بدايةً، نرجو أن تُحدّثونا بإيجاز عن حياة الشهيد الجهادية، وكيف التحق بالمقاومة وحزب الله.

بسم الله الرحمن الرحيم، أنا خديجة ابنة القيادي الكبير في «حزب الله» الشهيد السيد فؤاد علي شكر (السيد محسن). السيد محسن هو من مواليد عام 1961 في قرية النبي شيت في البقاع اللبناني، نشأ وترعرع بين البقاع وبيروت. أسهمت أمور عدة في تكوين شخصيته بنظري، أبرزها ثلاث نقاط أدت إلى وجود الوالد في مضمار الجهاد ووصوله إلى هذا المقام، إن كان في موضوع الجهاد، ولاحقاً القيادة، ثم الشهادة.

أعتقد أن هذه الشخصية تبلورت على ثلاث ركائز أساسية:

أولاً الوالد كان ربيب المسجد، وهو كان داخل المسجد شديد الاهتمام بـ«القرآن». اهتمامه بـ«القرآن» داخل المساجد وكان يقول دائماً إن منهجنا الثابت هو «القرآن»، وترديده الدائم لقول الإمام الخميني: «مساجدنا متاريسنا»، تظهر حجم ارتباطه بـ«القرآن الكريم» داخل المسجد، وهو الذي بدأ الاهتمام بالتواجد في المسجد، والاهتمام بتشجيع الإخوة على المواظبة على تفسير الدروس.

النقطة الثانية التي أعتقد أنه كان لها تأثير كبير في شخصية الوالد، هي اهتمامه بالخط الحسيني، وعدّه كما قال الإمام الخميني: «إن كل ما لدينا هو من عاشوراء»، اهتمامه وارتباطه بالخط الحسيني جعلاه يتفاعل في المدة التي كان فيها بالجهاد مع موضوع الجهاد والمقاومة، ليس فقط على قاعدة أنه أمر حتمي للدفاع عن الوطن والزود عن شعبه ومنع “إسرائيل” من احتلال الوطن، بل أيضاً لأن ارتباطنا بالإمام الحسين جعل مقاومتنا تُبنى على قاعدة عقائدية أكثر من مجرد القتال، وهذا ما يميز هذه المقاومة عن غيرها.

الوالد كان عنده عبارة دائماً يقولها: «الروح لا تقاتل خالصة لله إن لم تكن حسينية». كان يرى أن هذه العقيدة الحسينية، أي ارتباطنا بعاشوراء، هو الذي يميز هذه الحركة المقاومة، «حزب الله»، عن باقي الحركات المقاومة، سواء في لبنان أو غيره.

أعتقد أن الركيزة الثالثة الأساسية التي أسهمت في تكوين هذه الشخصية القيادية هي الارتباط الكبير والقوي بالقيادة والولاية منذ البداية. أظن أن هذا الشيء لم يتجلَّ فقط عبر كلام الوالد أو مواقفه التي كان يعبّر فيها كلاميًّا عن موضوع الولاية، بل حتى أفعاله كانت تعبّر عن هذا الموضوع.

إذا أردنا العودة إلى بدايات العمل الجهادي للوالد، تحديداً عام 1982، نرى أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك وجود لتنظيم اسمه «حزب الله» أو أي حركة مقاومة تابعة له، ولكن في ذلك الوقت حاول على نحو فردي البدء ببعض الأعمال الجهادية من أجل الدفاع عن لبنان في وجه “إسرائيل”.

لعل أبرز محطات هذه المرحلة كان معركة حدثت في خلدة، يومها الإسرائيلي كان قد دخل لبنان من جهة الجنوب، واجتاز منطقة صيدا، وكان قريباً من العاصمة بيروت من مدخلها الجنوبي. في ذلك الوقت، كان الوالد يسكن في منطقة على أطراف العاصمة اسمها الأوزاعي من حيث المدخل الجنوبي.

عندما عرف أن الإسرائيلي صار في خلدة، التي هي أقرب منطقة إلى مكان سكنه، حاول كما يقول بعض الأشخاص الذين كانوا موجودين، أن يعبّئ الإخوة من حوله بأننا يجب أن نواجه هذا الزحف الإسرائيلي الذي كان هدفه الوصول إلى بيروت ويحتل العاصمة.

أحد الإخوة للسيد محسن ينقل عنه قوله: نحن نقول «يا ليتنا كنا معكم»، ونتمنى نصرة الإمام الحسين. الإمام الحسين الآن في خلدة، وهو يدعونا إلى النصرة مجددًا.. رغم أن هذه المعركة كانت بالنسبة إلى كثيرين نوع من أنواع التهور، لأنه بالقياسات الدنيوية، هذه المعركة لم يكن فيها تكافؤ قوى أبدًا، وكانت تُعدّ معركة استشهادية، كون العدد والعدة كانا أقل بكثير من أن تواجه أي كتيبة إسرائيلية، ولكن الوالد لم يكن يقبل هذا الكلام، وكان يرى أنه حتى لو كان العتاد والعتيد أقل بكثير مما تفرضه هذه المعركة لتكون متكافئة، ولكن «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».

الوالد وقتها توجّه من منطقة سكنه في الأوزاعي مع الإخوة الذين تجاوبوا وقبلوا أن يكونوا معه. وأذكر أنه لما روى الإخوان القصة أمامي، قالوا إنه ترك مجموعة من الإخوة على مدخل منطقة الأوزاعي، وبما أن عددهم وسلاحهم قليل، قال لهم: نحن ذاهبون إلى المعركة في خلدة، وقد نستشهد جميعًا. إذا استشهدنا واستطاع الإسرائيلي أن يتابع ووصل إلى هنا، افعلوا مثلنا: لو اضطررتم أن تستشهدوا كلكم، ولكن لا تتركوا مجالًا لاستسلامكم أمامه وهو في اتجاهه إلى العاصمة.

يومها، سبحان الله، سدد الله الإخوان ووفقهم، وطبعًا بمشاركة بعض القوى الثانية من الشرفاء الذين كانوا موجودين في المنطقة، وكانوا قد بدؤوا مقارعة هذه الكتيبة الإسرائيلية، وكسبوا هذه المعركة. وقتها، كسبوا المعركة وغنموا مدرعة إسرائيلية بعد أن قتلوا الجنود المتواجدين فيها كلهم.

