بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، نحمده و نستعينه و نستهديه و نؤمن به و نستغفره و نتوكل عليه و نصلّي و نسلّم على حبيبه و نجيبه و خيرته فـي خلقه و حافظ سرّه و مبلّغ رسالاته ، سيدنا و نبينا أبـي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأمجدين الأئمة الهداة المهديين سيّما بقية الله فـي الأرضين . و صلِّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين .
أوصي كافة الإخوة والأخوات المصلين و نفسي بتقوى الله . لنلقِّن قلوبنا و أرواحنا التقوى و الورع منذ مستهل الخطبة الأولى لصلاة الجمعة ، و نستثمر صيام شهر رمضان و الأجواء المعنوية و النقاء الروحانـي لهذا الشهر ، عسى أن تجنح قلوبنا لخصلة التقوى العظيمة و نستطيع أن نكون ورعين متقين بالمعنى الحقيقي للكلمة .
اليوم ـ الحادي و العشرون من شهر رمضان ـ هو باحتمال كبير يوم القدر ، و يوم استشهاد أميرالمؤمنين (عليه الصلاة و السلام) أيضاً . البارحة كانت إحدى الليالـي المميزة الثلاث خلال السنة ، الليالـي التـي يحتمل أن تكون ليلة القدر . تنزّلُ الملائكة الإلهيين و تنزّل الروح حَدَث أو يحدث فـي مثل الليلة البارحة أو الليلتين القادمتين . طوبى للذين استطاعوا بتنزل ملائكة الرحمن أن يجعلوا أرواحهم ملائكية . تواجد ملائكة الرحمن على الأرض و بيننا نحن البشر ـ حيث قال ﴿ تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ﴾ ـ يجب أن يعيننا على الاقتراب للأخلاق و الطباع الملائكية . لا ريبة أنه كان بين عباد الله أشخاص قضوا الليلة البارحة على أحسن وجه و أدركت عيونهم المبصرة للحقائق و أرواحهم الشاعرة بالحقائق ، حقائق ليلة القدر . ربما شاهد البعض الملائكة بأعينهم . و أنتم أيها الجمهور الأعزاء فـي كل مكان قضيتم فـي الليلة التاسعة عشرة و ليلة الحادي و العشرين و ستقضون فـي ليلة الثالث و العشرين إن شاء الله ساعات مشحونة بالخير و الصلاح . نلاحظ أن شعبنا ، و شبابنا ، نساءنا و رجالنا يعتزمون تطهير أنفسهم حقاً بهذه الليالـي . القلوب ترق ، و العيون تفيض بالأدمع ، و الأرواح تتلطّف ، و الصيام يعين على هذا . علينا أن نكون آملين فندعوا و نسعى لاتخاذ هذه الليالـي وسيلة لعروجنا المعنوي ، ذلك أن الصلاة معراج المؤمن و هي وسيلة عروجه ، و الدعاء أيضاً معراج المؤمن ، و ليلة القدر أيضاً معراج المؤمن . لنحاول العروج و الابتعاد ما استطعنا عن مزبلة الماديات التـي ابتلي كثير من الناس فـي كافة أنحاء العالم بها و وقعوا فـي أسرها . النزوات ، و الأخلاق السيئة ـ الأخلاق اللاإنسانية و المعادية للإنسانية ـ الروح العدوانية ، و الطمع ، و الفساد ، و الفحشاء ، والظلم ، هي كلها مزابل الروح الإنسانية . يجب ان تستطيع هذه الليالـي إبعادنا و فصلنا بأكبر مسافة ممكنة عن هذه الأشياء .
أما بخصوص شهادة اليوم . ليست هذه الشهادة مصيبة وقعت فـي برهة معينة من الزمان و نذرف الآن الدموع على ذكراها ، لا ، إنها مصيبة الزمان الدائمة . مصيبة استشهاد أميرالمؤمنين . «تهدمت و الله أركان الهدي» لم تسبب الخسارة لذلك الزمان فحسب ، إنما عادت بالخسارة على كل التاريخ الإنسانـي . فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) قالت لنساء المدينة قبل خمسة و عشرين عاماً من ذلك التاريخ و هي على فراش المرض لو كانوا قد أمّروا علياً « لسار بهم سيراً سُجُحاً » و «السُجُح» هو السير المستوى المرن ، أي أنه كان سيجعل طريق حياة الناس سالكاً سوياً . « لا يكلِمُ خُشاشة » ، لن يدع ـ حسب تعبيري ـ قوة الحكومة و روح السلطة الإسلامية تجرح جسد المجتمع الإسلامي حتى أبسط الجروح . ما كان سيسمح بأية أضرار أو خسائر . كان سيسيّر الأمور من دون أية آفات أو تبعات . أفضل أنماط الحكم هو أن لا تسبب الحكومة جراحاً أو خدوشاً للناس ، فتعمِّر حياة الناس مادياً و معنوياً . « و لا يكلّ سائره و لا يملّ راكبه و لأوردهم منهلاً غيراً صافياً رويّاً » . هذا ما قالته فاطمة الزهراء يومذاك . تأخر هذا الحدث خمساً و عشرين سنة ، إلاّ أن الأمة الإسلامية اجتمعت أخيراً و أمّرت أميرالمؤمنين . خلال هذه الأعوام المعدودة أي منذ ذي الحجة سنة 35 حتى شهر رمضان سنة 40 ـ أربعة أعوام و تسعة أو عشرة أشهر ـ قام أميرالمؤمنين بأعمال كبيرة . أسّس لأمور لولا سيف الغدر و الخيانة ، و لو لم تقع هذه الجريمة الكبرى على يد ابن ملجم و العناصر التـي اختبأت خلف الكواليس ، لواصل أميرالمؤمنين هذا الطريق ولكان ذلك ضماناً و حصناً إضافياً للعالم الإسلامي ربما إلى قرون من الزمن . لذا فإن الكارثة التـي حلت يومذاك كانت جسيمة الخسائر على العالم الإسلامي و تاريخ الإسلام . أبعدوا هذا المنهل الروي الصافـي الزلال الذي كان بوسعه إرواء العالم الإسلامي عن متناول أيدي العالم الإسلامي ، لذلك كانت مصيبة خالدة .
