بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.
أتوجه بالتحية إلى أبناء الشعب الإيراني العزيز جميعهم. وجدتُ من المناسب أن أتحدّث إلى شعبنا العزيز ببعض الكلمات، وهناك موضوعان أو ثلاثة سأفصّل الحديث عنها.
قبل الخوض في هذا المبحث، أرى من اللازم أن أهنّئ في مناسبة حلول شهر مهر[1]. شهر مهر هو شهر الدرس والمدرسة، شهر العلم والجامعة. شهر مهر هو شهر انطلاقة الملايين من الشباب والناشئة والأطفال نحو المعرفة والاقتدار. هذه هي خصوصية شهر مهر.
أوصي مسؤولينا الأعزاء، ولا سيّما مسؤولي وزارة التربية والتعليم، ووزارة العلوم، ووزارة الصحّة، بأن يضعوا دوماً قيمة طاقات الشباب الإيرانيين وأهميتها نصب أعينهم. لقد أثبت الشباب الإيرانيون مواهبهم في ميادين العلم وفي شتّى مجالات الحياة الأخرى.
اسمحوا لي أن أذكر هذه الإحصائية هنا: في المسابقات العالمية المتعدّدة للتلامذة التي حدثت أخيرًا، ورغم أحداث حرب الاثني عشر يوماً وما رافقها من تحدّيات، حصد طلّابنا أربعين ميدالية ملوّنة، كان من بينها إحدى عشرة ميدالية ذهبية. هذا أمر في غاية الأهمية وله قيمة كبرى. لقد أحرزوا المرتبة الأولى عالميًا في أولمبياد الفلك بين الدول المشاركة كلها، كما حققوا مراتب متقدمة في الفروع الأخرى. أشير كذلك إلى الرياضة، ففي ميدان الرياضة أيضاً - كما تتابعون هذه الأيام - في الكرة الطائرة سابقًا، ثم الآن في المصارعة. هكذا هم شبابنا هؤلاء، وبحمد الله، إنّ مواهبهم مواهب استثنائية. يجب أن يُستفاد منها.
كما أجد من اللازم في هذه الأيام وفي مناسبة الذكرى السنويّة لاستشهاد المجاهد الكبير الشهيد السيّد حسن نصراللّه أن أستحضر ذكراه. لقد كان السيّد حسن نصراللّه ثروةً عظيمةً للعالم الإسلامي، لا للتشيّع فحسب، ولا للبنان فقط، بل ثروةً للعالم الإسلامي أجمع. طبعًا، هذه الثروة لم تُفقَد، بل ما تزال باقية. لقد رحل، ولكن الثروة التي أوجدها لا تزال باقية. إنّ حكاية «حزب اللّه» في لبنان هي حكاية مستمرّة، فلا تجوز الاستهانة بـ«حزب اللّه» ولا الغفلة عن هذه الثروة المهمّة. هو ثروة للبنان ولغير لبنان.
أرى من اللازم أن أستذكر الشهداء الذين ارتقوا في الحادثة الأخيرة التي استمرّت اثني عشر يوماً، من القادة العسكريّين والعلماء وسائر الذين نالوا وسام الشهادة في هذه الحادثة، وأن أتقدم بأحر التعازي القلبية وأصدق المواساة لعائلاتهم الكريمة.
أمّا في ما يرتبط بالموضوعات التي رأيت من المناسب طرحها، فهي ثلاثة. الأوّل يتعلّق بوحدة الشعب الإيراني، وقد قيل كثير في هذا الشأن، ولكنّ لي ملاحظة أودّ أن أذكرها وسأعرضها. الموضوع الثاني يتعلّق بقضيّة «التخصيب النووي». هذا التخصيب الذي يُثار الحديث عنه مراراً وتكراراً، أودّ أن أقدّم توضيحاً بشأنه. أما الموضوع الثالث، فيتعلق بالمفاوضات مع أمريكا، التي يتناولها أصحاب الكلمة والقلم بآراء متباينة؛ فمنهم من يؤيّد، ومنهم من يعارض، ومنهم من يستدلّ، ومنهم من يتكلّم بلا دليل. أودّ أن أعرض بضع جمل عن هذا الأمر بقدر المستطاع.
أمّا في ما يخصّ الموضوع الأوّل، أي «وحدة الشعب الإيراني»، فأوّل ما أودّ قوله إنّ وحدة الشعب الإيراني وتلاحمه في الحرب التي استمرّت اثني عشر يوماً قد جعلا العدوّ ييأس. إذ إنّ العدو أدرك منذ الأيّام الأولى للحرب وفي منتصفها، أنّه لن يبلغ الهدف والغاية التي كان يتطلّع إليهما. لم تكن غاية العدوّ استهداف القادة؛ فهذا لم يكن سوى وسيلة. لقد ظن العدو أنه باستهداف القادة العسكريين وبعض الشخصيات المؤثرة في النظام، ستعم الفوضى في البلاد، وسيثير عملاؤه، خاصة في طهران، الشغب والاضطرابات ويجرّون من يستطيعون من الناس إلى الشوارع، ويفتعلون حادثة ضد الجمهورية الإسلامية بأيدي الشعب. كان هذا هو الهدف. كان الهدف إذًا الجمهورية الإسلامية. كان الهدف شلّ النظام، وقد قلتُ في مناسبة أخرى أنّ هؤلاء كانوا قد جلسوا وخطّطوا وفكّروا حتى لِما بعد الجمهورية الإسلامية. كانوا يريدون إشعال الفتن وإثارتها في الشوارع، وتحريك جماعات لاقتلاع جذور الإسلام من هذا البلد. هذا كان هدف العدوّ.
حسنًا، لقد فشل هذا الهدف منذ خطواته الأولى. أما القادة الذين استُشهدوا، فقد عُيّن من يحل محلهم فورًا تقريبًا، وبقي وضع القوات المسلّحة ونظامها ونظمها وقاعدتها على ما هي عليه من صلابة، بل بروحيّة أعلى وعزيمة أقوى. هذا في ما يخصّ هذا الأمر، وبشأن الناس، الذين كانوا أشدّ العناصر تأثيرًا، فإنّهم لم يخضعوا إطلاقاً لما أراده العدو. انطلقت تظاهرات وامتلأت الشوارع، ولكنّها كانت ضدّ العدو، لا ضدّ النظام الإسلامي. بلغ الشعب بالأمر درجة جعلت العدوّ، أولئك القابعين خلف الحدود، يوجّهون التوبيخ إلى عملائهم قائلين: «يا عديمي الكفاءة، ماذا كنّا نستطيع أن نفعل لكم ولم نفعل؟ مهّدنا الأرضيّة، قصفنا، اغتلنا بعض الشخصيات، قتلناهم، فما بالكم لا تتحرّكون؟» فأجاب عملاؤهم في إيران، في طهران خاصةً - لهم هناك عناصر بلا شك - قائلين: «أردنا أن نقدم على بعض الأمور، ولكنّ الناس لم يبالوا بنا وأداروا ظهورهم لنا، والمسؤولون، ومن أوكلت إليهم مهمّة ضبط البلاد، حالوا دون ذلك، فمنعونا ولم نتمكّن من فعل شيء». هكذا، أُحبِط مخطط العدو.
طبعًا، هذه الأمور التي ذكرتُها سبق أن قلنا بعضها أو كلّها، وذكرها غيرنا أيضاً. إنّ تلك النقطة التي أودّ أن أُركّز عليها هي أن هذا العامل ما يزال قائماً، عاملُ «وحدةِ شعب إيران» ما يزال باقياً. أشير إلى أن بعض الأشخاص، وهم خارج البلاد أيضًا، وهذا ما تفيده الأخبار التي بلغتنا في هذا الصّدد، تريد أن تصوّر الأمر بأن تلك الوحدةَ التي ظهرت في بداية حربِ الاثني عشر يوماً وفي هذه المدة الزمنيّة، كانت محصورةً في تلك الأيام فقط. سوف تتزعزع تدريجيًّا مع انقضاء بضعة أيام، وتظهر الخلافات، وتَسود آراءٌ متباينة فتتفكك هذه الوحدة، ويمكن حينها استغلال الانقسامات القومية والخلافات السياسية لدفع الإيرانيين إلى الاقتتال في ما بينهم وإثارة الفوضى والتمرد. هذا ما يروّجون له.
