«بعض الأشخاص يتوهّمون أنّ المشكلة تُحلّ بإقناع الدّول المجاورة بتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيونيّ، كلّا، إنّهم مخطئون في ذلك، وافرضوا أنّ عدداً من الدول هنا وهناك، والدول العربيّة على نحو أساسيّ، طبّعت علاقاتها مع الكيان الصهيونيّ، فهذا لن يحلّ المشكلة، بل سيخلق مشكلة لحكومات تلك الدول نفسها، أي ستنتفض الشعوب ضدّ حكوماتها تلك التي غضّت الطرف عن جرائم الكيان الصهيونيّ ومدّت إليه يد الصداقة رغم تلك الجرائم! إذا كانت شعوب المنطقة اليوم تناهض الكيان الصهيونيّ، فإنّها ستكون يومئذٍ مناهضة لحكوماتها». كان هذا مقطعاً من كلام الإمام الخامنئي في لقاء مع المعلّمين في تاريخ 1/5/2024 الذي استُنكِر فيه تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني والإشارة إلى المسار المعادي للصهيونيّة في أوساط الرأي العام داخل الدول الإسلاميّة أيضاً، خلافاً لذاك المسار الذي يسلكه حكّامها.

 

تطبيع العلاقات: من معاهدة «كمب ديفيد» إلى اتفاقيّة «أبراهام»

إنّ قضيّة تطبيع العلاقات مع الكيان الصّهيوني متجذّرة في التاريخ وليست وليدة اليوم أو الأمس، ويمكن الإشارة إلى مصر والأردن بوصفهما رائدَين في ميدان تطبيع العلاقات. وُقّعت اتفاقيّة تطبيع العلاقات بين مصر والكيان الصهيوني التي حملت اسم «معاهدة كمب ديفيد» في 17 أيلول/ سبتمبر من عام 1978. بعد مصر، أقدم الأردن أيضاً في تاريخ 26 تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 1994 بصفته ثاني بلد عربي على عقد اتفاقيّة تطبيع للعلاقات مع الصهاينة حملت عنوان «وادي عربة».[1] كما وقعت الإمارات والبحرين، في 15 أيلول/ سبتمبر 2020 بواشنطن اتفاقية تطبيع العلاقات مع الصهاينة تحت اسم «أبراهام». وانضم المغرب والسودان في تاريخي 10 أيلول/ ديسمبر 2020 و6 كانون الثاني/ يناير 2021 إلى اتفاقية «أبراهام» أيضاً.[2]

 

سوابق معارضة الرأي العام لتطبيع العلاقات

رغم أنّ المسار المعادي للصهيونيّة احتدّ وتعزّز في أوساط الرأي العام داخل العالم العربي والعالم الإسلامي بعد عمليّة السابع من أكتوبر في عام 2023 وعقب الاعتداء العسكري غير المسبوق للكيان الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني، ولكنّ النزعة المعادية للصهيونيّة بين الشعوب الإسلاميّة کانت بارزة حتى قبل اندلاع الحرب، بخاصّة بعد توقيع اتفاقيّة التطبيع «أبراهام». على سبيل المثال، برزت في الأردن الذي كان البلد الثاني، الذي بادر فيه المسؤولون إلى توقيع اتفاقيّة التطبيع مع الكيان الصهيوني، نسبة عالية من الاعتراضات على تطبيع العلاقات مع الكيان. ضمن هذا الإطار، نشرت «الميادين» تقريراً في 17 أيّار/ مايو 2023 جاء فيه: «أظهرت نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز الأبحاث الإستراتيجيّة في جامعة الأردن أنّ 81% من الرأي العام الأردني يعارض تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. هذا يعني أنّ الجهود كلّها التي بذلتها تل أبيب في العقود الأخيرة من أجل تحسين صورتها بين الأردنيّين كانت غير مجدية»[3].

من ناحية أخرى، بعد قرابة شهر واحد على توقيع اتفاقيّة تطبيع العلاقات التي حملت عنوان «أبراهام»، نشر موقع مركز الأبحاث المستقل وغير الحزبي «البارومتر العربي» (ARAB BAROMETER) نتائج لاستطلاع أجراه للرأي العام في العالم الإسلامي حمل عنوان «قياس نبض العرب حول تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"».