كان على جانب هذه المعركة مبنى حجز فيه الإسرائيليون الصحافيين جميعهم، ولما قُضي على هذه الكتيبة، وأخرج الوالد الصحافيين من داخل المبنى، سألته إحدى الصحافيات، وكانت فرنسية، عما إذا كان ينتمي إلى أي من الحركات المقاومة التي كانت موجودة في الساحة آنذاك، فأجابها: «لا، نحن الخمينيون».

يومها كانت العبارة مفاجأة للموجودين حوله، حتى الإخوان الذين كانوا معه. قالت له الصحافية: «لم نسمع بكم من قبل»، فأجاب: «ستبدؤون السماع بنا».

عندما كنا نسمع هذه القصص، أذكر لما سألت الوالد عن سبب إطلاقه هذه الكلمة، فقال «إنه صحيح أن قتال “إسرائيل” للدفاع عن الأرض والشعب مهم جداً، ولكن هذه من أهم الدوافع التي دفعتني إلى أن أذهب وقتها»، فعدّ أنه حتى لو استشهد، سيكون بريئًا للذمة، وسيكون قد فعل الواجب، أي كلام الإمام الخميني يومها بوجوب قتال “إسرائيل”، الذي كان بالنسبة إلى الوالد من أيام الخميني وصولاً إلى الآن، الأيام التي كنا نحن بكل مدة قتال، الوالد جنبًا إلى جنب أصدقائه ورفاقه المجاهدين في الحروب التي خاضوها كلها، كان هو تحت إمرة الولاية، من أيام الإمام الخميني حتى أيام السيد علي الخامنئي (دام ظله الشريف).

بمثل هذه التصرفات، وبهذه المعارك، وبهذه المواقف، تعرف أن الولاية بالنسبة إلى الوالد كانت خطاً أحمر، وكانت أمرًا يراه غير قابل للنقاش، ليس بالكلام فقط، إنما بالأفعال أيضًا.

هذه المعركة كانت، بفضل الله، البداية الأساسية لتكوين «حزب الله» الذي أخذ لاحقًا شكل منظمة متكاملة وكبر مع الوقت.

معركة خلدة التي كانت هي الأساس، كما يمكننا أن نقول، أو الشرارة الأساسية لانطلاق هذه الحركة المقاومة، التي أصبحت لاحقًا هذا الحزب، الذي هو «حزب الله»، كانت بالنسبة إلى الوالد ليست إلا بداية، بداية حتى نثبت أننا سنكون على هذا الخط، وتطور شكل هذه المقاومة مع الوقت.

كان الوالد في السنوات التي قضاها مجاهدًا في هذا الخط، وكان يتغير كثيرًا، كسماحة السيد، في موقعيته ومكانته وعمله، واللافت في كلام سماحة السيد الذي قاله في تأبين الوالد، أن السيد محسن لم يكن يتواجد في لبنان فقط، وحتى في لبنان لم يكن يتواجد في مكان واحد فقط، ولا موقعية واحدة فقط، كان عملياً تحت تكليف سماحة السيد، كونه بنظره امتداد للولاية والقائد المباشر.

تنوع نتيجة هذه الحاجة المتغيرة مع الوقت، وجود الوالد في ميادين عدة بين البقاع وبيروت والجنوب، بين توليه مسؤولية العمليات العسكرية، وتوليه مناصب أخرى عدة داخل «حزب الله». كان ذلك طبعًا بمؤازرة إخوانه والقادة والمجاهدين الآخرين الذين كانوا معه، وحتى أنها تطورت إلى خارج لبنان. تحدث سماحة السيد في الخطاب عند استشهاد الوالد عن وجوده بالبوسنة، التي هي واحدة من المعارك التي كانت مصداقًا لكلمة «حيث يجب أن نكون سنكون».

توجه الوالد وقتها إلى البوسنة مع مجموعة من الإخوان، نصرة للمظلومين المسلمين هناك، حتى مع اختلاف طائفتهم أو مع اختلاف منهجهم عنّا، ولكنهم مسلمون ومظلومون، وهنا كان هناك وجوب لمناصرتهم، وهذا الذي تحدث عنه سماحة السيد في ذاك الخطاب.

يومها، غاب الوالد مدة طويلة، نحن كنا معتادين غيابه لمُدد، ولكنني أتذكر أنه غاب حوالى السنة في البوسنة، ولم يكن هناك تواصل بيننا، مرة واحدة وصلتنا رسالة مكتوبة.

لم يودعنا، خرج كما يخرج دائمًا للعمل، ونحن كنا معتادين غيابه، والوالدة كانت شديدة الدقة بالتعاطي معنا في هذه المدة، كوننا بعمر صغير في هذه المرحلة، لم يكن هناك حديث عن موضوع القيادة والجهاد و«حزب الله»، كنا نعرف أننا في هذا الخط لأننا كنا نعرف أنه استشهد مثلاً آباء إحدى رفيقاتنا، وكنا نسمع عن الشهداء، يعني المقاومة عُرفت بشهدائها في هذه المدة. ما كنا نعرفه كله أن الوالد مشغول، والوالدة كانت تبرر أنه ما علينا إلّا الدعاء في هذه المراحل.

الوالدة لم تكن تعرف. كانت تعرف أنه في العمل، وكانت دائمة التشديد على أنه ما يمكن أن نفعله في هذه الحالة هو الدعاء له، إما بالعودة منتصراً أو بالشهادة، وكما قال سماحة السيد في الحالتين هذا انتصار. لكن الغيبة في هذه المرة تطورت وطالت.

بعد مدة، بعد أشهر عدة، وصلتنا رسالة من الوالد، وبسببها عرفنا أنه مسافر خارج لبنان. كان يطمئنّ علينا ويطمئننا أنه بخير، وكانت تتضمن تذكيرنا بالقواعد الأساسية التي ربانا عليها. موضوع الصلاة و«القرآن» وأن نستمع إلى كلام أمي، وعندما كنا صغاراً، كان يتحدث إلينا بأكثر من ذلك، ونعرف تفاصيل أكثر. لاحقًا مع مرور الأيام ومع كلام سماحة السيد عن موضوع البوسنة، فهمنا ما كانت الفكرة.

