تمكن النظام البعثي في العراق، أثناء الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمساعدة هائلة من بعض الدول العربية الرّجعيّة ودعم تكنولوجي قدّمته الحكومات الكبيرة في الشرق والغرب، من تشغيل مصانع عسكرية عظيمة. وبادر ذلك النظام إلى إنتاج أسلحة دمار شامل وأسلحة كيميائية وصواريخ باليستية. مثلا اشترى صدّام حسين، خلال سنوات الحرب مع الجمهورية الإسلامية، أسلحة ومعدّات عسكرية من الاتحاد السوفياتي وفرنسا فاقت قيمتها ٨٤ مليار دولار. كما أفشت صحيفة «واشنطن بوست» في ١٩٩١ بيع شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية، النظام العراقي، من ١٩٨٥ حتى ١٩٩٠، أنظمة ومستلزمات عسكرية لإحداث مصانع تصنيع أسلحة فاقت قيمتها مليار ونصف مليار دولار.

صدام حسين يطلب من الدول العربية التعويض
مع انتهاء الحرب المفروضة من صدّام على إيران، كان يظنّ أنّ بلاده تستحقّ قيادة العالم العربي أكثر من أي زمنٍ مضى، لأنّها كانت كبش فداء دول الخليج الفارسي وأنقذت ببذلها الأموال الطائلة وتضحيتها بشبابها نظراءها العرب من خطر كبير كان يُحدق بهم. إحدى أسباب توتّر العلاقات بين ديكتاتور بغداد والرؤساء العرب هي هذه النقطة، فقد كان صدّام يتوقع أن تبذل الحكومات العربية له مساعداتها الماليّة أكثر. وفق زعم صدّام، كانت المساعدات التي قدّمها الأعراب له خلال حرب السنوات الثماني مع إيران متواضعة جدّاً، وكي يعيد إعمار بلاده ويطوّرها، هو يستحقّ جائزة ترضية ضخمة وكبيرة لتحمّله نيابة عن دول الخليج الفارسي وزر خوض الحرب مع إيران، بهدف قمع الثورة الإسلامية وتفادي سريان شعلتها إلى سائر الدّول

عقب انتهاء الحرب المفروضة كان صدام يظن أن بلاده تستحق قيادة العالم العربي أكثر من أي زمنٍ مضى .

شرع رئيس الدولة العراقية البعثيّة، في مؤتمر مجلس التعاون العربي بتاريخ ٢٣ شباط/فبراير ١٩٩٠ ميلادي الذي عقد في عمان، بشرح مشكلاته الإقتصادية والإشارة إلى القروض التي حصل عليها من السعوديّة والكويت والإمارات العربية المتّحدة، فلم يعتبر أن بلاده معفيّة من تسديد هذه القروض فحسب، بل طالب بتسليمه ٣٠ مليار دولار أخرى. في سياق اختلاق صدّام للأعذار، اتّهم النظام البعثي في ١٨ تموز/يوليو، الكويت، رسميّاً بانتهاك الأراضي العراقية والاستفادة غير القانونية من حقول النفط المتنازع عليها بين البلدين في الرّميلة، ونهب ما قيمته ٢.٥ مليار دولار. طالب العراق الكويت بتسديد هذا المبلغ وكل الفوائد الناتجة عن استخراج النفط في تلك المنطقة.

أمريكا تعطي الضوء الأخضر
كان صدّام حسين يظنّ أن مصالح أمريكا تنحصر في الخليج الفارسي بنفط تلك المنطقة وليس من المفترض أن تعتبر فقدان الكويت سدّاً يقف في وجه مصالحها في حال ضمنت شريان حياة المنتجات الغربية. أسهم لقاء صدام بسفيرة الولايات المتحدة لدى بغداد في ٢٥ تموز/يوليو 1990 بتدعيم هذه الرؤية.

