1. وصفَ قائدُ الثورة الإسلامية الشهيدَ السيد حسن نصر الله اليوم، أي بعد استشهاده، بأنه في «ذروة العزة»، وأكّد أن نهجه وروحه أصبحا أكثر شموخًا من ذي قبل.
في رأيكم، إلى ماذا يستند توصيف قائد الثورة الإسلامية للشهيد السيد حسن نصر الله على هذا النحو، خاصة في الوقت الذي يرى فيه عدد في العالم الغربي أن اغتيال الشهيد «هزيمة ونهاية»، ويراه بعض الأشخاص في العالم الإسلامي مرادفًا «لليأس والإحباط»؟
إذا أردنا فهم سرّ القضية وعمقها، فعلينا مراجعة الآيات المتعلقة بالعزة في «القرآن»، لأن معظم المواقف الكبرى والحكيمة لقائد الثورة الإسلامية تستند إلى أسانيد قرآنية، ولذا إن النظر في الآيات المتعلقة بهذا الموضوع أمر بالغ الأهمية.
على سبيل المثال، حيث يقول الله المتعالي في الآية المتعلقة بذلك: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النساء 139)؛ يتكرر هذا المعنى في آيات متعددة من «القرآن»، أن العزة لا توجد لدى غير المؤمنين ولا في ما هو غير ربّاني وإلهي. من يبتغي العزة والكرامة والمكانة الاجتماعية بل والعالمية والحضارية، عليه أن ينظّم علاقته مع الله ويُحسّنها، وعندما يتقرّب إلى الله، فإن العزة الإلهية ستشمله بلا شك. هذه نقطة أساسية، فالعزة تنبع من الاتصال والعلاقة التي يُكوّنها الإنسان مع الله، ويجب أن يقاوم ما هو غير إلهي كله في حياته، مثل الحكّام الجائرين ونظام الهيمنة العالمي والأجواء التي تسودها العلاقات غير العادلة في العالم. عليه، حتى وإنْ استشهد، فإن تلك العزة الإلهية ستشمله.
لكن الواقع أن هناك فجوة كبيرة بيننا وبين العالم الغربي في معايير الحياة ومعايير الموت، ومعايير الهزيمة ومعايير النصر، ومعايير الكرامة الإنسانية ومعايير العزة الإنسانية. إذا اعتقدنا أنّ الإنسان الذي يقاوم الظلم وأحيانًا يُستشهد نتيجة لذلك هو إنسان مهزوم، وأنّ الإنسان الذي لا يُقدِم لأيّ سبب كان ويستسلم هو إنسان منتصر، لأنّ ظاهر الأمر قد يُوحي أنّ هذا الشخص المستسلم، الذي يرضخ إلى مطالب أمريكا، يعيش في ظروف اقتصادية جيدة بعيدًا من الحظر والعقبات ويستطيع أن يُطلق مشاريع تنموية متنوعة في بلده، فإنّ هذا المفهوم هو مفهوم علماني بحت. بمعنى أنه مفهوم دنيوي وربما مادي، ويعني أننا نبحث عن السعادة والهناء والأمل في عالم المحسوسات والملموسات فقط. في حين أن أدبيات الإسلام ترتكز أساسًا على المعايير الإنسانية لكسب العزة والكرامة ولقيمة الحياة لا بل وحتى قيمة الموت. في الواقع إنها تركز على المعايير الإنسانية، إذ إنّ ما يذكره عظماؤنا، مثل أمير المؤمنين (عليه السلام)، في تبيين معنى الذلة والعزة ومعنى الحياة والموت، يشير إلى أنّ الموت في العيش والحياة مع الذل، والعيش والحياة في الموت مع العزة، هي المعنى الحقيقي للكرامة الإنسانية. هذه الفلسفة هي في الواقع فلسفة الحياة والموت في الأدبيات الإسلامية، وخاصة عند عالَم المقاومة.
لذلك، إنّ الأمر الذي جعلَ مخاطبنا أو بالأحرى خصمنا الحضاري في العالم الغربي عاجزًا أمامنا، هو هذه النقطة بالذات، إذْ إنّ عالَم المقاومة لا يرى الموت هزيمة ولا الحياة نصرًا محضًا. بل إنه يؤدي التكليف والواجب، فإذا انتصر، فهو منتصر، وإذا مات واستشهد، فهو أيضًا منتصر. إنّ هذه الثنائية المتناقضة في العالم الغربي الذي جعل حياة البشر مقتصرة على الحياة المادية، هي أمرٌ يصعب فهمه، بسبب فلسفة الحياة والموت تلك، في حين أنّ هذا التناقض في عالَم المقاومة مفهوم تمامًا. من المفارقات أن هذه الميزة نفسها هي ما يعجز عن فهمها عدوُّ عالَم المقاومة، ولا يستطيع أن يُخضِعَ أمة تعتقد بهذا المبدأ في عقلها وروحها.
