الكاتب: روح الله عبد الملكي

عام 1979، تحولت الأمواج الهادرة من الاحتجاجات الشعبية والمعارضة للحاكم المستبد التابع لأمريكا إلى حركة عظيمة في إيران، حيث انتصرت الثورة الإسلامية في نهاية المطاف. الشاه الذي كان قد فر من البلاد قبل انتصار الثورة، لجأ إلى أمريكا بعد بضعة أشهر على انتصارها. ولأنّه كان مسؤولاً عن المجازر والسجن والتعذيب والنفي لآلاف الإيرانيين بدعم من أمريكا خلال ما قبل الثورة، طالبَ الناس الثوريون عبر تجمعات حاشدة بتسليمه للبلاد، إلى درجة أنِ هذا المطلب الشعبي قد انعكس أيضاً في خطاب الإمام الخميني، قائد الثورة والوطن. في المقابل إن رفضَ أمريكا مطلبَ الثوار إعادةَ الشاه تذكرنا بالانقلاب العسكري الذي شنته هي وبريطانيا على الحكومة الشرعية والشعبية لإيران، فأوجدت هذا القلق والإبهام اللذان يفيدان بأنّ أمريكا تتآمر على الشعب الإيراني مرة أخرى وتفعل أيّ شيء لتجعل طَعم النصر مُرّاً وتحبط سنوات النضال وجهود الآلاف من الرجال والنساء المعذبين والمقتولين. فالناس لا يزالون يتذكرون كيف أُطيح بالحكومة الشعبية في إيران عام 1953 بانقلاب أمريكي وبريطاني، وكيف جلسَ الشاه رضا بهلوي على العرش. في تلك الواقعة، قرر رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، وحكومة أيزنهاور، بذريعة أن حكومة مصدق الشعبية في إيران غير موثوقة وقد تؤدي إلى هيمنة الشيوعيين في إيران، قرروا الإطاحة بحكومته وتمكين الاستبداد والدكتاتورية في إيران. في نهاية المطاف، وبعد الإطاحة بحكومة مصدق، عاد شاه إيران إلى طهران مع رئيس وكالة المخابرات المركزية (CIA) آنذاك، آلان دالاس، وقد تربّعَ على عرش السلطة.[1]

إنّ هذه الصورة المظلمة لأمريكا ونظرة الشك تجاه أهدافها في إيران لها جذور في الذاكرة التاريخية للشعب الإيراني، سواء على المدى القصير أو الطويل. في الحقيقة، ورغم أنّ ثورة الشعب الإيراني انتصرت في شباط/فبراير 1979، ثم تأسست جمهورية إيران الإسلامية بعد مدة وجيزة عبر استفتاء عام، إلاّ أن أمريكا استخدمت كافّة عناصرها وتشكيلاتها بغية إفشال الثورة سواء قبل انتصارها أو بعده. مثال على ذلك: قبل انتصار الثورة، وبعد مغادرة الشاه البلاد، جاء الجنرال هايزر إلى إيران في مَهمة سرية حتى يتمكن من إحباط الثورة. تضمّن مشروعه لتعطيل الثورة خططاً تصل في النهاية إلى الانقلاب العسكري.[2]

وأمّا بالنسبة إلى إجراءات أمريكا ضد الثورة الإيرانية في الأشهر الأولى من النظام الجديد لجمهورية إيران الإسلامية، تكفي الإشارة إلى إحدى الوثائق السرية للسفارة الأمريكية في إيران. وفقاً للوثيقة المذكورة: لو نسّق الأكراد والأذريون والعرب وسائر القوميات جهودهم وتعاونوا ودعموا بعضهم بعضاً من أجل الإطاحة بالحكومة الحالية، لكان في مقدورهم[3] جعل جمهورية إيران الإسلامية تواجه تحدياً صعباً.

