* نشكركم الأستاذَ الدكتور محمد علي آذرشب على هذه الفرصة التي منحتها لمكتب حفظ ونشر تراث سماحة الإمام الخامنئي. في أول سؤال، كيف تعرفتم إلى سماحة القائد، ومتى بدأت هذه الصداقة، وماذا كان سببها؟
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أولاً أنا أشكركم على أنكم تفضلتم وأتحتم لي الفرصة للحديث عن هذا الموضوع. بشأن السؤال الذي تفضلتم به، أنا جئت إلى إيران سنة 1950 ميلادية، وجرّاء تربيتي في المنظومة الفكرية للشهيد الصدر في العراق، كنت أبحث عمن هو قريب من هذه المنظومة، فوجدت أن السيد الخامنئي - مما سمعت - من القريبين جداً من هذه المنظومة الفكرية، فشُدِدت إليه لكن بصورة غير مباشرة عبر الأشرطة التي كانت تصل من مشهد إلى طهران وكنت أستمع إليها، كما كنتُ أتهيأ الفرصة حينما أسافر إلى مشهد كي أذهب وأستمع لمحاضرات السيد الخامنئي. هذا طبعاً كان قبل الثورة الإسلامية. حقيقةً توثقت العلاقة منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة. تعرفت إليه وارتبطت به أكثر، ثم حينما صار سماحته إمام جمعة طهران كنت أترجم خطبه العربية وأبعثها إليه، وهو كان يستحسن كثيراً هذه الترجمات، وبعد ذلك أتيحت لي الفرصة أن أترجم بعض محاضرات السيد وكتبه وأسلمها له، فكان يستحسن ذلك ويُعجب به كثيراً. هكذا، من ترجمة المحاضرات وخطب الجمعة تعرفت إليه كثيراً، ثم زادت هذه المعرفة حينما انعقدت المؤتمرات التي كان يشارك فيها الإمام الخامنئي، فكنت أترجم الخطب الطويلة والكبيرة والمهمة التي يلقيها السيد الخامنئي في تلك المؤتمرات، وكان أيضاً يشجعني على هذه الترجمة.
بعد ذلك أتيحت لي الفرصة أن أذهب إلى السودان فكنت مستشاراً ثقافياً هناك. طبعاً تعرفون أن مدة المهمة في السودان أربع سنوات لكن بعد مضي ثلاث سنوات توفّي الإمام الخميني (رض)، فبعث السيد القائد مَن يدعوني بسرعة أن أرجع إلى طهران. ووفق قول هذا الشخص الذي جاء إلى الخرطوم: «قال السيد (الخامنئي) اقتلعوا السيد آذرشب وأتوا به إلى طهران». لقد جئت شاكراً حقيقةً هذه النعمة التي أتيحت لي، وقدمتُ إلى طهران واشتغلت وقتاً في مكتب العلاقات الدولية للسيد، وهكذا تطورت العلاقة أكثر فأكثر. مرة بلغني أن السيد يحبّ أن تكون له جلسة يتكلم فيها بالعربية وأبديت استعدادي فوراً لذلك. انعقدت الجلسة الأولى وكانت جيدة جداً، إذ طلب السيد أن تتواصل هذه الجلسات كل أسبوع. كان الحديث يدور حول الأدب العربي والفكر وما يدور في الساحة العربية من أحداث، فكنّا نتحدث كثيراً في هذا المجال، ثم في إحدى الجلسات قلت له: سيدنا، أنت تتكلم بالعربية، هل يمكن أن أطلب منك أن تتحدث عن حياتك بالعربية؟ استجاب فوراً وقال: «نعم»، وبدأ يتحدث عن تاريخ حياته بالعربية، فصار عندنا مجموعة مدوّنة وكبيرة من تاريخ حياته بالعربية اخترنا منها الذي طُبع أخيراً في بيروت وانتشر تحت عنوان «إن مع الصبر نصراً»، وهو يشتمل على المذكرات التي تحدث عنها السيد في تلك المحاضرات.