أبلغت السفيرة الأمريكية في بغداد آبريل غلاسبي صدّام تحيّات رئيسها جورج بوش ونية واشنطن تطوير وتعميق العلاقات مع بغداد

بلّغت آبريل غلاسبي في العراق صدّام تحيّات رئيسها جورج بوش وأعلمته بنيّة واشنطن تطوير وتعميق العلاقات بينها وبين بغداد، ثمّ علّقت على الخلافات بين العراق والكويت بالقول: «لا يسعنا قول شيء في ما يعني الخلافات ما بين العرب كخلافكم الحدودي مع الكويت، نأمل فقط أن تحلّوا هذه القضايا بسرعة». وجاءت هذه التصريحات للسفيرة الأمريكية بعد التهديدات العلنيّة والمتكرّرة لصدام ضد الكويت، وقبل أسبوع من اعتداء العراق على هذا البلد. وتؤكّد هذه التصريحات حثّ الأمريكيين صدّام على انتهاك الأراضي الكويتية ومنحهم إياه الضوء الأخضر.
الدبابات العراقية في الكويت
بعد فشل المحادثات بين عزت إبراهيم الدوري (معاون رئيس جمهورية العراق البعثيّة) وسعد عبد الله الصباح (ولي عهد الكويت) وعودة فريقي التفاوض من جدّة، عبرت خمسة جيوش من القوات العراقية حدود الكويت بتاريخ ٢ آب/أغسطس ١٩٩٠ الموافق ١٠ محرّم ١٤١١ هـ.ق، واحتلتها في غضون ثلاث ساعات. قال وزير الدفاع الكويتي، نوّاف الصباح، في مقابلة مع صحيفة «دير شبيغل» الألمانيّة: "مع أنّنا كنّا على معرفة بحجم القوات العراقية المحتشدة على حدود الكويت، لكنّنا كنّا نظنّها وسيلة لممارسة الضغط. لا يمكننا القبول بتاتاً بأن يكذب رئيس جمهورية العراق على حسني مبارك رئيس جمهورية مصر، والملك حسين ملك الأردن، وسائر رؤساء الدول العربية، لأن صدام كان قد قال لهم إنه لا نيّة لدينا بالهجوم على الكويت."

انتعاش الاقتصاد الأمريكي بعد اندلاع الحرب
في الوقت الذي كان يظهر فيه صدّام على هيئة مجاهد مسلم ووطني ثوري ويلقي الخطابات حول اعتداء الصليبيين والصهاينة على حريم الأماكن الإسلاميّة المقدّسة ويؤكد ضرورة نهوض الأمة العربيّة والإسلامية والجهاد ضد الكفّار والمشركين، كان مديرو شركات التسليح الأمريكية الذين ما انفكّوا يبدون قلقهم في الصيف الماضي على مستقبل المنتجات العسكرية الأمريكية، ينتظرون بشوق دقّ طبول الحرب وازدهار أعمالهم.

في ٩ كانون الثاني/يناير ١٩٩١، استضافت فيينا محادثات استمرّت لست ساعات بين وزيري خارجية أمريكا والعراق، جيمز بيكر وطارق عزيز. لكنّ المساعي الدبلوماسية لحل النّزاع بين العراق والكويت باءت بالإخفاق. زار الأمين العام للأمم المتّحدة، خافيير بيريز دي كويلار، المنطقة والتقى صدّام، لكنّه هو أيضاً عجز عن الخروج بأي حل. أخيراً عُقدت جلسة في مجلس الأمن بتاريخ ١٥ كانون الثاني/يناير ١٩٩١، وحُدد موعد لانسحاب نظام صدام. قبل ذلك بثلاثة أيام، صوّت الكونغرس الأمريكي على مشروع قرار لإنهاء أزمة احتلال الكويت، وكانت النتيجة لمصلحة جورج بوش، ٥٢ رأياً موافقاً مقابل ٤٧ رأياً معارضاً.

القوات الأمريكية

كانت حرارة هذا السلاح الهائلة والمخيفة قادرة على إذابة زجاج السيارات وتحويله إلى سائل سيليكون

مع انقضاء المهلة المحددة من مجلس الأمن، بدأت عمليات «عاصفة الصحراء» فجر الخميس ١٧ كانون الثاني/يناير ١٩٩١ في تمام الساعة ٢:٣٠ بهجمات جويّة وصاروخيّة ثقيلة وواسعة قادتها أمريكا وحلفاؤها ضد أهداف عسكرية واقتصادية محددة سابقاً في نقاط عراقية متعددة خاصة في بغداد. استخدم الأمريكيون في هذه الحرب للمرة الأولى صاروخ أرض جو المسمّى «باتريوت»، وكان لم يُستخدم سابقا في أي عمليات حربية. اختبر التحكم بصواريخ «توماهاوك» و«كروز» بواسطة الحاسوب للمرة الأولى في الحرب ضد العراق. كما استخدم خلال الحرب سلاح متطور يولّد حرارة شديدة ضد الجنود العراقيين. كانت حرارة هذا السلاح الهائلة والمخيفة قادرة على إذابة زجاج السيارات وتحويله إلى سائل سيليكون؟ تكفّل استخدام هذا السلاح بحرق جلود أجساد الجنود العراقيين من الفور ثم تلاشي أعضاء أجسادهم. (2)