الإنجاز المهم الذي اضطلع به أميرالمؤمنين فـي غضون هذه المدة يمكن أن يُلخّص فـي جملة قصيرة ، و سأشرح اليوم بعض القضايا المتعلقة به على نحو الإيجاز . أثبت أميرالمؤمنين خلال هذه المدة أن المبادئ و القيم الإسلامية التـي انبثقت فـي عهد عزلة الإسلام و صغر المجتمع الإسلامي ، ممكنة التطبيق أيضاً فـي عصر الرفاه و الانتشار و الاقتدار و التطور و التنمية المادية للمجتمع الإسلامي . إنها نقطة على جانب كبير جداً من الأهمية لو تفطّنا إليها . و هذه هي قضيتنا اليوم أيضاً . الاصول الإسلامية ، و العدالة الإسلامية ، و تكريم الإنسان ، و روح الجهاد ، و البناء الإسلامي ، و المرتكزات الأخلاقية و القيمية الإسلامية نزل بها الوحي الإلهي فـي زمن الرسول و تم تطبيقها من قبل الرسول فـي المجتمع الإسلامي ضمن حدود المتاح . ولكن ما الذي كانه المجتمع الإسلامي فـي عهد الرسول ؟ كان المدينة المنورة طوال عشرة أعوام ، و هي مدينة صغيرة بعدة آلاف من النسمات . ثم فتحوا مكة و الطائف . منطقة محدودة بثروات جد قليلة . الفقر كان شاملاً و الإمكانات التـي كانت فـي متناول أيديهم ضئيلة جداً . تأسست القيم الإسلامية فـي مثل هذه البيئة . مضت خمس و عشرون سنة على رحيل الرسول عن الدنيا . خلال هذه الخمسة و عشرين عاماً ازدادت مساحة البلد الإسلامي مئات الأضعاف ، لا ضعفين أو ثلاثة أو عشرة . فيوم استلم أميرالمؤمنين الحكم كانت الأرض من آسيا الوسطى حتى شمال أفريقيا ـ أي مصر ـ داخلةً ضمن نطاق الدولة الإسلامية . اما الدولتان العظميان المجاورتان للدولة الإسلامية فـي بداية الأمر ـ أعنـي إيران و الروم ـ فقد تلاشت إحداهما نهائياً و هي الدولة الإيرانية و صارت كافة الأراضي الإيرانية بيد الإسلام . ودخلت أجزاء مهمة من الأراضي الرومانية ـ الشامات و فلسطين و الموصل و مناطق أخرى ـ أيضاً فـي دائرة الإسلام . مثل هذه الرقعة الواسعة كانت بيد الإسلام يومذاك . إذن توفرت ثروات طائلة و لم يعد ثمة فقر و عوز و شحة طعام . الذهب كان قد انتشر ، و الأموال أضحت وفيرة ، و اجتمعت ثروات هائلة ، وبالتالـي فإن البلد الإسلامي كان قد غدا ثرياً . الكثيرون تمتعوا برفاه جاوز الحدود . لو ألغينا الإمام على من هذا الخضم ، ربما كان التاريخ قد حكم بأن المبادئ الإسلامية و القيم النبوية كانت جيدة لفترة المدينة النبوية فقط ، أي لعهد الصغر و الفقر الذي عاشه المجتمع الإسلامي . اما بعد أن اتسع المجتمع الإسلامي و اختلط بالحضارات المختلفة حيث وفدت من إيران و الروم ثقافات و حضارات شتى إلى حياة الناس و انضوت شعوب مختلفة تحت مظلة المجتمع الإسلامي ، فلم تعد تلك المبادئ كافية ولا قادرة على إدارة البلد . و قد أثبت أميرالمؤمنين طوال هذه السنوات الخمس بممارساته و سيرته و أسلوبه فـي الحكم أنْ كلا ، ذات المبادئ المتألقة فـى صدر النبوة ـ ذات التوحيد ، و العدل ، و الإنصاف و المساواة بين الناس ـ ممكنة التطبيق على يد خليفة قوي كأميرالمؤمنين . هذا شي ء خلّده التاريخ . مع أن هذا المنهج لم يستمر بعد أميرالمؤمنين ، لكنه أثبت أن الحاكم الإسلامي و مدراء المجتمع و المسؤولين المسلمين إذا قرروا و عزموا و كانوا أصحاب عقيدة راسخة لأمكنهم تطبيق نفس تلك المبادئ فـي عهد اتساع رقعة الدولة الإسلامية و ظهور ظروف جديدة و متنوعة للحياة ، حتى ينتفع منها الناس . هذه هي أيضاً قضيتنا اليوم . يخال البعض أن شعارات الثورة ، شعار العدالة ، شعار الجهاد ، شعار الدين ، شعار الاستقلال ، شعار الاكتفاء الذاتي ، الشعارات التـي شوّقت الجماهير وجاءت بهم إلى الساحة و أسقطت نظام الطاغوت و جعلت الشعب يصمد فـي الحرب ثمانـي سنوات ، أصبحت الآن قديمة و لا يمكن تطبيقها ، لا ، قد نكون أصبحنا نحن قدماء وفقدنا اقتدارنا و صلابتنا ، وصرنا مضعضعين مهزوزين ، بيد أن تلك المبادئ لا تزال على متانتها و صلابتها . إذا دخلنا الساحة بالإيمان اللازم ، و الإدارة الجيدة ، وبشوق و تفاؤل ، و من دون انهزام حيال الأساليب و الأحابيل السياسية و الدعائية للأعداء ، فسيكون لنفس تلك المبادئ اليوم تألق و بريق أكبر . واضح أن العدالة الاجتماعية فـي مجتمع ٍمن عشرة أو خمسة عشر ألف نسمة فـي المدينة تختلف اختلافاً هائلاً عنها فـي مجتمع من عشرات الملايين أو مئات الملايين كان على عهد أميرالمؤمنين . وقد نهض أميرالمؤمنين بهذه المهام .