بعدها أكمل الوالد مراحل وجوده كلها بقيادة المقاومة، بالمحاولة والسعي الدائمين لتطوير هذه المقاومة من النواحي كافة، إن كان كما في البدايات عندما كان عرّاب الإخوة الاستشهاديين، يعني كما قال سماحة السيد كان يعمل على صناعة الفئة الاستشهادية، التي كان لها دور كبير بأن تنقل قوة المقاومة من مرحلة إلى مرحلة وأن تُفهم الإسرائيليين بأنهم موجودون في مواجهة شعب ومقاومة متقبلين أن يكون في صفوفهما استشهاديون، ولن يسمحا لهم أن يكملوا الاحتلال.

من بعد مرحلة الاستشهاديين، كان الوالد يتابع العمل الدؤوب دائماً على تطوير المقاومة من النواحي كلها، علماً أنه هو دائماً يسعى إلى التوضيح للمجاهدين عن الفرق بينا وبين أي حركة مقاومة ثانية ودائم التذكير بأن امتداد هذه العلاقة الراسخة بيننا وبين كربلاء، أي العقيدة الأساسية،  هي التي تحركنا باتجاه هذا العمل المقاوم.

أو من الناحية التي كان يحاول فيها دائماً أن يوجد الخطط التي تساعد المقاومة على الانتقال من مرحلة إلى أخرى أكبر بمواجهة العدو الإسرائيلي، أو من الناحية التي حاول فيها تطوير السلاح لدى المقاومة، من الناحية التكنولوجية أو من ناحية المواظبة على رفع مستوى الترسانة في المقاومة لتكون قابلة لمجابهة هذا العدو في أي لحظة تواجه فيها حربًا أو واجب الدفاع عن نفسها.

ظل هذا العمل يتطور عنده، وما كان يوفر جهدًا في أي شيء حتى يسهم في تطوير المقاومة، حتى وصلنا إلى مرحلة «الدفاع المقدس» في سوريا، التي تحدث عنها سماحة السيد.

قبل هذه المرحلة، تابع الوالد العمل، في محاولة رفع مستوى جهوزية المقاومة، كما قال سماحة السيد، برًا وبحرًا وجوًا، وأوكل إليه مهمات عدة، من القوة الصاروخية إلى القوة البحرية حتى القوة الجوية، التي له الدور الأساسي فيها، إذ رأى أهمية تقويتها ومدى احتياجنا إليها في حروبنا ضد “إسرائيل”.

في هذه المدة، مرت المقاومة ولبنان بمفاصل عدة، منها الحروب، ويمكن أن تكون حرب 2006 أبرزها، التي كما قال سماحة السيد، كان الوالد يحاول فيها الاستفادة من التجهيزات كلها التي سبق أن جهزناها في المدة السابقة.

أنا أذكر أنه لم يكن موجودًا بيننا في هذه الحرب ليخبرنا ما يحدث، ولم نكن نعرف مكانه، كان لدينا يقين فقط بأنه إلى جانب سماحة السيد والحاج عماد وبقية الإخوة القياديين في إدارة هذه الحرب، وما كنا نعرف إن كنا سنراه بعد الحرب مجددًا. لهذا عندما عاد ورأيناه، عددنا أن كل يوم من بعد الحرب هو يوم إضافي بجانبه، بمنزلة يوم ونصف يوم، وأذكر جيدًا أنني في أول مرة رأيته فيها بعد الحرب، قلت له إنني سعيدة برؤيته، وكون الحرب قد انتهت، فقال لي: «الآن بدأت الحرب».

لما سألته لمَ بدأت الحرب الآن؟ قال: «الذي مر هو معركة وحرب كان فيها قتال، أما الآن، فعلينا أن نستفيد من الخروقات ونقاط الضعف كلها التي اكتشفناها وكل ما تمكنّا من فهمه عن الإسرائيلي أكثر، والآن هو وقت أن نزيد ترسانتنا ونبدأ بالتخطيط للحرب القادمة مع “إسرائيل”».

لم يكن لديه مجال للراحة، ما كان يأخد في الحسبان الجهد الجسدي أو النفسي الذي سببه هذا العمل الدؤوب، فقد كان يرى أن هذا الوقت هو من حياته، وقد نذره لهذه المقاومة، وكان دائماً حريصاً على ألا يضيع وقتاً حتى في الراحة، ليستطيع قدر الإمكان زيادة قوة هذه المقاومة على مر الوقت.

بعد حرب تموز، أكمل الوالد عمله جنباً إلى جنب مع سماحة السيد والإخوة الآخرين بمواصلة التحضير للعدو الإسرائيلي، ورفع مستوى المقاومة حتى تكون قوة بوجه هذا الاستعمار، وحتى يبنوا هذا النوع من الردع حتى لا تفكر “إسرائيل” في شن حرب جديدة على لبنان كما قبل.

في هذه السنوات، وفي مواصلة الوالد العمل، شن الأمريكي والإسرائيلي دائماً حملات إعلامية تروّج إلى أن هذا الحزب إرهابي، وتسلّط الضوء على بعض قيادييه، ومن ضمنهم والدي، وتحفّز على الإبلاغ عنه مقابل مبالغ كبيرة، كونهُم يعدّونه من الأشخاص الذين يهددون الأمن الإسرائيلي. لم تثنِ هذه المحاولات أبي عن متابعة عمله.

حتى عندما تحدثت الولايات المتحدة و”إسرائيل” في المؤتمرات عن فكرة عمله أو دوره بتحويل صواريخ «حزب الله» إلى صواريخ دقيقة وغيرها من التفاصيل التي كانت تعدّها “إسرائيل” مؤثرة على أصل وجود الكيان الإسرائيلي، هذا الشيء لم يمنعه من الإكمال بالطريقة والزخم نفسهما.

في هذه المدة، اشتعلت الحرب في سوريا، يومها مثل وقت البوسنة، رأى الوالد أنه تحت قيادة سماحة السيد، فيكون حيثما يقول له السيد أن يكون. كما أشار سماحة السيد إلى أن الوالد شارك في «الدفاع المقدس»، وتواجد في بعض المعارك على نحو مباشر بوجه التكفيري. لا، بل إنه استغل هذه المدة أيضًا ليكون على معرفة أكبر، حتى في الوقت الذي فكر فيه الإسرائيلي أنه يضعفنا، الوالد كان يستغل أثناء تواجده في سوريا الميدان ليقلب نقاط الضعف إلى نقاط قوة، التي كانت معرفة ميدان العمل الجوي أو البري مع العدو الصهيوني أكثر، في حال قرر أن يستخدم هذه الساحة لاستكمال حربه علينا.

بعد سوريا، أكمل مع بقية الإخوان بالطريقة نفسها لزيادة قوة المقاومة، إلى أن بدأ «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر. يومها، أوكل إليه سماحة السيد قيادة جبهة الإسناد. لم يكن تفانيه في العمل في هذه المدة غريباً، لأن فلسطين والقدس وتحرير هذه الأرض المباركة و دحر “إسرائيل”، كما كان يقول الإمام الخميني، كانت من أساسيات تفكير الوالد، فقد كانت عينه دائمًا على فلسطين، وكان يفكر دومًا في اليوم الذي سنصل فيه إليها ونصلي في القدس. لقد كان يتحدث دوماً عن أن النصر قادم لا محالة وفلسطين ستتحرر، فهذا وعد الله، والمسألة مسألة وقت فقط.

لذلك، كما عبّر الإسرائيلي، كان وزير الحرب في جبهة الإسناد، ولم يترك وسيلة تساعد غزة والإخوة الفلسطينيين إلا واستخدمها، من الأسلحة إلى التجهيز إلى المساعدة، وحتى الحرب النفسية على العدو الإسرائيلي.

وكما رأينا في الإعلام، أطلق «الهدهد» ليخبر الإسرائيلي أننا قادرون على رؤيتك في عقر دارك، وأرسى الكثير من القواعد في هذه المدة، ما ساعد غزة كثيرًا وخفف عنها الضغط. استمر في محاولة التخفيف عن الإخوة في فلسطين بجبهة الإسناد وفي مساندتهم بكل ما أوتي من وسائل، حتى اختاره الله شهيدًا في حرب الإسناد العام الفائت.

كيف تلقّيتم خبر استشهاد الوالد؟

سبق هذه الضربةَ استهداف الشهيد العاروري مع رفاقه في الضاحية، وبعدها بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفًا. يعني كنا نرى أن هذه الضربة في الضاحية هي تجرؤ من الإسرائيلي، ولكن كان هدفه فلسطينياً، ما يعني أن هناك رسالة إلى الفلسطينيين الموجودين في لبنان.

سماحة السيد كان هو المحرك الأساسي للوالد بتفاصيله وعمله وتنقلاته كلها، يعني كان هو المرجعية الأساسية له. لم نكن نعرف شيئاً عن تحركاته وتواجداته، وتواصلنا معه كان مقتصرًا على كيف يوجهه السيد.

يوم الضربة، لم نكن نعرف مكانه. بداية الأمر، فسّر كثيرون الضربة أنها قد تكون لإحدى القوى الفلسطينية، ولكن بعد مدة، أكدوا لنا أن الوالد كان متواجدًا داخل هذا المبنى.

لم نعرف مصيره، فقد كان يُنشَل من المبنى شهداء وأحياء، حتى سماحة السيد أصدر بيانًا لم يتحدث فيه عن استشهاد، فقط أكد أنه كان موجودًا هناك، ولم يُعرف مصيره بعد.

أخذت أعمال محاولة رفع الأنقاض والبحث على الوالد وقتًا طويلًا، حتى اليوم التالي. هذا الوقت أعطانا مجالًا لنتحضر نفسيًا ونكون مهيئين لخبر الاستشهاد. بعد ساعات عدة، أكدوا أنه لم يعد هناك مفقودون، ولكنهم لم يعثروا على جثمان الوالد بعد، وأخذت الأمور بضع ساعات أخرى حتى وجدوا جثمانه في مبنى آخر، إذ طار من قوة الضربة الأولى... بعدها أعلن «حزب الله» رسميًا استشهاد الوالد.

مثل ما قلت، مدة عمليات البحث هي التي أعطتنا المجال لنهيئ أنفسنا أكثر، فقد هيّأنا الوالد أساسًا لفكرة الاستشهاد، وكان دائم الحديث عنه، ودائم التمني أن تكون خاتمة مسيرته الشهادة.

كان دائماً يطلب منا أن ندعو له بالشهادة، حتى أنه طلب من أختي الحامل أن تدعو له بالشهادة أثناء الولادة. كان دائماً يوصينا ويحلّفنا أن ندعو له بالشهادة في كل ليلة قدر، وفي صلواتنا وأدعيتنا كلها، وكان دائماً عنده هاجس وخوف أن يختم الله له بغير الشهادة.

وصلنا خبر الاستشهاد، الحمد لله، ينزل الله الصبر والسكينة في هذه الحالات، خاصة بعدما تتلمذنا وتعلمنا وتربينا على اتّقاء من هذا النوع، في هذه اللحظات يكون وقت جني الثمار. من حيث التربية، أذكر أنني استحضرت السيدة زينب في هذه اللحظات، وكل ما كنت أقوله إنني ما رأيت إلا جميلًا. الفقد وغياب الأب وفكرة أن تفقد إنسانًا عزيزاً هي أمور صعبة وموجعة، ولكن الموت حق، والموت بهذه الطريقة، أي عبر الشهادة، هو أشرف وأجمل أنواع القتل في سبيل الله؛ هذا السمو في طريق الموت هو الذي يبرد القلب.

صراحة وقت استشهاد الوالد، رغم صعوبة الفقد، ولكن كان لدينا ترابط مع سماحة السيد، ما جعلنا لا نشعر باليتم كثيرًا، شعرنا أننا فقدنا والدنا، ولكن والدنا الآخر وسندنا والشخص المحيط بعائلتنا، كما لو أنه الوالد، موجود، الذي هو سماحة السيد حسن، والذي غطّى الشعور باليتم وخفف عنّا إحساس الفقد وصدمة البعد التي أحدثها غياب الوالد.

هذه العوامل أسهمت عند تلقي الخبر في أن يكرمنا الله وينعم علينا بالصبر والسكينة التي كانت موجودة ومتجلية بوجود سماحة السيد كوالد وكسند لعائلتنا.