في مثل هذه الظروف، دخل الطلاب الثوريون، الذين كانوا قلقين من تغيير الاتجاه والتآمر ضد الثورة، إلى السفارة الأمريكية واستولوا عليها بمنطق الردع وبتحرك تلقائي. ولأن هذا الإجراء من الطلاب جاء دون تنسيق رسمي مع حكومة جمهورية إيران الإسلامية، عارضه بعض المسؤولين الإيرانيين في البداية، لكن في النهاية وصف الإمام الخميني، في تصريحات داعمة، السيطرة على السفارة الأمريكية بالثورة الثانية. الآن، وبعد عقود، اكتُشفت صحة هذا الرأي، لأن ما فعله الشباب والمثقفون الثوريون، كان تفكيك التنظيم والارتباط لقوة مجهزة ومتدخلة، تسمى أمريكا، في الأحداث الداخلية لبلد لديها فيه ماضٍ طويل من التدخل في شؤونه كافة، لأن هذه الإمكانية كانت متوفرة لديها كي توقف هذا النظام المولود حديثاً وتقضي عليه.

بعد قرابة ثلاثين عاماً على الثورة الإسلاميّة في إيران، انطلقت موجة الصحوة الإسلامية في غربي آسيا وشمالي أفريقيا، وصدحَ صوت الغضب من شعوب دول مثل مصر وليبيا واليمن والبحرين ضد الحكام المستبدين والديكتاتوريين. خرج الناس الغاضبون ممن عانوا إلى الشوارع في مظاهرات كبيرة مطالبين بإسقاط الأنظمة العاجزة واستبدال أنظمة شعبية وعادلة بها.

لكن الزحف الشعبي في غربي آسيا وشمالي أفريقيا عامة لم يؤدِّ إلى النتيجة المرجوة. فإما أن مظاهرات الشعب ظلّت عقيمة وإما أن الأشخاص الذين استلموا زمام الأمور بعد الاحتجاجات لم يلبوا مطالب الشعب بل حافظوا على إرث الظلم والقمع للأنظمة السابقة. في الإجابة عن السبب في إخفاق الصحوة الإسلامية في تحقيق أهدافها، كانت النقطة المحورية والمشتركة بينها جميعاً بقاء الارتباط الأمريكي مع الدول المذكورة، ونتيجة لذلك جاءت الاستفادة من الأرضيات والإمكانات لحرف الأهداف الثورية وتوجيه الأحداث نحو المصالح الإمبريالية.

من ناحية أخرى، ومثلما فاجأت انتفاضة الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 أمريكا، فاجأت الهبّة في بعض هذه البلدان، مثل تونس ومصر، الغربَ أيضاً. أدى الإخفاق في التنبؤ بانتفاضة شعبَي تونس ومصر إلى انتقاد البيت الأبيض والكونغرس بشدة أجهزةَ التجسس الأمريكية.[4] ومثلما دعمت أمريكا النظام الملكي في إيران حتى اللحظات الأخيرة، دعمت أيضاً بعض الأنظمة التابعة لها مثل تونس ومصر والبحرين وبذلت الجهود من أجل الحفاظ عليها. على هذا الأساس، وقعت سلسلة الأحداث في هذه البلدان والبلدان الأخرى بنحو جعلت مصيرها مختلفاً عن الثورة الإيرانية.

في نموذج على ذلك: عندما أدت مقاومة الثوار المصريين وتقدمهم إلى سقوط دكتاتور مصر حسني مبارك، أبقت أمريكا على ارتباطها بهيكل السلطة هناك وذلك من أجل الحفاظ على نفوذها وتأثيرها في مجريات الأحداث. في هذا الصدد، دعمت «المجلس الأعلى القوات للمسلحة»[5] الذي تولى السلطة بعد استقالة مبارك، وتعاونت معه. كما أصدر المجلس آنف الذكر بياناً طمأن فيه أمريكا والكيان الصهيوني أن «معاهدة السلام» لعام 1979 المعروفة باسم «كامب ديفيد» ستبقى كما هي. اللافت هنا أن أحد أعضاء هذا المجلس أعلن في كلمة له في «معهد الولايات المتحدة للسلام» أن «لدينا علاقات إستراتيجية قوية مع أمريكا منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979... وعلينا تعزيز هذه العلاقات»[6] .في نهاية المطاف، وبسبب تدخّل أمريكا، ألقى أعضاء هذا المجلس القبض على رئيس مصر المنتخب ديمقراطياً، محمد مرسي، وجرت محاكمته وحُكم عليه بالإعدام.