أذكر هنا نماذج من أعمال أميرالمؤمنين تجلت فـي كلماته عليه السلام . و ثمة آلاف الأمثلة الأخرى فـي حياته . جاء الناس و أصروا و بايعوا ، لكنه لم يوافق . و ازداد إصرار الناس . الجميع أكابر ، و صغار ، و رؤساء ، و صحابة قدماء قالوا جميعاً : كلا ، لن يكون غير علي بن أبـي طالب و لن يستطيع ذلك سواه . جاءوا و أخذوا الإمام بإصرارهم . قال الإمام : إذن لنذهب إلى المسجد . إرتقى الإمام المنبر و ألقى خطبة أوضح فيها آراءه ، فقال : الأموال التـي استحوذ عليها الخواص و المحترمون من دون وجه حق سأعيدها إلى بيت المال أينما وجدتها . إستطاع بعض الأشخاص خلال تلك السنوات مصادرة أموال من بيت المال لصالحهم . قال سأعيد كل هذه الأموال ، « لو وجدته قد تزوّج به النساء » حتى لو وجدت أنكم جعلتم تلك الأموال مهوراً لنسائكم ، أو « مُلك به الإماء » واشتريتم بها الجواري لحريمكم . « لرددته » لأعدته إلى بيت المال . ليعلم الناس و الأكابر أن هذه هي طريقتـي .
بعد أيام بدأت المعارضات . طبعاً المستضعفون من الناس و الطبقة المضطهدة فـي المجتمع تتمنى من الله أن تُستعمل مثل هذه الطريقة ، أما المتنفذون و المخاطبون الحقيقيون بهذا الكلام فمن البديهي أن يسخطوا . جلسوا و شكلوا اجتماعاً و قالوا ما هذا الذي يريد علي صنعه ؟ قام الوليد بن عقبة ـ نفسه الذي كان والـى الكوفة زمن عثمان ـ نيابة عنهم و جاء لأميرالمؤمنين فقال له يا علي ، إن لبيعتنا إياك شروطاً ، « ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال فـي أيام عثمان » ، شرطنا هو أن لا تنال من الأموال التـي حصلنا عليها و تترك لنا ما كسبناه خلال العهد الذي سبقك . و من بعد الوليد بن عقبة جاءه طلحة والزبير . طبعاً الوليد بن عقبة يختلف عن طلحة و الزبير . الوليد بن عقبة فـي الحقيقة من حديثي الإسلام ، عائلته كانت ضد الإسلام و ضد الثورة و قد حاربت الإسلام . و بعد ذلك حين ساد الإسلام فـي نهاية عهد النبـي دخل فـي الإسلام كغيره من بنـي أمية . أما طلحة و الزبير فهما من السابقين للإسلام و من أعوان الرسول المقربين . جاء طلحة و الزبير أيضاً ـ و هما من أكابر الإسلام يومئذ و من البقية الباقية لأصحاب الرسول ـ إلى أميرالمؤمنين و تكلما كلاماً فيه عتاب ، منه قولهم : « إنك جعلت حقنا فـي القسم كحق غيرنا » . لقد ساويت بيننا و بين غيرنا فـي تقسيم بيت المال . « و سويت بيننا و بين من لا يماثلنا » ساويت فـي منح أموال بيت المال بيننا و بين من هم ليسوا مثلنا ، أي قسمة هذه ؟ لماذا لا تقرر امتيازات معينة ؟ « من لا يماثلنا فـي ما أفاء الله تعالى بأسيافنا و رماحنا » هذه خيرات استحصلت بأسيافنا . نحن الذين رفعنا الإسلام ، نحن الذين بذلنا الجهود و المساعي ، و إذا بك تساوينا بالجدد و الأعاجم و من جاءوا من البلدان المفتتحة ؟
لم أطلع على جواب أميرالمؤمنين للوليد بن عقبة ـ لم يسجله التاريخ ـ لكنه أجاب الآخرين . صعد الإمام المنبر و أجابهم جواباً شديداً . قال بشأن قضية المساواة فـي تقسيم بيت المال : « فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء » لست أنا الذي أسّست هذه الطريقة و المنهج . « قد وجدتُ أنا و أنتما رسول الله صلى الله عليه و آله يحكم بذلك » أنا و أنتم كنا قد شاهدنا الرسول يعمل بهذه الطريقة . لم أجئ بأسلوب جديد من عندي ، إنما أتبع الفعل الذي كان يأتيه الرسول . أريد تكريس تلك القيم و القواعد العقيدية و العملية الاجتماعية فـي هذا العصر . وقد كرّسها علي و دفع الثمن . كان الثمن نشوب ثلاثَ معارك . وقف أميرالمؤمنين ، ومن البديهي أنه كان يرى لنفسه حق الخلافة . لكن هذا لم يحصل بعد رحيل الرسول . لم يتحرك أبداً طيلة خمسة و عشرين عاماً من أجل الشي ء الذي كان يعلم أنه حقه . وكان يهدِّئ الذين يريدون التحدث بهذا . « إنك لقلق الوضين ترسل فـي غير سدد » ، «ودع عنك نهباً صيح فـي حجراته » . كان لأميرالمؤمنين مثل هذه الكلمات . لم تصدر عنه إزاء تلك القضية ردود فعل على مدى خمس و عشرين سنة . ولكن حيال قضية تبدو فـي الظاهر أهون من تلك القضية ـ قضية العدالة الاجتماعية ، و إحياء المبادئ النبوية ، و إعادة تشييد الصرح الإسلامي المتين الذي أرسى دعائمه الرسول ـ تحمّل أميرالمؤمنين ثلاثة حروب ، حرب الجمل ، و حرب صفين ، و حرب النهروان . لاحظوا كم كانت هذه القضية مهمة بالنسبة لأميرالمؤمنين . هذا هو الإنجاز العظيم الذي نهض به أميرالمؤمنين .
