في اللقاء الذي جمع المسؤولين في جمهورية إيران الإسلامية وسفراء الدول الإسلامية في إيران، مع قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، بمناسبة ذكری المبعث النبوي الشریف، تحدّث سماحته عن محاولات الاستعمار على مر التاريخ لتحقیق ثلاثة أهداف: نهب ثروات الشعوب، وسلب الشعوب ثقافتها الأصيلة، وطمس هويتها الوطنية والدينية.

والإمام الخامنئي في كل مرة وكلمة يتحفنا ببعد جديد من رؤيته للعالم المعاصر ولما يجري فيه من أحداث. لذلك، للحديث عن هذا الموضوع لا بد لنا أن نضع الموقف الأخير ضمن المنظومة الفكرية للإمام الخامنئي، ولا سيما رؤيته النقدية للحضارة الغربية. كما وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار الخط البياني لمواقفه في مجالات الفكر وثقافة الشعوب، إذْ بدأ سماحته بالحديث عن «الغزو الثقافي»، ثم انتقل إلى مصطلح آخر وهو «الإغارة الثقافية»، وتحدث لاحقًا عن «الناتو الثقافي»، لیصل في نهاية مواقفه - إذا أخذناها بعين الإعتبار وفق ترتيبها الزمني - تحدث عن المنعطف التاريخي الخطير. ومن هنا نلاحظ أن الإمام الخامنئي ينتقل من مرحلة نقد الحضارة الغربية والدفاع عن كيان الأمة في مواجهة هذه الحضارة إلى مرحلة المواجهة والمبادرة والإقدام بدل النقد والانفعال. والحديث يطول عن هذه المرحلة التي تبدأ بالصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي مرورًا بالنظريات التي طرحها الإمام الخامنئي في الداخل الإيراني حول ما سمي بـ«الخطوة الثانية»، والوثائق الإستراتيجية التي وضعت على أساس هذه الرؤية، وصولًا إلى مشروع بناء الحضارة الاسلامية الجديدة.

أری من الضروري أن أؤكد وأكرر أنه ينبغي دراسة ما طرحه الإمام في كلمته الأخيرة في إطار هذه المنظومة الفكرية والعملیة النقدية الحضارة العربیة وكذلك الرؤية الاستشرافية التي يحدد معالمها الإمام الخامنئي في مختلف أحاديثه. وخلال الرؤية النقدية، كان الإمام الخامنئي، حتى منذ قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، يتحدث دائمًا عن الاستعمار ثم الاستعمار الجديد والاستعمار ما بعد الجديد وعن الهيمنة الأمريكية والادعاءات الزائفة لما يسمى بالحضارة الغربية، ويقوم بعملية نقد دقيقة للعقل الغربي ولتلك الحضارة، ویؤكد في المقابل أيضًا ضرورة التصدي لهذه المحاولات، ومنها المقاومة للاحتلال. فحین يتحدث عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين - مثالًا - يؤكد دائمًا أن العامل الأساسي لهذه المأساة هو الدعم الأمريكي ودور الولایات المتحدة الأمريكية في هذا الإحتلال. فهو لاينسى الدور الذي تلعبه الهيمنة الأمريكية على مقدرات العالم حتى في القضايا الإقليمية ومن هنا نراه يدعو دائمًا إلى معرفة العدو، وإلى جهاد التبيين، وإلى استقلالية القرار لدى الشعوب الإسلامية، وإعادة المجد الإسلامي، وبناء الحضارة الإسلامية الجديدة  .

ففي هذا الإطار يمكن أن نفهم كلامه الأخير حول نهب الموارد الطبيعية، وتدمير الثقافة الأصيلة، وطمس الهوية الوطنية والدينية للشعوب.

