الكاتب: السيّد مجتبى الحيدري
عندما قرر الكيان الصهيوني المهزوم أن ينتقم من الفلسطينيين، بدأ يعيث في الأرض فساداً ويصبّ جام غضبه على النساء والأطفال الآمنين في بيوتهم، كما لم تسلم من بطشه المدارس والجامعات ولا حتى المساجد والكنائس والمستشفيات... كل هذا يجري وسط صمت غربي مطْبِق وتأييد تام بكل أشكاله بذريعة حق الدفاع عن النفس، لكن كيف يمكن لمحتل أن يدافع عن نفسه؟ لا أحد يجيب.
أما مواقف الدول الإسلامية والعربية تجاه هذا العدوان الغاشم، لم تكن بالمستوى المطلوب بل تأرجحت بين متفرج ومتخاذل وقلة من الداعمين للقضية...
في هذا الخضم، جاء الدور العراقي واضحاً للتعويض عن الموقف العربي الخجول والمتضعضع تجاه فلسطين وأهلها الصابرين الصامدين.
قبل الخوض في هذا الجانب، لا بدّ لي من الإشادة بموقف العراق المشرّف من المشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة الذي تمثل في مشروع «صفقة القرن» ومحاولة جر العراق إليها عبر بعض الأبواق المأجورة في الداخل، ليأتي قرار مجلس النواب العراقي بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني كصفعة قوية لأمريكا والكيان الصهيوني، وضربة قاصمة لكلّ مخططاتهما التي لطالما استُخدمت ضد الشعب العراقي على مدى أعوام طويلة، وذلك عبر سياسات التجويع والحصار ونشر الإرهاب والفكر الداعشي في بلاده، بهدف تفتيته والسيطرة عليه وسلب قراره وإرادته في نصرة قضايا الأمة وفلسطين وإخضاعه للتطبيع مع «إسرائيل».
كما نجح العراق عبر إقراره قانون تجريم التطبيع في تعرية الدول العربية التي وقّعت اتفاقات تطبيع مع إسرائيل من جهة، وإحراج دول أخرى تمهد الطريق للتوصل إلى اتفاق تطبيع علني ورسمي مع «إسرائيل» من جهة ثانية.
الأهم من ذلك أن العراق أظهر نفسه عبر هذا القرار منسجماً مع المواقف السياسية الخارجية الواضحة لإيران ودول محور المقاومة وحركاتها الرافضة لكل صور العلاقة مع الكيان الصهيوني أو التطبيع معه باعتبارهما خطأً إستراتيجياً كبيراً يضرها أولاً، ويمهد الطريق أمام الأطماع الصهيونية في المنطقة.
اليوم ومع بزوغ فجر السابع من أكتوبر، بدا القرار العراقي تجاه نصرة فلسطين أكثر وضوحاً وتماسكاً، وذلك بالخطوات الداعمة لنضال الشعب الفلسطيني التي أعلنها العراق مرجعية وحكومة وشعباً ومقاومة، فقد كان في مقدمة الدول العربية التي سارعت على جميع المستويات السياسية والشعبية والتيارات وفصائل المقاومة لإدانة العدوان الصهيوني ضد المدنيين العزّل في قطاع غزة.
كذلك بادرت المرجعية العليا في النجف الأشرف إلى إصدار بيان دعت فيه إلى الوقوف في وجه الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، مؤكدة أن السبيل الوحيد لإحلال الأمن والسلام في هذه المنطقة هو إزالة الاحتلال عن الأراضي المغتصَبة.
وتميزت كلمة العراق في قضيّة فلسطين على نحو لافت ومبدئي في «قمة السلام» بالقاهرة التي ألقاها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لتعبيرها عن موقف يليق بتاريخ العراق ومكانته وثقله. كانت كلمة السوداني في هذه القمة هي الأقرب إلى جوهر قضيّة فلسطين والأشد شجباً للعدوان الصهيوني على غزة، وقد رفض رفضاً باتّاً القتل والحصار للفلسطينيين الذين وصفهم بأصحاب الأرض والحق، كما حذر من فكرة الوطن البديل التي يسعى لتنفيذها الكيان الإجرامي المحتل.
أما الشعب العراقي، فكان في طليعة الشعوب العربية والإسلامية التي انتفضت نصرةً للفلسطينيين، وقد سارع أبناء الرافدين للتعبير عن تضامنهم ونصرتهم لأهالي غزة عبر التجمع خلف الحدود الأردنية استعداداً للذود عن حياض فلسطين والدفاع عن شعبها.
لا تزال الحشود الشعبية العراقية تتوافد حتى اللحظة إلى منفذ طريبيل الحدودي مطالبِةً بفتح الحدود الأردنية من أجل الوصول إلى الأراضي الفلسطينية ومساندة أشقائهم الفلسطينيين ضد آلة القتل الصهيونية.
المواقف الشعبية عبّرت عن إدانتها القوية للمجازر الصهيونية في غزة عبر المظاهرات الحاشدة التي انطلقت بدعوة من السيد مقتدى الصدر وعمّت العاصمة ومدناً عراقية أخرى، وطالبت القوى السياسية ومجلس النواب العراقي بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد وطرد السفير الأمريكي والقوات الأمريكية من العراق.
