المشهد الأوّل:
كان مُصلَّى الإمام الخميني قد أصبح مثل خليّة النّحل. وإلى مسافة كيلومترات من حوله، كانت أصوات الذكر والدعاء تتردّد بنحوٍ مستمرٍّ. وكانت النساء الراكبات في السيارات والسائرات على الأقدام يردّدن الأذكار طوال الوقت، في صمتٍ وتأمّلٍ... وفي وجوه الرجال أيضًا، مع تلك الحواجب المعقودة، كان يمكن رؤية الإرادة والتصميم على نصرة دين الله، وطاعة أمر وليّ الله، وتقديم المساعدة لبضعةٍ من أجسامهم في لبنان وفلسطين.
كما لو أن الناس كانوا يدرّبون، بكلّ وجودهم وكيانهم، ومع كل خطوةٍ يخطونها، عزمَهَم وإرادتهم على الذهاب إلى الميدان.
كان الرجل العجوز، عامل البلديّة المسؤول عن تنظيف الشوارع المحيطة بالمُصلَّى، يعقد الكوفيّة حول رقبته، وعلى الجانب الآخر رجلٌ عجوزٌ ثانٍ، كان قد ارتدى الكفن، وهو يشعل الحرمل...
قبل الوصول إلى المُصلَّى بعدة كيلومترات، وبسبب الحشود الكبيرة، كانت الطريق قد أُغلقت أمام السيارات، والناس يسيرون على الأقدام. كان عطر الحرمل يفوح في الجو، وأصوات إنشاد المدائح تعلو وتصدح في الأرجاء، وأعلام حزب الله وفلسطين تخفق فوق الرؤوس... كان الجميع يتّجهون نحو قائدهم؛ ليعرفوا واجبهم...
تردّد من بعيدٍ صوت الشاعر الذي كان ينشد الشعر في المُصلَّى. وكان محور إنشاده عن فراق الشهيد السيّد حسن. أظنّ أنّني سمعته يردد هذا المضمون في شعره: «لقد خسرنا الشخص الذي كان أغلى من الروح». رجعتُ، ونظرتُ حولي، لأرى كل الأشخاص الذين كانت آذانهم ترهف السمع، وحواسهم مركّزةً مع مكبّر الصوت، وقد اختنقوا بالعبرات، وتجمّعت الدموع في عيونهم... كان المُصلَّى قد أصبح مثل خلية نحلٍ، يعجّ داخله وأطرافه بهمسات مناجاة الله.
خلية نحلٍ يبلغ شعاعها عدة كيلومتراتٍ...
المشهد الثاني:
كنتُ أنا ورفيق طريقي نسير مشيًا على الأقدام إلى المُصلَّى. كان رفيقي يأخذ أنفاسًا عميقةً، وكذلك أنا. همَّ بالكلام في الوقت الذي كنتُ أهمُّ بالكلام أيضًا، فانتظرته حتى يتكلّمَ قبلي. قال: «كأننا نسير على أجنحة الملائكة...أليس كذلك؟». هززتُ رأسي قائلًا: «كنتُ أريد أن أقول الشيء نفسه...».
ولكن، بعد ذلك، كنتُ أفكر بيني وبين نفسي بأن هذا مجرد استعداد. سوف نسير حقًّا على أجنحة الملائكة، عندما نكون مثل ذلك الأخ اللبناني، الذي سبقنا بعدة مئاتٍ من الأمتار، وهو يخوض نار الهجمات الجنونيّة المستعرة من أشرس عصابةٍ إجراميةٍ وحشيةٍ في التاريخ، ويصرخ: ما تركتك يا حسين...
سنسير على أجنحة الملائكة، عندما نكون مثل تلك الأخت اللبنانية التي ربّت، هي وأمّها وجدّتها، رجالًا لحزب الله، وفي النهاية يسلّمونهم جسدًا ملفوفًا بقطعة قماشٍ بيضاء، ويقلن: هذا الجسد الملطّخ بالدماء هو ابنكم وأخوكم وزوجكم الرشيد المليح....
إن السير على أجنحة الملائكة الذين يحملون رسالة رضا ربّ المستضعفين وبشارته يتطلّبُ دفعَ ثمنٍ غالٍ. هذا الثمن الذي تدفعه لتبقى النهضة ثابتةً وقويةً، وفي المقابل، تأتي هذه الملائكة بأجنحتها الرقيقة واللطيفة لتقديم السلوان والترحيب...
المشهد الثالث:
كان أمامنا عددٌ من الصبية الشباب الذين أظنّ أن بعضهم إيرانيٌّ، وبعضهم عربٌ، كانوا يمازحون بعضهم بعضًا، ويتّجهون نحو المُصلَّى. كان هذا المزاح من النوع الذي سمعنا أنّ مقاتلي حزب الله كانوا يتبادلونه بين بعضهم قبل العمليات الاستشهاديّة. ومن نوع ذلك المزاح الذي كان لدى أصدقاء الخميني الكبير وأحبّائه عشيّة العمليات ضدّ نظام صدام حسين، ذلك المتوحش مثل إسرائيل. وكذلك مثل مزاح أصحاب سيّد الأحرار المتفردين في ليلة عاشوراء، الذين تورّدت وجوههم من فرح لقاء الله...
قال أحدهم: «يا شباب، من الجميل جدًّا أن نصبح شهداء مجهولين...»، وعندما سمع الباقون ذلك الكلام، ارتفع صخب سعادتهم إلى السماء. أصابني العجب من أن شبابًا في القرن الحادي والعشرين يبحثون عن الشهادة، وبدلاً من التفكير في الرحلات الترفيهية إلى هذا البلد الأوروبي، أو ذاك البلد الأمريكي، لديهم كل هذا الأنس بالشهادة، لدرجة أن عيونهم تتلألأ في وجوههم، وأرواحهم تتدفق في أصواتهم، عندما يجري الحديث عن هدية الله اللطيفة هذه، تلك الهدية التي لا تُضاهى...
قلتُ لنفسي: ما دام هؤلاء الشباب وأمثالهم لا يطيقون الصبر لعون إخوانهم وأخواتهم في لبنان وفلسطين، ويتغزّلون بالشهادة على هذا النحو، فأين الإخفاق والهزيمة؟!
المشهد الرابع:
لقد ذهبتُ كثيرًا إلى مثل هذه المراسم. ولكنّ هذه المرة كانت فريدةً من نوعها، من حيث الحشود، ومن حيث الانفعال والحماس أيضًا. ربما أستطيع القول إنني كنتُ قد رأيتُ نظيرًا لها في مراسم تشييع الحاج قاسم سليماني فقط... حشدٌ عجيبٌ وغريب لا نهاية له، ينبض بالإرادات الحازمة، والجهوزية العالية...
اتخذنا مكانًا في زاويةٍ خارج المُصلَّى، وجلسنا. كان الحاج ميثم مطيعي يُنشد للسيد حسن، ويمدح إيمان أحبائنا اللبنانيين وصبرهم، والملايين من الناس يلطمون على صدورهم. توقّفتُ لحظةً عن اللطم، وأصغيت فقط. كانت عظمة صوت الحشود تجعل المرء يتسمّر في مكانه! أصختُ السمع مرةً أخرى. ومن دون أية مبالغةٍ، كانت الأرض تهتزّ تحت قدميّ في كلّ مرةٍ تلطمُ فيها الأيادي الصدور. نظرتُ إلى وجه صديقي مرةً أخرى بعينين متّسعتين من التعجب. وعندما هزّ رأسه علامةً على الموافقة، فهمتُ أنّ ذلك لم يكن ظنًّا ووهمًا. كانت الأرض تهتزّ حقًّا... أخرجتُ هاتفي من حقيبتي في حالةٍ من عدم التصديق، وكتبتُ: «الأرضُ تهتزّ...»
المشهد الخامس:
وصل رجلٌ يرتدي ملابسه المحلية مع عائلته إلى طهران لأداء الصلاة. كان قد ارتدى سروالًا أسود فضفاضًا، وقميصًا محليًّا أبيض اللون، وأظنّ أنه اللباس الخاص بالعشائر في غربي إيران. كان هذا الرجل يجلس مع زوجته وأبنائه في انتظار قدوم سيّدهم، وكان أطفاله يُحدثون ضجيجًا، ولكن عندما جاء السيّد، التزموا الصمت بشكلٍ كاملٍ، وأصغوا إلى كلام السيّد. في البداية اعتقدتُ أن والديهم قد أسكتوهم، ولكن عندما نظرتُ إلى عيونهم التي صارت ضيّقةً؛ للتمعّن في كلّ كلمةٍ من كلمات السيّد بعنايةٍ، أيقنتُ أنهم قد هدؤوا من تلقاء أنفسهم، وأنه لم يكن هناك أيّ إكراهٍ في ذلك.
خلال الاستعداد للصلاة، قال الرجل لابنته: «يا ابنتي العزيزة! لا تبقي تحت أشعة الشمس، سوف يتأذّى وجهك، يا حبيبة أبيك...». قال نفس هذه الكلمات بالضبط. قال ذلك، وأشعلَ النار في روحي... رؤية غيرة الأب على طفلة صغيرةٍ تبلغ من العمر ثلاث سنوات، وخنجر الشمس يعلو رأسها، يقذف بأذهاننا إلى مكانٍ عزيز، هناك حيث جدائل الفتيات الصغيرات في الضاحية وغزة...
المشهد السادس:
لقد عشنا جميعنا وكبرنا في ظلّ وليّ الله الآمن. ولطالما رأينا شجاعة السيّد ومهارته المحيّرة للعقول في تغيير معادلات المعركة مع العدوّ، لكنّ الأمر هذه المرة كان مختلفًا. لقد كان الأمر مختلفًا حقًّا.
سيّدي العزيز! في ذروة التهديدات، بدلًا من إدارة جبهة القتال في مكانٍ محمي، نهضتَ، وجئتَ إلى المُصلَّى؟ وكنتَ قد أعلنتَ منذ يومين أيضًا أنك ستأتي!
الآن، ها أنتَ تفي بالعهد، وتأتي منذ الصباح لتقيم مجلس تأبين لقائد جيشك، السيّد حسن نصر الله، وها أنتَ نفسك أيضًا، تجلس أمام الكاميرات، وتردد القرآن، بطمأنينةٍ، في صدرك!
الآن، لم تكتفِ بأن أتيت منذ الصباح، ولم تكتفِ بأن أقمتَ صلاة الجمعة، وإنما أقمتَ صلاة العصر بنفسك أيضًا! لماذا قرأتَ تعقيبات صلاتك هنا بهدوءٍ وطمأنينةٍ؟ ألم يكن من الممكن أن تذهب إلى مكانٍ آمنٍ لتصلي صلاة العصر وتقرأ تعقيباتها...؟
لا، نحن لم نعرفك بعد...
لو عرفناك، لكنّا علمنا أن تثبيت قلوب النساء والأطفال اللبنانيين، وتقويتها بكونك إلى جانبهم، أهمّ من آلاف التهديدات ومراعاة البروتوكولات الأمنية...
لو عرفناك، لكان علينا أن نفهم أنك توّاقٌ جدًّا إلى أن تكون ملاذًا للأحرار في العالم، لدرجة أن لا خوف لديك على روحك...
نحن لا نعرفك يا سيّدنا العزيز كلّنا.
يعرفك [أمثال] الحاج قاسم، وأبي مهدي، ونصر الله، فقط...