* بعد تعرفكم إلى سماحة القائد، وكنتم قد أشرتم إلى هذا الموضوع، ماذا كان المحور الرئيسي لهذه العلاقة؟ أيضاً، تحدث سماحة القائد في أماكن عدة في ذكرياته عن حبه الخاص ورغبته الكبيرة في تعلم العربية، ومتابعته الخاصة للأدباء والشعراء في العالم العربي. هذا الموضوع كيف كان له تأثيره في علاقتكم بسماحة القائد؟
أساساً بدأت العلاقة عبر اللغة العربية، وبعد ذلك تطورت من اللغة إلى الأدب العربي. تحتل العربية مكانة مهمة لدى السيد القائد وفي منظومته الفكرية، لأسباب منها أولاً القرآن الكريم. طبعاً اهتمام السيد القائد بالقرآن الكريم معروف جداً، وأعتقد أن أهم ما شغله في كل أعماله بعد القضايا السياسية وفي المنظومة الفكرية هو القرآن الكريم. لقد حاضَرَ في القرآن الكريم وقدّمه بطريقة معاصرة وبصورة حركية وحضارية، أي قدّم القرآن الكريم في إطار حضاري، وإضافة إلى ذلك اهتم بقراءة القرآن. أنتم تعرفون أن أول من نشر القراءات المصرية في إيران هو السيد القائد. كان أحد الذين كانت لديهم رغبة قوية في أن يتعرّفوا إلى القراء المصريين كافة، وكان يحتفظ بتسجيلاتهم ويستنسخها ويوزعها في أنحاء إيران. الحقيقة هي أن إيران تعرفت إلى القراء المصريين عبر السيد القائد. من هنا، من الطبيعي أن يكون الإنسان له هذا الاهتمام بالقرآن الكريم، ويكون له اهتمام أيضاً باللغة العربية، لأن لغة القرآن هي العربية.
إضافة إلى ذلك، ومن اهتمام السيد القائد بالقرآن الكريم، ترجَم سماحته كثيراً من الأمور القرآنية العربية إلى اللغة الفارسية. مثلاً الجزء الأول من «في ظلال القرآن» ترجمه إلى الفارسية، والترجمة رائعة للغاية. حتى أن الإنسان حينما يقرأ هذه الترجمة لا يمكن أن يفهم أنها مترجمة، بل يتصور أنها مكتوبة بالنص الأصلي. على كل حال اهتمامه بالقرآن الكريم سواء على مستوى المفاهيم أو النشر أو ترجمة الموضوعات القرآنية إلى الفارسية كانت من المحاور المهمة التي جلبت السيد القائد إلى اللغة العربية. هناك مسألة أخرى أيضاً في ذهن السيد القائد، أي المنظومة الفكرية للسيد القائد. إنه يعتقد أن من لا يفهم أو يكون له ذوق في الأدب العربي لا يمكن أن يتذوق القرآن والحديث الشريف، وطبعاً القرآن والحديث هما المصدران الأساسيان للفقاهة. إذن، الفقاهة تحتاج أيضاً إلى العربية. وأنا من اطلاعي ودراستي الفقهاء في القديم والعصر الحديث وجدت أن الفقهاء الكبار، أي الذين قدموا أشياء جديدة وقدموا ابتكارات وأحدثوا تطوراً في الحركة الفقهية، كانوا يجيدون الأدب العربي ولهم ذوق فيه، فإما أن يكونوا شعراء وإما أن يكون لهم ذوق في الأدب العربي ابتداء من الشريفين الرضي والمرتضى حتى اليوم. نجد للفقهاء الكبار شعراً بالعربية أو تذوقاً للأدب العربي. إذن، القرآن يرتبط بالعربية والفقاهة التي هي أيضاً من المنظومة الفكرية للسيد القائد ترتبط بالأدب العربي وبالعربية.