كان رد فعل الشعوب في الدول العربية والإسلامية مغايراً للمواقف المتخذة من حكامهم. بلغ سيل المظاهرات المناهضة للحرب، الدول الأوروبيّة. نزل الناس في هذه البلاد إلى الشوارع مع بدء المعركة وطالبوا بإنهاء الحرب. شهدت البلاد الأفريقية أيضاً مظاهرات عارمة مناهضة لهجوم قوى التحالف الواسع. إحدى الشعارات التي رددت في كل مكان: «النفط ليس مساوياً للدّم». 

موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية
الجمهورية الإسلامية، التي ذاقت سابقاً مرارة انتهاك النظام البعثي العراقي أراضيها بعد انتصار الثورة الإسلامية، كانت ضمن أوائل الدول التي أدانت هجوم صدّام على الكويت واحتلال أراضي تلك البلاد، وأعلنت وقوفها على الحياد في خضمّ الأزمة.

أدانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تصرفات صدام وحذرت أحرار العالم من استغلال أمريكا لما يحصل

خلال الأزمة وجّه الإمام الخامنئي - مع إدانة تصرّفات العراق وتوجيه اللّوم إلى صدّام - التحذيرات اللازمة إلى المسلمين وأحرار العالم من استغلالات أمريكا السياسية. صرّح سماحته في تلك الحقبة الخطيرة بالقول: «أعلن أن شعوب المنطقة لن تطيق اعتداء أمريكا... أي حكومة تسمح لأمريكا بأن تكون شرطياً للمنطقة وتنشر قواعدها سوف يطيح بها الشعب ويزيحها عن كرسي الحكم... هل يجرؤ الجنود الأمريكيون على البقاء في السواحل العربية للخليج الفارسي في حال أبت الشعوب ذلك؟ وهل سنسمح لأمريكا بالقيام بمثل هكذا أمر؟ فلتعلم أمريكا وحلفاؤها أن شعوب هذه المنطقة لن تسمح بأي حال من الأحوال أن تلعب أمريكا دور الشرطي وأن تنشئ قواعد عسكرية بحجّة الحفاظ على أمن بلد ما». (3)

وجّه الإمام الخامنئي خطابا شديد اللهجة إلى رؤساء أمريكا والعراق مع بدء هجمات قوات التحالف الجويّة الثقيلة ضد العراق، قال فيه: «إن جرائم أمريكا المرتكبة بحق الشعب العراقي مؤلمة بالنسبة إلينا وبوش مجرم حرب... لا شكّ في أن ما فعله العراق يصبّ في مصلحة أعداء الإسلام وإسرائيل وهو ليس في مصلحة الشعب العراقي والشعوب المسلمة في المنطقة... من وجهة نظرنا وجميع أصحاب النظرة الواقعية، فإن طرفي النزاع في الخليج الفارسي يتحاربان من أجل أهداف غير صحيحة وغير إلهية وغير مقدّسة، والجمهورية الإسلاميّة ترفض عمل كلا الجبهتين». (4)


تسبّب قصف ملجأ «العامريّة» في بغداد بتاريخ ١٣ شباط/فبراير ١٩٩١ في اندلاع موجة من الاعتراضات والاستنكار العالمي ضد أمريكا. فقد ٤٠٠ من المدنيّين الأبرياء - غالبيتهم من النساء والأطفال - أرواحهم في هذه الكارثة الإنسانيّة. لم تأمن مصانع إنتاج حليب الأطفال الجاف أيضاً من هجمات قوات التحالف الموجهة عبر حواسيب أمريكية وتمّت تسويتها بالتراب

دخلت قوات التحالف مدينة الكويت بتاريخ ٢٦ شباط/فبراير من العام نفسه. كان عدد كبير من الجنود البعثيين غير قادرين على التراجع والانسحاب. اغتنمت قوات التحالف الفرصة وقتلت عددا كبيرا منهم باستخدامها السلاح المتطور المنتِج للحرارة الشديدة. سلّم عدد كبير من الضباط، أصحاب الرّتب، والجنود أنفسهم لقوى التحالف، لأنهم كانوا قد ضاقوا ذرعاً من حماقات صدّام على مدى عقد كامل. تلك القوات التي ما عادت جاهزة أن توقّع بدمائها فواتير قادتها الباهظة الثمن، وباتت غير مستعدّة لأن تبذل أرواحها من أجل أخطاء صدّام التي لا تُغتفر، وأوصلت بلادها إلى حافة الهاوية