فهو أولًا يتحدث في هذا الإطار عن نوع من الإرهاب الاقتصادي الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية ويمارسه الاستكبار العالمي، ونحن كلنا نعلم ما جرى من عملية نهب لثروات الشعوب، وأن الثروة في أمريكا والغرب تعود جذورها إلى عملية نهب مصادر الشعوب في العالم وثرواتها، ليس فقط في فترة الاستعمار واحتلال الأوطان، إن كان ذلك في القارة الأفريقية أو في كثير من مناطق العالم، واستعمال الرق والعبيد لبناء الحضارة الغربية، وهي بالفعل مبنية على أكتاف المضطهدين من العبيد الذين أقتيدوا من الدول المستعمرة. وعلى الرغم من حديث سماحته حول الاستعمار الجديد ومابعد الجديد وأسالیبه المتطورة الحدیثة إلا أننا اليوم نشهد ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من نهب لثروات الشعوب رسميًا كسرقة النفط في ليبيا وسوريا، والسيطرة على المال العراقي حيث تذهب عائدات النفط العراقي إلى خزانة البنك المركزي الأمريكي، ومن ثم تقوم الدولة العراقية بمطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بتسلیمها مبالغ من عائداتها لتسدد لها الإداره الأمريكية ما یفقد مفهوم السیادة الكاملة ویمكن الإشارة أیضًا إلى نهب مصادر النفط في جنوب اليمن إذن على الرغم من اختلاف الأسالیب في عصر الاستعمار الجديد وما بعد الجديد، لكن عملية نهب ثروات الشعوب ما زالت مستمرة، ناهيك عن أن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس هذا النوع من الإرهاب عبر الآليات التي وضعتها في العالم الجديد، انطلاقًا من المؤسسات التابعة إلى هيئة الأمم المتحدة، مرورًا بمؤسساتٍ كصندوق النقد الدولي أو البنك العالمي، وصولًا إلى توظيف المافيات والكارتلات والشركات العالمية وأصحاب الرساميل والدولة العميقة من أجل تكريس الهيمنة الأمريكية.

ولو لاحظنا الوثائق والمعاهدات الدولية نرى أن المعاهدات المرتبطة بالمال كصندوق النقد الدولي وغيرها كلها قد تم ترتيب شؤونها كي تحافظ على الهيمنة الأمريكية، فلا يمكن إطلاقًا أن يصل شخص معارض للسياسات الأمريكية إلى رئاسة صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي أو أي مؤسسة عالمية أخرى، ناهیك عن السياسات التي أتخذت في مجال ما يسمى بمكافحة تبييض الأموال وفي المعاهدات الدولية الأخيرة لمراقبة نقل الأموال مثل «FATF» ومعاهدة «بالرمو» و«CFT» والآلية الموجودة في الخزانة الأمريكية لمراقبة تدفق الأموال ونقلها بين مختلف الدول ادعاء متهم بمراقبة عدم استخدام هذه الأموال في العمليات الإرهابية وما إلى ذلك، وفي الحقيقة إنها بذاتها عمليات إرهابية تصادر استقلالية القرار لدى الدول المختلفة إذ تتم هذه العملية باسم مكافحة تبييض الأموال ومكافحة التدفق المالي للمجموعات الإرهابية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تؤسس الفصائل الإرهابية وتدعمها وتحاول من خلال هذه الآليات المالية والإرهاب المالي والنقدي والبنكي الذي تمارسه أن تقف بوجه مقاومة الاحتلال ومحاولات الشعوب لاستيفاء حق تقرير المصير ولتحرير أراضيها ومصالحها وإرادتها.

لذلك وبالإضافة إلى نهب ثروات الشعوب، نحن أمام حالة من الإرهاب الإقتصادي والمالي والنقدي والبنكي على الصعيد العالمي، كما نرى توظيف الدولار للضغط على الشعوب المستقلة في العالم. وكلنا نعلم أن الاقتصاد الأمريكي يشكل أكبر اقتصاد في العالم، وحينما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقطع علاقة الدولار بالذهب رغم اتفاقية «بريتون وودز» أدى ذلك إلى أن تضطر الدول في العالم للاعتماد على الدولار بدل الذهب في اقتصاداتها الوطنية، وفي دعم العملات المحلیة، ما أدى بدوره إلى هيمنة الدولار على اقتصادات العالم وسرقة ثروات الشعوب بشكل متجدد وعبر هيمنة الدولار.

