للإنسان والمجتمع.
من المفید هنا الإلتفات الى نقطة في غاية الأهمية وهي الفارق الأساسي بين مفهومي القائد والقيادة، وبالأحرى بين الولي والولاية؛ لتحقيق الآمال والمثل الكبرى يمثل وجود القائد الولي (المعصوم أو نائبه) ركناً  أصلياً  للقيام والتكامل وإمامة البشر نحو الفلاح، لكن وعلى مرّ التاريخ وحتى عصرنا الحاضر، لطالما  وُجد قادة مميزون من المعصومين أو العلماء الكبار وأظهروا قدرات فكرية وعلمية وادارية وسياسية لا نظير لها؛ القائد موجود ولكن القيادة أمر آخر؛ فهي التفاعل والتعامل المتبادل بين القائد الولي والموالين بما يحقق أكبر النتائج والإنجازات المنشودة في كل مجالات التقدم المادي والمعنوي .
إن تحقق مشروع القائد يحتاج الى "إستنفار" حضاري أعمق وأخطر من المواجهة العسكرية والسياسية وحتى من مقاومة الحرب الناعمة والغزو الثقافي، ويتمثل هذا القيام العام بكشف  اسلوب العيش  الإسلامي "نمط الحياة الطيبة " ما يسميه الإمام الخامنئي "جوهر الحضارة " وهو القسم الذي لم نتطور فيه كما يجب، طارحاً العديد من الأسئلة المفتاحية حول سلوكنا الإجتماعي وآفات نمط حياتنا الحالية، كضعف العمل الجمعي ونمط الإستهلاك الرائج وظاهرة الطلاق وضعف صلة الرحم وعدم الإتقان في الصناعة والإنتاج وطريقة اللباس والطعام والعمارة والترفيه والتسلية و.... غيرها العديد من الآفات والظواهر التي ينبغي العمل على تحديد أسبابها وكيفية رسوخها في مجتمعاتنا، ومن ثم الإيمان بقدرتنا على التغيير والتحول الى حياة طيبة اصيلة ومعاصرة مستمدة من كنوز الفكر والعلوم والقيم الإسلامية سواء بشكل مباشر أو بإعادة إنتاج إجتهادي وإبداع أنماط وسلوكيات إجتماعية لا تقلّد الحضارة الغربية –الآمريكية المعادية للإنسانية والمبيدة للثقافات الأخرى بالقوة الصلبة حينا والقوة الناعمة أحياناً، مستفيدة من ضعف الثقة بالنفس عند بعض صنّاع الثقافة في المجتمعات الإسلامية .
هنا تبرز ضرورة و وجوب إعادة التدبّر الثوري والتفكير الجريء والعميق في أصول واستراتيجيات العمل وإدارة طاقات الناس في الساحات المتعددة والتي شهدت إنتصارات جهادية وتتوق  جماهيرها الى التغيير في "جذور الثقافة العامة" وتنتظر من علمائها وقادتها تلبية نوعية لمشروع البناء الحضاري الذي يقوده القائد، لتكتمل الدائرة وتتحقق عملية القيادة والولاية المتبادلة. الحجّة تامة علينا جميعا بنعمة وجود هذا القائد الحضاري، والظروف المؤاتية والفرص الحالية إستثنائية في تحويل هذا الفكر والطرح الحضاري الى استراتيجيات قوية وفعّالة، تضع التحدي الفكري الثقافي كأولوية مقدسة وتشرف على إنتاج العلوم الإنسانية الإسلامية وأدوات بناء الحضارة الجديدة من خلال ترسيخ القيم و"صناعة الخطاب" وإنتاج نمط حياة طيبة مفعمة بالعدالة والروحانية والإزدهار الإقتصادي والإنساني الحقيقي. **
"العالم الإسلامي لا بدّ أن يفتح صفحة جديدة. الضمائر اليقظة والقلوب المؤمنة يجب أن تُحيي الثقة بالنفس في الشعوب، وعلى الجميع أن يعلموا أن طريق نجاة الشعوب هو في التدبير والاستقامة وعدم الرهبة من العدو".*
هذه النهضة الحضارية تستوجب أولاً وبشكل أساسي إعادة الإعتبار للعمل الفكري والثقافي الأصيل  وجعله محوراً  لكل الأعمال السياسية والأنشطة الإجتماعية والتنظيمية والتخطيطية، وكذلك الإيمان بقدرة الناس والجماهير الطيبة على التغيير وإنتاج آليات حقيقية لمشاركة الناس في إتخاذ القرارات وانتخاب المدراء المسؤولين والممثلين الحقيقين لهم على المستويات كافة؛ إستلهاماً من تجربة ولاية الفقيه الرائدة والسيادة الشعبية الدينية التي جعلت الجمهورية الإسلامية  قوة لا تقهر، من خلال حلقات إقتدار أبرزها أجواء الحرية الفكرية وإنتخاب الناس بكل حرية لممثليهم من مستوى العمل البلدي وحتى إنتخاب الولي الفقيه عبر مجلس الخبراء.
"تقريب القلوب والأفكار" هو ركن آخر من أصول هذا المنشور "المانيفستو" الحضاري ، وهذا أمر بالغ الخطورة، يحتاج بدوره الى شجاعة بين العلماء والتيارات وصناع الثقافة، على تقبّل الآخر المذهبي والقومي والديني وصولاً إلى توسيع دائرة الوحدة على أساس المعايير القيمية العالية، كالعدالة وخدمة الناس والدفاع عن المستضعفين والخروج من الخنادق والتعصبات الضيقة علميا وعملياً.
ما لم نمتلك  الفكر المتين والرؤى الإجتماعية والتنموية والثقافية القوية والقادرة على حل أكبر المشكلات في ساحاتنا، فلن نستطيع تجسيد "ولاية الولي " وقيادة القائد؛ إنتهى زمن الدفاع عن النفس والإكتفاء بمقاومة العدو وهاجس حفظ الوجود،  إضافة الى هذه المقدمات اللازمة المتمثلة بالجهاد الصغير، يطرح سماحة القائد مفهوم "الجهاد الكبير" المتمثل بالإستقلال وصناعة الإقتدار بجميع أشكاله لمنع التبعية للغرب في كل انواعها ومستوياتها، وصولاً للجهاد الأكبر والتكامل المعنوي .
إن "الصفحة الجديدة " التي يجب أن تكتبها الأمة بشبابها وعلمائها ونخبها ومجاهديها وجمهورها من الرجال والنساء وحتى أطفالها، عنوانها التحدي الثقافي والإجتماعي والإقتصادي؛ يكتبها الأقوياء ممن يتمكنون من إنتاج الأفكار الإبداعية الكبرى وخلق علوم جديدة لإدارة التحوّل المطلوب في المجتمعات والمنظمات والتيارات: من التربية والتعليم الى الفن والإعلام وصولاً الى الإدارة والإقتصاد مروراً بالفقه والحكمة والعرفان وكل مهارات الحياة السعيدة، المستمدة من الثقلين "القرآن الكريم وسنة المعصومين (عليهم الصلاةو السلام ) والأصول المباركة لنهضة الإمام الخميني العظيم وخلفه الخميني الثاني، بعيداً عن الإلتقاط والإنبهار بالغرب أو التحجّر والجمود المهلك. 
إنه زمن التحولات الكبرى ، التي لا تأتينا إن لم نصنعها بأنفسنا، وإن نتولى يستبدل الله بنا غيرنا، والفرصة الذهبية لولادة الأمة من جديد؛ القائد يناشدنا فهل نلبيه في ورشة بناء الحضارة الكبرى فنحفظ إنتصارات الجهاد والشهادة بفتوحات التقدم الحضاري وتحديات الثقافة ونمط الحياة الجديدة الطيبة المفعمة "بالأمل والطاقة والإبداع "؟
هي سنة الله الحكيم الرحيم في كل قائد وقيادة وأنصار، في كل ولي و ولاية وموالين "وإن تطيعوه تهتدوا" (سورة النور، من الآية  54) 

*من خطبة سماحته باللغة العربية  في صلاة  جمعة طهران 17 -1-2020م

 

**إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir