إنّ التدخّل في الشؤون الداخلية لدولة مستقلّة على نحوٍ يمسّ استقلالها ووحدة أراضيها يُعدّ، في القانون الدولي، انتهاكًا لسيادتها الوطنية. فهل تُعَدّ تصريحات رئيس وزراء الكيان الصهيوني بشأن "إسرائيل الكبرى" مثالًا صارخًا على التهديد بانتهاك سيادة الدول العربية المستقلة عمليًّا؟

بالتأكيد، التدخل في شؤون الدول هو انتهاك لعدد من المواثيق والمعاهدات الدولية، ولكننا هنا لا نتحدث فقط عن محاولات التصريح أو التأثير على السياسة الداخلية أو حتى الهجوم العسكري، بل نتحدث عن خطة إسرائيلية أعلن عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تقتضي تدريجياً التوسع نحو "إسرائيل الكبرى". ماذا تعني "إسرائيل الكبرى"؟

هناك عدد، بحسب مشارب المنظرين الإسرائيليين، من الحدود أو النظريات المختلفة التي تتحدث عن "إسرائيل الكبرى"، إحداها تضم الضفة الغربية فقط، وإحداها تضم الأردن، وأخرى تضم سيناء وجنوب لبنان وجنوب سوريا أيضاً.

حالياً نحن نرى الإسرائيليين في حالة توسع في جنوب سوريا رغم أنه لم يصدر أي شيء من النظام الجديد، ولا من مبادراتهم، حتى كان هناك عدد من المبادرات من النظام الجديد في محاولة خفض التصعيد ومحاولة مقابلة الإسرائيليين مباشرة، وهذا لم يُقابل إلا بالاعتداء وبمحاولة، مثلاً، خلق حالة انفصالية في السويداء وفي أماكن أخرى من سوريا.

إذاً هنا نتحدث فقط عن نية صريحة، يعني نية في إنجاز فعل ما، ولكن عن البدء والمباشرة بفعل ما دون أي فعل يمكن توصيفه، مثلاً، حجةً بأنه فعل عدائي من الطرف السوري. لو أخذنا هنا مثالاً الطرف السوري لنقول إن الإسرائيلي بهذه التصريحات يشكل خطراً على دول المنطقة، وهو بدأ يؤدي خطوات عملية بذلك، حتى لو لم تحاول دول المنطقة أو لو حاولت، مثل النظام الجديد في سوريا، خفض التصعيد وفتح قنوات تواصل، ستتعرض وستكون تحت سوط "إسرائيل الكبرى" في المرحلة المقبلة.
 

لقد أظهر الكيان الصهيوني، على مر التاريخ، أنّه لا يتردّد في انتهاك السيادة الوطنية للدول العربية. إنّ احتلال صحراء سيناء المصرية، والجولان السوري، وأجزاء واسعة من هذا البلد، فضلًا عن أجزاء من لبنان، ما هي إلّا أمثلة على النزعة الاحتلالية لدى الصهاينة. هل يمكن لكيانٍ أُقيم أصلًا على أساس الاحتلال أن يمتنع عن انتهاك سيادة الدول العربية الأخرى؟

المسألة هنا لم تعد مرتبطة بحاجة بعض الدول العربية أو بعض الأنظمة العربية إلى التعاون مع الإسرائيليين لتصفية حسابات في المنطقة أو خدمةً لمصالح نخب معينة أو لمصالح هذه الأنظمة نفسها أو لبقائها. المسألة هنا أصبحت تتعدى ذلك، إذ إنّ الإسرائيليين انتقلوا منذ بعد 7 أكتوبر وبعد عملية «طوفان الأقصى» إلى سياسة أخرى، فبدأت مراكز الدراسات الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية نفسها، وحتى عدد من السياسيين يتحدّثون عن التعامل مع القدرات في المنطقة وليس مع النوايا. أي إننا نتحدث عن أن السياسة الإسرائيلية الجديدة ستحاول أن تمنع الجميع في المنطقة من أن تكون لهم قدرات يظن الإسرائيليون أنها تهددهم، ولا فرق عندهم بين دولة مطبعة وأخرى غير مطبعة، فهم يروننا كلنا جمعاً واحداً. قد يحدث هناك تغيّر، ولكنهم بعد «طوفان الأقصى» والحرب الأخيرة لم يعودوا يثقون أبداً بهذه التغيرات.

لذلك في مسألة تشكيل خطر من غيابه، "إسرائيل" مرتبطة بالعقيدة الأمنية الجديدة التي تعرف القدرة بنفسها، وحتى لو كانت هذه الدولة لا تشكّل خطراً ولا تعلن نواياها بأنها قد لا تكون خطراً مستقبلاً.

إذاً نتحدث هنا عن حكومات مثل مصر أو تركيا أو حتى الأردن، إذا رأت مثلاً أن هناك تهديدات من الأردن، فإن "إسرائيل" ستتوسع باتجاه هذه الأنظمة المطبّعة في الواقع معها، ولديها علاقات دبلوماسية معها، وذلك بسبب العقيدة الأمنية الإسرائيلية الجديدة غير المرتبطة أصلاً بما سبق كله. لذلك قد نكون معرّضين في المرحلة المقبلة لخطر التوسع والتغول الإسرائيليَّين في المنطقة.
 