و له فـي هذا المجال كلمة أخرى . لا بأس أن نتعرف قليلاً على المعارف العلوية . يقول : «لا تمنعنّكم رعاية الحق لأحدٍ عن إقامة الحق عليه » أي أن الإنسان إذا كان مؤمناً و مجاهداً فـي سبيل الله و بذل جهداً كبيراً و خاض الجبهات و أنجز أعمالاً كبيرة فستكون مراعاة حقه واجبة عليكم . و إذا تعدّى هذا الشخص حدوده فـي حالة خاصة و ضيّع حقاً من الحقوق ، فما يجب على المدراء و المسؤولين هو أن لا يصدهم ذلك الحق الواجب عن إحقاق الحق فيما يرتبط بهذه الحالة الخاصة . إذن ، ميزوا بين الأمور . إذا كان الإنسان صالحاً و ذا قدر كبير و سابقة محمودة و جهود بذلها للإسلام و البلاد فهذا جيد جداً و حقوقه مقبولة و محفوظة و ينبغي أن نقدِّره ، ولكن إذا تعدّى و تجاوز ، فإن مراعاة ذلك الحق ينبغي أن لا تؤدي إلى غض الطرف عن المخالفة التـي ارتكبها . هذا هو منطق أميرالمؤمنين .
شاعر اسمه النجاشي ، من شعراء أميرالمؤمنين و مادحيه ، و صاحب أفضل القصائد فـي حرب صفين و تحريض الناس ضد معاوية ، و من محبّي أميرالمؤمنين و أحد الداخلين فـي حزبه ، و أفعاله مشهورة فـي الإخلاص و الولاية و السوابق ، شرب الخمر فـي نهار شهر رمضان . حين علم أميرالمؤمنين بالأمر قال إن حد الخمر معروف ، إإتوا به لإقامة الحد عليه . أقام عليه أميرالمؤمنين حد الخمر أمام أعين الناس . ثمانون سوطاً . جاءت عائلته و قبيلته إلى أميرالمؤمنين و قالوا : يا أميرالمؤمنين ، أرقت ماء وجهنا . لقد كان هذا من أصحابك و أصدقائك ـ و بتعبير معاصر ـ كان من تيارك . فقال أنا لم أفعل شيئاً ، مسلم ارتكب مخالفة فوجب عليه حد من حدود الله فأقمت ذلك الحد . طبعاً ، قال النجاشي بعد أن جُلد من قبل علي : طالما كان الأمر كذلك سأذهب لمعاوية و أنظم أشعاري له . قام و فارق أميرالمؤمنين و التحق بمعسكر معاوية . ولم يقل أميرالمؤمنين إن النجاشي قد تركنا وهذه خسارة مؤسفة ، لنحاول إبقاءه هنا ، كلا ، ذهب فليذهب ! طبعاً كان الأفضل أن يبقى . هذا هو منطق أميرالمؤمنين و منهجه . قال الإمام لأصحاب النجاشي : « فهل هو إلاّ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حُرَم الله فأقمنا عليه حداً كان كفّارته ». أقمنا عليه الحد فسقط عنه ذنبه .
رجل من قبيلة بنـي أسد ـ و كان من أقارب أميرالمؤمنين ـ وجب عليه حدٌّ من الحدود . و قال نفر من محبّي أميرالمؤمنين ومن رجال قبيلة ذلك الشخص لنذهب لأميرالمؤمنين و نعالج المشكلة بشكل من الأشكال . جاءوا أولاً للإمام الحسن المجتبى حتى يكون واسطتهم لدى أبيه : فقال الإمام الحسن لا ضرورة لمجيئي ، إذهبوا أنتم فوالدي أميرالمؤمنين يعرفكم . جاءوا عند أميرالمؤمنين و قالوا هذه هي حالنا فساعدنا . قال الإمام فـي معرض إجابتهم لا مانع لدي فـي أي أمر أكون فيه حراً مختاراً ، و سأفعله لكم ، ففرح هؤلاء و خرجوا و فـي الطريق صادفوا الإمام الحسن (عليه السلام) فسألهم : ماذا فعلتم ؟ قالوا له : إنتهى الأمر على خير و الحمدلله ، و قد وعدنا أميرالمؤمنين . فسألهم : ماذا قال لكم أميرالمؤمنين ؟ قالوا : قال لنا أفعل لكم ما أكون حراً فيه و يعود أمره إلـي . فتبسّم الإمام الحسن و قال : إذن اذهبوا و افعلوا كل ما يجب أن تقوموا به فـي حال إقامة الحد عليه ! و أقام أميرالمؤمنين الحد عليه بعد ذلك . فجاءوا و قالوا : يا أميرالمؤمنين ، لمَ أقمت الحد على هذا الرجل ؟ فقال : ليس الحد مما أملك أمره و حرية التصرف فيه . الحد حكم إلهي . قلتُ لكم ما أكون حراً فيه أفعله لكم . و الحد ليس فـي يدي . هذا و بنو أسد من أصدقاء أمير المؤمنين و المخلصين له . هكذا كانت حياة أميرالمؤمنين . ثمة روايات كثيرة عن قضائه ، و ثيابه ، و معيشته ، و اولاده . يقول الراوي ذهبت فشاهدت الإمام الحسن و الإمام الحسين جالسين يأكلان الطعام . طعامهما كان خبزاً و خلّاً و بعض الخضرة . فقلتُ لهما يا سيديـي أنتما أميران ، أنتما عائلة الدولة ، أبناء أميرالمؤمنين و فـي السوق كل هذه المأكولات « و فـي الرحبة ما فيها » فـي الرحبة ـ بقرب الكوفة ـ يباع كل شي ء و الناس تشتري ، و أنتما ابنا الأمير هذا طعامكما ؟ فالتفتا اليه و قالا : « ما أغفلك عن أميرالمؤمنين » أنت غافل عن أميرالمؤمنين ، إذهب و أنظر حياته ! كان الإمام هكذا حتى مع عائلته .
سمعتم بقصة زينب الكبرى والاستعارة من أبـي رافع . و سمعتم قصة عقيل الذي جاء للإمام و طلب شيئاً : « صاع من برّ » أراد مقداراً أكثر من القمح . ثم أخذ الإمام تلك الحديدة المحماة و قربها منه ـ طبعاً لم يضعها عليه ـ و هدده و لم يقبل طلبه . جاءه عبدالله بن جعفر ـ إبن أخيه و صهره ، زوج السيدة زينب ـ و قال : يا أميرالمؤمنين ليس فـي يدي شي ء ، و أنا مضطر لبيع بعض أدوات منزلـي . فساعدنـي ببعض الشي ء ، فلم يوافق الإمام و قال : إلاّ إذا قلت لـي اذهب يا عم و اسرق و أعطنـي من مال الناس . حدد أميرالمؤمنين معيار الحكم فـي مجتمع متطور ، كبير ، متحضر ، و ثري كالذي كان فـي زمانه على أساس ما كان فـي زمن الرسول . كل شي ء كان قد تطور . أراد أميرالمؤمنين بسلوكه اثبات أن بالإمكان إحياء تلك المبادئ حتى فـي مثل هذه الظروف . هذا هو العمل الكبير الذي قام به أميرالمؤمنين . مبدأ المعنوية ، و العدالة ، و الجهاد ، و البناء للناس ، و الإدارة الكفوءة اللائقة المؤمنة ـ و حياة أميرالمؤمنين زاخرة بأحداث و أمور سمعتم و تسمعون بها طوال سنوات على شكل قصص و روايات و أحاديث لأميرالمؤمنين موزعة على أبواب عدة ـ كلها دلائل على هذه الحقيقة ، و خلاصتها أن أميرالمؤمنين أراد البرهنة للعالم أن هذه المبادئ الإسلامية ممكنة التطبيق فـي كل الظروف . و هذا هو الواقع . قلتُ قبل أيام بحضور جماعة معينة : ليست المبادئ الإسلامية شكل ثياب أميرالمؤمنين حتى إذا كان يرتدي مئزراً أو قميصاً علينا اليوم ارتداء نفس الملابس . المبادئ الإسلامية هي العدالة ، و التوحيد ، و إنصاف الناس ، و احترام حقوقهم ، و متابعة شؤون الضعفاء ، و الوقوف بوجه الجبهة المعادية للإسلام و الدين ، والإصرار على ركائز الحق و الإسلام و الدفاع عن الحق و الحقيقة . هذه مفاهيم ممكنة التطبيق فـي جميع العصور . طبعاً حينما نقول هذا اليوم إنما نتحدث عن القلّة ، فمن ذا الذي بوسعه حتى أن يتصور التشبّه بأميرالمؤمنين ؟ كلا ، لا أحد يمكنه التشبه بأميرالمؤمنين . الإمام السجاد و هو حفيد أميرالمؤمنين و له مقام العصمة ، حين قيل له إنك كثير العبادة قال أين عبادتنا من عبادة على ؟ أي أن الإمام العابد السجاد يقول ليس بالإمكان مقارنتـي بعلي . و بين الإمام السجاد و خيرة العُبّاد والزهاد فـي زماننا آلاف الفراسخ . أشار أميرالمؤمنين إلى النموذج و القمة و اتجاه الحركة و حدد الملاك ، فلنصل أينما استطعنا الوصول . النظام الإسلامي نظام العدل و الإنصاف و خدمة الناس واحترام حقوق الإنسان و مجابهة الظلم الذي يمارسه القوي ضد الضعيف . هذه هي مشكلات البشرية المهمة على امتداد التاريخ . إبتليت البشرية بهذه المشكلات دائماً و لا تزال تعانـي هذا الابتلاء . لاحظوا اليوم كيف يدعي العتاة و الأقوياء فـي العالم أن العالم كله لهم . تعانـي الشعوب الصفعات و ضنك العيش بسبب هذا العسف . منطق الإسلام و منطق أميرالمؤمنين و منطق الحكومة العلوية مجابهة هذه الأشياء ، سواء داخل المجتمع إذا أراد قوي ابتلاع ضعيف ، أو على المستوى العالمي و الدولـي .
أريد أن أضيف فـي نهاية هذه الخطبة نقطة فحواها أن لا تجعلوا أميرالمؤمنين موضوعاً للخلاف بين الشيعة و السنة و الفرق الإسلامية . أميرالمؤمنين عامل وحدة لا عامل فُرقة . ليطمئن إخواننا و أخواتنا فـي أنحاء البلاد إلى هذا الكلام . معلوماتنا عن الأحداث كثيرة جداً . أرى عياناً أن هناك أيادٍ تنشط بقوة لزرع الخلافات المذهبية و الحرب بين الشيعة و السنة و نفور المذاهب الإسلامية عن بعضها . تُكتب كتب ضد الشيعة ، و تُكتب كتب ضد السنة ، و حين نتابع الموضوع نلاحظ أن أموال كلا الجانبين وصلت من مكان واحد خارج الحدود . لكل مذهب معتقداته و استدلالاته .
لينتصر كل من ينتصر خلف طاولات البراهين و المباحثة ، ولكن ينبغي أن لا نجعل مناخ المجتمع مناخ حرب و شجار و نفور . أميرالمؤمنين محور الوحدة . العالم الإسلامي كله خاضع أمام أميرالمؤمنين ، و ليس فـي ذلك شيعة و سنة . جماعة صغيرة تسمى النواصب كانوا أعداء أميرالمؤمنين . طوال التاريخ الإسلامي سواء فـي العصر الأموي أو العصر العباسي ناصبت بعض المجاميع العداء لأميرالمؤمنين ، أما عموم العالم الإسلامي ـ من سنة و شيعة ـ فقد بجّلوا أميرالمؤمنين . لاحظوا أن أئمة فقهاء أهل السنة قد نظموا شعر المديح فـي أميرالمؤمنين . الأشعار المعروفة التـي يقال إنها للشافعي . للإمام الشافعي أشعار مديح فـي أميرالمؤمنين . وليس لأميرالمؤمنين و حسب ، بل هم خاضعون أمام جميع أو معظم الأئمة . مقام هؤلاء العظماء و منزلتهم شفافة و جلية و واضحة بالنسبة لنا نحن الشيعة ، لكنهم لم يستطيعوا إجلاء هذه المسائل لأنفسهم . إن هذه الأمور ممكنة الإيضاح على مستوى النقاش و الجدل و البحث العلمي . منطقنا قوي جداً . لكن البعض فـي العراق اليوم ، و فـي مناطق شتى من العالم الإسلامي و خصوصاً إيران يحاولون جهدهم أن يشعلوا المعارك و الشجار . نستطيع أن نرى ما هو مصدر هذه الأنشطة .
اليوم يوم استشهاد أميرالمؤمنين ، و أريد أن أذكر مصيبته ببعض الجمل «صلّى الله عليك يا أميرالمؤمنين» . طوبى لمن هم اليوم فـي النجف إلى جوار مرقد أميرالمؤمنين و بمقدورهم التسليم على ذلك القبر الطاهر المطهر عن قرب . و نحن نقول مرة أخرى عن بعد : « السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام عليك يا إمام المتقين ، السلام عليك يا سيد الوصيين » . بعد أن وقعت تلك الفاجعة الكبرى فـي سحر يوم التاسع عشر، دوى صوت الهاتف الغيبـي فـي كل مكان : « تهدمت و الله أركان الهدى » . أهل الكوفة و بعض المدن الأخرى التـي ربما وصلها الخبر فـي ذلك اليوم شيئاً فشيئاً ، كانوا مضطربين على الدوام . كان أميرالمؤمنين محبوباً جداً فـي الكوفة . كانوا يحبون علياً . النساء و الرجال ، الصغار و الكبار ، و خصوصاً بعض أصحاب أميرالمؤمنين كانوا مضطربين جداً . مثل عصر يوم أمس ، فـي اليوم الذي سبق يوم استشهاد ذلك العظيم ، اجتمعوا حول بيت أميرالمؤمنين . شاهد الإمام الحسن ـ حسب ما جاء فـي الرواية ـ الناس مضطربين مشتاقين لعيادة أميرالمؤمنين ، فقال لهم أيها الإخوة أيها المؤمنون حال أميرالمؤمنين لا تعينه . لا يمكن أن تزوروا هذا الجليل ، تفرقوا و اذهبوا . فرّق الناس فانصرفوا . يقول أصبغ بن نباتة : ألححتُ على نفسي كثيراً فلم أجد بـي طاقةً على ترك بيت أميرالمؤمنين والانصراف ، فبقيت ، ومضى قليل من الوقت. خرج الامام الحسن من البيت و ما أن وقعت عينه على حتى قال : أصبغ ، ألم تسمعنـي قلت لكم انصرفوا ؟ لا يمكن اللقاء بالإمام . فقلت ياابن رسول الله ، ليس بـي طاقة على ذلك ، لا أستطيع الابتعاد من هنا ، دعونـي أدخل لحظة واحدة و أرى أميرالمؤمنين إنْ أمكن . فدخل الإمام الحسن و عاد و أذِن له . يقول أصبغ دخلتُ الغرفة فرأيت أميرالمؤمنين مسجى على فراش المرض و قد شدوا مكان الجرح بقماش أصفر ، فلم أستطع أن أميّز هل القماش أكثر صفرةً أم وجه أميرالمؤمنين! كان الإمام يغيب عن الوعي حيناً و يعود لوعيه حيناً . فـي إحدى المرات التـي عاد فيها إلى الوعي أمسك بيد أصبغ و روى له حديثاً . هذه هي «أركان الهدي» التـي يتحدثون عنها . لا يترك هداية الناس حتى فـي اللحظة الأخيرة من حياته و بتلك الحال السيئة . روى له حديثاً طويلاً ثم غاب عن الوعي . و بعد ذلك لم يلتقه لا أصبغ بن نباته و لا غيره من أصحاب أميرالمؤمنين . غادر علي فـي ليلة الحادي و العشرين إلى جوار الرحمة الإلهية فأحزن عالماً بأكمله و خلع الحداد على التاريخ كله .
