مرّت قرابة ثلاثة أسابيع على استئناف الكيان الصهيوني مجددًا لجريمته المتواصلة في إبادة جماعيّة بحقّ أهالي غزّة المظلومين والعزّل؛ ففي الساعات الأولى من يوم 18 آذار/مارس الجاري، أعاد الصهاينة شنّ حربهم الدموية ضد النساء والأطفال الفلسطينيين في غزّة، مرتكبين أفظع الجرائم. بحسب ما أعلنته وزارة الصحة في غزّة، فإن الإبادة الجماعيّة التي يرتكبها الصهاينة في القطاع حتى الآن قد أودت بحياة نحو 51 ألف فلسطيني، وخلّفت أكثر من 115 ألف جريح. في ما يتعلق بالضحايا منذ 18 آذار/مارس، فقد أعلنت الوزارة استشهاد أكثر من 1400 شخص. مع ذلك، إنّ عدد شهداء هذه الحرب الظالمة يفوق بكثير الأرقام المعلَنة، ذلك أنّ جثامين عدد كبير من الضحايا لا تزال تحت الأنقاض بسبب نقص الإمكانات اللازمة لرفع الركام، وصعوبة وصول فرق الإنقاذ إلى المناطق التي تعرّضت للقصف.[1]

 

مجزرة «تلّ السلطان» هزّت وجدان الرأي العام

في الساعة 05:20 من صباح يوم 23 آذار/مارس، توجّه 14 عنصرًا من فرق الإغاثة - 9 من الهلال الأحمر و5 من الدفاع المدني - إلى منطقة «تلّ السلطان» غربي مدينة رفح، بهدف إسعاف المواطنين الفلسطينيين الجرحى والمحاصَرين. بعد مرور أسبوع، في 30 آذار/مارس، أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني أنّه تُعرِّف إلى جثامين عناصره الـ14 الذين فُقدوا في «تلّ السلطان»، وقد أُخرجت جثثهم بعد أن دُفِنوا في المكان. في 5 نيسان/أبريل، كُشف النقاب عن جريمة مروّعة بعد نشر مقطع فيديو صوّره أحد المسعفين بهاتفه المحمول قبيل استشهاده بلحظات، إذ أظهر المقطع كيف أقدم الصهاينة على إعدامهم بوحشية فور وصولهم إلى «تلّ السلطان»، بإطلاق نار متواصل لا يرحم.[2] بعد أيام قليلة فقط، نُشرت مشاهد جديدة لجريمة صهيونية أخرى في غزّة، فأدخلت العالم في صدمة عارمة. الصهاينة استهدفوا خيام إقامة الصحافيين الفلسطينيين في «خان يونس»، وأحرقوهم أحياء.[3] أكثر ما فجّر مشاعر الغضب في الرأي العام هو مشهد احتراق الصحافي الفلسطيني أحمد منصور حيًّا، فقد أظهرت المشاهد كيف التهمته النيران وهو يصارع للبقاء. لقد أُصيب بحروق خطيرة، وبعد يوم من مقاومة الموت، ارتقى شهيدًا.[4]

 

صرخة غضب الرأي العام العالمي في وجه الكيان الصهيوني

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين بدأ الكيان الصهيوني ارتكاب جرائمه الوحشية بحقّ الفلسطينيين في غزّة، خرجت شعوب العالم مرارًا في مظاهرات حاشدة غاضبة من الصهاينة. اليوم، مع استئناف الكيان الصهيوني الحرب وتصاعد جرائمه المروّعة ضد سكان غزّة المشرّدين، احتشد الرأي العام في العالم العربي ضد الصهاينة في الشوارع والساحات. على سبيل المثال، خرج آلاف من أبناء الشعب المغربي في مظاهرة حاشدة بالعاصمة «الرباط»، حيث عبّروا عن رفضهم لمخطط التهجير القسري لأهالي غزّة، وندّدوا بجرائم الكيان الصهيوني ضدّهم. كما طالبوا بوقف تطبيع العلاقات بين الحكّام العرب والكيان الصهيوني. في تونس أيضًا، نظّم عشرات المحتجّين تظاهرة أمام السفارة الأمريكية، عبّروا فيها عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، مطالبين بإغلاق سفارة واشنطن في بلادهم احتجاجًا على دعمها المتواصل للكيان الصهيوني.[5] بل إنّ إحدى هذه المسيرات في تونس شهدت حادثة مأساوية هزّت المشاعر، حين حاول الطالب الجامعي فارس خالد التعبير عن تضامنه مع أهالي غزّة عبر رفع علم فلسطين فوق أحد مباني مدينة منوبة، فسقط من أعلى المبنى وفارق الحياة، وقد منحه الإعلام التونسي لقب «شهيد علم فلسطين»[6]. رغم ما في هذه الحادثة من ألم ومرارة، ولكنها حملت رسالة عميقة: شباب المنطقة ليسوا على استعداد لمجاراة سياسات حكّامهم في تجاهل القضيّة الفلسطينية، حتى وإن كلّفهم ذلك أرواحهم.