وقد بذلت الحكومة العراقية جهوداً سياسية واسعة النطاق من أجل وقف جرائم الصهاينة في غزة وإرسال المساعدات الغذائية والدوائية إلى أهلها.
السوداني أبلغ موقف العراق المبدئي والداعم للقضية الفلسطينية بكل وضوح وصراحة لوزير الخارجية الأمريكي الذي زار بغداد أخيراً، إذ شدد على الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة قبل التفاهم على أي شيء آخر مثل ملف الأسرى وغيره، محذراً وزير الخارجية الأمريكي من خروج الأوضاع عن السيطرة في حال استمرار حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد أهالي غزة على يد الصهاينة.
أما في إيران، فشدد قائد الثورة الإسلامية، سماحة الإمام الخامنئي، خلال استقباله السوداني على ممارسة العالم الإسلامي المزيد من الضغط السياسي على أمريكا وإرغامها على وقف المجازر في غزة، مخاطباً رئيس الوزراء العراقي بالقول إن العراق دولة مهمة في المنطقة ويمكن أن يلعب دوراً مميزاً في هذا المجال ويخلق مساراً جديداً في العالمَين العربي والإسلامي.
كلام قائد الثورة الإسلامية حمل رسالة دقيقة وواضحة عن المسؤولية التاريخية والإسلامية التي تقع على عاتق العراق في دعم قضيّة فلسطين ووقف الجرائم الصهيونية الوحشية بحق أبناء غزة.
كما دعا قائد الثورة الإسلامية رئيس الوزراء العراقي إلى اغتنام موقع العراق المهم ومكانته البارزة في العالم العربي من أجل الاضطلاع بدور ريادي ومميز لوقف العدوان.
قائد الثورة الإسلامية دعا كذلك الحكومة العراقية إلى اتخاذ خطوات ثابتة ومبدئية وشجاعة للدفاع عن قضيّة فلسطين، والوقوف في وجه المشاريع التي تقودها بعض الدول العربية لتصفية قضيّة فلسطين وتركيع مقاومتها الباسلة وتشريع التطبيع مع الكيان الصهيوني القاتل للأطفال والغاصب للقدس الشريف، بل ذهبت بعض الدول العربية إلى أبعد من ذلك، فقد أدانت بكل وقاحة العملية البطولية لـ«طوفان الأقصى» فيما يُعَدّ العراق وحكومته الحالية أقرب الدول العربية إلى محور المقاومة ودعم قضيّة فلسطين.
أروقة المفاوضات العربية تشير إلى توجه دول عربية رئيسية وإجرائها اتصالات مستمرة مع الجانب الأمريكي من أجل طرح مبادرة باسم الجامعة العربية في القمة العربية المقرَّرة في الرياض في 11 نوفمبر الجاري، لوقف العدوان على غزة مقابل تلبية جزء كبير من مطالب الكيان الصهيوني على حساب تصفية المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وحصرها بين التنازل والترحيل أو تركها تواجه مصيرها أمام آلة القتل والدمار الصهيو-أمريكية الوحشية التي لم تتردد في التلويح بقصف غزة بالقنابل النووية.
من هنا، يمكن للعراق أن يلعب دوراً بارزاً في التصدي للمشاريع التسووية إذ إنه يمتلك الكثير من أدوات الضغط السياسية والعسكرية والاقتصادية، إضافةً إلى موقعه المحوري داخل جامعة الدول العربية الذي يمكّنه من إفشال كل محاولات القضاء على قضيّة فلسطين.
في إمكان الحكومة العراقية طرح مبادرات لإيجاد حلول سريعة لوقف العدوان، وفتح الممرات الآمنة لإيصال المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة العاجلة لمنع تفاقم الأوضاع في قطاع غزة، ومنع عمليات التصعيد الخطيرة والمجازر الوحشية بحق الأطفال والنساء، وإيقاف سياسة التجويع والحصار ضد سكان قطاع غزة.
مما يجدر ذكره أن حديث قائد الثورة الإسلامية عن الدور الريادي الذي يمكن أن يلعبه العراق في خلق مسار جديد في العالمَين العربي والإسلامي قد جاء على خلفية مساعي الحكومة العراقية الجديدة لجعل هذا البلد ساحة لتقريب وجهات النظر والتصالح بين الفرقاء، بعد أن كان لسنوات طويلة ساحة للصراعات وتصفية الحسابات. وهذا ما أثبته العراق فعلاً بتجربة دوره الجديد عبر نجاحه في الوساطة التي أدت إلى كسر الجليد بين قوتين إقليميتين كإيران والسعودية إذ تكللت عبر خمس جولات احتضنتها بغداد بين مسؤولي هاتين الدولتين بعودة العلاقات بينهما بعد قطيعة دامت سبع سنوات عجاف.
كما لا يمكن أن نغفل عن العلاقات الوطيدة بين الجمهورية الإسلامية والعراق التي توثقت أكثر فأكثر وتجلت بمزيد من التعاون على الصعد كافة، ولا سيما السياسية والأمنية والاقتصادية. ومما لا شك فيه أن هذا التقارب من شأنه أن يساعد على وقف الهجمات المسعورة على غزة بعدما تبين أن الرؤية الإيرانية العراقية بشأن ما يجري في فلسطين متشابهة حدّ التطابق.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir