كانت نين واحدة من هؤلاء النسوة اللواتي يقفن في شوارع المنطقة السفلى من بانكوك، يخطون خطواتهن أمام سيارات السياح لإغواء زبونهم التالي. كانت تبلغ من العمر 16 عامًا فقط عندما دخلت عالم الدعارة بوعد من صديقتها بالعثور على وظيفة مناسبة يمكنها عبرها تغطية نفقات معيشتها. كانت، مثل أي مراهقة أخرى، تتوق إلى الاستقلال المالي والحصول على دخل مناسب، ولكنها تقول إن هذا الحلم كلفها كثيرًا. «كنت محاطة بقوى الشر. في المرة الأولى التي وافقت فيها على هذا العمل، أجبروني على تعاطي المخدرات وشرب الكحول وممارسة الدعارة. كان لهذا العمل عواقب سيئة عليّ. شعرت بشعور مروع»[1].
في تايلاند، تشير التقديرات إلى أن صناعة الجنس تسهم بصورة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتوظف مئات الآلاف من الأشخاص بأشكال مختلفة. يقدر المركز الوطني للمعلومات الحيوية في جامعة ماهيدول بتايلاند أن حوالى 36,000 من بين 150,000 إلى 200,000 شخص يمارسون الدعارة في البلاد هم من الأطفال[2]. تقدر القيمة الإجمالية لصناعة الجنس في تايلاند بحوالى 6.4 مليارات دولار، وهو ما يعادل ثلاثة في المئة من إجمالي الميزانية الوطنية للبلاد.[3]

 

الفساد والدعارة الجنسيّة المنظّمة في جنوبي شرق آسيا:

حوّل انتشار الدعارة المنظمة والاستغلال الجنسي للنساء والأطفال في جنوبي شرق آسيا، خاصة في دول مثل تايلاند والفلبين، هذه المناطق إلى مراكز للسياحة الجنسية والاتجار بالبشر.

الاتجار الجنسي بالأطفال يُعد أحد أكثر جوانب هذا الاستغلال الواسع إيلامًا. يُقدِّر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) أن أكثر من 150,000 شخص سنويًّا في هذه المنطقة يقعون ضحايا للاتجار بالبشر، حيث تُشكل النساء 44% منهم والفتيات 21%. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر البيانات المتاحة من عام 2003 إلى عام 2021 أن 47% من ضحايا الاتجار الجنسي في جنوب آسيا كانوا أطفالًا دون سن الـ 17 عامًا.[4]

في حين يرى البعض أن هذه الأزمة هي مجرد نتيجة لمشكلات اقتصادية، فإن التحليلات الثقافية والتاريخية تشير إلى أيادٍ خفية أخرجت هذه الكوارث. تتوافق الحقائق والأدلة مع تصريحات الإمام الخامنئي الذي وصف دوافع السياسيين ورجال الأعمال من التدخل في شؤون النساء بأنها تدخّل سياسي واستعماري.[5]

 

صناعة الدّعارة الجنسيّة ودور المستعمرين

تُظهر الدراسات التاريخية أن الإمبريالية والاستعمار لعبا دورًا أساسيًّا في تشكيل صناعة الجنس الحالية في تايلاند والفلبين. في الفلبين، في مدة الاستعمار الأمريكي (1898–1946)، أُسِّست أنظمة اقتصادية استغلالية، وأُنشئت مناطق تُعرف باسم «أحياء الترفيه»، التي صُممت خصيصًا لأفراد القوات العسكرية الأمريكية. عملت هذه المناطق، خاصة في الحرب العالمية الثانية وبعدها، بصفتها مقدمة لظهور مراكز السياحة الجنسية الحالية[6]. استمر هذا الوضع حتى تسعينيات القرن العشرين، خاصة حول القواعد الجوية والبحرية الأمريكية الكبرى مثل كلارك وخليج سوبيك[7].

في حرب فيتنام أيضًا، حوّل الموقع الجغرافي لتايلاند البلاد إلى مركز «للراحة والترفيه» للجنود الأمريكيين، الذين ارتكبوا جرائم جنسية مروعة ضد النساء الفيتناميات في فيتنام نفسها.