تمكنت أمريكا أيضاً من الحفاظ على نفوذها وإحباط أهداف الانتفاضة الشعبية في دول أخرى بأساليب مماثلة أو بابتكارات جديدة. في مثال آخر: استغل مسؤولو البيت الأبيض الفرصة التي أحدثها الحراك والأزمة في ليبيا وأعلنوا معارضتهم للقذافي. لقد توغلوا مع الجماهير الغاضبة إلى قلب الأزمة ووظفوا جهودهم كافّة لتأمين وتعزيز مصالحهم ونفوذهم في هذا البلد الغني بالنفط.[7] كانت نتيجة التدخل الأمريكي في ليبيا غارات «الناتو» الجوية على هذا البلد، وقتل عسكريين ومدنيين، وتوفير ظروف أفضل لاستكمال مصالح واشنطن الاقتصادية والسياسية هناك.

نتيجة لذلك أخفقت الصحوة الإسلامية، التي كانت تُعرف بـ«الربيع العربي» في وسائل الإعلام السائدة، في البلدان التي لم تستطع قطع ارتباطها بأمريكا سواء أكان ذلك بإرادتها أو دون ذلك، وبقيت مصالح أمريكا فيها على حالها بدرجات متفاوتة، بل جرى تعزيزها أيضاً. الحالات الوحيدة التي فقدت فيها أمريكا نفوذها وفعاليتها كانت اليمن وسوريا. في كلتا الحالتين، أُغلقت السفارة الأمريكية، ومع مرور الوقت، حصلت الجبهة التي كانت تعارض أمريكا وتطالب بالاستقلال على ظروف أفضل.

على سبيل المثال، وفي مسألة سوريا حيث حاولت أمريكا الإطاحة بحكومة هذا البلد بالتحريض على انتفاضة مصطنعة وفوضى وحرب أهلية ومهاجمة البلد في نهاية الأمر، هاجم بعض الأشخاص المناصرين لاستقلال البلاد والحكومة الشرعية القائمة السفارة الأمريكية. كانوا يشاهدون أن الرئيس الأمريكي الذي يعلن معارضته الحكومة الشرعية لسوريا، وأن روبرت فورد، السفير الأمريكي في سوريا آنذاك، يتدخلان بالفعل في الشؤون الداخلية لهذا البلد ويتسببان في اشتعال الاضطرابات في سوريا، خاصة بحضور الأخير بين المحتجين.[8] كان هذا الهجوم الاحتجاجي دلالة على وعي الناس بتأثير العلاقات والارتباطات التآمرية لأمريكا على أرض سوريا. الدليل على وجهة النظر هذه تصريح مدير «مركز دراسات الشرق الأوسط» بجامعة أوكلاهوما، إذ قال بوضوح في الأشهر الأولى من الاضطرابات في سوريا وقبل إغلاق السفارة، بشأن أهمية السفارة الأمريكية في سوريا، إن موظفي السفارة يترددون من مراكز التجمعات والاضطرابات وإليها، وإن موظفي السفارة هم المصدر الأفضل للمعلومات التجسسيّة في سوريا.[9] ربما أغلقت أمريكا سفارتها على أمل العودة بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد في سوريا، لكن الحكومة الشرعية والقانونية في سوريا استفادت إلى أقصى الحدود من غياب تشکیلات التجسس والتدخّل، بمساعدة الدول الداعمة لها والمناهضة للاستكبار، خاصة جمهورية إيران الإسلامية، وأوصلت المصالح والنفوذ التنظيمي لأمريكا في سوريا حدّ الاقتلاع من الجذور.