أقول إنّ هذا الكلام خطأ محض. نعم، توجد اختلافات في وجهات النظر في المسائل السياسية. لدينا قوميّات كثيرة في البلاد، وكلّهم إيرانيون ويفتخرون بكونهم إيرانيّين. هذه أمور قائمة. لكن في مواجهة العدو، فإنّ هذه المجموعة كلّها هي قبضة فولاذية واحدة ستدكّ جبهة العدو. هكذا هي الحال اليوم، وهذا ما ستكون عليه الحال بعد ذلك بتوفيق من الله، كما كان في السابق أيضًا. إنّ إيران اليوم، وإيران غداً إن شاء الله، هي نفسها إيران «الثالث والعشرين والرابع والعشرين من خرداد»[2] حين خرج الناس وملؤوا الشوارع وردّدوا الشعارات ضدّ الصهيوني الملعون وأمريكا المجرمة. هذه هي المسألة الأولى التي أردتُ أن أذكرها، وكانت النقطة المهمّة فيها أنّ هذه الوحدة الوطنية، وهذا التلاحم الشعبي، ما يزالان موجودين وسيبقيان. طبعاً كلّنا مسؤولون تجاه ذلك.
النقطة الثانية تتعلّق بقضيّة «التخصيب». في تصريحات وزارة الخارجية وسجالاتها مع الأطراف السياسية الأخرى، تتكرر كلمة «التخصيب» كثيرًا. هم يقولون شيئًا بشأن التخصيب، ونحن نقول شيئًا آخر، والأمر كذلك في داخل البلاد في خضمّ النقاشات المتنوعة، فكلمة «التخصيب» تتردد كثيرًا. أودّ أن أقدّم توضيحًا مختصرًا عن التخصيب: ما هو التخصيب أساسًا؟ ما الذي يجعله يحظى بهذه الأهمية الكبيرة إذ تدور حوله النقاشات كلها؟ حول تخصيب اليورانيوم.
ما أودّ قوله إنّ التخصيب مجرّد كلمة واحدة، ولكن يندرج تحتها فصل موسّع من الكلام، وسأشير إليه على نحو الاختصار. من الجيد والمناسب أن يتحدث أهل الاختصاص في هذه المجالات مع الناس في هذا الموضوع. سأوضح الأمر باختصار.
تخصيب اليورانيوم يعني أن يأتي العلماء والمتخصصون في شؤون اليورانيوم، فيأخذوا اليورانيوم الخام الموجود في المناجم داخل إيران، ثم يحوّلونه عبر سلسلة من الجهود التقنيّة المعقّدة والمتقدمة إلى مادة ثمينة جدًّا لها تأثير في مختلف قضايا الناس. هذا هو معنى التخصيب: أي إن المادّة المُستخرجة من باطن الأرض، يحوّلونها عبر تقنيّات معقّدة، ومع بذل جهود جبّارة، وخبرات عالية، ومهارات كبيرة، يحولونها إلى مادة أخرى، وهذه المادة هي «اليورانيوم المخصّب»، ويصلون به إلى درجات مختلفة من التخصيب، وهذا الأمر مؤثر في مختلف جوانب حياة الناس. بمعنى أن الناس يستفيدون من التخصيب، أي من مادة اليورانيوم المخصّب، من نواحٍ مختلفة ويستخدمونها، وهي تؤثر في حياتهم؛ والزراعة من ضمن ذلك، فهي تترك تأثيرات كبيرة في الزراعة، كما تدخل في الصناعة والموادّ، وتنعكس على قضايا التغذية المرتبطة بالزراعة، وتمتد إلى البيئة والموارد الطبيعيّة، وتؤثّر في مجالات البحث والتعليم والمتابعة العلميّة، وبطبيعة الحال، تسهم بوضوح في إنتاج الطاقة الكهربائيّة. اليوم، تُدار محطات الطاقة في عدد من الدول المتقدمة في العالم بواسطة اليورانيوم. أما نحن، فغالبًا ما ندير محطاتنا بالبنزين والغاز، وهو ما تترتب عليه طبعًا تكلفة باهظة، فضلًا عن تلويث البيئة وتلويث الهواء. لكن الكهرباء التي يُحصَل عليها من اليورانيوم المخصّب والمحطات النووية، فإن مستوى تلوثها البيئي صفر، وتكلفتها أقل بكثير، وعمرها التشغيلي أطول بكثير، ولها مزايا أخرى عدة، وكما ذكرت، على المتخصصين أن يأتوا ويشرحوا هذه الأمور للناس. إذا فهرسنا الاستخدامات المتنوعة لمادة اليورانيوم المُخصَّب، فسوف نحصل على قائمة طويلة.
طبعًا، نحن لم نكن نمتلك هذه التقنية المهمة، ولم نكن قادرين على التخصيب، والأعداء أيضًا لم يكونوا راضين أن يقدموها لنا، ولم يكن أحد آخر ليمنحنا إياها. عندها بادر عدد من المديرين ذوي العزيمة، ومعهم بعض العلماء المسؤولين والرفيعي المقام بحق، قبل أكثر من ثلاثين عامًا إلى البدء بمسألة التخصيب داخل البلاد، فأطلقوا مشروع تخصيب اليورانيوم وأوصلوه إلى ما هو عليه اليوم، حتى أصبحنا اليوم من حيث تخصيب اليورانيوم في مستوى رفيع. طبعًا، الدول الراغبة في صنع سلاح نووي ترفع التخصيب إلى درجة نقاء تصل إلى 90%، أمّا نحن، فلأننا لا نحتاج إلى سلاح وقرّرنا تجنّب امتلاك سلاح نووي فلم نرفعها إلى تلك النسبة، بل رفعناها إلى 60%، وهو رقمٌ عالٍ جداً ورقمٌ جيد، وهو ضروري من أجل بعض الاستخدامات التي نحتاجها في البلاد. تمكّنّا حتى الآن من المضي قدمًا [في هذا المجال]؛ نحن من بين الدول العشر في العالم التي تملك هذه القدرة. أي ما أود قوله لكم: من بين أكثر من مئتي دولةٍ في العالم هناك عشر دول قادرة على التخصيب، وإيران الإسلامية هي إحدى هذه الدول العشر.
أما الدول التسع الأخرى، فبالتأكيد تمتلك قنابل نووية؛ ونحن لا نملك القنبلة النووية ولن نمتلكها ولا ننوِي استخدام السلاح النووي، ولكننا نمتلك قدرةَ التخصيب. عشر دولٍ، ونحن إحدى هذه الدول العشر التي تُعَدُّ رائدةً في هذه الصناعة، وهؤلاء العلماء الذين ذكرتُهم أسَّسوا هذا العمل واستثمروا مبالغَ كبيرة، ولكنّ أهمّ إنجاز لهم كان تدريب أعدادٍ كبيرةٍ من الأفراد على هذا الطريق. لدينا اليوم في البلاد عشراتُ العلماء والأساتذة البارزين، هذا وفق تقرير قدّمه إلينا أصحابُ الشأن، أي إنه تقرير متقن وموثق يفيد بأنّ عشرات العلماء والأساتذة المتميّزين، ومئات الباحثين، وآلاف المتدربين على يد الفرق النوويّة في اختصاصاتٍ متعدّدةٍ ذات صلةٍ بهذا الموضوع يمارسون نشاطهم، حتى الآن. حسنًا، لقد قصفوا المنشآت في هذا المكان وذاك. لكنّ المسألة هي أنّه علمٌ، والعلمُ لا يندثر بالقنابل ولا بالتهديدات ولا بمثل هذه الأمور. قلت وأكرر إن عشرات العلماء البارزين والأساتذة المتميزين والماهرين ومئات الباحثين وآلاف المتدرّبين على مختلف الأعمال النووية ما يزالون يعملون الآن في مجال العلاج على سبيل المثال، ولم أذكر الاستخدام العلاجيّ؛ إنه أحد الاستخدامات المهمة للتخصيب النووي. عددٌ كبيرٌ يعمل في اختصاصات العلاج المختلفة. كذلك الأمر في قطاع الزراعة، وفي قطاع الصناعة، وفي قطاعات متنوِّعةٍ أخرى، ويبذل الجهود.
طبعًا، تعرَّضنا لضغوط كبيرة، نحن وإيران ومسؤولو البلاد وحكوماتنا، على مدى العقود الماضية، حين أجرينا هذه الأعمال في البلاد؛ كانت الضغوط شديدة جدًّا بغية أن تُجبر إيران على التخلّي عن هذا المسعى، ولكنّنا لم نستسلم ولن نستسلم. إننا لم نستسلم للضغوط في هذه القضية ولن نستسلم في أي قضيةٍ أخرى، والآن أصرّ الطرف الأمريكي على موقفٍ عنادي مفاده أن لا تملك إيران أي تخصيبٍ إطلاقًا؛ طبعًا كان الآخرون السابقون يطالبون بألا ترفعوا مستوى التخصيب أو بألا تحتفظوا بمنتجات التخصيب داخل البلاد، كانوا يقولون أمورًا وكنا نرفضها - أما الآن، فهذا يقول بألّا يكون لديكم تخصيب إطلاقًا، وألّا يكون لديكم تخصيب من الأساس. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن تُحوّلوا هذا الإنجاز العظيم - الذي بذلت بلادنا من أجله هذه الجهود كلها وأنفقت فيه هذه التكاليف وتحملت هذه المشكلات كلها - أن تُحوّلوا هذه الجهود كلها، ثمرات الأعمال هذه كلها، إلى دخانٍ يتبدد في الهواء وتمحوها! هذا هو معنى ألّا يكون لديكم تخصيب. طبعًا، معلوم أن شعبًا غيورًا مثل الشعب الإيراني سيصفع من يتفوّه بهذا الكلام، ولن يقبل بهذا الكلام. كان هذا ما أردت عرضه في ما يتعلق بالتخصيب.
أمّا الموضوع الآخر، وهو الموضوع الثالث، فإنّ مسألة المفاوضات مع أمريكا تُطرح كثيرًا في تصريحات أهل السياسة، وتوجد حولها آراء متنوّعة: بعضهم - كما ذكرت - يعدّها مفيدة وضرورية، وبعضهم يراها مضرّة، وبعضهم يتخذ مواقف أكثر وسطية. الآراء متباينة. أنا أقول لشعبنا العزيز ما فهمته ورأيته وشعرت به وجرّبته طوال هذه السنوات الطويلة.
أرجو من المسؤولين السياسيين والفاعلين في الساحة السياسية أن يتأمّلوا قليلًا في هذه الكلمات، وأن يفكّروا فيها، وأن يجعلوا حكمهم قائمًا على أساس الوعي والمعرفة. لب كلامي هو أنّه في الوضع الراهن، مع الظروف القائمة اليوم - قد يكون بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة وضعٌ آخر، لا نتحدّث عن ذلك الآن - فإنّ التفاوض مع الإدارة الأمريكية أولًا لا يقدّم أيّ مساعدة لمصالحنا الوطنية، ولا يجلب لنا أيّ منفعة، ولا يدفع عنّا أيّ ضرر. هذا أوّلًا. أي إنّه عمل بلا فائدة، بلا مردود للبلاد، لا يحقّق منفعةً ولا يدفع مضرّة، ولا أثر له إطلاقاً في هذا الاتجاه. هذا أوّلًا.
ثانيًا، على العكس، تترتّب عليه أضرار أيضًا؛ أي إنّه لا منفعة فيه أصلًا؛ الموضوع الثاني هو أنّ التفاوض مع أمريكا في الظروف الراهنة يجرّ على البلاد أضرارًا جسيمة، وربما يمكن القول إنّ بعض هذه الأضرار غير قابلٍ للتعويض؛ فهو ينطوي على مثل هذه الخسائر، وسأشرحها الآن.
أمّا قولنا إنّه ليس في مصلحتنا ولا يعود علينا بفائدة، فلأنّ الطرف الأمريكي قد حدّد مسبقًا نتيجة المفاوضات بنفسه؛ أي أعلن أنّه لا يقبل إلّا تفاوضًا تكون نتيجته إيقاف الأنشطة النووية والتخصيب في إيران. يعني أن نجلس إلى طاولة المفاوضات مع أمريكا، وتكون نتيجة هذه المباحثات أن يُفرض علينا تنفيذ ما قاله هو سلفًا؟ هذا لا يعد تفاوضًا، بل هو إملاء، إنه فرض. أن تجلس لتتفاوض مع طرفٍ تكون نتيجة التفاوض ما يريده هو إلزامًا، وما يقوله هو، فهل هذا تفاوض؟ الطرف المقابل اليوم يتحدث بهذا الأسلوب: يقول لنجلس إلى المفاوضات، والنتيجة أنّ إيران لا تمتلك التخصيب. طبعًا، هذا تحدث عن التخصيب، لكن قبل أيام أعلن معاونه أنّ إيران يجب ألا تمتلك صواريخ أيضًا؛ لا صواريخ بعيدة المدى، ولا حتى صواريخ متوسطة المدى، بل ولا صواريخ قصيرة المدى. ينبغي ألا تمتلك شيئًا من ذلك. أي إنّ إيران يُراد لها أن تكون مقيّدة الأيدي وخاوية، إذ إن تعرّضت لاعتداءٍ لا تستطيع أن تردّ على هذه القاعدة الأمريكية في العراق أو في أيّ مكان آخر. هذا هو معنى كلامهم. أن نتفاوض كي نحصل على هذه النتيجة! من الطبيعي أنّ هذا ليس منفعة، بل هو تفاوض لا نفع فيه إطلاقًا، بل إن نتيجة هذا التفاوض كلّها ضرر علينا؛ إنه تجبّر، ورضوخ للتجبّر، وفرض أمريكي. هذا ليس تفاوضًا. حينما يكون أحد في مواجهة إيران الإسلامية، فإنّ مثل هذه التوقّعات وهذه التصريحات إنّما تنبع من جهلٍ بحقيقة الشعب الإيراني، ومن جهلٍ بجمهوريّة إيران الإسلاميّة، ومن جهلٍ بفلسفة إيران الإسلامية ومبدئها منهجها. مَن لا يعرف هذه الأمور يتفوّه بمثل هذا الكلام؛ وكما نقول نحن المشهديّون: «هذا الكلام أكبر من فم قائله»، هذا كلام لا يستحقّ الاهتمام، بأن يقول تعالوا نتفاوض من أجل مثل هذا. إذًا، فالأمر بالنسبة إلينا بلا منفعة.
أمّا عن الضرر، فقد قلتُ إنّه مضرّ، وهذا هو الأهم. إنّ كونه مضرًّا هو النقطة الأهم. لقد هدّد الطرف الآخر بأنّه إذا لم تفاوضوا فسيحدث كذا وكذا؛ لا أدري، ربما قال سنقصفكم، أو سنفعل كذا، تهديدات من هذا القبيل، بعضها غامض وبعضها صريح. عليكم أن تفاوضوا وإلّا فسيحدث كذا وكذا؛ هذا هو التهديد. حسنًا، إن القبول بمثل هذه المفاوضات هو علامة على ضعف إيران الإسلامية أمام التهديد. إذا ذهبتم وفاوضتم تحت هذا التهديد، فمعناه أننا أمام أي تهديد نخاف فوراً ونرتعد ونستسلم للطرف المقابل؛ هذا هو معناه. لو نشأ هذا الضعف، فلن يكون له نهاية. اليوم يقولون: إذا امتلكتم التخصيب فسنفعل كذا وكذا. غداً يقولون: إذا امتلكتم الصواريخ فسنفعل كذا وكذا. بعدها يقولون: إذا لم تقيموا علاقة مع الدولة الفلانية فسنفعل كذا وكذا، أو إذا أقمتم علاقة معها فسنفعل كذا وكذا. كلها تهديدات، فنُجبَر على التراجع المستمر أمام تهديدات العدو. إن القبول بمفاوضات مصحوبة بالتهديد هو أمرٌ لا يُقدِم عليه أي شعب ذي كرامة، ولا يقرّه أي سياسي حكيم. إذًا، هذا هو الوضع.
طبعًا، الطرف المقابل قد يقول: «في مقابل هذا الأمر، سأمنحكم الامتياز الفلاني». إنهم يكذبون. ما يسمونه امتيازاً ويقولون إنهم سيقدمونه ما هو إلا كذب. دعوني أقول إننا قبل عشر سنوات من الآن، أبرمنا اتفاقاً مع الأمريكيين، يُعرف داخل بلادنا باسم «برجام» (الاتفاق النووي). في هذا الاتفاق، تقرّر أن نؤدي نحن من جانبنا إجراءات محددة في المجال النووي: أن نغلق ذلك المركز الإنتاجي، وأن نسلّم إنتاجنا من اليورانيوم المخصّب بنسبة ثلاثة ونصف بالمئة آنذاك إلى الخارج أو أن نخففه - أي نزيل تخصيبه - وأمور أخرى. وفي المقابل، كان عليهم أن يرفعوا الحظر، وبعد عشر سنوات، يعود ملف إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى وضعه الطبيعي. عندما جاء إلينا مسؤولو البلاد آنذاك وتحدثوا عن عشر سنوات، قلتُ لهم: يا سادة، عشر سنوات هي عُمْرٌ بأكمله، لماذا تقبلون بها؟ قالوا كذا وكذا، وكان من المفترض ألّا يقبلوا بمدة العشر سنوات، ولكنهم قبلوها، وهذه السنوات العشر قد انقضت في هذه الأيام. تلك السنوات العشر التي كان من المقرر أن يعود فيها ملف إيران في الوكالة إلى وضعه الطبيعي قد انتهت هذه الأيام. أنتم تلاحظون اليوم، لم يقتصر الأمر على أن الملف لم يعد إلى وضعه الطبيعي، بل إن المشكلات النووية للبلاد في مجلس الأمن والأمم المتحدة وفي المجال النووي نفسه قد تضاعفت، بل زادت مرات عدة. هذه هي حال الطرف الآخر، وهذه هي وعوده. لقد فعلنا ما كان علينا فعله كله، أما هو، فلم يرفع الحظر ولم يفِ بأيٍ من الوعود التي قطعها، بل عمد بعد ذلك وبكل بساطة - حسب التعبير الشائع - إلى تمزيق ذلك العقد، أو ذلك الاتفاق أو مذكرة التفاهم التي أُقرّت فانسحب من الاتفاق النووي بالكامل ورفضه ونقضه.
