بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمدُ لله ربّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين وصحبه المُنتَجبين ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
يسرّني كثيرًا وأشكر الله أن منّ علينا بالتوفيق حتى نشهد مرّةً أخرى هذا المحفل القرآني العذب والمُحبّب والعزيز في هذه الحسينيّة.[1] كما أتوجّه بالشّكر إلى سماحة السيّد خاموشي ومؤسسة الأوقاف على إقامة هذه الدورة من المسابقات ونشر [ثقافة] القرآن الكريم – بحمد الله – بمختلف الأساليب وعلى نحو متواصل في أرجاء البلاد. أبارك حلول ذكرى ولادة أبي عبد الله الحسين (عليه الصّلاة والسّلام)، ويحدوني الأمل أن يجعلنا الله المتعالي من المُتّبعين لهذا الجليل وهذه العائلة المكرّمة.
ثَمَّةَ آلاف النقاط العميقة والعذبة التي ذكرها العظماء والعلماء بشأن كلام الله المجيد، ولا تزال هناك آلاف وآلاف لا تُحصى من النقاط غير المذكورة. مهما قلنا عن القرآن، فلن نصل إلى ذروة فضيلته وقيمة هذا الكتاب السماوي العظيم. أعرض اليوم فكرة واحدة، وأتوقع أن يلتفت إليها أحباؤنا ومستمعو هذا الكلام. تلك الفكرة هي أننا كلما راجعنا القرآن الكريم، يجب أن ندرك أنه معجزة النبي (ص). القرآن معجزة، أي إن الله المتعالي أثبت نبوة نبي الإسلام الأكرم (ص) بواسطة القرآن، وهذه قضية مهمة جدًا. [القرآن] معجزة خالدة، والفرق بين هذه المعجزة وسائر معجزات الأنبياء هو أنّ تلك المعجزات كانت خاصّة بمرحلة ذاك النبيّ الكريم (ع) نفسه، وكانت مشاهدة تلك المعجزة الإلهيّة خاصّة بأولئك الناس آنذاك. ناقة صالح رآها الناس في ذلك الزمان فقط، وعصا موسى رآها الناس في ذاك الزمان فقط، فيما سمع الآخرون أخبارها فقط. لكن الناس يرون معجزة النبي (ص) على مرّ التاريخ وحتى آلاف الأعوام القادمة. إنهم يرون هذه المعجزة بأمّ أعينهم. هذا الاستمرار للإعجاز القرآني والإعجاز النبوي بركةٌ عظيمة لعالَم البشرية وعالَم الوجود.
كلّ شيء في القرآن معجزة؛ فلفظه معجزة ونظمه معجزة ومفاهيمه معجزة، وإخبار القرآن عن الماضي والمستقبل معجزة، وعرضه سنن عالم الوجود معجزة، وإخباره عن بطون الإنسان معجزة. كلّ شيء في القرآن معجزة، ونحن علينا أن نستفيد من هذه المعجزة الكبيرة وننتفع بها. إذا استفدنا من القرآن الكريم، فإنّ حياة البشر ستزدهر، وستُحلّ المشكلات كلّها. دروس القرآن للبشر دروسٌ عمليّة ويُمكن أن تُجرّب. هذا غير المعارف الراقية التي لا يتسنّى الوصول إليها سوى للعظماء والأولياء والمقرّبين. المقصود ممّا نقوله، هو ظواهر القرآن هذه، وهذه الكلمات نفسها التي نفهمها جميعًا، هذه [الآية] نفسها {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[2]. يمكن لكلّ إنسان أن يستفيد من هذا، وعلينا أن ننظر إلى القرآن بهذه العين.
أودّ أن أطرح مثالًا يساعدنا في فهم عبرة التبيين القرآني. يقول القرآن على سبيل المثال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطّلاق، 3)، أي لو توكّلتم على الله المتعالي واعتمدتم عليه وارتكزتم إليه، فهو كافٍ لكم، ولا نحتاج أيّ وسيلة وعامل آخر لبلوغ المقصود. حسنًا، هذا درسٌ مهمّ وعام، ولكن ينبغي التدبّر فيه. ما الذي يعنيه هذا؟ إذا توكّلنا، فلن نحتاج إلى أيّ عامل آخر. وسط أيّ ظروف وضمن أيّ إطار تتحقق هذه الحقيقة الحتميّة والمسلّم بها؟ يجب توجيه السؤال بشأن هذا الأمر إلى القرآن ذاته. القرآن يحدد ذلك لنا. التوكل على الله وترتّب الأثر الناتج من التوكل عليه لهما شرط قلبي وشرط عملي وواقعي. إذا تحقق هذان الشرطان، فعندها {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، أي إنكم لن تحتاجوا إلى أيّ عامل آخر. هذان الشرطان، أحدهما شرطٌ قلبي. ما هو الشرط القلبي؟ الشرط القلبي هو أن تثقوا بصدق الوعد الإلهي {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} (النساء، 122). ثقوا بهذا الأمر، ثقوا أنّ الوعد الإلهي وعدٌ صادق وحتمي. هذا في المجالات القلبية للتوكّل. لن يتحقّق التوكّل إذا لم يكن هذا الأمر حاضرًا. لذلك تلاحظون أنّ الله المتعالي يذمّ الذين يسيئون الظنّ بالله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (الفتح، 6).
أي يجب ألّا تكون هناك إساءة للظنّ بالوعد الإلهي، وأن نعتقد بصدق قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (الحج، 40). يجب أن تكون لدينا هذه الثقة، وهذا شرطٌ قلبي. أضيف هذه العبارة التي دوّنتها هنا: في ذاك الشرط القلبي، يجب أن يكون لدينا يقينٌ بأنّ المستحيل يصبح ممكنًا بإذن الله؛ الأمر الذي يبدو مستحيلًا، يصبح ممكنًا. يجب أن يكون لدينا يقينٌ بهذا الأمر. أمورٌ كثيرة في عالمنا الموجود وحياتنا هي ضمن المستحيلات، مثل إحياء الميّت الذي هو من المستحيلات. يجب أن يكون لدينا يقينٌ أن بإذن الله، ولو أنّ الله المتعالي أَذِنَ وأراد، فإنّ هذا الأمر المستحيل يصبح ممكنًا ويغدو واقعًا. كما إنّ القرآن ينقل في أحد المواضع عن النبي عيسى (ع) وفي موضع آخر عن الله المتعالي[3] نفسه: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران، 49). أصنع من الوحل شكل حمامة أو حيوان أو طائر، ثمّ أنفخ فيه فيتحوّل إلى حمامة. أليس هذا من المستحيلات؟ لكنّ هذا المستحيل يصبح ممكنًا بإذن الله. {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران، 49)، الأكمه هو الأعمى منذ الولادة؛ يجعل الأعمى منذ الولادة يُبصر، ويُحيي الميت، بإذن الله. يجب أن يعتقد [الإنسان] أن المستحيلات في العالم كلّها والأمور التي لا يبدو تحقّقها ممكنًا، كلّها تتحقّق بإذن الله.
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة، 249). فئة قليلة تستطيع الانتصار على فئة كثيرة، بإذن الله. {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة، 251)؛ استطاعت مجموعة صغيرة محيطة بطالوت أن تغلب، بإذن الله، عدوًّا عاتيًا. هذا يعني أنّ غزّة تتغلّب على الكيان الصهيوني والنظام الأمريكي بإذن الله! وهكذا كانت الحال. ألم يكن مستحيلًا؟ لو أنّهم قالوا لكم: من المقرّر أن تواجه غزّة الصغيرة جدًا قوّة عظمى مثل القوّة العسكريّة لأمريكا، وأن يتقاتلوا ثمّ تحقّق غزّة الغلبة، هل كنتم لتصدّقوا ذلك؟ ما كنتم لتصدّقوه. هذا من المستحيلات، ولكن هذا العمل ممكنٌ بإذن الله. هذا الشرط القلبي ضروري. أي يجب أن نعلم أنّ كل ما يبدو مستحيلًا في العالم يمكن أن يتحقق بإذن الله وبالإرادة الإلهيّة، ويمكن أن تتحقّق. هذا شرطٌ قلبي.
[وأمّا] بشأن الشرط العملي، الشرط العملي هو أنّه لحدوث هذا الحدث، يضع الله المتعالي جزءًا من العمل في عهدة الإنسان نفسه. ليس الأمر على هذا النحو بأن نجلس في بيوتنا ثم نقول {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}. كلّا، إنّ جزءًا من العمل هو في عُهدتنا، مثلما كان في قضيّة النبي عيسى (ع) جزء من العمل في عهدة النبي عيسى؛ صناعة ذاك الحيوان وذاك الطير من الطين، هذا ما كان ينبغي للنبي عيسى (ع) أن ينجزه بنفسه، فلو أنّه لم يفعله ما كان الطير ليتكوّن. هذا الجزء كان في عهدته هو. لو أنّ النبي موسى (ع) لم يُلقِ العصا على الأرض، ما كان ليحدث ذاك الحدث {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} (طه). «ألقِها» ضروريّة. ألقِ العصا، وعندما تُلقيها، ستتحقق النتيجة وستتجلّى المعجزة وسيتحقّق الأمر المستحيل، أي تحوّل العصا إلى ثعبان.