ربنا ، بمحمد و آل محمد أسبغ صلواتك و رحمتك و سلامك اللامتناهي على الروح المطهرة لأميرالمؤمنين ، إجعلنا من أتباعه و شيعته الحقيقيين . ربنا ، احفظ أمة الإسلام ، و شعب إيران و كافة الشعوب المسلمة من شرور الأشرار و أعداء الحق و الحقيقة و العدالة . أنصر الشعب الإيرانـي فـي كافة الميادين . أحشر أرواح شهدائنا مع روح أميرالمؤمنين . احشر الروح المطهرة لإمامنا العظيم مع روح أميرالمؤمنين .
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد و لم يولد . ولم يكن له كفواً أحد .

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبـي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين سيّما على أميرالمؤمنين و الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة ، و علي بن الحسين ، و محمد بن علي ، و جعفر بن محمد ، و موسى بن جعفر ، و علي بن موسى ، و محمد بن علي ، و علي بن محمد ، و الحسن بن علي ، و الخلف القائم الهادي المهدي ، حججك على عبادك و أمنائك فـي بلادك ، و صلِّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين ، و استغفر الله لـي ولكم .
إن سنحت الفرصة فسأذكر فـي الخطبة الثانية قضيتين إن شاء الله . ثم أقرأ نصاً كتبته خطاباً للإخوة العرب . القضيتان التان سأذكرهما ، إحداهما تتعلق بضجة الملف النووي . و الثانية حول مسألة القدس ، مسألة القدس و التظاهرة التـي سيخرج فيها الشعب الإيرانـي و الشعوب الأخرى بصلابة و قوة الجمعة المقبلة إن شاء الله .
الواقع أن هذا الضجيج الذي يثيره المعارضون فـي العالم بشأن القضية النووية ، كلام غير منطقي يمكن من خلاله إدراك النوايا الأمريكية ؛ إنها واضحة . و الآخرون الذي يبدون قلقهم الشديد فـي هذا الميدان بعضهم خاضعين للنفوذ الأمريكي ، و البعض مبتلون بأوهامهم . بيد أن نوايا أمريكا و أعداء الشعب الإيرانـي و نظام الجمهورية الإسلامية واضحة . ما هي نوايا الأعداء ؟ أقولها فـي جملة قصيرة : كل ما يمكن أن يوصل الشعب إلى الاستقلال و الاقتدار الوطنـي الذاتي الأصيل ، فهو بغيض لدى مراكز القوى فـي العالم التـي تريد العالم كله لها . هذا هو نظام الهيمنة .
فـي نظام الهيمنة ، تنظر مراكز القوة العالمية للعالم كله كصيد . كل شي ء يجب أن يكون بيدهم : المصادر المالية فـي العالم ، مصادر الثروة فـي العالم ، الأسواق و قوى العمل فـي العالم . هذه هي مرتكزات نظام الهيمنة أساساً . نظام الهيمنة فـي واقع الأمر سلسلة من الدول و القوى تقف وراءها هذه الدول شركات و مراكز للاقتصاد و المال . هذه المراكز هي التـي تحدد السياسات الحالية فـي نهاية المطاف . خذوا مثلاً الشركات التـي تتبعها الهيئة الحاكمة فـي أمريكا الآن ، إذا أرادت التحرك فـي الشرق الأوسط ، و اكتساب ثروات جديدة ، أو الحؤول ربما دون إفلاسها ، أو الاستيلاء على مصادر النفط فـي الشرق الأوسط ، أو دعم مصالح الرأسماليين الصهاينة و الدولة الصهيونية ، و إذا لزمهم لكل ذلك أن يتواجدوا تواجداً قوياً فـي الشرق الأوسط ، فما الذي سيفعلونه ؟ يخططون لحرب العراق . التخطيط للحرب ، للتواجد العسكري بكل هذه الخسائر . حينما تتابعون القضية فـي تسلسلها تصلون لمطامع القوى التـي تنشط و تتحرك خلف كواليس السياسات المقتدرة فـي العالم ، و خليط أغراضهم الاقتصادية و السياسية .
على هذا الأساس ، إذا تحرك أي بلد تحركاً يساعد على استقلاله الوطنـي و تنميته الداخلية، سيكون ذلك بغيضاً عندهم . هم مستعدون لمنح الصناعة ، ولكن الصناعة التابعة . مستعدون لإعطاء الطائرات ، ولكن للبلد الذي لا يفتح قطع الغيار ليرى ما هي . مهندسهم هو الذي يشد تلك القطعة و يأخذ القطعة العاطلة لمراكزها الأصلية . كما كان دارجاً فـي زمان نظام الطاغوت فـي إيران . هم مستعدون لإعطاء الطاقة الذرية ، طبعاً بمعنى المحطة الذرية ـ لا تلك المعامل المنتجة ـ لنظام كالنظام الطاغوتي البهلوي التابع ، لأن ذلك النظام فـي قبضتهم ويعمل لهم . ولكن عندما يحين الدور للجمهورية الإسلامية لا يكونون مستعدين لفعل ذلك . و حين تعمل الجمهورية الإسلامية ـ التـي لا يبدون استعدادهم لتزويدها بالوقود ـ بشبابها و مهندسيها و دكاترتها و خريجها ليل نهار ، و تكسب بنفسها عبر الإدارة الجيدة تقنية إنتاج الوقود ، سيكون هذا مراً فـي مذاقهم ، لن يكون محبذاً ، لذلك يواجهونه .