أثبت الكيان الصهيوني أنّه يوظّف الوسائل كلها لتحقيق أهدافه، بما في ذلك اللجوء إلى القوة والعنف. الأحداث التي تلت 7 أكتوبر في غزّة أولًا، ثم في سوريا، وبعدها في الهجوم على إيران، برهنت هذه الحقيقة بوضوح. فمع طبيعته الوحشية في سبيل بلوغ أهدافه، هل يمكن القول إنّ الدول العربية التي تدعمه ستكون بمنأى عن ممارساته الهمجية؟

للإجابة عن هذا السؤال، علينا الدخول أصلاً في الأسباب التي دفعت بعض هذه الدول العربية إلى التعاون والتطبيع مع الإسرائيليين الذين يقتلون العرب والمسلمين يومياً. بعض هذه الدول ممالك صغيرة أُسّست أصلاً بالتعاون مع الغربيين، وترى نفسها في حالة عداء وجودي مستمر مع الدول الكبرى الموجودة في المنطقة. ودول أخرى مثل مصر، ففي الستينيات التي ضُغِط عليها باستمرار حتى وقّعت اتفاق التطبيع، فرُبطت سيادتها واقتصادها وسياستها بالغربيين وبعض الدول الأخرى، وفقدت جزءاً كبيراً من سيادتها ومن حرية حركتها في المنطقة. بعد هذه المدة، حاولوا فعل الأمر نفسه مع الجمهورية الإسلامية في إيران حالياً، وربما في مرحلة مقبلة مع تركيا حتى وإن لم تبدِ أي نوايا عدوانية تجاههم، لأن السياسية الإسرائيلية الحالية تتعامل مع مجرد وجود القدرة في منطقة غرب آسيا على أنها قد تكون خطراً مستقبلياً.

لذلك الكيان الصهيوني الذي يقتل عشرات الآلاف في غزة في أشنع إبادة في العصر الحديث، والذي بدأ أيضاً تطبيق هذه السياسة بالهجوم على سوريا والنظام الجديد فيها رغم أنه لم يصدر أي حراك عسكري أو حتى تصريح واحد منها ضدهم، لا أعتقد أنه سيتوانى لحظة عن التدخل في أي ساحة عربية حوله قد يراها خطراً عليه. أي في المرحلة المقبلة مثلاً، لا سمح الله، يمكن أن يهاجم في أي لحظة مصر أو يدّعي أنه يسعى إلى إضعاف الجيش المصري في حال لمس أن هناك تغييراً، مثلاً، قد يحدث في الحكومة أو في توجهات الحكومة نفسها، أو انتشاراً عسكرياً مغايراً لما هو موجود حالياً. لذلك الآن لا أحد بمنأى عن هذه السياسات التوسعية الإسرائيلية حتى الدول الموقّعة على اتفاقيات تطبيعية أو استسلامية مع الكيان الصهيوني.
 

إلى أيّ مدى يمكن أن يسهم تهاون الدول العربية وتقاعسها إزاء تهديد الكيان الصهيوني العلني بانتهاك سيادتها، في تحويل هذا الخطر الكامن ضدّها إلى خطر فعلي وملموس؟

ينطلق عدد من الدول العربية المطبعة من نظرة خطأ جداً ومغلوطة، ليس فقط من الناحية الأخلاقية ومن الناحية الإسلامية للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل الغاصب، ولكن هم لا يرون تأثير هذا التطبيع في الداخل الإسرائيلي وفي السياسة الإسرائيلية نفسها. الأنظمة المطبعة تحاول التسويق بأن هذا التطبيع هو للحفاظ مثلاً على القضية الفلسطينية ولخدمة مصالح الفلسطينيين ولإنهاء حالة الحرب في المنطقة، ولكن هذا التطبيع أتى في المرحلة السابقة في حين كان الإسرائيليون يبنون المستوطنات وفي حين كانوا يمارسون الاعتداء المستمر على غزة، وأتى الآن في الوقت الذي تمارس فيه "إسرائيل" الإبادة وفي حين يستمر اليمين الصهيوني المتطرف بالسيطرة على الحكومة، فكيف تفسير ذلك في الداخل الإسرائيلي؟

يُفسّر بأن العرب جاهزون للتطبيع معنا حتى لو فعلنا أشنع مما نفعله. يمكن قراءة ذلك في المقالات وفي التحليلات الصحافية والتلفزيونية الإسرائيلية. إذاً التطبيع هنا لن يردع الإسرائيليين، بل سيرسل رسالة إلى الداخل الإسرائيلي وإلى السياسيين الإسرائيليين بأن ما يقترفونه غير مهم، وسيستمر العرب بالتطبيع، وما داموا يطأطئون الرأس الآن، سيطأطئون الرأس لاحقاً، حتى لو هجمنا على بعض الدول ولو فعلنا أفظع مما نفعله في غزة. أي ماذا هناك أفظع مما يقترفونه في غزة، حتى تهرع بعض الدول إلى التطبيع في هذه الحالة؟