إذًا هذا شرطٌ عملي. يجب أن نتولّى جزءًا من العمل. {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (الأنفال، 65). هذا ما يرويه القرآن عن التكليف الذي كُلّف به المسلمون في الصدر الأوّل. في مقدوركم التغلّب على الكثرة حتى وإن كنتم قِلّة.
نحن الشعب الإيراني ونحن بوصفنا أمّة إسلاميّة ومجتمعًا بشريًّا، نعاني اليوم من بعض المشكلات، وتبدو لنا بعض هذه المشكلات غير قابلة للحل؛ لكن كلّا، هذا هو الحل لها {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. لنتوكّل على الله، مع استيفاء هذين الشرطين: أولًا، بأن يكون لدينا يقين وأن نثق بالله المتعالي بأنّه سيساعدنا إذا دخلنا الميدان، وثانيًا، أن ندخل الميدان {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} (المائدة، 23).
قال الله المتعالي لأصحاب النبي موسى (ع) عليكم أن تدخلوا هذه المدينة، فإذا دخلتم {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}، ولكنّهم لم يدخلوها، فلَم يحقّقوا الغلبة أيضًا. إذا أنجزتم الجزء المُلقى على عاتقكم، فسوف تحقّقون تلك النتيجة حتمًا وسوف يُحقّق الله المتعالي ذلك الوعد. نحن نقف اليوم في وجه الاستكبار، ولسنا وحدنا نحن الشعب الإيراني فقط. الفرق بين الشعب الإيراني وكثيرٍ من الشعوب الأخرى هو أنّ الشعب الإيراني لديه هذه الجرأة ليقول أمريكا معتدية وأمريكا كاذبة وأمريكا مخادعة وأمريكا مستكبرة والموت لأمريكا. الآخرون يشعرون أنّ أمريكا كاذبة وأنّها مخادعة ومستعمرة ومعتدية وأنّها ليست ملتزمة بأيٍّ من المبادئ الإنسانيّة، ولكنّهم لا يجرؤون على التصريح بذلك ولا على الوقوف في وجهها. حسنًا، إنّهم لا يؤدّون دورهم، وعندما لا يؤدّونه لا تتحقّق أيّ نتيجة. يجب أن نؤدي دورنا وأن نتحلّى بالصبر ونجاهد ونسعى حتى نحقق النتائج. الشعب الإيراني صبر وبذل سعيه على مدى هذه الأربعين عامًا ونيّف، واصطفّت أمامه القوى المستكبرة في العالم كلّها وسعت وبذلت جهودها ضدّه، ولكن الشعب الإيراني لم يتأثّر بالضربات قط، بل تقدّم إلى الأمام وارتقى وازدهر. إيران اليوم ليست إيران قبل 40 عامًا، ونحن حقّقنا النموّ في الجوانب كلّها. طبعًا، يقول بعض الأشخاص إنّنا لم نتقدّم في الجوانب الروحانيّة. [كلّا] في الجوانب الروحانيّة [تقدّمنا] أيضًا، والنموذج هو هذا القرآن. عندما يقرأ هؤلاء اليافعون القرآن، يشعر المرء بالمتعة لاستماعه إلى قراءتهم. هم حَفظة القرآن وتُلاته. نحن أيضًا في أيّام شبابنا في [مدينة] مشهد، كنّا من أهل القرآن وكنّا نقيم الجلسات القرآنيّة أيضًا، وكان عدد الأشخاص الذين يستطيعون قراءة القرآن بتجويد جيّد لا يبلغ عشرة أشخاص حقًّا، واليوم يقرأ آلاف الشباب في أرجاء البلاد القرآن بتجويدٍ متين وجيّد، ولدينا آلاف الحفظة، وقد تقدّمنا اليوم على المستوى الروحانيّ وعلى مستوى القرآن، بحمد الله. لقد تقدّمنا في الجوانب الماديّة أيضًا، وأنجز شبابنا أعمالًا متنوّعة، وسوف يتواصل هذا التقدّم وسيبلغ الشعب الإيراني ذروة ما يطمح إليه، إن شاء الله، وببركة التوكّل على الله المتعالي.
والسّلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في مستهلّ هذا اللقاء – الذي انعقد في مناسبة اختتام الدورة الحادية والأربعين لمسابقات القرآن الكريم الدوليّة – تلى عددٌ من القرّاء آيات من الكتاب المجيد. كما قدّم حجّة الإسلام السيّد مهدي خاموشي (رئيس مؤسسة الأوقاف والأمور الخيريّة) تقريرًا.
[2] منها: سورة القمر، الآية 17.
[3] في سورة المائدة، الآية 110.