كيف كانت علاقة والدكم الشهيد بسماحة السيد حسن نصر الله، على الصعيدين التنظيمي والروحي؟ وهل لديكم ذكريات خاصة عن هذه العلاقة؟

بالنسبة إلى العلاقة التنظيمية، تقريباً قبل استشهاد الوالد بمدة قليلة، عندما أصبحنا في ميدان العمل، صرنا نسمع ونعرف عن وضعه تنظيمياً. أما في موضوع العمل والتنظيم، فقد كان الوالد كتوماً جداً ولم نكن نسمع منه أي حديث حتى عن علاقته التنظيمية والعملية مع سماحة السيد، بعدها سمعنا عنها ممن حولنا، من أشخاص كثر، ومن سماحة الشهيد شخصياً.

لكن من الناحية الشخصية والعائلية، ذكرياتي عن علاقة الوالد بسماحة السيد قديمة وبعيدة جداً، أي تعود إلى طفولةٍ مبكرة جداً، لما كنا نرى سماحة السيد بيننا وفي عائلتنا، لم يكن حينها أميناً عاماً، كنا نعرف أنه من أصدقاء الوالد فقط، الذي كان عندما يتواجد عندنا، يستأنس الوالد بوجوده كثيراً.

حتى الوالدة كانت دائماً تلاطفنا أنه جاء صديق والدكم، وعندما يأتي يختفي دورنا ولا نعود نراه، لأنهما كانا يقضيان ساعات طويلة مع بعضهما عندما يلتقيان، وتشعر أن هذا التواؤم والتواتر بينهما يجعلاه يغيب عنا متى ما كان سماحة السيد موجوداً.

هذه العلاقة تطورت مع الوقت من الناحية الشخصية والعائلية، وزادت بالنسبة إلى الوالد. كان سماحة السيد صديقاً محبباً، وأخاً وعزيزاً، وقد أسهم في تطورها أولاً وجودهما جنباً إلى جنب في العمل دوماً، والعلاقة الوطيدة بين العائلتين، لا العلاقة بين الوالدة وسماحة السيد فقط، بل أيضاً أننا جيران ونسكن المكان نفسه، ما زاد من متانة هذه العلاقة، وأظن أنه في كل مرحلة كانت المقاومة فيها في شدة، كانت تتطور العلاقة بينهما أكثر.

تطورت هذه العلاقة مع الوقت، وأصبحا أقرب إلى بعضهما بعضاً، وتدرجت من الناحية الشخصية والناحية العملية، إلى أن أصبح، كما قال سماحة السيد، معاونه ويده اليمنى، وربما السيف الذي يضرب به.

كما قال سماحة السيد، هو كان سلسلة جبال يتكئ عليها، وصراحة نحن كنا نرى ذلك. أنا شخصياً كنت أعرف مثلاً أن الوالد يتحدث مع سماحة السيد من دون أن يخبرني، فقد كان لديه حضور قوي ونبرة صوت عسكرية قوية، إلا عندما يتحدث مع سماحة السيد، كنت أراه يتحدث بنبرة صوت مختلفة، وتقاسيم وجهه متغيرة، فكنت أعرف أنه يتحدث معه.

كان الوالد دائماً يشدد على الفرق بين محبة هذا الرجل، المحبة الخالصة، والود المتواجد والصداقة، وبين كونه القائد. أي إن المحبة في مكان، وفي مكان آخر الانصياع لأوامره وكونه تحت يده وينفذ أوامره ويتعامل معه بأنه قائده المباشر وامتداد ولايته بعد الإمام الخامنئي، الذي كان خطاً أحمر عند الوالد، فكان يعدّ كلام سماحة السيد أمراً واجب التنفيذ وغير قابل للنقاش، وكان دائماً يحثنا على التفكير بهذه الطريقة.

هذا الذوبان بموضوع الولاية، بوصفه القائد، وهذه المحبة المتزايدة، تبيّنا على نحو جلي في حياتنا مع الوالد، ولاحقاً بعد الاستشهاد بتأثر سماحة السيد باستشهاده، إن عبر حديثه معنا كعائلة، وإن عبر حديثه حتى على المنبر عن الوالد، إذ أبدى كم أولى أهمية لاهتمام الوالد بالمقاومة وبحياة سماحة السيد شخصياً، أو لاهتمام كبير جداً بعلاقتهما التي وصفها بأنها غنية عن التعريف.

ويمكن من أكثر المصاديق على هذه العلاقة القوية، تأثر سماحة السيد بخطابه يوم تأبين الوالد عندما ختم قائلاً: «لا أقول وداعاً، بل إلى اللقاء في الشهادة وفي جوار الأحبة».

في ذلك اليوم، كسر قلوبنا ذلك الخطاب الذي ألقاه سماحة السيّد وأثر فينا، وربّما كان أكثر وقعًا علينا من فقدان الوالد نفسه، فقد تمنّى سماحته أن يُلحقه الله بالوالد عبر الشهادة. كان هذا التمنّي، من جهة، يُظهر عمق العلاقة التي جمعتهما، ومن جهة أخرى، يُجسّد حجم تأثّر سماحة السيّد باستشهاد السيّد محسن.

وإن كنّا نفرح بهذه العلاقة الوثيقة التي ربطتهما، فإن هذا التمنّي الذي صدر عن سماحته أحزن قلوبنا بشدة، خاصة أننا كنّا ننظر إليه كالسند، كالأب الثاني، وكمن سيملأ الفراغ الذي خلّفه استشهاد الوالد. لكن شاء الله أن يختاره شهيداً أيضاً، فهو شهيدنا الأسمى، شهيد الأمّة، سماحة السيّد، الذي لم يطل به المقام بعد الوالد، فاجتمعا في الجنان كما كانا معًا في ميادين الجهاد وفي مختلف مراحل هذه المقاومة. إن شاء الله، نكمل دربهما حتى نصل إلى هدفهما.

أنا أؤمن، والحمد لله، أنّ الله أكرمنا بوجود سماحة القائد السيّد علي الخامنئي، الذي كنّا دائمًا نراه كما أبًا لنا، مثل السيد محسن، والسيد حسن، أبًا رديفًا في حياتنا، كنّا ننظر دومًا إلى سماحة السيّد القائد بوصفه الأب الأكبر لهذه المسيرة، والوالد الأكبر للعائلات كلها. فالحمد لله، رغم أنّنا أصبحنا اليوم مباشرة في كفالته، بعد أن كنّا في كفالة سماحة السيّد حسن عقب رحيل الوالد، فإن مجرّد وجوده يُشكّل غطاءً روحيًّا يعوّض، ولو جزئيًا، هذا اليتم المتجدّد بشهادة سماحة السيّد.