كان روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي أثناء رئاسة ليندون بي الولايات المتحدة الأمريكيّة. تحمّل جونسون بود المسؤوليّة عن الوجود العسكري الواسع والهجمات الدموية في حرب فيتنام. في عام 1967، وقّعت حكومة تايلاند وماكنمارا اتفاقية وافقت تايلاند بموجبها على توفير فرص «الراحة والترفيه» (R&R) للجنود الأمريكيين، مقابل الحصول على امتيازات تنموية اقتصادية. وقّعت حكومة الولايات المتحدة، التي كانت منخرطة في حرب فيتنام، هذه المعاهدة مع تايلاند، ما سمح للجنود الأمريكيين بدخول البلاد لأغراض «الراحة والترفيه»، وهو ما كان في الواقع اعترافًا رسميًّا بصناعة الاستغلال الجنسي.[8]  

أدى الوجود الواسع للقوات العسكرية الأجنبية إلى زيادة الطلب على الخدمات الجنسية، وتدريجيًّا، أصبحت مثل هذه الاستغلالات جزءًا من أنشطة المستغلين المحليين، بينما جعل المقاولون الأجانب هذا الاستغلال أمرًا اعتياديًّا تحت عنوان «الضيافة». عُدّ الاستغلال الجنسي للنساء في المناطق المحتلة شكلاً من أشكال إعلان القوات العسكرية هيمنتها وسيطرتها. في النهاية، لم تُعزّز مؤامرات الإمبريالية البُنى التحتية للاستغلال فحسب، بل كوّنت أيضًا حلقة من الاعتماد الاقتصادي والانحراف الثقافي التي استمرت حتى اليوم، ما جعل تطوير صناعة الجنس في هذه المنطقة ممكنًا.[9]

بعد مُدَد الفقر والتحديات الاقتصادية التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة، أصبحت السياحة واحدة من أركان الاقتصاد في هذين البلدين. هذه المرة، حل السيّاح الأجانب محل الجنود المحتلين. أدى وجود السياح الغربيين الذين سافروا إلى هذه الوجهات بحثًا عن المتعة الجنسية، بالإضافة إلى الفقر والمشكلات الثقافية الناتجة من سنوات طويلة من الهيمنة الغربية، إلى دفع النساء والفتيات وحتى الرجال في هذه الدول نحو الدعارة والوقوع في شبكة نظام العبودية الجديدة الذي يُعرف باسم «السياحة الجنسية».

 

باسم الحريّة وتعزيز القوّة، لمصلحة السماسرة والمهرّبين في صناعة الجنس

تدريجيًّا، استمر تصوير الاستغلال الجنسي على أنّه أمرٌ عادي تحت عناوين مثل الحرية وإقامة «عقود ثنائيّة». بالإضافة إلى ذلك، أسهم تصدير القيم الليبرالية والعلمانية التي تُقدِّم الحرية الفردية على الأخلاق الجماعية في تشكيل ثقافة يُشجَّع فيها على الدعارة حتى، لأنها تُحقِّق للمرأة استقلالًا ماليًّا. في مثل هذه الظروف الاقتصادية والثقافية، لعبت أنشطة الحركات النسوية الدولية ودعم حقوق المثليين دورًا في تشكيل صناعة الاستغلال الجنسي. هذه الحركات، برفعها قضايا دعم حقوق المرأة، دعمت إلغاء تجريم الدعارة وتطبيعها بوصفها وظيفة مشروعة، وأسهمت في تسليع العلاقات غير الشرعية وانتشار هذا الانحلال الأخلاقي في النسيج الثقافي والاجتماعي لدول جنوبي شرق آسيا. حاول عدد من نشطاء حقوق المرأة الدفاع عن حقوق النساء اللاتي اضطررن إلى الخضوع لمثل هذه الظروف بسبب الفقر واليأس، عبر شرعنة الدعارة بوصفها عملًا اقتصاديًّا بحتًا وإزالة الوصمة عنها. لكن نتيجة لأنشطة هذه المجموعات، ظل تسليع الفعل الجنسي وصناعة الدعارة قائمين، بينما تُجوهلت الجوانب الضارة والآثار المدمرة لهذا النظام على الأفراد والمجتمعات.

بعد توفير الظروف لجعل الانحراف الأخلاقي أمرًا عاديًّا وإضعاف القيم التقليدية في هذه المجتمعات، كما شُرح سابقًا، كان تصدير القيم الغربية الضربة الأخيرة التي دقت المسمار الأخير في نعش الأمن الأخلاقي لشعوب هذه المجتمعات.

كما تُظهر الأدلة والشواهد، لم تكن عواقب التعاليم الغربية في ما يتعلق بالحرية الجنسية تخدم مصلحة الحفاظ على كرامة النساء والأطفال وإنسانيتهم، بل أسهمت في تفاقم المآسي المذكورة. في السياق نفسه، أشار الإمام الخامنئي في لقائه مع فئات مختلفة من النساء في عام 2023م إلى أن النظرة والثقافة الغربية هما المسؤولان عن الوضع الحالي، وأضاف قائلًا: «إنّ التجارة والاستعباد الجنسي، كسرت الحدود الأخلاقية والعرفية كلها، وتقنين قضايا مثل المثلية الجنسية التي تُعدّ محرمة في الأديان السماوية جميعها، فضلاً عن الفضائح الأخرى، هي نتائج النظرة والثقافة الغربية تجاه المرأة»[10].