2. استكمالًا لهذا الجزء، يتوقع قائد الثورة الإسلامية في بيانه في مناسبة تشييع الشهيدين السيد نصر الله والسيد صفي الدین، أنّ «روح [الشهيد نصر الله] ونهجه سيتجلّى شموخهما أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، ويُنيران درب السالكين»؛ ما المنطق والمبدأ وراء هذا الاستمرار والاستدامة؟ كيف يمكن بعد الاستشهاد والفناء المادي أن يكون لسماحته هذا الحجم من «التأثير» و«الحياة» و«القوة» و«الإرشاد»؟
كيف يمكن لروح الشهيد نصر الله ونهجه والشهيد سليماني والشهداء الكبار في المقاومة أن يبقيا حيين، وكيف يخوض المقتدون بهم غمار ميدان المقاومة على نحو أكثر جدية وعمقًا وتأثيرًا؟ يمكننا البحث عن هذا الرابط في التاريخ، ونرى كيف هو حال شهداء المقاومة، وخاصة المقاومة المرتبطة بفلسطين؛ هل هم في حالة أفول أم ذروة؟ التجربة والتاريخ يظهران أن اغتيال القادة واستشهاد أفراد المقاومة وشخصيّاتها البارزة لم يُخفِتَ شعلة المقاومة، بل جعلها أكثر اتقادًا وتَوَهّجًا. كما إنّ الأطفال الذين تمكّنوا اليوم من النجاة في المخيمات تحت القصف الصهيوني، هم الذين سيكونون قادة المقاومة في المستقبل. هذه نقطة تُظهر أن هناك عنادًا ولَجَاجَةً تاريخيّة في العالم الغربي ولا يريد قبول هذه الحقيقة التاريخية، وهي أنه عبر قتل الفلسطينيين لا يمكنه القضاء على قضية فلسطين وقضية المقاومة وأهداف الدول الطامحة إلى الحرية والاستقلال.
أما النقطة التالية التي تستحق التأمل من الناحية المعرفية، فهي حقيقة مسألة دماء الشهيد. في الواقع، هناك مضامين متعددة في الآيات القرآنية، إذْ يقول الله المتعالي: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران، 169). في هذه الآية، يقول أحياء عند ربهم يرزقون، وفي آية أخرى يقول أحياء ولكن لا تشعرون، ولا يقول عند ربهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (البقرة، 154).
هذا المفهوم بأنّ الشهيد حيّ هو أحد النقاط المهمة جدًا، إذْ إنّ مفهوم الشهيد عند عالَم المقاومة يستند أولاً إلى المنطق القرآني، ويعتمد على فكرة كَوْن الشهيد حيًّا. إن كوْن الشهيد حيًّا لا يقتصر على الحياة في الآخرة فقط، حيث له هناك حياة مرموقة يُغبَط عليها، بل هو حيٌّ في هذه الدنيا كذلك.
لشرح كَوْن الشهداء أحياء، يمكننا الحديث عن مستويات عدة ومن جوانب مختلفة، ولكن إذا أردنا التحدّث في الزمان والمكان المحدودين الحاليين عن تعبير قائد الثورة الإسلامية بشأن الشهيد نصر الله، إذْ قال «روح [الشهيد نصر الله] ونهجه سيتجلّى شموخهما أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، ويُنيران درب السالكين»، فلا بدّ أن نركز على مسألة الشهداء العظماء أو أمة الشهداء؛ هذه الأمة التي دماء شهدائها هي دماء عظيمة حقًا. أوّد أن أعبّر عن ذلك بتعبير: «دم الله». تارة يتجلّى «دم الله» في دم الحسين بن علي (ع)، وفي دم علي بن أبي طالب(ع)، وتارة أخرى في دماء أتباعهما. أي إنّ الدماء التي سُفكت على مستوى أمة، مثل دم الشهيد نصر الله ومثل دم قاسم سليماني ومثل دماء كبار الشهداء والقادة والشهداء العظماء الذين استشهدوا فعلاً على مستوى كبير وعلى مستوى أمة على يد عدو كبير مثل الكيان الصهيوني ومثل أمريكا؛ هذه الدماء، لأنها دماء عظيمة ولأن الثأر هو ثأر الله، فإنّ تأثيرها يبقى في مقياس الله نفسه. في الواقع، دماء الشهيد هنا أو دماء الشهيد العظيمة هي حقًّا نور الله؛ {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}. في الحقيقة، الله المتعالي سيتمّ نوره بالتمام والكمال ولن يسمح أن يُطفئ هذا النورَ الآخرون والمجرمون في الدنيا. كما قال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف، 8).
النقطة التالية هي أنه بمقدار ما تُسفك دماء عظمائنا، فإنها تترك تأثيرات عظيمة في المجتمع. أهم تأثير لذلك يمكنكم مشاهدته في دم الحسين بن علي (عليهما السلام). على أيّ حال، إذا كان من المفترض أن يحبط العالم الإسلامي والمجتمع المسلم عمومًا ويتراجعا وينتابهما اليأس ويتخلّيا عن الطريق بسبب استشهاد شخصية، فأيّ شهادة أكبر وأعظم من شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، سيد الشهداء، أبي عبد الله؟ في النهاية، عندما يستشهد إمام بمستوى الإمام الحسين (عليه السلام)، كان من المفترض أن يعمّ اليأس أكثر، وكان من المفترض أن يُطفأ ذلك النور في التاريخ إلى الأبد. لكن لماذا لم يحدث ذلك؟ لماذا بقي هذا النور مستمرًا؟ في الحقيقة، إنّ استمراريته تنبع من النور الإلهي الذي كان في شخصية مثل الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام). كذلك الأمر بالنسبة إلى أتباعه الذين استشهدوا في هذا النهج.
والسلام عليكم ورحمة الله.