ثم إنّ السيد القائد - لا بأس أن أخبركم بذلك - كان منذ نعومة أظفاره مهتماً بوحدة الأمة الإسلامية. هذا الاهتمام الذي نجده اليوم على لسان السيد القائد بوحدة الأمة الإسلامية عبر مجمع التقريب بين المذاهب وعبر المحاضرات التي يلقيها وأيضاً أسبوع الوحدة الإسلامية موجود عند السيد القائد منذ نعومة أظفاره، ومن الطبيعي أن يكون التوجه نحو وحدة الأمة الإسلامية أيضاً توجهاً نحو اللغة العربية لأنها ما تجمع الأمة الإسلامية على الأصعدة المختلفة، كما أنها لغة حضارية، فالعربية بعد ظهور الإسلام لم تكن لغة قومية بل هي لغة الحضارة الإسلامية كما أنها لغة حضارية. وبالمناسبة اللغة الفارسية كذلك، واهتمام السيد القائد أيضاً بالفارسية كبير جداً، وهو يعتقد أنها إلى جانب العربية تشكلان اللغة الحضارية للعالم الإسلامي، ومن ذلك مثلاً اهتمامه بإقبال اللاهوري. وإقبال لم يأتِ يوماً واحداً إلى إيران لكن كل دواوينه بالفارسية، ما يدل على أن هذه اللغة هي لغة الحضارة الإسلامية أيضاً إلى جانب العربية. فاهتمام سماحته اهتمام حضاري ومن منطلق القرآن ومن منطلق الفقاهة والحضارة الإسلامية. السيد الخامنئي له ارتباط قوي باللغة العربية.
* سماحة القائد يذكر في ذكرياته أنه قبل انتصار الثورة الإسلامية كان يتابع الإذاعة المصرية، وفي مكان آخر من ذكرياته يتحدث عن حبه الخاص ورغبته في زيارة مصر. لماذا هذه الرؤية لسماحة قائد الثورة تجاه مصر ومتابعة أخبار القوى الثورية والإسلامية في مصر أو القراء الذين أشرتم إليهم مثل مصطفى إسماعيل؟ ما السبب في هذا، وإلى أي موضوع يعود؟
في الواقع إن العلاقات الثقافية والعلمية بين إيران ومصر قديمة جداً وليست جديدة، ومن هنا إن كل من فكَّر في أن يقوم على مشروع قوي وعظيم على مستوى العالم الإسلامي ذهب إلى مصر. السيد جمال الدين الأفغاني حاول أن يدشن عمله ومشروعه في دول عدة فلم يفلح لكنه حينما ذهب إلى مصر أفلح واستطاع أن يبشر بفكرته وبمشروعه الحضاري التوحيدي للعالم الإسلامي. محمد تقي القمي أيضاً ذهب إلى أماكن عدة ليؤسس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية أو دار الوحدة الإسلامية وما أفلح إلا في مصر لأنها عريقة في انفتاحها على المشروع الإسلامي. حينما جاء نابليون إلى مصر سنة 1798 وطُرد سنة 1801 أحدث في مصر هزة كبيرة جعلت المصريين يتوجهون إلى الضعف الموجود في جسد الأمة الإسلامية، ولذلك نشأت حركة تبلورت تقريباً في أيام السيد جمال الدين الأفغاني وأيام عرابي باشا، وحدثت الحركة التي تحدثت عنها «الإخوان» وغير «الإخوان»، ما يعني أن هذه كلها من إفرازات الصحوة الإسلامية التي كانت قديمة وعريقة في مصر، وهؤلاء القراء الكبار الذين برزوا في مصر هم أيضاً برزوا بهذا الوعي الإسلامي وهذه الصحوة الإسلامية في مصر.