كيف تصفون طبيعة علاقة الشهيد «السيد محسن» بسماحة الإمام الخامنئي، تنظيميًا وروحيًا؟ وهل لديكم ذكريات معينة، ولا سيما بشأن اللقاءات التي جمعتكم بسماحته؟

اسمح لي في الحديث عن العلاقة مع سماحة القائد أن أشير إلى مسارين، أحدهما أنني أحتفظ في ذاكرتي، منذ الطفولة، زياراتنا لسماحة القائد. أذكر تمامًا لحظات الهيبة التي تلقّينا بها نبأ أن الوالد سيأخذنا إلى زيارته. كنا نسمع من الوالد دائمًا عن مكانة سماحة القائد، عن عظمته، وعن أهمية أن نكون تحت رايته، وأن نحيا في ظل ولايته، بوصفه الامتداد الطبيعي لنهج الإسلام الأصيل، وأنه الامتداد لولاية الإمام المهدي (عج) في غيبته وامتداد ولايتنا.

كنت حينها طفلة صغيرة، لا يتجاوز عمري ست سنوات تقريبًا عندما بدأت هذه الزيارات تتكرر سنوياً، وتعرفنا فيها إلى القائد الإنسان الذي رأينا منه المحبة والود والعطف، وهذه العلاقة الخاصة، بعد أن كنا نسمع عنه من الوالد أنه القائد الأعظم والأكبر والولي الفقيه.

كنا نتواجد بصورة عائلية، بالإضافة إلى بعض الأشخاص. كان السلام الحار الذي يخصّ به سماحة القائد الوالدَ، يلفتني دومًا. عندما كنت أسأله عن سرّ هذا التقارب اللافت، لم يكن الوالد يحبّ الحديث عمّا يُميّزه، بل كان يكتفي بابتسامة.

ومع مرور الوقت، وازدياد نضجنا، تبيّن لنا أكثر فأكثر عمق هذا الترابط بينهما. لقد كان الوالد يكنّ لسماحة القائد محبة خاصة وتعلّقًا شديدًا لشخصه وبوصفه ممثلًا للولاية المطلقة. بالنسبة إلينا، كأبناء، كانت تلك الزيارات عائلية نرى فيها والدنا دون أن ندرك يومها طبيعة العلاقة التنظيمية العميقة التي تربطه بسماحة القائد، ولكنّنا كنّا نكتشف فيها تلك اللهفة والمحبة اللتين تغمران الوالد عند لقاء القائد وشعوره بأنه في حضور الولي الأكبر، ونشعر بعطف سماحة السيد ومحبته لنا وللوالد.

في نظر الإخوة، تجلى هذا الموضوع مراراً وتكراراً، فلقد كان الوالد ذائبًا في معنى الولاية، وكان يعدّها المحطة الأساسية في حياتنا. كان يعتقد أن الوقوف بين يدي القائد هو لحظة تمحيص وفلترة لأعمالنا، ليعرف الإنسان ما يُقبل منها وما لا يُقبل، وأيها الأفضل وأيها الأقل تفاضلًا. لم يكن القائد بالنسبة إليه الولي الفقيه فقط، بل خلاصة محبّة أهل البيت المتجلية باتباعه، إذ نرى أنفسنا مستقيمين على طريقهم عبر تمسكنا بولاية الإمام صاحب العصر والزمان بين يدي السيد القائد.

شخصيًا، لمست هذا الموضوع في زياراتي السابقة، ولكنّني لمسته أكثر بعد استشهاد الوالد. قبل نحو شهر، تشرفت بلقاء سماحة القائد، فدخلت متهيّبة ويملؤني الحزن والتعب، لأنني كنت سأقف لأول مرة في حضرة القائد من دون والدي، ومن بعد الأحداث في لبنان، وفي إيران، وزيارتي مقام الإمام الرضا (ع) من دون والدي، فكانت زيارة تملؤها الذكريات المؤلمة.

لكن، سبحان الله، إن ما شعرت به بين يدي القائد كان مختلفًا تمامًا عمّا توقّعت. قلت له: «دخلت إليك متهيبة، خائفة من الحزن الذي سينتابني من الوجود لأول مرة بين يديك من دون والدي، ولكن حنانك وعطفك ورأفتك الكبيرة، التي كنت تغمرنا بها بوجود الوالد، كانت اليوم أكبر وأشمل». أي هذا الشعور الأبوي الذي تشعر به بوجود القائد أنساني الأحزان التي كنت أتوقع أن أشعر بها.

إضافة إلى هذا الإحساس الذي شعرت به، أنني ما أزال تحت عباءة القائد التي يظلل بها العائلات جميعها، عائلات الشهداء، كما كان يظللنا بها بوجود والدنا. لفتني كلام سماحة القائد لما قالوا له إنني ابنة السيد محسن، فقال لي إنه كان دائماً عندما يرى السيد، كان يحب أن يقترب ويسلم عليه ويأخذه بالأحضان.

هذه الجملة وحدها كانت كفيلة بأن تكون أعظم مما سمعته من قبل كله، وتختصر ما يمكن أن يُقال عن تلك العاطفة والعلاقة الخاصة بينه وبين الوالد، وطبعاً ما عادت خافية  العلاقة التنظيمية التي أشار إليها سماحة السيد وبينتها المواد الإعلامية، وكون «حزب الله» تحت رعاية الجمهورية الإسلامية في مواضع كثيرة، بالإضافة إلى هذا التلاحم بين المقاومة والجمهورية الإسلامية، الذي بدأ منذ انتصار الثورة بقيادة الإمام الخميني، واستمرّ حتى اليوم في ظل قيادة سماحة السيّد علي الخامنئي، كون الجمهورية الإسلامية ركيزة أساسية من ركائز هذا المحور.

إذاً، هذا يدل على أن العلاقة التنظيمية بين الوالد وسماحة القائد من ناحية العمل والأمور التنظيمية تشبه طريقة علاقته مع سماحة السيد، لكونه جنديًّا مخلصًا للإمام منفّذًا لكل ما يُطلب منه، وهي علاقة هدفها كان أساسًا تمحيص عمل المقاومة بما يخدم الهدف الأساسي، وهو إزالة "إسرائيل".