إلى جانب المغرب وتونس، شهدت مناطق متعدّدة في لبنان تظاهرات ومسيرات دعمًا للشعب الفلسطيني وأهالي غزّة،[7] كما انضمّت العاصمة الأردنية «عمّان» إلى قائمة المدن العربية التي تحوّلت أخيرًا إلى ساحة للاحتجاجات الشعبية ضدّ الكيان الصهيوني وجرائمه في غزّة، حيث طالب المشاركون في هذه التحرّكات بوقف فوري لمسار تطبيع العلاقات بين الدول العربية وتل أبيب. [8]

بالإضافة إلى الدول العربية، تحوّلت مناطق عدّة في الدول الغربية أيضًا إلى ميادين مواجهة بين الشعوب والكيان الصهيوني. على سبيل المثال، خرجت حشود من الناس في مدينتَي «واشنطن» و«نيويورك» بالولايات المتحدة الأمريكية في مظاهرات تضامنية مع فلسطين، مطالبة بوقف فوري لدعم حكومتهم لتل أبيب. كذلك شهدت دول أوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا والسويد وإيطاليا وبلجيكا وتركيا نزول المواطنين إلى الشوارع دعمًا للفلسطينيين ورفضًا للحرب على غزّة.[9]

أظهرت مشاهد الاحتجاجات الواسعة ضدّ الكيان الصهيوني في العالم أن قضية غزّة لا تهمّ العالم الإسلامي فحسب، بل هي قضية ذات أهمية كبيرة أيضًا لغير المسلمين، وقد قال قائد الثورة الإسلامية في هذا السياق: «قضيّة غزّة هي اليوم قضيّة مهمّة حقًّا، وتقع على رأس قضايا العالم الإسلامي. يجب أن نشعر جميعًا بالمسؤوليّة في هذا الصدد. قلوب الشعوب معهم، حتى من غير المسلمين، وأنتم طبعًا ترون هذه المسيرات والتظاهرات التي تخرج في العالم تأييدًا للفلسطينيين وأهالي غزة والمظلومين في هذه المنطقة؛ هذه المسيرات غير مسبوقة، لم نجد مثيلًا لها في أيٍّ من القضايا [المختلفة]» [10].

 

الدول العربية؛ من الصمت إلى مدّ يد الصداقة لتل أبيب

منذ بداية الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني المظلوم والمشرد في غزّة، ورغم طلبات قيادات الحركات المقاومة الفلسطينية المتكرّرة، فضّل زعماء دول العالم العربي السكوت إزاء الجرائم الفظيعة التي ترتكبها تل أبيب، واكتفوا بإصدار إدانات شفهية غير مؤثرة. مع ذلك، لقد كسرت بعض الدول الإسلامية أخيرًا صمتها تجاه المعركة الدموية في غزّة، ولكن ليس لمصلحة الفلسطينيين، بل لمصلحة الصهاينة. في هذا السياق، كان قد أثار نشر صورة مصافحة وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد آل نهيان، مع نظيره الصهيوني جدعون ساعر، قبل بضعة أيام، كثيرًا من الجدل.[11] إن استضافة المسؤولين الإماراتيين للقيادات العليا في الكيان الصهيوني ومدّ يد الصداقة لهم أظهرت بوضوح أن الدول الإسلامية اتخذت مسارًا معاكسًا لمسار الشعوب الإسلامية، فكما ذكرنا سابقًا، إنّ الشعوب الإسلامية ترفع صوتها عاليًا مطالبة بدعم فلسطين وضرورة وقف تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.

رغم المطالب الأساسية والقطعية لشعوب العالم الإسلامي بضرورة وقف تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وسط استمرار الإبادة الجماعية للفلسطينيين، نرى أن أيًّا من الدول مثل مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب والسودان التي وقّعت سابقًا على اتفاقات تطبيع العلاقات مع تل أبيب، لم تُقدِم على تنفيذ مطالب شعوبها حتى لو مؤقتًا طوال العامين الماضيين، وكان قائد الثورة الإسلامية قد أشار سابقًا إلى واجبات الدول الإسلامية ومسؤولياتها تجاه أهالي غزّة، مؤكدًا ضرورة التزامها بتلك المسؤوليات: «على الحكومات الإسلامية أن تقطع علاقاتها - العلاقات الاقتصادية والسياسية - مع الكيان الصهيوني. على نحو مرحلي كحدّ أدنى! فلتبقَ العلاقات مقطوعة ما دام هؤلاء مستمرين في ارتكاب هذه الجرائم وليتوقف الدعم ولينقطع التواصل. هذا هو التوقع من الحكومات الإسلامية، وهو ليس توقّعنا نحن فقط، بل إنه توقّع الشعوب الإسلامية»[12]. على أيّ حال، ما يبدو واضحًا هو أن نهج الحكومات تجاه الكيان الصهيوني لا يتوافق بتاتًا مع نهج الشعوب والرأي العام تجاه هذا الكيان، إذْ إنّ هذين الاتجاهين يتعارضان على نحو صارخ مع بعضهما بعضًا.