إذاً المسألة هنا أن الأرض مقابل السلام، أو أي شيء مقابل السلام، لا تنفع، بل ترسل رسائل إلى الإسرائيليين بأنهم ليسوا بحاجة إلى أن يتغيروا أو يصححوا في سياساتهم أو أي شيء، لا، فالعرب جاهزون للتطبيع حتى لو اقترف الإسرائيليون أسوأ ما يقترفونه. لذلك التطبيع مخالفٌ لما يقوله المطبعون، فهو يسهم في تعزيز العدوانية والشهية الإسرائيليتين على التوسع، ذلك أنهم يحصلون على ما يحصلون عليه، ولا يرون إلا ضعفاً وتراخياً، الأمر الذي سيدفعهم إلى مزيد من الضغط بالطريقة نفسها، بما أنهم حققوا النتائج التي يرجونها كلها بالطريقة السابقة.
 

إنّ إضعاف جيوش الدول العربية وتدميرها هو من السياسات التي غالبًا ما اعتمدها الكيان الصهيوني. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى تدمير الجيش السوري بعد سقوط الأسد، وكذلك إلى إقرار وسائل الإعلام العبرية بمخاوف الكيان الصهيوني من شراء الجيش المصري شحنات أسلحة من أوروبا، ولا سيما من فرنسا. من البديهي أنّ سائر دول المنطقة الواقعة ضمن مشروع "إسرائيل الكبرى" لن تكون في مأمن من هذا النهج التدميري الذي يمارسه الكيان الصهيوني. ما هو تقييمكم لهذا الموضوع؟

في رد فعل على حالة العدوانية الإسرائيلية المستمرة في المنطقة التي كانت أخيراً في العدوانَين على غزة وعلى الجمهورية الإسلامية في إيران، تحاول بعض دول المنطقة الكبرى مثل مصر وتركيا تحديث جيشهما بعدما رأتا القدر الذي يستطيع الإسرائيلي أن يذهب إليه في التغوّل والعدوان. لذلك بدأت مصر عقد بعض صفقات الأسلحة، وبدأ الأتراك تطوير بعض الأسلحة، كالصواريخ الباليستية، بعدما أثبتت نشاطها وفعاليتها بيد الجمهورية الإسلامية في إيران، خصوصاً في فرض حالة ردع، وكأنها يد طولى لضرب المعتدين.

في المقابل، يمكن أن نرى الإسرائيلي يحاول توجيه رسائل إلى المصريين والأتراك بأن يبتعدوا. أي لن يقبلوا بإعادة تسليح سيناء المنزوعة السلاح إلا من قوى الشرطة، بمقابل اتفاقية التطبيع مع المصريين. هناك حديث مستمر ومتزايد يومياً عن أن المصريين أدخلوا قوات مقابلَ الخرق الإسرائيلي الذي فعلوه في احتلال محور «فيلادالفيا»، أي الحدود الفاصلة بين مصر وقطاع غزة. عدّوا هذا انتهاكاً، رد عليه الصهيوني بنشر قوات في سيناء، وهذا ما يتكلم عنه الإسرائيليون باستمرار بأنهم لن يقبلوا بهذا الواقع، كما لن يقبلوا بانتشار قوات تركية أو بتسليح تركي للنظام السوري الجديد.

كما منعوا ذلك بالقوة عبر تدمير معدات تركيا، ومحاولة تركيا بناء مطارات حماة وتدمر والتيفور في سوريا، قد نشهد أيضاً، لا سمح الله، ضربات ضد الجيش المصري في حال كان هناك لاحقاً مثلاً حراك سياسي، أو في حال شعر الإسرائيليون بأن الحكومة في خطر، أو بأن هناك تغييراً في سياسة الحكومة المصرية نفسها، وتأديته خطوات تعاونية أكبر مع القوى المناهضة للاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، أي إذا رأى خطراً كبيراً جداً عليه في المرحلة المقبلة.

لذلك في مواجهة صفقات التسلح هذه، من المتوقع أن يؤدي الإسرائيليون أعمالاً استفزازية أو أن يضربوا الجيوش التي تشكل عليهم خطراً، أو أن يحاولوا الحصول على تواجد أمريكي أكبر أو أن يمنعوا حلّ صفقات هذه الأسلحة منذ البداية أو أن يحاولوا الاستحصال على أسلحة أمريكية نوعية بصورة أكبر.

لكنّ الإسرائيليين يواجهون مشكلة، أي إنهم كلّما زادوا في عدوانيتهم، كلما خلقوا مزيداً من الأعداء. إذا طبقنا نظريتهم هنا، إذا انتهوا إلى أن يتعاملوا مع كل من في المنطقة بوصفه عدواً، فهم يقولون إنهم لن يقبلوا أن يكون هناك أي قوة عسكرية في المنطقة مهما كانت نواياها، فسيصطدمون مع الجميع في النهاية. هذا هو التكبر والعجرفة اللذان، إن شاء الله، سيؤديان بهم إلى فتح أكثر من جبهة وإلى التوسع واستنزاف أنفسهم تمهيداً للانكفاء وتفكك كيانهم، بإذن الله.