بعد عملية «طوفان الأقصى» واستشهاد عدد من قادة حزب الله، سمعنا عبارات مثل «حزب الله حيّ ومنتصر» و«المقاومة منتصرة» على لسان الإمام الخامنئي؛ كيف تنظرون إلى هذه العبارات والبشارات التي حملتها كلمات سماحته؟

صراحة بمعزل عن المعطيات الموجودة أو الدلائل التي نستدل بها لبيان صحة كلام القائد، بالنسبة إلي، أي قول يصدر عن السيد علي الخامنئي هو بشرى، وهو وعد، وأنا أؤمن أنه سيحصل، ولكن صراحة حتى على الأرض وبالوقائع والإثباتات ما قاله سماحة السيد الخامنئي هو واقع «حزب الله» حالياً، هو واقع حركة المقاومة بعد هذه الحرب.

لأننا في المقاومة الإسلامية ليست هذه المرة الأولى التي نتعرض فيها لاغتيال قادة، ولا المرة الأولى التي نتعرض فيها لحروب قاسية، وهذه المقاومة لا تقف على أحد، مهما كان غاليًا ومهمًا، فهذه المقاومة هي مصداق لقول الله سبحانه وتعالى: «إن تنصروا الله ينصركم»، ويشهد الله أن هذه المقاومة وهذا الحزب قد نصروا الله بالمواضع كافة وبحياتهم كلها.

هؤلاء القادة الذين استشهدوا وفقدناهم جسداً، هم أناس نذروا حياتهم، على الأقل إن كنت أريد التحدث عن سماحة السيد والوالد وبعض الأصدقاء والقادة حولهم، أنا أشهد أن هؤلاء الأشخاص نصروا الله على مر سنيّ حياتهم كلها، ونذروا حياتهم لهذه المقاومة ولنصرة الله سبحانه وتعالى بهذا الخط الإلهي.

إذاً النصر هو وعد إلهي ونتيجة حتمية، وطبعاً بقية الظروف التي تبينت في ختام الحرب تدل على أن المقاومة باقية و«حزب الله» باقٍ، وهو تأثر، ولكن هذا التأثير لم يتسبب في تضاؤله أو ضعف عزيمته أو ضعف إرادته.

كان هدف الإسرائيلي أن ينهي «حزب الله»، ولكن أثبتت التجربة الحالية أن اغتيال القادة وتدمير القوى ومحاولة القضاء على جزء من القدرات وزيادة الدمار في كثير من المناطق اللبنانية، وهذا الكم الكبير من الشهداء في صفوف «حزب الله» وحتى بين المدنيين، ما نفعت الإسرائيلي في تحقيق هدفه، ولم يستطع إنهاء المقاومة، ولم يستطع حتى أن يؤثر في بنيتها الشعبية، ولقد تجلى هذا الأمر بصورة كبيرة وقوية في تشييع سماحة السيد.

بعبارات موجزة، كيف تصفون مشهد التشييع الحاشد للسيد حسن نصر الله؟

إذا كان لا بد من إعطاء هذا التشييع وصفًا، فقد كان مهيبًا، وأثبت للإسرائيلي أن قتل سماحة السيد لن يؤثر في المقاومة.

استطاع سماحة السيد في شهادته أن يحشد المقاومة بشعبها وكيانها، أكثر مما كانت أثناء حياته، هذا التشييع كان مصداقًا بأننا نحن على العهد، ومصداقًا بأن سماحته هو نهج وعهد ووعد، وأن المقاومة لن تتغير أو تتأثر بشهادته. كان سماحته والشهداء الباقون مدرسة، علّمت وربّت وعوّدت أجيالاً في الأربعين سنة الماضية.

الآن، حان وقت القطاف، إذا كان الإسرائيلي يعتقد أنّ قتل سماحته هو الوقت المناسب لإنهاء المقاومة، سوف يرى، وقد تبين ذلك من التشييع، إذ إن الحضور كان كبيرًا وجامعًا للأطراف كافة، رغم التهديدات السابقة والمرافقة. إذ لم تقتصر تهديداته على ذلك، بل حاول بشتى الطرق أن يذيع بأنّ هذا التشييع قد يؤثر سلباً في السلم اللبناني ويعرضه للخطر أمنيًا.

دخل الإسرائيلي بسرب من الطائرات أثناء التشييع، محاولًا إرهاب شعب المقاومة. أظن أن هذا التشييع المهيب أثبت للإسرائيلي أن هذا الشعب هو حاضر في هذه الساحة وعلى نهج سماحة السيد مثلما كان حاضرًا أثناء وجوده، ولم يتأثر في غيابه، حتى محاولات الإسرائيلي لإخافتنا في غيابه جعلتنا أكثر تمسكًا بخطه ونهجه. مثل ما كنا أمانة عند سماحة السيد، وحاول أن يوصلنا إلى هدفنا بالقضاء على "إسرائيل"، نحن الآن يجب أن نكون حاملين روحه ونهجه والتعاليم التي ربانا عليها كلها لنصل إلى هدفنا الذي سعى إليه سماحته وبقية القادة والشهداء، ألا وهو إزالة "إسرائيل" وتحرير أراضينا والأرض الفلسطينية، ليأتي يوم بإذن الله نصل فيه لنصر الله، حتى بعد شهادة نصر الله، ويكون إهداءً لسماحته وأفضل مصداق لمحبتنا له.

بعد استشهاد قادة حزب الله، قال خم أن حزب الله جعل صدره درعًا لغزّة؛ لو تكرّرت الظروف واستدعت الجهاد في سبيل الله والدفاع عن المظلومين، هل ستلبّون النداء مجددًا؟

في السؤال السابق كنا نتحدث أنه نهج سماحة السيد، والإخوة القادة في «حزب الله» والمجاهدين والشهداء هو عهد ونحن باقون عليه، فسماحته كان واضحًا في الخطاب عندما قال: «نحن حزب الله الاثني عشري الشيعي لن نتخلى عن فلسطين لو قُتلنا جميعاً».