إذا فاوضتم الطرف المقابل وقبلتم بما يريد، فهذا هو الاستسلام بعينه، وإضعاف للبلاد، وتدمير لكرامة شعبٍ بأكمله. هذا ما سيحدث إذا قبلتم بتهديد من يتحدث إليكم بالتهديد. إن لم تقبلوا، فسنبقى على ما نحن عليه الآن، الصراع نفسه والأمر نفسه وبالتالي، فإن هذه المفاوضات ليست مفاوضات صحيحة. دعونا لا ننسى التجارب، دعونا لا ننسى تجربة السنوات العشر الماضية وهذه الأمور. الطرف المقابل، الذي هو حالياً محور حديثنا، أي أمريكا، ولا أريد الآن أن أطرح مسألة أوروبا.
هذا الطرف المقابل لنا يُخلف وعوده في كل شيء، ويكذب في كل شيء، ويمارس الخداع. يُطلق التهديدات العسكرية في كل حين، وإذا سنحت لهم الفرصة اغتالوا الأشخاص، كما اغتالوا القائد الشهيد سليماني. إنهم يفعلون مثل هذه الأمور إذا استطاعوا، أو يقصفون المراكز النووية. هذا هو وضع الطرف الآخر. لا يمكننا التفاوض مع هذا الطرف، ولا يمكننا الجلوس معه بثقة واطمئنان لنتحدث ونستمع ونعقد الاتفاقات.
في رأيي، إن التفاوض مع أمريكا بشأن القضية النووية، وربما بشأن قضايا أخرى، هو طريق مسدود تماماً، أي لم يعد هناك أي سبيل صحيح لهذا الأمر. إنه طريق مسدود تمامًا. ليُفكّروا وليُبصروا. طبعًا، هذه المفاوضات مفيدة له، مفيدة لذاك الرئيس الأمريكي الحالي؛ سيرفع رأسه عالياً ويقول: «لقد هددتُ إيران وأحضرتها إلى طاولة المفاوضات وأجلستها». هو سيفتخر بذلك في العالم، أما بالنسبة إلينا، فهي خسارة محض ولا فائدة لنا فيها إطلاقًا.
في الختام، ما أود قوله هو أن سبيل تقدم البلاد وعلاج مشكلاتها يكمن في أن نصبح أقوياء. علينا أن نكون أقوياء. لا بد من القوة العسكرية، ولا بد من القوة العلمية، ولا بد من القوة على المستوى الحكومي والهيكلي والتنظيمي. ينبغي لمفكرينا وأصحاب الرأي المخلصين بيننا أن يجلسوا ويبحثوا عن سبل تقوية البلاد، وأن يتبعوا هذه السبل. إذا تحقق ذلك، فلن يكون هناك أيّ تهديد، بل إن الطرف الآخر لن يجرؤ حتى على التهديد. إذا رأى أن خصمه قوي، فإنه لا يهدد. في رأيي، لا يوجد سبيل آخر غير هذا.
يجب أن نطلب العون من الله المتعالي، ونتوكل عليه، ونتوسل بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) ليشفعوا لنا ويعينونا، وأن نستنهض الهمم الوطنية، ونمضي بالأمور قُدماً إن شاء الله، وسيتحقق هذا بتوفيق من الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.