يُعدّ الزواج نظاماً اجتماعياً تتعدّد فيه القيَم والمعايير الناظمة لإتمامه وتأسيس الأسرة في المجتمع، وغالباً ما تتجلى فيه خصائص الجماعة وثقافتها وخلاصة تجربتها الحضارية، وتوليه الثقافات والعقائد الدينية اهتماماً كبيراً. ما من ثقافة أو حضارة إلا وتجلت فيها صور للزواج وقواعد ناظمة له ارتبطت بخصوصيات هذه الثقافة وتجربتها التاريخية.[1]

الإسلام يولي اهتماماً خاصّاً بالأسرة من التشجيع على تأسيسها، ووصولاً إلى القواعد الناظمة للعلاقات داخلها وتوصيف وظائفها وصولاً لمواجهة تفككها... ويتميز فكر السيد الخامنئي في هذا المجال بتقديم مقاربة خاصة للأسرة ومكانتها في المجتمع وتوزيع الأدوار داخلها، إذ يركّز عليها بوصفها خلية أساسية يتكّون من مجموعها المجتمع، يجب المحافظة على سلامتها ليبقى هذا المجتمع سالماً... يبتعد في تعريفه للأسرة عن الاتجاهات السائدة لتعريف الزواج بوصفه عقداً اجتماعياً لتنظيم شؤون البشر أو تلبية لحاجة نفسية وجنسية لدى الرجل والمرأة أو وسيلة لإنجاب الأولاد وآلية عقلائية لتنظيم العلاقات بين البشر ضمن أحكام وأعراف اجتماعية فقط، فالزواج، بحسب ما يستنتج الباحث من مجمل خطابات سماحة السيد الخامنئي، أمر يكتسي صبغة القداسة، وهو وإن كان يشمل في طياته الفوائد والمكتسبات كلها المذكورة سابقاً وأكثر، ولكنّ الأصل فيه هو الإرادة الإلهية «ومن آياته» في الخلق والتكامل الإنساني وفقاً للمشروع الرباني لتربية الإنسان وعمارة الأرض والانتقال إلى العوالم الأخرى الأرقى[2].

لكن نظام الزواج وتأسيس الأسرة يتعرض اليوم لتغيرات كبيرة ومتسارعة ترتبط بالتحولات الثقافية  والاقتصادية ومكانة المرأة في المجتمع ودخولها بقوة إلى ساحة العمل خارج المنزل وغيرها من العوامل...

لقد دخل عدد من المجتمعات فعلاً في مرحلة التفكك الأسري وتراجع الإقبال على تأسيس الأسرة وارتفاع العزوبية وشيوع المساكنة، وما سُمي «الأشكال المختلفة للأسرة» من الأسر الأحادية و«المثلية» الجنسية وإنجاب الأطفال خارج إطار الزواج، وغيرها من مظاهر الانهيار لنظام الزواج والأسرة الطبيعية، الذي وُسِم بالتقليدي[3] أو القديم أو غيرها من التعابير التي توحي بأنها لا تتناسب مع الحداثة ومستلزماتها...

لقد بدأ الأمر في المجتمعات الغربية وصُدّرت هذه الظواهر على نحو أو آخر إلى سائر المجتمعات... يعزو بعض العلماء التفكك الذي طال الأسرة في المجتمعات الغربية إلى مجريات الحداثة وما رافقها من تداعيات. لقد انتشرت في عصر الحداثة ثقافة الزواج المبني على الانجذاب الشخصي والجسدي بين الذكر والأنثى، من دون النظر في عوامل استدامة الزواج مع الأسرة ومع العمر ومع الإجهاد والضغوط والمتغيرات الحيوية والاجتماعية[4]... ويعزو آخرون هذا التفكك إلى انهيار المجتمع التقليدي والأعراف والعادات والقيم والشرائع في الغرب من دون أن يحل بديل محلها سوى هيمنة الدولة على التعليم والتربية ورعاية الطفل ومزاحمتها للأسرة والمؤسسات الدينية والاجتماعية[5].