وفقاً للاستطلاع، أعلن 93% من الناس في ليبيا و92% في تونس و91% في الجزائر و91% في المغرب و80% في لبنان رفضهم تطبيع العلاقات.[4] في الوقت نفسه، أُجريَ استطلاعٌ للرأي في العامين 2019 و2020، أي بعد مرور أكثر من 40 عاماً على توقيع اتفاقيّة السلام بين القاهرة والكيان الصهيوني، فأعلن 87% من المشاركين أنّهم يعارضون تطبيع العلاقات مع تل أبيب.[5] من ناحیة أخرى، أظهر استطلاعٌ للرأي أجراه مجمع التفكير الأمريكي «Middle East Policy» في كانون الأوّل/ ديسمبر من عام 2022 أنّ 75% من الإماراتيّين لا يؤيّدون اتفاقيّة تطبيع العلاقات.[6] يصل هذا الرّقم إلى قرابة الـ95% في الكويت.[7]

 

معارضة الرأي العام لتطبيع العلاقات وفقاً لسرديّة وسائل الإعلام الصهيونيّة

إنّ معارضة الرأي العام لتطبيع العلاقات مع تل أبيب بارزة لدرجة أنّ وسائل الإعلام التابعة للكيان الصهيوني أيّدت هذا الأمر أيضاً. ضمن هذا الإطار، أعلنت الصحيفة الصهيونيّة «جيروزاليم بوست» في عام 2022 أنّه وفقاً لاستطلاعات الرأي المُجراة، يعارض على نحو متوسّط قرابة الـ84% من الرأي العام في العالم العربي تطبيع العلاقات مع تل أبيب. ارتكزت هذه الوسيلة الإعلاميّة الصهيونيّة إلى نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه «المركز العربي للأبحاث والمطالعات السياسيّة» وشمل مواطني 14 بلداً مختلفاً. من بين البلدان التي شملها استطلاع الرأي يمكن الإشارة إلى قطر والكويت والسعوديّة والأردن وليبيا وتونس ولبنان ومصر والمغرب والسودان.[8]

 

حرب غزّة وتأثيرها في المسار المعادي للصهيونيّة في أوساط الرأي العام

تُعدّ جرائم الكيان الصهيوني في غزّة جريمة إبادة غير مسبوقة، وهي قد أودت حتى الآن بحياة أكثر من 34 ألف شهيد، وعزّزت معارضة الرأي العام في العالم الإسلامي لأيّ نوع من أنواع العلاقات مع تل أبيب على نحو غير مسبوق. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى الرأي العام في المملكة العربيّة السعوديّة حيث أظهرت نتائج الاستطلاعات أنّ الغالبية الساحقة للشعب السعودي يعارضون أيّ نوع من أنواع العلاقات مع الصهاينة. لقد اتّضح في استطلاع رأي أجراه مجمع تفكير «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» أنّ 96 بالمئة من المشاركين يرون ضرورة قطع أيّ علاقات مع الصهاينة بسبب اعتداءاتهم المُرتكبة في قطاع غزّة. هذا بينما قبل حرب غزة كان 40% فقط من الرأي العام السعودي يوافق على إقامة علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني، لذا بلغت نسبة معارضة مثل هذه العلاقات نحو 60%.[9]

هنا يبرز المغرب بصفته أحد الدول التي تعزّز فيها دعم الرأي العام للشعب الفلسطيني بعد الحرب على غزّة أيضاً. فقد أعلن مركز «الكتابة الإقليميّة لشبيبة العدالة والتنمية بفاس» بعد إجراء استطلاع رأي في المدة المراوحة بين 7 تشرين الثاني/ نوفمبر و7 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023، أنّ 96% من المغربيّين أعلنوا معارضتهم الصريحة لتطبيع العلاقات مع تل أبيب وطالبوا بإنهاء العلاقات بين حكومتهم والصهاينة.[10] كذلك تشير أحدث استطلاعات الرأي لـ«المركز العربي للأبحاث والمطالعات السياسيّة»، في ما يرتبط بمدى اهتمام الرأي العام في العالم العربي بقضيّة فلسطين، إلى أنّ 92% من الشعوب العربيّة لا يرون قضيّة فلسطين خاصّة بالفلسطينيّين أنفسهم فقط، بل يرون أنّها قضيّة تحظى باهتمام العالم العربي كلّه. لقد نشرت «الجزيرة» تقريراً في هذا الصّدد جاء فيه: «يمكن عدّ نتائج استطلاع الرأي المُشار إليه غير مسبوقة، إذ إنّ مدى اهتمام العالم العربي بقضيّة فلسطين بلغت نسبته الـ76% في أواخر عام 2022، وهذا يُشير إلى أنّ اهتمام الرأي العام شهد قفزة بنسبة 16% إذا قارنّاه مع ما كان عليه في تلك المدة».[11]

إضافة إلى ذلك، أثبتت نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه «المركز العربي للأبحاث والمطالعات السياسيّة» حقيقة أخرى، هي أنّ مدى معارضة الرأي العام العربي لاعتراف حكوماته بالكيان الصهيوني تصاعد من متوسّط 84% في عام 2022 ليبلغ نسبة 89% بعد حرب السابع من أكتوبر.[12] يُصرّح الكاتب والباحث الأردني «محمد أبورمان» بشأن مناهضة الرأي العام للكيان الصهيوني بعد السابع من أكتوبر عام 2023 بالقول: «الحقيقة هي أنّ الرأي العام العربي شهد تحوّلاً بعد 7 أكتوبر لدرجة أنّنا بتنا نلاحظ تعبير ثلثي شعوب العالم العربي اليوم عن تأييدهم لفلسطين. هذا التحوّل هزّ نظريّة الأمريكيّين القائلة بتوافر الأرضيّة لتطبيع العلاقات بين الدول العربيّة وتل أبيب».[13]

 

هزيمة الحزب الحاكم في تركيا في الانتخابات وعلاقة ذلك بالحرب على غزّة

يمكن تصنيف تركيا بوصفها أحد النماذج على النتيجة المريرة الناتجة عن علاقة الحكومة في هذا البلد مع الكيان الصهيوني. أقيمت الانتخابات البلديّة في تركيا في 31 آذار/ مارس 2024، وتلقّى فيها حزب «العدالة والتنمية» بصفته الحزب الحاكم في تركيا هزيمته الانتخاباتيّة الأولى منذ تأسيسه في عام 2002 وفقد معظم مقاعده في مدن مهمّة.[14] ويعتبر الخبراء والمراقبون السياسيّون أنّ سياسات الحكومة التركيّة في التعامل مع الكيان الصهيوني والمسار الذي اتبعته إزاء الحرب في غزّة من أحد أبرز العوامل التي أدّت إلى هزيمة حزب «التنمية والعدالة». ضمن هذا الإطار، كتبت «الجزيرة»: «قبل الانتخابات البلديّة في تركيا، دعت حملات شعبيّة متعدّدة الحكومة لقطع العلاقات التجاريّة فوراً مع "إسرائيل" وتقديم الدعم لأهالي مدينة غزّة. يقول الخبراء إنّ انعدام اهتمام الحكومة بالمطالب الشعبيّة في هذا الصّدد أدّى إلى امتناع جزء من الناس عن المشاركة في الانتخابات وإلى أن يصوّت جزء آخر منهم لسائر الأحزاب».[15]

يؤيّد الخبير والمحلّل السياسي «محمود يازجي» هذا الأمر ويُردف قائلاً: «إنّ انعدام اهتمام الحكومة التركيّة بمطالب المواطنين المرتبطة بأوضاع غزّة أدّى إلى أن يُدلي المقترعون للأحزاب الأخرى بوصفه تعبيراً منهم عن انزعاجهم وغياب رضاهم، وأن يُلحقوا الخسارة بالحزب الحاكم».[16] تثبت تجربة تركيا بقوّة أيّ تداعيات تؤدي إليها علاقات الحكام في العالم الإسلامي مع الكيان الصهيوني وسط المجازر التي يرتكبها اليوم ضدّ أهالي غزّة في أوساط الرأي العام.

طبعاً، أعادت تركيا النظر قبل عدّة أيام في سياساتها السابقة تجاه الكيان الصهيوني، وأعلنت رسميّاً قطع علاقات أنقرة التجاريّة بتل أبيب، وقد أعلنت وزارة الخارجيّة التركيّة ضمن بيان أصدرته في هذا الخصوص أنّها اتخذت هذا القرار بسبب استمرار الصهاينة في ارتكابهم الجرائم وأنّها غير مستعدّة لإعادة النظر في هذا القرار ما دامت الحرب مستمرّة. كما أكّدت هذه الوزارة في جانب من بيانها ما يلي: «سوف يُنفّذ القرار المُتّخذ بقطع العلاقات التجاريّة مع "إسرائيل" بمنتهى الجدّ والحسم».[17] رغم تأخّر تركيا في المبادرة لاتخاذ هذا القرار، ولكنّه يُعدّ خطوة إيجابيّة، كما تُلمس الحاجة إلى استمراره وتوسّعه أيضاً ليشمل الدائرة السياسيّة.

ما يبدو واضحاً في الوقت الراهن هو أنّ احتداد «غضب الرّأي العام» من الكيان الصهيوني وتضاعف اهتمامه بقضيّة فلسطين سيؤثّر في المستقبل على مستقبل تطبيع العلاقات [بين حكام العالم الإسلاميّ] مع تل أبيب.[18] هذا يعني أنّه لم يعد مقدوراً تجاهل قضيّة تطبيع العلاقات بين الدول الإسلاميّة والكيان الصهيوني وموقف هذه الحكومات وخطواتها العمليّة في خصوص غزّة، بل ينبغي الاهتمام بها لأنّ الرأي العام سيضع اليوم أكثر من أيّ زمن مضى قضيّة فلسطين على رأس أولويّاته، وهذا ما تشير إليه تجربة تركيا التي تفيد أنّ شعوب العالم الإسلاميّ تستغلّ أيّ أداة متاحة لها من أجل زعزعة أركان أنظمة الحكم المطبّعة.