في الوقت الذي نزل فيه الشعب العراقي المظلوم إلى الشوارع في غالبية المدن معلنا قيام ثورة عظيمة، أرسل صدام وراء قوات الحرس الجمهوري المسلّحة لحمايته وقمع الانتفاضة تاركاً سائر الجنود يواجهون هجمات قوات التحالف الثقيلة في الكويت دون أن يعيرهم أدنى اهتمام! آخر استعراض للقوات العراقية البعثيّة كان عند تركه أراضي الكويت، حينما أمر بإشعال آبار النفط. بلغ عدد الآبار المشتعلة حسب الإحصاءات ما بين 500 إلى ٨٠٠ بئر

وفق إحصاءات مجلة «نيوزويك» بتاريخ ٢٠ كانون الثاني/يناير ١٩٩٢، خلّفت هذه المغامرة الحمقاء ٣٠٠٠ قتيل مدني، لكن تخمين المسؤولين العراقيين كان أن عدد القتلى بلغ سقف ١٥٠٠٠

آثار الحرب
بعد مرور سبعة أشهر على انتهاء الحرب، قدم ٨٧ باحثا جامعيا إلى العراق لدراسة تأثير الحرب على الملف الصحّي والخدمات الاجتماعية. خلُصت أبحاثهم إلى نتائج تهزّ الكيان ومفادها بأن نصف الشعب معرّض لاستخدام مياه ملوّثة وغير صالحة للشّرب، وبأن ثلث أطفال العراق مبتلون بسوء في نظام التغذية. ارتفعت أسعار المواد الغذائية ما بين ١٥٠٠% إلى ٢٠٠٠%، تضاعف انتشار الأمراض المعدية التي تنتقل للإنسان عن طريق المياه مئة ضعف، والتيفوئيد أحدها. كما شاعت في بعض الأماكن أمراض انتشرت للمرة الأولى، كفلج الأطفال، وحمى التيفوئيد، والكزاز. (5)

بلغت القدرة الإنفجارية للمواد المتفجرة التي ألقتها أمريكا على العراق ثمانية أضعاف قدرة القنبلة النووية الملقاة على هيروشيما

مع إعلان وقف إطلاق النار بتاريخ ٢٨ شباط/فبراير ١٩٩١، كانت القيادة العسكرية الأمريكية تباهي بنفسها وتفخر بإلقائها مئة ألف طن من المواد المتفجرة على العراق خلال مدة لم تتجاوز أربعين يوماً. بلغت القدرة الانفجارية لهذه المواد ثمانية أضعاف قدرة القنبلة النووية الملقاة على هيروشيما

في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون يسجّلون في تاريخهم هيروشيما خامسة، قال أسقف بغداد، أفاك آزادوريان، في لقاء مع البابا في ٢٢ كانون الثاني/يناير، إن عدد القتلى بلغ حسب آخر الإحصاءات خمسين ألف قتيلاً. كما أعلنت مؤسسة خاصة - قدمت لمدّ يد العون إلى الأطفال المنكوبين في الحرب - في تقييم أوّلي، أنها واجهت 400 ألف يتيم. وتحدث «اتحاد الأطباء العالمي» عن مئات آلاف الأشخاص الذين أصيبوا باختلالات سمعية واضطرابات نفسية جراء القصف.

علّق البابا جان بول الثاني على الحرب بأنها كانت دليلا على «هزيمة الإنسان»، لأن «ما تم إظهاره من انتصار للحضارة على البربريّة، أرسى نظاما في العالم خلاصته أن السلطة والتفوّق العسكري من نصيب المجتمع الذي تلوح فيه علائم انحطاط شبيهة بانحطاط إمبراطورية الروم. أن تكون أمريكا، أي أغنى دول العالم، أيضا أكثر الدول في العالم مديونيّة، يظهر أن هذا الشعب ومع نهبه أمريكا الجنوبية ونصف العالم لا يزال نمط حياته يفوق حاجياته ومقتضياته». (6)

 

1- جودیت میلر، لوری میلروا. Saddam Hussein and the crisis in the

2- کنعان مکیّه، القسوة والصمت، ص25

3- الإثنين، 31 ديسمبر 1990

4- الثلاثاء، 24 يناير 1991

5- کنعان مکیّه، القسوة والصمت، ، ص20

*الصور مأخوذة عن وكالتي Associated Press و CNN للأنباء