جاء في نداء الإمام الخامنئي إلى حجّاج بيت الله الحرام قول سماحته: «إنّ التدبّر في الآيات المرتبطة بالحجّ، والتمعّن في أعمال هذه الفريضة، التي لا نظير لها، وفي مناسكها، يعرضان لنا، من خلال التركيبة العميقة للحج، هذه الأمورَ وأسرارًا ومكنونات من قبيلها». وقال سماحته أيضًا في لقائه مع القيّمين على شؤون الحج: «إنّه لتوفيق عظيم أن يتمّ تنظيم حجّ سليم، ومتألّق على المستوى المعنويّ، ومتطابق مع الضوابط الإسلاميّة المطلوبة». نرجو أن تُبيّنوا لنا الخصائص لمثل هذا الحج؟

 

إنّ الحجّ الزاخر بالتعاليم الدينيّة هو الحجّ المنشود. أي إنّ الحجّ المنشود هو الحجّ الذي ينبغي أن تتوفر بعض المقدمات قبل تحقّقه وتكوّنه. يجب أن تكون التكاليف المدفوعة من أجل الحجّ حلالًا وطاهرة. لدينا في الروايات أنّ الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) قالوا: إنّنا نختار مهر الزوجة وتكاليف الحج من أفضل أموالنا. يجب أن يتوفّر لدى الزائر أيضًا الاستعداد على المستويين النفسي والروحاني. النقطة التالية هي أنّه يتوجّب على الحاج أن يمتلك المعرفة، أي أن يترافق ذهابه إلى كلّ مكان من الحرم مع المعرفة، أي أن يعرف على سبيل المثال ما حدث في حِجر إسماعيل.

 

عدَّ قائد الثورة الإسلاميّة - خلال لقائه مع القيّمين على الحج - هذه السنّة الإبراهيميّة فريضةً متعدّدة المستويات والأبعاد والمضامين، وأنّها ذات جوانب عديدة من الناحيتين الماديّة والروحانيّة، ثمّ قال سماحته: «الذِّكْر في الحجّ عنصرٌ بالغ الأهميّة، لكم أن تلاحظوا الحجّ من أوله إلى آخره، بدءًا من الإحرام ومقدّماته، إلى أداء العمرة، إلى إحرام الحجّ، وما يلي ذلك من الوقوف وسائر أعمال الحجّ الأخرى، ستجدون سائر أجزاء الحجّ مليئة بالأذكار وذكر الله». نرجو أن تحدّثونا عن البُعد الروحاني والعبادي للحج القائم على ذكر الله تعالى.

يقول الله جلّ وعلا في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب، 41)، والحجّ أحد هذه المواضع. كلّ برامج الحج مترافقة مع ذكر الله. من ناحية أخرى، عندما يقرّر الإنسان المسلم أن ينطلق نحو الحج، فالخطوة الأولى أن يكون ماله حلالًا، وهذا مصداق الذكر. وعندما يقرّر الذهاب إلى الحج، فإنّ دعاء السفر فيه ذكر الله. وهناك دعاء عندما يقرر دخول الحرم الإلهي الآمن، ومن المستحب أن يكرّر الإنسان الذكر طوال السفر. وكذلك عندما يهمّ الفرد بالإحرام، فلذلك العمل ذكرٌ أيضًا، وذكر الحجّ هو «لبّيكَ اللهمَّ لبّيك». كذلك عندما يصل إلى مكّة، هناك ذكرٌ خاص ودعاء عند مدخل المسجد الحرام. ومتى ما أراد إقامة صلاة الطواف، فلذلك ذكرٌ ودعاء. وهناك أيضًا أذكار لوداع الحجر الأسود، وشرب ماء زمزم، و... . أي إنّ كلّ أعمال الحجّ حافلة بذكر الله. لذلك، كما قال الإمام الخامنئي، الحجّ مكان الذكر، ويجب أن يستفيد الإنسان من هذه الفرصة المتاحة له بأفضل نحوٍ ممكن.

وصف الإمام الخامنئي - في ندائه إلى الحجّاج - بيت الله الحرام بأنّه «معقل التوحيد والوحدة». كذلك قال سماحته خلال لقائه مع القيّمين على شؤون الحج: «وأمَّا ما يرتبط بالمحيط الاجتماعيّ، فهو قضيّة «الوحدة»، قضيّة الانسجام والتكامل، قضيّة الرؤية الموحّدة، قضيّة إقامة العلاقة مع جميع المسلمين، وهذا أمر بالغ الأهميَّة في الحجّ». نرجو أن تتفضّلوا علينا بذكر أهميّة الوحدة، وكيف يمكن للحجّ أن يُسهم في توطيدها؟

لو أجرينا دراسة لنداءات الإمام الخميني (قده) وقائد الثورة الإسلاميّة، أو الأحكام التي سلّماها إلى ممثليهما، فإنّ لبّ وجوهر هذه النداءات والمسؤوليّات والتكاليف التي عرضاها لممثّليهما هو الوحدة. الوحدة ليست قضيّة تكتيكيّة، بل استراتيجيّة، إنّها استراتيجيّة أساسيّة. أي لو برز خلافٌ بين المسلمين، لا سمح الله، فإنّ داعش والكيان الصهيوني المحتل سيظهران. هم يسعون إلى جعل المسلمين يشتبكون معًا، ليتغلغلوا بعدها، ويوجهوا ضربتهم. يجب أن نلتفت إلى أنّ الوحدة لو كانت حاضرة، سيكون ممكنًا إنجاز الكثير من الأعمال، وأنّ الأعمال الحسنة سوف تزول لو لم تكن الوحدة حاضرة.

جاء في نداء قائد الثورة الإسلاميّة إلى حجاج بيت الله الحرام قول سماحته: «قضيّة البراءة، هذا العام، هي أبرز من أيّ زمنٍ مضى، ففجائع غزّة المنقطعة النظير في تاريخنا المعاصر، وعنجهيّة الكيان الصهيوني عديم الرحمة، وهو مظهر القسوة والعُتوّ والآيل إلى الزّوال بالتأكيد، لم تدعْ مجالًا للتهاون والممالأة لدى أيّ فرد أو حزب أو حكومة أو فرقة مسلمة». نرجو أن تخبرونا عن كيفيّة سريان صرخة البراءة من المشركين اليوم إلى أرجاء العالم، وتعدّيها الحجاج ووصولها إلى آحاد الناس؟

إنّ أساس البراءة التي رفع سماحة الإمام الخميني (قده) رايتها هو استمرارٌ وإحياء لمسار النبي إبراهيم (عليه السلام). كان خليل الرحمن، النبي إبراهيم (عليه السلام)، يتبرّأ من المشركين أيضًا. ولدينا في القرآن الكريم العديد من الآيات في ذلك. فعلى سبيل المثال: في أوّل سورة البراءة، يأتي التعبير بمفردة البراءة للدلالة على الاجتناب والزجر. وفي مكان آخر، يقول تعالى: «فاجتنبوا الطاغوت»، حسنًا، هذه كلّها براءة. في موضع آخر يستخدم تعبير «قاتلوا» وهو أكثر حدّة، ولا يكتفي بالقول اشمئزّوا، بل قاتلوهم. «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ». حسنًا، هؤلاء أئمّة الكُفر. وأئمة الكفر اليوم عبارة عن الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء الكيان الصهيوني المحتلّ. يطلب القرآن أيضًا من المسلمين كافّة أن يا أيّها المسلمون، قاتلوا أئمّة الكفر. قاتلوا هؤلاء.

في شعار الحج هذا العام وهو «الحج، محوريّة القرآن، تآزر الأمّة الإسلاميّة واقتدارها، والدفاع عن فلسطين المظلومة»، وقد اختير هذا الشعار بمنتهى الذكاء، توجد أربعة محاور: أولًا، محوريّة القرآن، حيث أنّ القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) الأصل والأساس. ثانيًا، التآزر، وهذه قواعد. وبعد ذلك الاقتدار الإسلامي الذي يتحقق مع وجود محوريّة القرآن والتآزر. وفي حال لم تكن هذه الأمور، فإنّ الاقتدار لا يكون حقيقيًّا بل قشريّاً وغير واقعي. وبعد ذلك، المحور الرابع هو الدفاع عن فلسطين المظلومة. حسنًا، الدفاع عن فلسطين المظلومة هو في الواقع براءة من أعداء فلسطين. هذا ما جعل قائد الثورة الإسلاميّة يقول أنّ البراءة ليست محصورة ببراءتنا نحن. يجب على جميع المتديّنين بدين الإسلام، والمعتنقين له، أن يطبّقوا الآية التاسعة من سورة الممتحنة التي توصي بالتبرّؤ من المشركين والظالمين الذين طردوا الناس من بيوتهم، ومصداق مثل هؤلاء هو هذا الكيان القاتل للأطفال.

انظروا إلى أمريكا الآن، إلى هؤلاء الذين يفقدون وجودهم، بل الحقيقة أنّهم يكسبونه، أعني هؤلاء الطلاب الجامعيّين النشطين في المظاهرات والمسيرات ضدّ الكيان الصهيوني. كما إنّ أساتذة الجامعات اليوم، الذين تكوّنت شخصيّاتهم منذ عقود خلت، يُبدون الاستعداد لأن تقيّدهم الأغلال حتى لا يُقتل طفلٌ فلسطيني، وكي لا يتيتّم أطفال فلسطين، ومن أجل ألّا يتجرّع الآباء والأمهات الفلسطينيّون لوعة فراق أطفالهم. هذه كلّها أمورٌ على درجة عالية من القيمة. بطبيعة الحال، يَصعُبُ على أستاذ جامعي أن يُقيّد أمام طلابه، لكنّكم ترون كيف أنّ هؤلاء مستعدّون لدفع الأثمان من أجل البراءة، ولكي يُقتل عددٌ أقل من الأطفال الفلسطينيّين.

لم تعد البراءة اليوم مقتصرة على إيران الإسلاميّة، وهي ليست محصورة بالحج أيضًا. بل إنّ سائر الأفراد الذين يحملون معتقدات أخرى، ولا يعتنقون الأديان الإبراهيميّة، قد نزلوا إلى الميدان، وها هم يدافعون عن نظرائهم في الخَلق. البراءة اليوم براءةٌ عالميّة ضدّ الكيان الصهيوني السارق والقاتل للأطفال. الحجّ هذا العام يختلف عن الأعوام السابقة، والجميع ينزلون إلى الميدان من أجل البراءة، ومن المستحسن جدًّا أن يتعاون حكام البلد المضيف للحج مع الناس، لأنّه لو لم يجرِ التعاون مع الناس، فإنّ هذه العُقد سوف تتراكم وتنفجر في يوم من الأيام، وستصعُب حينها السيطرة عليها.

وهم لو تعاونوا، وأعلنوا هم أيضًا عن زجرهم ومعارضتهم لما يحدث في غزّة، ولو سمحوا للمسلمين الذين يأتون إلى هناك بالتعبير عن آرائهم، وآزروهم، فإنّ هذا الأمر سيُتابع بنحو أفضل بكثير. لأنّ المسلمين يأتون ليقيموا فريضة حجّهم، وهم لا يرغبون بإثارة المشكلات، فلو جرى التعاون معهم، أعتقد أنّ الأمور ستسير بنحو إيجابي.