من هنا إن الكاتب المصري وقارئ القرآن المصري لهما مكانة كبيرة في إيران. حتى الرواية المصرية والشخصيات المصرية أمثال طه حسين ومصطفى صادق الرافعي معروفون في إيران، ومن هنا إن توجه السيد القائد إلى مصر يأتي في هذا السياق، وهو سياقُ أن مصر كانت في مقدمة الوعي الإسلامي ومقدمة الصحوة الإسلامية للعالم الإسلامي، فمنها انطلق السيد جمال الدين، ومنها بدأت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، ومنها أيضاً بدأت الحركة المناهضة للاستعمار. المصريون هم أول من نهضوا ضد المستعمرين الفرنسيين وطردوهم، إذ لم يبقوا أكثر من ثلاث سنوات في مصر. ولذلك هناك صحوة. الإنجليز أيضاً جاؤوا واحتلوا مصر لكنهم لم يستطيعوا أن يبقوا. إنّ هناك روحاً جهادية وروحاً نضالية وروحاً فكرية وصحوة إسلامية في مصر منذ القديم، وطبعاً كانت كلها موجودة في إيران أيضاً، لكن استطاعت أن تقوى بفضل ارتباطها بمصر. مثلاً نرى أن نواب صفوي توجه إلى مصر، وأبو الحسن الكاشاني كان له علاقات مع مصر، وهكذا. حتى علماء النجف الأشرف أيضاً توجهوا إلى مصر وكانت لهم علاقة مع علمائها خاصة حينما ظهرت مجلة «رسالة الإسلام» التي كانت تصدرها «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية». لقد كانت هناك مشاركة جيدة من الإيرانيين في هذه المجلة. العلامة السمناني ومحمد تقي القمي وغيرهم كانت لهم أيضاً علاقة مع هذه المجلة ويكتبون فيها. من هنا إن ارتباط السيد الخامنئي بمصر ليس جديداً وإنما يأتي في سياق هذا التوجه الموجود في إيران تجاه مصر والمصريين.
* سماحة قائد الثورة يشير في ذكرياته إلى صداقته وعلاقته بالإخوة العرب في خوزستان خلال السجن ما قبل الثورة الإسلامية، أي مرحلة النضال. من كان هؤلاء الذين يشير إليهم سماحة قائد الثورة، وهل بعد انتصار الثورة استمرت هذه العلاقة، وكيف كانت هذه العلاقة خاصة مع الأدباء العرب الإيرانيين؟
نعم. في الواقع، كان السيد الخامنئي ينجذب إلى كل نطق عربي، وهو يقول: «كان العراقيون يأتون إلى صحن الإمام الرضا (ع) ويقيمون مجلس عزاء ومجلس لطم على الإمام الحسين (ع)، فكنت أجلس معهم وأقف لأستمع لكلامهم العربي. كنت أستمع لكلامهم العربي». إنه ينجذب إلى كل كلام عربي. وبالمناسبة حينما سُجن في «قزل قلعه» كان هناك أيضاً بعض الإخوان العرب فانجذب إليهم. هذا الانجذاب طبيعي جداً. طبعاً كان هؤلاء العرب في «قزل قلعه» من أنصار «حركة تحرير الأحواز»، أو غيرها، وكانت حركة قومية تقريباً. لكن السيد الخامنئي جلس معهم واتصل بهم وحتى خاطب بعضهم أن ينتموا إلى تنظيم إسلامي معين، وغيّر كثيرون منهم انتماءهم. ولذلك بقيت هناك اتصالات مستمرة حتى بعد خروجه من السجن، فكانت هناك علاقة عاطفية وفكرية وعلاقة ارتياح بينه وبين هؤلاء الإخوان العرب، ثم - كما قلتم - استمرت هذه العلاقة، فحينما يذهب إلى خوزستان كان يتحدث مع الإخوان العرب بالعربية. وبالمناسبة حينما يذهب إلى خوزستان كانت تأتي العشائر العربية بأعلامها كل واحد يحمل علم العشيرة الخاص به ويرحبون به ويستقبلونه...