إذاً أقل الواجب أن نعرف على نحو جليّ قبلتنا. إذ وجِدنا للدفاع عن المظلومين وتحديداً عن الفلسطينيين، وبالأخص غزة، وتبين هذا الأمرفي جبهة الإسناد السابقة ولم نُقتل جميعاً، قُتل جزء من قادتنا، ولكن وفقاً لما علّمنا إياه سماحة السيد، ووفقاً لنهجه، ومعه الإخوة القادة والمجاهدون والشهداء الذين قضوا في هذه الحرب زوداً عن فلسطين، كونهم درعاً لهذه الأرض المقدسة ولهذا الشعب المظلوم، إذا استدعت الحاجة لاحقاً، ليس لدينا إلا تكرار كلام سماحته: «سندافع عن فلسطين لو قُتلنا جميعاً».

تحدّثنا عن المقاومة... برأيكم، كيف يمكن تقوية المقاومة على مختلف الأصعدة، خصوصًا في هذه المرحلة؟ وكيف يمكن تعزيز قاعدتها الشعبية؟

بالنسبة إلى المقاومة التي فقدت هذا الكم من قادتها، الذين سعوا إلى أن يساعدوا على تناميها من النواحي كافة، وهو أفضل ما يمكن فعله إذا أردنا أن نحافظ على نهجهم وخطهم، وأن نسهم في زيادة هذا التنامي. بالنسبة إلي، إذا أردت أن أثبت لوالدي بأنني على خطه، سأعمل جاهدة، أنا والآخرون على تطوير الجانب التكنولوجي الذي كان دائماً يتحدث عنه، توازيًا مع كلام سماحة السيد علي الخامنئي عن أهمية التكنولوجيا في هذا الزمن وتأثيرها في محور المقاومة.

إذاً يمكننا أن نساعد في تنامي المقاومة، حتى بعد غياب هؤلاء القادة، وذلك في الاستمرار على نهجهم، إن كان من النواحي العملية، عبرالتفكير الدؤوب في كيفية إدخال التكنولوجيا وتطوير المقاومة بالعدد والأسلحة، أو عبر الخط الآخر، ألا وهو الحفاظ على ارتباطنا بعقيدتنا الأساسية وهي المقاومة، وتتمثل أيضاً في عودتنا الدائمة لتذكير أنفسنا ومن حولنا أن هذه المقاومة هدفها الدفاع عن الأرض ودحر العدو الإسرائيلي، وهي مبنية على عقيدة ثابتة، ومنهجها الأساسي هو «القرآن»، وعقيدتها هي العقيدة الحسينية.

هذان الخطان بالنسبة إلي يساعدان على تنامي هذه المقاومة بالطريقة الصحيحة.

أما من ناحية الموضوع الشعبي، فأظن أن تشييع سماحة السيد كان كفيلاً بأن يثبت أن القاعدة الشعبية وعائلة المقاومة لم تتأثرا بما فعله الإسرائيلي كله، لا بل زادهما عزمًا، وأرى أن هذا رأي معظم مؤيدي المقاومة وكل من يتعامل مع سماحة السيد ليس فقط بوصفه قائدًا للمقاومة أو جزءًا من قيادة هذا المحور، بل بوصفه قائدًا لمن عندهم فكر حر جميعهم، ولأنه أشرف من أن يقبل أن يأتي عدو ويحتل أرضه.

استشهاد سماحة السيد وباقي القادة كان كفيلاً بأن يبرهن لهذه القاعدة الشعبية أن هذه المقاومة لا تبخل بخطها ونهجها وعقيدتها وهدفها وسبلها للوصول إلى هدفها، ولو كان بالتضحية بأغلى ما تملك، وهم القادة، وتثبت أننا مقاومة قائمة على أن القائد فينا يتقدم جنوده نحو القتال، نحو التطوير، ونحو الشهادة أيضاً.

في الختام، إن كانت لديكم إضافة أو نقطة خاصة تودّون الإشارة إليها، فتفضلوا بذكرها...

أرى أن تجربة المقاومة في لبنان، تجربة «حزب الله»، لها دوافع عدة، ولكن مثلما قال الوالد: «نحن الخمينيون»، من أساسات أو من أكثر الأمور الداعمة والملهمة لهؤلاء الإخوان الذين شكلوا النواة الأساسية لـ«حزب الله» كانت الثورة المباركة التي أنجزها الإمام الخميني، والتي أثبت عبرها أننا قادرون أن نثور على الظلم وعلى الطغاة في العالم.

الذي دفع الجميع إلى أن يتجرأ ويقول الموت لأمريكا والموت لـ"إسرائيل"، وأن يقف في وجه أي ظالم يحاول استباحة حقوق شعبه أو أي شعب آخر في أي وطن، واستمرت المقاومة بحمد الله المدة السابقة كلها، إن كان في حياة الإمام الخميني على خطه ونهجه، ومن بعده على نهج سماحة السيد علي الخامنئي القائد، ومن بركات الله سبحانه وإنعامه علينا أن نكون تحت عباءة قائد مثل القائد الخامنئي، التي جعلتنا نشعر بالاطمئنان دائمًا، مثل ما وجهنا سماحة السيد، ومثلما كان دائماً الوالد يوجهنا سنظل متمسكين بخط الولاية، إن شاء الله، ولن نتأثر ولن نضيع.

من هذه البركات نستلهم دائماً المسار الصحيح والوجهة الأفضل، والسيد القائد لم يبخل على لبنان يوماً بهذه التوجيهات على قادتنا، لم يبخل يوماً في توجيههم بالطريقة الصحيحة.

نحن نتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يطيل في عمره ويحفظه لنا، ولهذا الخط المقاوم وللنهج الحسيني الأصيل، ليظل راعياً لهذا المحور، الذي يقف بوجه الطغاة في العالم كلهم، وبوجه الاستكبار، المتمثل بأمريكا و"إسرائيل".

بإذن الله، ما دمنا متمسكين كما طلب منا والدنا بولاية السيد الخامنئي، بإذن الله، لن نضيع، وهي واحدة من أسباب ثباتنا إن شاء الله في الأيام القادمة، وإن شاء الله سيسددنا ويثبتنا تحت رايته لتحقيق هدفه وهدف سماحة السيد وكل من كان معهم من قادة ومجاهدين وشهداء، والبقاء على طريقهم ونهجهم، إن شاء الله، لتحرير القدس وإزالة "إسرائيل".