تمكن مشاهدة النموذج الناجح لسوريا أبعد بكيلومترات من غربي آسيا، في أمريكا اللاتينية. ففي كانون الثاني/يناير 2019، أعلن زعيم المعارضة للحكومة المركزية في فنزويلا، خوان غوايدو، نفسه «الرئيس المؤقت» للبلاد في محاولة انقلابية. بعد هذه الخطوة، اعترفت أمريكا فوراً برئاسة غوايدو من أجل دعم هذا الانقلاب وطلبت من الدول الأخرى في العالم إعلان دعمها مخططي الانقلاب الفنزويلي. ردّاً على قرار البيت الأبيض هذا قطعت حكومة نيكولاس مادورو، وهو الرئيس الشرعي لفنزويلا، فوراً علاقات كاراكاس بواشنطن ومنحت دبلوماسيّي السفارة الأمريكية كلهم 72 ساعة لمغادرة البلاد.[10]

بعد هذا الإجراء الحاسم الذي اتخذته الحكومة الفنزويلية، أخفقت كافّة الإجراءات التي اتخذتها أمريكا لتثبيت مدبري الانقلاب. ورغم العقوبات الاقتصادية الشديدة التي فرضها البيت الأبيض، تغلبت فنزويلا على كافة المؤامرات لتغيير النظام في هذا البلد بالاعتماد على الوحدة الوطنية. أدت المقاومة الوطنية لفنزويلا إلى أن تبتعد إدارة بايدن عن سياسة «الضغوط القصوى» غير الفعالة ضد كاراكاس.

بالنظر إلى التعارض الأساسي والماهوي بين الدول المستكبرة – وعلى رأسها أمريكا - وبين الثورات الشعبية الساعية للعدالة والاستقلال، فإن الحضور والنفوذ السياسي للدول الإمبريالية والاستكبارية كان وسيبقى موجوداً في البلدان التي سجّلَت شعوبها ثورات تمحورت حول العدالة وذلك بغية تضعيف الثورات وإنجازاتها. من هذا المنطلق، إن من أهم طرق الوقاية من التضعيف وخلق الانحراف في الثورات المناهضة للاستعمار والاستكبار هو قطع أذرع النفوذ والتدخل السياسي للدول المهيمنة والمستعمرة وتقييد أنشطتها. تجدر الإشارة إلى أنّه في العصر الحالي، لا يقتصر خلق الانحرافات في الحركة المطالبة بالاستقلال والساعية إلى عدالة الشعوب على العلاقات السياسية المباشرة، إنما تحول ميدان الحرب الناعمة والمعرفية والثقافية إلى أهم الوسائل لخلق الانحرافات وتدمير منجزات الحركات الشعبية.

 


[1] Ahmed, Eqbal (1980). "What's Behind the Crises in Iran and Afghanistan". Social Text (3): 44–58.

[2] https://www.theguardian.com/world/iran-blog/2015/feb/11/us-general-huysers-secret-iran-mission-declassified

[3] https://b2n.ir/x06366

[4] https://www.nytimes.com/2011/02/05/world/middleeast/05cia.html

[5] Supreme Council of the Armed Forces.

[6] https://www.usip.org/publications/2011/07/beyond-tahrir-trajectory-egypts-transition

[7] Gamal M. Selim. (2013). The United States and the Arab Spring: The Dynamics of Political Engineering. Arab Studies Quarterly, 35(3), 263.

[8] https://www.nytimes.com/2011/07/12/world/middleeast/12syria.html

[9] https://www.businessinsider.com/why-are-regime-loyalists-attacking-the-us-embassy-in-syria-2011-7

[10] https://www.telesurtv.net/news/venezuela-nicolas-maduro-rompe-relaciones-diplomaticas-eeuu-20190123-0027.html

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir