تطرّق قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي في خطابه المتلفز بمناسبة ذكرى «انتفاضة 19 دي» لأهالي قم عام 1978 إلى قضية تأمين لقاحات «كورونا» التي تحتاجها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأعلن منع إدخال اللقاحات الأمريكية والبريطانية إلى البلاد، قائلاً: «أنا حقاً لا أثق [بهم]؛ أحياناً يريدون تجربة اللّقاح على الشعوب الأخرى لمعرفة هل يعمل أم لا». وأردف سماحته: «لست متفائلاً بشأن فرنسا، لأنّ هؤلاء لديهم سابقة في الدم الملوّث. طبعاً، إنْ أرادوا الحصول على لقاح من أماكن أخرى – على أن يكون مكاناً مطمئناً - فلا يوجد أيّ إشكال».

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا: ما قصّة الدم الملوّث؟ (l'Affaire du sang contaminé)، وما الدور الذي لعبته فرنسا في هذا الصدد حتى صار قائد الثورة الإسلامية شديد التشاؤم من هذا البلد؟ كَشفت عن هذه القضية لأول مرة في أبريل/نيسان 1991 آن-ماري كاستريت Casteret Anne-Marie، الصحافية التي كانت طبيبة. وقد نشرت مقالة في مجلة L'Événement du Jeudi الأسبوعية، ذكرت فيها أنّ «المركز الوطني الفرنسي لنقل الدم» صدّر عن عمد منتجات الدم المصابة بفيروس «نقص المناعة البشرية» (HIV) إلى أجزاء أخرى من العالم. وعام 1992 كتبت كتاباً بعنوان L'Affaire du sang [فضيحة الدم][1]، ثم في السنوات التالية، أثارت قضايا مختلفة في هذا المجال[2].

أصل هذه المشكلة أنّ العديد من مدمني المخدرات في فرنسا، خاصة في باريس، ذهبوا إلى مراكز التبرّع بالدم للحصول على شطائر وقهوة مجانية. كان بعضهم مصابين بالإيدز، ولأنه لم يُجرَ فحص دقيق لدمهم، وأيضاً بسبب المنافسة بين الشركات المختلفة للحصول على دم أسرع وأكثر من هؤلاء وإنتاج مشتقّات الدم المختلفة، اتّسعت أبعاد المشكلة.[3] والتحدي الآخر أنه إذا أصيب المتبرّع بمرض في الدم مثل التهاب الكبد، يمكن أن يلوّث جميع المنتجات المصنوعة من فصيلة دم مختلِطة.[4]

Mérieux كانت إحدى الشركات الفرنسية الناشطة في إنتاج منتجات الدم الملوثة في فرنسا وتصديرها، وبالإضافة إلى فرنسا نفسها، صدّرت مخثّرات الدم إلى بعض البلدان بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا والأرجنتين وكندا واليابان والسعودية والعراق وإيران واليونان، من أجل استخدامها مع مرضى الهيموفيليا. حدث هذا الجرم بين 1984 1985 وأدّى إلى إصابة عشرات الآلاف من الأشخاص بفيروس «نقص المناعة البشرية» و«التهاب الكبد الوبائي - سي» في أجزاء مختلفة من العالم، وقد أُصيب 4700 شخص في فرنسا نفسها بالفيروس الأوّل المسبب لمرض الإيدز الفتّاك، فيما فقد أكثر من 300 منهم حياتهم.[5]

بين 1983 1985، وزّع «المركز الوطني الفرنسي لنقل الدم» منتجات الدم المصابة بالإيدز على المصابين بالهيموفيليا. ورغم اعتراف الحكومة الفرنسية في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1984 بخطورة هذه المنتجات، استمرّت Mérieux في إرسالها إلى دول أجنبية بما في ذلك إيران والعراق وليبيا والأرجنتين حتى أواخر 1985.[6]

خلال محاكمة أُجريت عام 1993 لكبار المديرين في «بنك الدم الوطني الفرنسي» و«المركز الوطني لنقل الدم»، زُعم أنهم وكبار المسؤولين السياسية للحكومة الفرنسية لم يكونوا على دراية بالمخاطر وراء الإهمال في فحص منتجات الدم، فضلاً عن تخليهم عن إجراء البحوث اللازمة لتحديد فيروس الإيدز لأسباب تجارية. لكن الوثائق التي نشرتها آن-ماري كاستريت، وكذلك صحيفة Libération الفرنسية، أظهرت أن الأمر لم يكن كذلك. إحدى هذه الوثائق رسالة مؤرّخة في 14 يناير/كانون الثاني 1985 أرسلها إليه فرانسيس غروس François Gros، المستشار العلمي لرئيس وزراء فرنسا آنذاك، لوران فابيوس Laurent Fabius، وتنصّ على أن فيروس الإيدز لا يصيب الفئات المعرّضة فقط، بل يمكن أن يصيب ضحايا الحوادث أو أي شخص يخضع لعملية جراحية أو يُحقن بمنتجات الدم!

وفقاً لهذه المستندات اتُّهم فابيوس (أثناء رئاسة فرانسوا ميتران François Mitterrand)، ووزير الصحة إدموند هيروé Edmond Herv، ووزيرة الشؤون الاجتماعية جورجينا دوفوآGeorgina Dufoix، اتُّهموا جميعاً بالقتل بسبب معرفتهم بمخاطر تأخير الفحوص لمنتجات الدم المشكوك في تلوّثها. ورغم إبلاغهم بنصائح في هذا الصدد، فإنهم من أجل الحصول على فوائد تجارية وربح أكبر ألغوا أي إجراءات لفحص عيّنات من الدم وأدخلوا الدم الملوّث إلى الأسواق دون إجراء المراحل والفحوصات واجتيازها. لكن لم يؤدِّ الكشف عن هذه القضية إلّا إلى السجن مدداً قصيرة من سنتين إلى أربع، مع وقف التنفيذ لبعض المتهمين من الدرجة الثانية والثالثة.[7] ومن المثير للاهتمام أن فابيوس وهيرو ودوفوكس جرت محاكمتهما في 1999، ثم بُرِّئ الأولان من التهم جميعاً[8]، فيما حُكم على وزير الصحة، هيرو، فقط بالقتل غير العمدي لكنه أيضاً أُعفيَ من العقوبة![9]

في إيران، لم يكن لدى وزارة الصحة و«منظمة نقل الدم» في الثمانينيات، بسبب الحظر القاسي للدول الغربية والمشكلات التي سببتها الحرب المفروضة وصعوبة تحضير مشتقات الدم وشرائها، إمكانيةٌ لفحص منتجات الدم الفرنسية المصابة بفيروس «نقص المناعة البشرية».[10] لذلك، حُقنت هذه المنتجات بمرضى الهيموفيليا المحتاجين دون مزيد من التحقيق، وفي النتيجة أصيب عدد من هؤلاء بالإيدز أواخر الثمانينيات.[11]

وفقاً للمعلومات في إيران خلال الثمانينيات، أُصيب ما لا يقل عن 193 شخصاً بفيروس «نقص المناعة البشرية» جراء نقل الدم الفرنسي المصاب، وقد نجا أقل من عشرين منهم.[12] تشير أحدث دراسة أُجريت في 2014 إلى إصابة ما لا يقل عن 1800 إيراني بالتهاب الكبد والإيدز نتيجة لاستهلاك منتجات الدم الفرنسية الملوثة.[13] وقد أدّى منع الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، بيع «كيت» التّشخيص لفيروس «نقص المناعة البشرية» لإيران في التسعينيات إلى استحالة في تحديد المصابين بدقة وسرعة وتقديم إحصاءات موثوقة في هذا المجال.[14]

يقول المدير السابق لمركز الهيموفيليا الإيراني، الدكتور أحمد قويدل، عن وضع هؤلاء المرضى: «مع تقديم شكوى بشأن منتجات الدم الملوثة، أدت حالة المصابين بمرض الإيدز، بسبب المنتجات المستوردة من فرنسا من 1982 إلى 1984، ورسائل المعاناة من آباء اثنين من المصابين بالهيموفيليا ممن أصيبوا بالإيدز، التي كتبوها إلى قائد الثورة الإسلامية، إلى أمر سماحته القوة القضائية بمتابعة الموضوع».

أيضاً رفعت «منظمة نقل الدم الإيرانية» دعوى قضائية ضد Mérieux الفرنسية في 2008، ودخلت وزارة الصحة والمكتب القانوني لرئاسة الجمهورية في مسار القضية. ومع إثبات تقصير الشركة الفرنسية في إنتاج منتجات الدم السليمة، سعت دول أخرى إلى المطالبة بتعويضات وتمكنت من الحصول عليها. لكن إيران هي الدولة الوحيدة التي لم تتلقَّ حتى الآن تعويضات من Mérieux جراء تخلي الحكومة الفرنسية عن واجباتها.[15] يضيف قويدل: «السبب الرئيسي لظهور الإيدز في إيران كان دخول الدم المصاب من فرنسا. لم يكن المرضى على علم بأنهم مصابون بالفيروس. فتزوجوا وتسببوا في انتشار الفيروس القاتل!»[16]

لقد آوت الحكومة الفرنسية منذ انتصار الثورة الإسلامية المعارضين الإرهابيين للجمهورية الإسلامية مثل المطلوبين في المَلكيّة وأعضاء «منظمة خلق» الإرهابية، كما قدّمت دعماً واسعاً إلى صدام حسين خلال الحرب المفروضة من العراق ضد إيران، ثم عمدت إلى تصدير مشتقات الدم المصابة بالإيدز إلى إيران، وليس أخيراً اتخاذ مواقف متشددة خلال مفاوضات مجموعة «5+1» النووية ضدّ إيران، وهي لا تزال تدعم الحظر الأمريكي الظّالم على الشعب الإيراني ولها مشاركة نشطة في تنفيذه، بل تظهر إصرارها على العداء للجمهورية الإسلامية ومواطنيها. من البديهي في مثل هذه الحالة أنه لا يمكن الوثوق بفرنسا لتأمين لقاح ضد «كورونا».

 


[1] Casteret, Anne-Marie (1992). L'affaire du sang (French). Paris: Éditions La Découverte. ISBN 2707121150.

[2] Jean Sanitas (1994). Le sang et le SIDA: une enquête critique sur l'affaire du sang contaminé et le scandale des transfusions sanguines. L'Harmattan. ISBN 2-7384-3085-6.

[5] Hagen, Piet (1993). Blood Transfusion in Europe: A "white Paper", Volume 68. p. 26. ISBN 9287123764.

[6] https://www.france24.com/fr/20150727-visite-laurent-fabius-iran-affaire-sang-contamine-ultraconservateurs-medias-iranien-france-teheran-sida-vih-nucleaire

[9] https://www.lemonde.fr/archives/article/2000/01/01/sang-contamine-edmond-herve-condamne-laurent-fabius-et-georgina-dufoix-relaxes_3597933_1819218.html

[12] https://www.imna.ir/news/141821/

[13] https://www.borna.news/fa/tiny/news-1117281

[16] https://www.imna.ir/news/141821/