أياً كانت التفسيرات، فإن المجتمعات الغربية اليوم تنتشر فيها مظاهر التفكك الأسري كلها، وهناك تشريعات وقوانين تكفل ما سُمي «الأشكال المختلفة للأسر» من صور المساكنة وأُسر الجنس الواحد والأسر بلا أطفال والأسر الأحادية وغيرها، فبدل أن تؤدي الدول الغربية محاولات جادة لدعم الأسرة ومعالجة المشكلات التي تعترضها، أعادت تعريف الأسرة وتنظيم العلاقات داخلها، ما أسهم بمزيد من الضعف والتفكك.

يمكننا استعراض بعض الأرقام التي تُبرز التغيرات التي طالت الأسرة في الغرب. على سبيل المثال، تضاعف عدد الولادات خارج إطار الزواج من أمهات عازبات، بين عامي 1980 و2013 في الولايات المتحدة الأميركية، واليوم ما يقارب نصف الولادات يحدث خارج إطار الزواج[6]. لا يعيش هؤلاء بالضرورة مع أم عازبة لوحدها، بل يمكن أن يكون صديق الأم معهم في المنزل. كما أن 20% من النساء في الولايات المتحدة لديهن أولاد من أكثر من شريك سواء من علاقات مساكنة أو زواج[7]... كما أن واحداً من كل 5 أطفال اليوم في الولايات المتحدة يعيش مع أم عزباء تعيش بمفردها[8]...

الحال ليس بأفضل كثيراً في أوروبا حيث انخفض معدل الزواج بالألف من السكان في فرنسا من 7.8 بالألف عام 1970 إلى 3.6 بالألف عام 2016 [9]، كما أن 65% من الأطفال ولدوا خارج إطار الزواج عام [10]2022،  والوضع لا يختلف في الدول الأوروبية الأخرى. يتعاطى الغرب مع هذه المعطيات بوصفها تحولات وتغيرات تطال الأسرة، بفعل الثورة الجنسية وتطور وسائل منع الحمل والتطور التقني والعوامل الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، من دون أن يعدّها مشكلات اجتماعية تستدعي المعالجة ووضع سياسات للحفاظ على الأسرة، بل يعيد تعريف الأسرة وتشريع المساكنة وفتح إمكانية تسجيل الأطفال خارج إطار الزواج والاعتراف الرسمي بهم، فضلاً عن تشريع الإجهاض وغيرها من الممارسات التي تفاقم التفكك الأسري وصولاً إلى تشريع زواج «المثليين».

يلحظ المتتبع للتقارير الدولية عن تمكين المرأة، التحريض الواضح على زعزعة التوازن في السلطات داخل الأسرة والتعاطي معها من منطلق أنها ساحة نزاع، تحتاج المرأة فيها إلى أن تعزز وضعها التفاوضي. لا يكون ذلك إلا عبر حصولها على عمل بمردود مادي، ويجب أن تزيل الدولة وحتى القطاع الخاص الموانع كلها لحصولها على هذا العمل... إن هذا الخطاب والمشاريع التي تموّل في كثير من الدول بسخاء لتسييل مندرجاتها في مفاصل المجتمع، تحوّل الزواج والأمومة حكماً إلى موانع لحصول المرأة على المكانة الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها الخطاب المتمركز عن الأنثى[11].

إن الخطاب التشكيكي بقدرة الزوج على إدارة الأسرة بطريقة عادلة ووضعه دائماً في صورة المعنّف الذي يصادر حقوق الزوجة، كما الأجواء التنافسية بين الطرفين التي يحض عليها خطاب المساواة وإلغاء التمييز، أوجد شرخاً بين الذكور والإناث وحذراً تجاه تأسيس الأسرة الطبيعية المؤلفة من زوجين (ذكر وأنثى) وأبنائهما، التي تعدّ غالبية التقارير الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة[12] أنها أحد الأنواع وتتحفظ على تسميتها بالطبيعية وتفضل مصطلح التقليدية. الميل الذي تذكر هذه التقارير أنه يتنامى عن اختيار النساء تجنّب الزواج، من أسبابه الرئيسية هو خطاب الكراهية والتشكيك بالزواج، وقد يكون هذا الخطاب هو أحد الأسباب التي مهّدت الأرضية لتقبّل زواج «المثليين»...

تواجه الأسرة اليوم في الغرب مستقبلاً غامضاً ينذر بمزيد من التفكك والاضمحلال منه دون وجود تشكيلات أو نظم اجتماعية يمكنها أن تحل محلها ودون أن يستنفر للمواجهة، على العكس يبدو غير مستاء من ذلك[13]... للأسف تصدّر هذه الأزمات إلى أنحاء العالم كافة بفعل المؤتمرات الدولية ومقرراتها التي تنفذ إلى المناهج التعليمية والقوانين المرعية الإجراء في مختلف الدول... هذا فضلاً عن التأثير السلبي للإعلام بأنواعه المختلفة، بخاصة وسائل التواصل الاجتماعي وثقافة الاستهلاك والفردانية، على الأسرة وشبكة العلاقات داخلها. هذا كله يجعلنا نفهم أكثر إصرار سماحة الإمام السيد علي الخامنئي على إثارة قضية الأسرة والعمل على دعمها، لمواجهة التحديات كلها وعدّ هذا الأمر أساسياً لبناء النموذج الحضاري الإسلامي...

 


[1]معهد الدوحة الأسري، (2019)، الزواج في العالم العربي، دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، الدوحة، ص. 485.

[2] من ورقة بحثية قدمها د. محمد عليق في ملتقى سكن لمجتمع بمحورية الأسرة، تحت عنوان «نظرية الإمام الخامنئي في الزواج والأسرة كطريق ثالث (بناء الحضارة الجديدة)».

 

[3] يمكن مراجعة نص «اتفاقية سيداو»، بخاصة مقدمة الاتفاقية.

[4] حسن العاملي، تهافت الأسرة الأميركية: قراءة من الداخل، دار الأبحاث والدراسات التربوية، ص.236.

[5] يمكن مراجعة: Koktin, j.Shroff, Modarres, A., &Cox, W., The rise of Post-familialialism Humanity Future?. Civil Service, 2012. College.

[6]Manning, Wendy D., Brown, Susan L., & Stykes, Bart (2015). Trends in Births to Single and Cohabiting Mothers, 1980-2013 (FP-15-03). National Center for Family & Marriage Research. Retrieved from http://www.bgsu. edu/content/dam/ BGSU/college-ofarts-and-sciences/ NCFMR/documents/ FP/FP-15-03-birthtrends-singlecohabitingmoms.pdf

[7] GRETCHEN LIVINGSTON, The Changing Profile of Unmarried Parents, https://www.pewresearch.org/social-trends/2018/04/25/the-changing-profile-of-unmarried-parents/ /

[8] المرجع السابق.

[9] Marta Dominguez, Laurent Lesnard, Familles et changement social,

[10] https://www.insee.fr/fr/statistiques/2381394

[12] هيئة الأمم المتحدة للمرأة، بحسب التعريف الذي يذكره موقعها على الإنترنت، هي منظمة الأمم المتحدة المعنية بالمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة. تدعم هيئة الأمم المتحدة للمرأة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في وضع معايير عالمية لتحقيق المساواة بين الجنسين، وتعمل مع الحكومات والمجتمع المدني لتصميم القوانين والسياسات والبرامج والخدمات اللازمة لضمان تنفيذ تلك المعايير على نحو فعال... تعمل المنظمة على الصعيد العالمي وتقف وراء مشاركة المرأة على قدم المساواة في جوانب الحياة جميعها... https://arabstates.unwomen.org/ar/about-us/about-un-women

[13] يعتقد عالم الاجتماع في جامعة هارفرد، كارل زيمرمان، أنّ الدّولة ترى في الأسرة تهديداً. لذلك تعمل على إفراغها من معناها وتتعاون مع ناقديها وتنتهج مواقف معادية لها وترعى المثقّفين من أخصامها، ثمّ تطالب بالسّيادة على المجتمع بصورة عامّة، وعلى الأسرة بصورة خاصّة. في كلِّ مرَّة تُظهِر فيها الأسرة علامات على عجزها، تُساعد الدّولة على تفكيكها. إلى جانب ذلك، تسعى الدّولة باستمرار إلى التّقليل من سلطة العائلة كي تصبح أداة لها. لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة: ستيفن ياسكرفيل، أزمة الأسرة ومستقبل الحضارة الغربية، مجلة المعارف، العدد 10، ص.51-71.