تحت راية التثقيف الغربي والنظام الاقتصادي الليبرالي، تحولت النساء والأطفال إلى سلع تُعرض في نظام العبودية الحديث هذا بسبب طلب السياح الأجانب. لدرجة أنه، ورغم غياب شرعيتها، فإن الأرباح الناتجة من هذه الصفقات غير الإنسانية لا يمكن أن يتغاضى عنها مشغلو بيوت الدعارة وكذلك الحكومات. حتى أن بيوت الدعارة في الأحياء المشبوهة تواصل أنشطتها الإجرامية علنيًّا.

 

الأطفال أصبحوا سجناء أحد الكوابيس

لكن أكثر العواقب إثارة للرعب لهذا الفساد المنهجي والواسع النطاق، يتمثل في استعباد الأطفال الذين يقعون ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وسماسرة الجنس واحتجازهم.

تشمل المسارات الشائعة للمستفيدين في منطقة جنوبي شرق آسيا الاتجار بالأطفال من كمبوديا إلى تايلاند للتسول والعمل المنزلي والبيع في الشوارع؛ الاتجار بالفتيات من فيتنام وميانمار إلى تايلاند للاستغلال الجنسي؛ والاتجار بالفتيات من لاوس إلى تايلاند للعمل المنزلي والعمل في المصانع. يُتاجَر بالأطفال في هذه المنطقة لأغراض مختلفة، بما في ذلك أنواع العمل القسري أو الاستغلالي مثل الخدمات المنزلية والعمل في المصانع والزراعة والصيد والبناء والتسول والزواج القسري والتبني. مع ذلك، ظل الاتجار لأغراض الاستغلال الجنسي أحد أكثر أهداف الاتجار شيوعًا في هذه المنطقة على مدى عدد من العقود[11]. غالبًا ما تبيع هؤلاء الأطفال أسرُهم الفقيرة في المناطق المحرومة، سعيًا وراء المال والرفاهية، إلى عصابات الاتجار بالبشر. كما يقع بعض الفتية والفتيات فريسة لوعود كاذبة من السماسرة عن ظروف معيشية أفضل وفرص عمل مناسبة، فينزلقون بأنفسهم إلى هذا المستنقع المرعب.

في خضم النمو الاقتصادي الناتج من تدفق السياح الأجانب على نحو كبير، تولي الحكومات أقل قدر من الاهتمام لحماية الأطفال. أنجزت المنظمة الدولية ECPAT في تقرير عام 2016 دراسة تفيد أن الزيادة في النمو الاقتصادي الناتج من السياحة في تايلاند أدت مباشرة إلى زيادة الاستغلال الجنسي للأطفال.[12]

مع ذلك، يبدو أن هذا المد الهائل من الانحراف الأخلاقي ووقوع الأطفال ضحايا لم يكن بمنزلة صفعة لإصلاح مسار السياسيين ورجال الأعمال في هذه المنطقة، بل دفعهم طمعهم إلى المزيد من الاستغلال.

 

 

 

 


[1] https://theexodusroad.com/walking-away-from-sex-trafficking-nins-story/

[2] Archavanitkul K. What is the number of child prostitutes in Thailand? Warasan Prachakon Lae Sangkhom. 1999 Jan;7(2):1-9. PMID: 12321935.

[3] http://www.havocscope.com/prostitution-book/

[4] https://www.statista.com/statistics/1290095/south-asia-age-distribution-sex-trafficking-victims/

[5] https://khl.ink/f/58656

[6] Suntikul, W. (2013). ‘Thai Tourism and the Legacy of the Vietnam War’, in Butler, R., Suntikul, W., (eds.). Tourism and War. Milton Park, Abingdon, Oxon: Routledge, pp. 92-105.

[7] https://en.wikipedia.org/wiki/Human_trafficking_in_the_Philippines

[8] WAR, MIGRATION AND THE ORIGINS OF THE THAI SEX INDUSTRY by Abel Brodeur, Warn N. Lekfuangfu and Yanos Zylberberg, Journal of the European Economic Association

[9] History of Prostitution and Sex Trafficking in Thailand available at: https://www.endslaverynow.org/blog/articles/history-of-prostitution-and-sex-trafficking-in-thailand

[10] https://khl.ink/f/51655

[11] ECPAT international, Regional Overview: Sexual Exploitaton of Children in Southeast Asia, Writer: Deanna Davy, 2017

 

[12] همان