«آتونَ بطوفانٍ هادر»، اعتلت هذه العبارة اللوحة المعلّقة على المسرح حيث أُقيمت مراسم إحياء الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) في 14 كانون الأوّل/ديسمبر 2022. وكان الخطيب الأساسي في هذه المراسم رئيس «حماس» في قطاع غزّة، يحيى السّنوار، الذي استهلّ كلمته بهذه الجملة: «يا مقدّمة الطوفان الهادر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، مشيراً بيده إلى الخلفيّة والعبارة عليها.

لم يكن يُخيّل إلى أحد في ذلك اليوم أن «إشارة عابرة» من يحيى السنوار و«جملة من بضع كلمات» مع التركيز على عبارة «الطوفان الهادر» هي كلمة السرّ للعمليّة التي نفّذتها «حماس» صبيحة السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 بعنوان «طوفان الأقصى»، تاركةً الأجهزة الأمنيّة والاستخباراتيّة للكيان الصهيوني وحلفائه في حيرة وذهول.

 

الوعد الصّادق من نصر الله إلى السنوار

 

الخلفيّة الخاصة بمراسم إحياء الذكرى السنويّة الـ35 لانطلاقة «حماس» (الصورة) ضمّت الشعار المذكور إلى جانب رايات حركات المقاومة ومختلف الدول الإسلاميّة من أفغانستان إلى الأردن والكويت ومن تركيا إلى الجزائر ومن قطر إلى ماليزيا وسوريا وإيران... جرى تصويرها مجتمعةً بأنّها تزحف نحو المسجد الأقصى من أجل تحرير القدس الشريف.

كانت الصورة في الخلفيّة مرتبطة أيضاً بجانبٍ آخر من كلمة أبي إبراهيم (السّنوار) الرافضة لتطبيع بعض الدول العربيّة مع الكيان الغاصب، وتضمّنت بطبيعة الحال رسالة إلى الحكومات تدعو إلى الوقوف بجانب المقاومة والشعب الفلسطيني، لا إقامة العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة مع أعدائهما.

 

من أكتوبر 1962 إلى أكتوبر 2023

وُلد يحيى إبراهيم حسن السّنوار في التاسع والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر 1962 في مخيّم خان يونس للّاجئين جنوبي قطاع غزّة. حاز إجازة من الجامعة الإسلاميّة في غزّة، وكان من الناشطين في اللجان الإسلاميّة داخل الجامعة. اعتُقل لأوّل مرّة عام 1982 بعمر عشرين عاماً بسبب فعالياته الطالبية المعادية للصهيونيّة، وبقي في السجن أربعة أشهر. أطلق السنوار منذ 1986 مجموعة ضدّ التجسّس بأمرٍ من الشيخ أحمد ياسين، فتشدّدت الأجهزة الأمنيّة والاستخباراتيّة للكيان الصهيونيّ أكثر في مراقبته إلى اعتقاله للمرّة الرابعة في 20 كانون الثاني/يناير 1988، وحُكم عليه بالسّجن المؤبّد أربع مرّات (426 سنة) بتهمة خطف جنديّين إسرائيليّين وقتلهما.

تولّى السنوار طوال الأسر قيادة «الهيئة القيادية العليا للأسرى» في «حماس»، وقاد في أعوام 1992 و1996 و2000 و2004 نضالات الفلسطينيّين ضدّ الصهاينة ضمن إطار الإضراب عن الطّعام. سُجن أبو إبراهيم أربع سنوات في الانفرادي، وأصيب خلال هذه المدة بجلطة دماغيّة، وخضع إثرها لعمليّة جراحيّة بسبب سياسة الإهمال الطبي المتعمّد من الكيان الصهيوني والأوضاع السيّئة للأسرى. يقول شقيقه إنّ الصهاينة حرموا عائلة السنوار اللقاء به 18 سنة.

رغم ظروف الأسر الصعبة والسجن المؤبّد، تعلّم السنوار العبريّة ليتمكّن من التعرّف إلى نمط تفكير الصهاينة وأسلوبهم في التطلّع إلى الأمور. عام 2011 وضمن عمليّة تبادل أكثر من 1000 أسير فلسطيني مع جلعاد شاليط، الجنديّ الصهيوني الذي أُسر في عمليّة للمقاومة عام 2008، تحرّر يحيى أخيراً من قضبان الكيان الصهيوني.

 

المسار هو المقاومة

ذاق السنوار مرارة الأسر على مدى 23 عاماً، ثمّ تحرّر بقوّة المقاومة. وفي الذكرى السنويّة الـ35 لتأسيس «حماس»، هدّد الكيان الصهيوني بقوله: «إزاء مماطلة الاحتلال في هذا الملف، نعلن أننا سنمهله وقتاً محدوداً لإتمام هذه الصفقةوإلا سنغلق ملف أسرى العدو الأربعة من طرف المقاومة إلى أبد الآبدين وسنجد طريقة أخرى لتحرير أسرانا».

 

 

بعد أقل من سنة على دقّ السنوار ناقوس الخطر في 14 كانون الثاني/ديسمبر 2022، لمس الصهاينة ما عناه من قوله «آتون بطوفان هادر»، و«الطريقة الأخرى التي ستتبعها المقاومة من أجل تحرير الأسرى»، وأدركوا أنّها لم تكن مجرّد تهديدات خاوية وبلا معنى. إنّ كلّ من يراجع اليوم خطاب السنوار في 14 كانون الثاني/ديسمبر يكتشف أنّه حذّر فيه من الواقعة الكبرى صباح 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، أي «طوفان الأقصى». وربّما يكون ذلك السّبب الذي جعل الصهاينة يرون السنوار منذ البداية العقل المدبّر للعمليّة ويضعونه على رأس لائحة المُلاحَقين لديها في قطاع غزّة. وقد شدّد وزير الأمن في الكيان الصهيوني يوآف غالانت على هذا الأمر بعد شهر من بدء العمليّة.

 

الوعد الصادق

في 29 كانون الثاني/يناير 2004، حطّت طائرة «إيرباص» A310 تابعة للحكومة الألمانيّة في مطار بيروت الدولي، وكانت قادمة من قاعدة عسكريّة قرب كولونيا. حملت هذه الطائرة على متنها الأسرى غير الفلسطينيّين الذين تحرروا باتفاق بين حزب الله وإسرائيل بوساطة ألمانيّة.

اتّجه الأسرى المحرّرون بعد استقبالهم في المطار نحو الضاحية الجنوبية لبيروت لكي يشاركوا في احتفال الحريّة، الحفل الذي شهد حضوراً غفيراً وواسعاً من الناس الرافعين رايات المقاومة إضافة إلى صورة ضخمة لعمليّة أسر ثلاثة جنود صهاينة عام 2000. كما استُحضر وجود سمير القنطار الذي كان قد مرّ 26 عاماً على أسره في سجون الكيان الصهيوني عبر وضع صورة له في الصف الأمامي مع الأسرى المحررين. وقد أشار الأمين العام لحزب الله في ذلك الحفل إلى هذا الموضوع، طارحاً 3 خيارات لتحرير سمير وسائر أسرى المقاومة، كان آخرها «خيار المقاومة». أشار السيّد نصر الله إلى الصورة خلفه وقال: «هناك خيار ثالث هو خيار المقاومة. وأعاهدكم باسم مجاهدي المقاومة الإسلامية أنهم سيأتون بالجنود في المرة المقبلة أحياء وليسوا أمواتاً كما السابق... سمير وكل الإخوة المعتقلين يستحقون تضحية في عقيدتنا وثقافتنا وإيماننا، ونحن مستعدون للتضحية».

 

 

بعد أقل من سنتين وستة أشهر، نفّذ السيّد نصر الله وعده واستطاعت مجموعة من مجاهدي حزب الله بقيادة الشهيد عماد مغنيّة أسر جنديّين إسرائيليّين على قيد الحياة. سُمّيت هذه العمليّة «الوعد الصادق» وأثمرت في نهاية المطاف عن تبادل شمل عدداً من الأسرى اللبنانيّين والفلسطينيّين منهم القنطار.

إنّ عمليّة حزب الله في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2000 التي أُسر فيها ثلاثة جنود صهاينة وكذلك تنفيذ «الوعد الصادق» في 12 تموز/يوليو 2006 وأيضاً «طوفان الأقصى» التي نفذتها «حماس» في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، وكذلك تصريحات قادة المقاومة قبل هذه العمليّات، كلّها تثبت صدق تيّار المقاومة في تنفيذ وعوده في سبيل غايته وهدفه: فلسطين.

بعد «طوفان الأقصى» والهجمات الوحشيّة للكيان الصهيوني على الأبرياء في غزّة، نفّذت خلايا المقاومة من العراق إلى لبنان واليمن وعودها بدعم الشعب الفلسطيني، فاستهدف العراقيّون القواعد العسكريّة للمحتلّين الأمريكيّين الذين يُعدّون أبرز الداعمين للكيان الصهيوني المحتلّ، وقدّموا في هذا السبيل 12 شهيداً على طريق تحرير القدس. كما خاض حزب الله معركة الدفاع عن أهالي غزّة وتحرير القدس منذ الثامن من تشرين الأوّل/أكتوبر، وساند المقاومة في غزة بتنفيذه عمليّات متعدّدة في الأراضي المحتلّة شمالي فلسطين وقدّم أكثر من 125 شهيداً على طريق تحرير القدس. كذلك فعل اليمنيّون، فاستهدفوا بدايةً بهجماتهم الصاروخيّة ومسيّراتهم مرفأ أم الرشراش التجاري جنوبي الأراضي المحتلّة، وصوّبوا على اقتصاد إسرائيل منفّذين بذلك وعد السيّد عبد الملك الحوثي وأغلقوا مسار الملاحة البحريّة أمام السفن التي تتحرّك باتجاه فلسطين المحتلّة، ومنها المنطلقة من الدول الإسلاميّة والعربيّة أو تحمل منتجاتها.

بالعودة إلى 14 كانون الأوّل/ديسمبر 2022 ومراسم إحياء الذكرى الخامسة والثلاثين لانطلاقة «حماس» في غزّة، نجدُ في الصورة المعلّقة على المسرح، وكذلك في تصريحات قادة الحركة في تلك المراسم، تأكيد إسماعيل هنيّة مسار الحلّ المتمثّل في المقاومة وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، إضافة إلى تهديد السّنوار باللجوء إلى خيار المقاومة الخاصّ من أجل تحرير الأسرى، ودعوة أبي خالد (محمّد الضيف) إلى وحدة الأمّة الإسلاميّة وتلاحمها من أجل تحقيق الحريّة لفلسطين.

لقد دخل محور المقاومة ميدان الدفاع عن فلسطين ومعه كثير من الشعوب في المنطقة بعد «طوفان الأقصى» وتحقّق وعد السنوار باللجوء إلى خيار المقاومة بأشكالها كافة، لكن بعض الدول الإسلاميّة لا تزال تتابع مساراً يتعارض مع ما عبّرت عنه المقاومة في مختلف الميادين، فهل يمكن أن نتوقّع مؤازرة من حكومات هذه الدول وتلبيتها مطالب شعوبها بدعم شعب فلسطين ومقاومته في القريب العاجل؟