مرة رغب السيد أن تكون له جلسة شعر مع شعراء خوزستان فعُقدت الجلسة ولا يزال السيد يتذكرها بأنها أعظم جلسة شهدها في ذلك الوقت، فلقد استعاد السيد فيها ذكرياته في السجن وأيضاً ذكرياته في علاقته بالعرب وباللغة العربية، وألقى محاضرة جيدة في هذا الجمع بعدما استمع لشعر الشعراء، وغير ذلك. كانت جلسة قوية جداً وكان الشعراءُ العرب متحمسين جداً أن ينشدوا أشعارهم أمام السيد القائد. بعدما انتهت الجلسة جاءني واحد وقال لي: «أريد أن أرى السيد». قلت له: «من أنت؟» لقد كان من العرب الموجودين هناك. قال: «أنا السيد كاظم». قلت له: «هل أنت السيد كاظم بارزِخان؟». قال: «نعم... نعم... نعم... أنا هو». فتذكرت أن السيد القائد تحدث في مذكراته عن هذا السيد، كاظم، وقال إنه كان يقرأ لنا أشعاراً بالعربية وبأسلوب خاص». قلت للسيد [الخامنئي] إن السيد كاظم موجود هنا. فتعجب جداً. خرجت فوجدت أنه قد سافر إلى بلدته في ماهشهر، فاتصلت به - كان رقم تلفونه عندي - وقلت له: «ائتِ بسرعة إلى السيد القائد فهو يريد أن يراك»، فجاء الرجل إلى السيد القائد ثم كانت هناك جلسة في محافظة خوزستان وأنشد أشعاراً حول الإمام علي (ع)، والسيد الخامنئي بكى لأنه تذكر الأيام التي كان يسمع فيها هذه الأشعار وهو في السجن[1]. على كل حال، استمرت هذه العلاقة ولا تزال موجودة أيضاً قلبياً وعاطفياً وفكرياً بين السيد الخامنئي وبين هؤلاء الإخوان العرب، لأن السيد انفتح عليهم. هذا هو المهم: صحيح أن السيد فارسي وأنه إيراني لكنه منفتح على العالم العربي ومنفتح على العرب خاصة. هو مرة قال: «إذا عز العرب، عز الإسلام، وإذا ذل العرب، ذل الإسلام». هذه المقولة مهمة جداً، فهو يهتم جداً بعزة العرب وبعزة المسلمين عامة ولذلك علاقته أيضاً - كما تفضلتم - استمرت مع هؤلاء العرب الخوزستانيين. وطبعاً بعض هؤلاء - مع الأسف – أُعدموا [على يد النّظام البهلوي] بعد خروج السيد من السجن وبعد افتراقهم عن السيد، وبعضهم بقوا ولهم علاقة الآن بالسيد.
* كل عام وفي شهر رمضان تجري إقامة جلسات شعرية بحضور سماحة القائد، وفي هذه الجلسات، يشارك شعراء غير إيرانيين، كما أقيم حتى الآن عدد من الجلسات الشعرية وأمسيات شعرية بحضور شعراء العرب الإيرانيين وغير الإيرانيين أمام السيد القائد، وحضرتك - الدكتور - كنت المشرف والمسؤول عن إقامة هذه الجلسات. هل كان للسيد القائد كذلك دور في التخطيط لإقامة هذه الجلسات، وهل لديكم ذكريات عنها؟
في الواقع هذه الجلسات كانت تُقام على هامش مؤتمر الوحدة الإسلامية، والسيد بنفسه كان يقول: «أريد أن تكون هناك جلسة أمسية شعرية على هامش مؤتمر الوحدة الإسلامية»، ولذلك كانت هناك دعوة للشعراء العرب. وإضافة إلى دعوة المفكرين والكتّاب والباحثين الذين يشاركون في مؤتمر الوحدة الإسلامية، كانت هناك دعوة خاصة للشعراء العرب أيضاً أن يأتوا. وبعدما تتهيأ ظروف الجلسة، كان هؤلاء الشعراء يأتون طبعاً وإلى جانبهم الشعراء الإيرانيون فيجتمعون والشعراء الإيرانيين في جلسة عظيمة جداً، وهي من أجمل الجلسات. حتى أن الكويتي عبد العزيز البطي كتب رسالة إلى السيد القائد قال فيها: «أنا أستغرب حينما سمعت أنك تجلس ست ساعات مع الشعراء لكي ينشدوا شعرهم ولكي تستمع لشعرهم». هذه ظاهرة عجيبة، فالسيد القائد في موقع لا يسمح له أن يؤدي مثل هذا العمل الذي يأخذ منه ست ساعات أو خمساً... ستّ ساعات كان يجلس مع هؤلاء الشعراء العرب دون ملل ويستمع لهم ويناقشهم، ثم يلقي كلمة فيهم، وهذه أيضاً من المظاهر المهمة. طبعاً كان يحاول أيضاً أن يخلق ارتباطاً بين الأدب الفارسي والأدب العربي ولذلك كان هنالك أيضاً شعراء ينشدون بالفارسية إضافة إلى العربية كي يؤكد مسألة واحدة هي أن هناك علاقة وثيقة بين الأدبين العربي والفارسي.
* في رأيكم، أي نوع يتابع سماحة السيد القائد من الشعر في الأدب العربي، وأياً من الشعراء، وما السبب؟ لقد رأينا إصداركم الجديد وكتابكم الجديد حول الجواهري تحت عنوان «الجواهري في إيران». سألناكم عن ذلك نظراً إلى هذا الإصدار، والجواهري كان من الشعراء الكبار الذين زاروا إيران، وقد التقى بسماحة قائد الثورة الإسلامية...
السيد - حفظه الله - يهتم بالأدب العربي المعاصر إذا توافر فيه عنصران. العنصر الأول أن يكون أصيلاً أي ألّا يكون ذيلاً للأدب الغربي. نعم، لا بأس بالتأثر بالأدب الغربي الجيد. أما أن يكون ذيلاً للأدب الغربي، فهذا ليس جيداً. إن تطوير الشعر العربي بتفاعله مع الأدب الغربي جيد. أما أن يكون ذيلاً للأدب الغربي ولا يقوم على أصالة ولا على أرضية صلبة من الأدب العربي، فهذا غير مطلوب. في ذهن السيد الشعرُ العربي ينبغي أن يكون أصيلاً سواء أكان شعراً عمودياً أم حراً، فينبغي أن يكون أصيلاً. هذا أولاً. وبجانب الأصالة ينبغي أن يكون محركاً ثورياً، فينبغي أن يحرك وأن يبثّ الوعي في النفوس وأن يعرّف الناس إلى ما يعانيه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، كما ينبغي أن يحرك الشعوب نحو الوعي واليقظة.
شعر الإيقاظ مهم جداً في ذهن السيد، وإذا سألتني عن الجواهري، فإنه يمتاز بهاتين الصفتين: أولاً أصيل وثانياً شعره شعر إيقاظ. طبعاً السيد القائد يهتم بشعر الإيقاظ ويحفظه ومن ذلك مثلاً: «نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي/ حَرَسَتْكِ آلِهة الطَّعامِ». هذه يقرؤها باستمرار، أو يقرأ: «أطْبِقْ دُجى، أطْبِقْ ضَبابُ، أطْبقْ جَهاماً يا سَحابُ، أطبق على مُتَبلِّدينَ، شكا خُمولَهمُ الذُّباب». فهذا الشعر يحاول أن يحرك الشعوب ويوقظها. هاتان الصفتان متى توافرتا في الشعر، يهتم به السيد الخامنئي كثيراً. وطبعاً الجواهري في هاتين الصفتين يحتل المرتبة الأولى، كما يوجد غيره أيضاً مثل أحمد شوقي الذي ديوانه «الشوقيات» بيد السيد ويفتحه ويقرؤه دائماً، وثمة أيضاً دواوين عربية أخرى عند السيد لكن اهتمامه بديوان الجواهري أكثر من غيره لوجود هاتين الصفتين: الأصالة والإيقاظ.
* أنتم أشرتم إلى هذا الموضوع ولكن في قديم الأيام في الماضي كان هناك العلماء وكبار الحوزة العلمية مثل السيد الرضي والسيد المرتضى، كانوا من أجل أن يعدّوا النصوص الفقهية العربية القديمة أو يقرؤوها ويدرسوها يصيرون متخصصين في الأدب العربي. هل من الممكن أن هذا الموضوع هو أحد أسباب الحب الخاص أو المتابعة الخاصة من سماحة قائد الثورة للأدب العربي؟
نعم، أنا ذكرت لكم أن الفقيه يجب أن يكون متذوقاً للأدب العربي لا أن يعرف النصوص العربية فقط ولا أنه يعرف مفردات العربية والكلمات العربية فقط. الكلمات العربية والنصوص العربية جسدٌ لكن داخل هذا الجسد توجد روح، وهذه الروح هي الأدب العربي، وهي الذوق اللغوي. هذا طبعاً لا يقتصر على العربية فقط لأن الفارسية أيضاً جسد وروح. أحياناً المستشرقون يقرؤون سعدي ويقرؤون حافظ لكنهم يقرؤون الجسد ولا يستطيعون أن يدخلوا إلى روح الفارسية، وهكذا الأدب العربي. الأدب العربي يحتاج إلى التذوق، فالأدب ذوق والأدب شعور، وفي الشعور، يجب أن يدخل الإنسان إلى التجربة الشعورية للشعر حتى يفهم ما يقصده الشاعر. طبعاً تعرفون أن الشريف الرضي فقيه وشاعر ولكن شعره وأدبه غلبا على فقهه، والشريف المرتضى أيضاً فقيه وشاعر ولكن فقهه غلب على أدبه وشعره، فالسيد المرتضى معروف بفقهه والسيد الشريف الرضي معروف بأدبه. هذا طبعاً لا يقتصر على الشريف الرضي والمرتضى وإنما لو نظرنا إلى الفقهاء على مر التاريخ، لوجدنا أنهم إما شعراء وإما متذوقون للأدب العربي والشعر العربي حتى عصرنا.
طبعاً تذوق الأدب الفارسي أيضاً لا ينفصل عن الأدب العربي، بل ربما تجد فقيهاً غير متذوق للأدب العربي لكنه متذوق للأدب الفارسي. لا فرق بين ذلك لأن في تذوق الأدب العربي أو الفارسي كلاهما يصدر من منبع واحد، فهما أدبان حضاريان. وإذا أثارا في النفس اشتياقاً وشعوراً وهياجاً، فإنهما يستطيعان أن يدخلا من مدخل كبير إلى ساحة الأدب العربي والتذوق العربي وفهم القرآن وفهم الحديث. وإضافة إلى ذلك إن الفقهاء دعاة للأمة، والدعوة بالأدب أقوى من الدعوة بالفكر، لأن الفكر يخاطب الفكر، والأدب يخاطب الشعور، والشعور هو الطاقة المحركة للإنسان. الشعور هو الذي يحرك ويدفع ويهدي. مثلاً لاحظوا لماذا استعمل القرآن الأسلوب الأدبي في كل آياته؟ لأنه يريد أن يخاطب الشعور. بالشعور، يتحرك الإنسان، وبالشعور، يحيا الإنسان، وهناك قصيدة معروفة لأبي القاسم الشابي يقول فيها: «عش بالشعور». فإذا عشت بشعورك، تستطيع أن تتحرك وأن تحيا. حياة الإنسان بشعوره. من هنا هؤلاء الفقهاء يحتاجون إلى الأدب العربي والدعاة أيضاً يحتاجون إليه من أجل دعوة الناس إلى الطريق الصحيح.
* أيها الدكتور، أشرتم إلى موضوعات الاجتماعات أو الجلسات التي كان يقيمها سماحة الإمام الخامنئي والتي كان يجري فيها الحديث عن الأدب العربي والقديم والمعاصر وكذلك الذكريات التي تحدث عنها وهذه الذكريات في النهاية نُشرت أجزاء منها في كتاب «إن مع الصبر نصراً». هل هناك نقاط أخرى أو ما تضيفونه حول هذه الاجتماعات. ذكرتم بعض الموضوعات، لكن هل كانت تُذكر موضوعات أخرى؟ ومن كان يشارك غير معاليكم وسماحة قائد الثورة في هذه الاجتماعات؟
لم يشارك أحد لكن أقول: هناك مسألة مهمة في هذه الذكريات هي الصبر الذي ظهر من السيد في سجونه. في الواقع ربما لم تكن المدة التي سُجن فيها السيد طويلة ولكن المعاناة التي عاناها في هذه السجون كانت شديدة جداً: التعذيب الوحشي وسماع الكلمات النابية والبقاء في زنزانة صغيرة جداً لا يستطيع الإنسان أن يتمدد فيها. بعد ذلك الأشياء الأخرى هي أشياء عجيبة ربما لا يستطيع الإنسان أن يذكرها من كثرة ما عاناه الرجل من تعذيب في هذه السجون ولكنه صبر وكان يُصبِّر الآخرين. فالزنزانات كانت متقاربة، وحينما يسمع السيد بأن سجيناً جديداً جاء إلى زنزانة أخرى كان يقرأ الآيات التي تبعث على الصبر والتحمل، وتبعث الروح العالية في نفس هذا السجين من جديد. لقد كان يهتم بذلك.
أقول لكم شيئاً آخر ربما تتعجبون منه. السيد الخامنئي كان لا يُزج في زنزانة انفرادية بل كان معه سجناء آخرون، وفي الزنزانة التي كان فيها السيد الخامنئي ثمة بعض السجناء من الشيوعيين، ولكن السيد كان يهتم بهم ويُصبّرهم ويعطف عليهم ويساعدهم، ثم كانوا يشكّون أن السيد لم يعرفهم فيقولون له: «نحن شيوعيون»، فيقول [السید]: «أنا أعرف... أنا أعرف! عندنا هموم مشترك. اجلسوا، اجلسوا!». لقد كان يهتم بالسجين ولا يسأم بل يعلمه الصبر والإنسانية. وبالمناسبة أنا أعرف واحداً - توفّي الآن - من هؤلاء الذين كانوا في زنزانة السيد، وقد قال: «حقيقةً ما شاهدت معمماً مثل هذا السيد في تواضعه وعطفه وفي كذا وكذا». هذا الرجل كان يتعامل معاملة سيئة مع السيد في الزنزانة مع الأسف الشديد. فقال السيد مرة له: «وأنا لم أرَ مثلك عنيداً ومشاكساً في السجن». لذلك علاقته بالسجناء كانت عجيبة. حتى مع هؤلاء الذين يبيعون الشاي في السجن كانت علاقته معهم جيدة، وكان يتحدث معهم، وله معهم أحاديث معينة. لذلك إن ذكرياته مهمة وهي تدلّ على الصبر والاستقامة وعلى التزام النوافل، فلم يترك صلاة الليل طوال مدة سجنه مع أنه كان يعاني من الأورام ومن التعذيب. لكنه لم يترك نافلة الليل... ثم ارتباطه بالسجناء وبأصدقائه وهو ارتباط إنساني. حتى بأولئك الذين لا يرتبط بهم فكرياً ولا عاطفياً كانت له معهم علاقة إنسانية جيدة.
* خلال اللقاءات الرسمية أو غير الرسمية لسماحة قائد الثورة الإسلامية مع الشخصيات الأجنبية والعربية هل رأيتم أن سماحته يتحدث معهم أحياناً بالعربية؟
نعم. نعم، رأيته يتحدث معهم باللغة العربية، لكن في الجلسات الرسمية كان ملتزماً أن يتحدث باللغة الرسمية الإيرانية لأن اللغة الرسمية في بلاده هي الفارسية، ولذلك كان يتحدث بالفارسية. أما حينما يخلو إليهم كان يتحدث معهم بالعربية، وحتى ينشد بعض الأشعار معهم بالعربية. ارتباطه قوي بالعربية حتى مع هؤلاء الذين كانوا يزورونه من العرب فيتحدث معهم بلغتهم.
* أشكركم، أيها الدكتور، على هذه الفرصة ونسأل لكم التوفيق.
لكم الشكر ووفقكم الله لكل خير، وجعلنا - إن شاء الله - من أنصار الإسلام، فنصرة الإسلام تتطلب نصرة اللغة العربية والأدب العربي والارتباط بالعالم العربي. نسأل الله التّوفيق.