كل ذلك يعد حالة جديدة من نهب ثروات الشعوب، ومن الإرهاب الاقتصادي الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية. والمحاولات الجارية التي تقوم بها بعض الدول والقوی الاقتصادية الصاعدة كالصين أو منظمة البريكس وبعض الدول الأخرى التي تحاول أن تتم التجارة البينية لها مع الدول الأخرى بالعملات المحلية، وما يواجهه الاقتصاد الأمريكي من أزمات تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تصديرها إلى سائر نقاط العالم، قد تؤدي هذه المحاولات إلى تقليل هيمنة الدولار على الاقتصادات العالمية.

 والحديث يطول طبعًا عن المحاولات الأمريكية لضرب الثقافة الأصيلة لدى الشعوب، ولطمس الهوية الوطنية والدينية، والذي يتم ذلك أیضًا بأساليب جديدة عبر مفاهيم العولمة والقانون الدولي والعشرات، بل والمئات من الوثائق والآليات التي تحكم القانون الدولي وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، والتي تستهدف تغيير القيم الوطنية لكل شعب ودولة بحجة تغليب القيم العالمية والقانون الدولي على القوانين الداخلية، وهذا ما يجري منذ عشرات السنين، بالإضافة إلى ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية والاستكبار العالمي عبر المؤسسات العديدة التي أوجدت من أجل التأثير على مقدرات الشعوب والرأي العام العالمي. ونحن شهدنا ذلك عبر الحروب الناعمة والإعلامية أو المحاولات لخلق ما سمي بالثورات الملونة وتغيير الأنظمة التي لا تتفق مع الإراده الأمريكية لمجيء أنظمة تسير في الركب الأمريكي.

 إن ما نشهده اليوم في منطقتنا من مواجهة عنيفة بين مشروعين، مشروع الاحتلال والاستيطان والتطبيع والانبطاح أمام الإرادة الأمريكية والإسرائيلية، وبالمقابل مشروع المقاومة، إنما يصب في هذا الإتجاه. إن هذا المشروع - أي مشروع المقاومة - ليس مشروعًا من أجل تحرير الأرض فحسب، وإنما من أجل تحرير الإرادة وتحرير الثقافة وتحرير الهوية الوطنية والدينية ومواجهة المحاولات التي يقوم بها الإستكبار العالمي لطمس هذه الهوية. وما نشهده أيضًا من محاولات للتغيير في العقل الإنساني في العالم، ولتغليب اللذة والثروة والقوة والسلطة على كل المفاهيم الأخرى، والتي تكون على حساب القيم والإيمان والأخلاق والدين والتعاليم الدينية، وما نشهده من محاولاتٍ لنشر المخدرات، وتغيير مفهوم العائلة، وموضوع الجندر والمثلية، بل وحتى بعض ما نشهده أحيانًا من الزواج مع الحيوانات ومحاولات من هذا النوع، إنما كلها تأتي ليس فقط لطمس الهوية الوطنية والدينية للشعوب، وإنما لتدمير آخر ما تبقى من القيم ومن الفطرة الإنسانية حتى يكون هذا الإنسان المسلوب من كل القيم وحتى من معالم فطرته الإنسانية، يكون في خدمة الآلة الرأسمالية الاستكبارية.

من هنا يجب الانتباه والوقوف بوجه كل هذه المحاولات، وهذا هو جوهر الصراع الذي نشهده الیوم على الساحتين الإقليمية والدولية بين المشروعين، المشروع الاستكباري والمشروع الاستقلالي المقاوم.