لاحظوا ، حين انبثق نظام الجمهورية الإسلامية ، كانت القوى العالمية المهيمنة تفهم يومها أن نظام الجمهورية الإسلامية يمثل تهديداً لمقاصدها السلطوية . كانوا يدركون هذا . لذلك عارضوه منذ البداية . على أن هذا التهديد لم يكن بسبب بلد إيران نفسه ، إنما لأن الجمهورية الإسلامية كانت خطاباً جديداً و كلاماً غير مسبوق . كلام الجمهورية الإسلامية و افكارها الجديدة كانت فـي العالم الإسلامي و فـي ميادين السياسة الدولية أفكاراً جذابة تزعزع الكثير من مرتكزاتهم . كانوا يدركون هذه الأمور ، لكنهم عزّوا أنفسهم بأن الجمهورية الإسلامية لن تستطيع البقاء ، ففي العالم الذي تنعقد فيه السيادة للعلم و التقنية ، و تستحصل الثروة أيضاً عن طريق العلم و التقنية ، إذا لم يكن البلد ذا قدرات ملحوظة فـي الحقول العلمية و التقنية و يكون بالإضافة إلى ذلك محاصراً لا يسمحون بوصول شي ء إليه ، فسوف يجفُّ من تلقاء نفسه ، كالشجرة التـي تمنع عنها الماء و الهواء ، ستجف تدريجياً ولا حاجة لأن تقطعها ، ستزول هي بنفسها . كانوا يتوهمون هذا بشأن الجمهورية الإسلامية . لذلك كانوا يقولون فـي بداية الثورة : بعد شهرين ، و يقولون أحياناً : بعد سنة واحدة ، و أحياناً يقولون : بعد خمس سنين ستزول الجمهورية الإسلامية و تتلاشى ! كانوا يمُنّون أنفسهم دائماً . وقد فرضوا حظراً اقتصادياً ، و حظراً علمياً ، و حظراً تقنياً ، و فرضوا الحرب ، و دعموا الطرف الآخر للحرب بكل ما استطاعوا و ساعدوه عسى أن يستطيعوا إهالة كل هذه المشاكل على رأس الجمهورية الإسلامية و القضاء عليها . لكنهم يرون الآن أن الجمهورية الإسلامية نهضت بعد خمسة و عشرين عاماً من تحت الركام و خرجت واقفة على قدميها ، تعتمد على نفسها و تطمح و تتفاءل للمستقبل ، و قد تقدمت فـي مضمار العلوم و التقنية . هذه حقائق يفهمونها و يعلمون أنها حققت المراتب الأولى على العالم فـي بعض المجالات البالغة الحساسية و الأهمية .
عشرات البلدان الآن تستخدم الوقود النووي . أما البلدان التـي تستطيع إنتاج الوقود النووي ـ و هم يثيرون ضجيج الملف النووي الإيرانـي اليوم فـي سياق هذه القضية ـ فقليلة جداً . ربما كانت بحدود عشرة بلدان منها إيران .
قضية الخلايا الأساسية هذه و التـي طرحتُها عدة مرات لحد الآن ، من الأعمال المعقدة و المتطورة و المهمة فـي العالم ، حيث استطاع شبابنا المؤمن و المتعبد و الثوري أن ينتجوا فـي مختبراتهم الخلايا الأساسية و يكثروها و يجمدوها و يستخدموها ، و يصنعوا قلباً ، و يضخوا هذه الخلايا للقلب و لنخاع العظم . حين اُقيم قبل نحو سبعة أو ثمانية أشهر مؤتمر حضره علماء عالميون و شاهدوا هذه الأمور عن كثب ، لم يصدقوا أنفسهم ، و تحيروا و اعترفوا أن عملاً كبيراً جداً قد أنجز . وقد بث التلفزيون اعترافهم هذا . إيران فـي هذا العمل من ضمن البلدان العشرة الأولى فـي العالم . لقد تقدمنا .
فيما يتعلق بالبُنى التحتية يجب أن أقول انه منذ دخول بناء السدود لهذا البلد و إلى أن أزيح الطاغوت عن هذا البلد ، بنيت عشرة سدود أو اثنا عشر سداً على أيدي الأجانب ، و قد كان فـي بعضها مشكلات فنية عديدة ، أما فـي عهد الثورة فقد تم تصميم سبعين سداً بُنـي الكثير منها ، و يجري الآن بناء عشرات السدود بأنواعها الكبيرة و الصغيرة ، و الكونكريتية و الترابية . انها تشيد و تملأ بالمياه على نحو مستمر . بناء السدود بهذا الكم الكبير ، و بتقنية محلية و على يد المتخصصين المحليين مائة بالمائة ـ حسب ما رفعوا لـي فـي التقارير ـ جعلنا أحد خمسة بلدان تستطيع بناء السدود الكبيرة بهذه الجودة و بهذا الكم الكبير .
الأعمال من هذا القبيل كثيرة جداً فـي مضمار الصناعات العسكرية ، و فـي مجال الصناعات المختلفة ، و فـي ميدان البنى التحتية ، و فـي مجال الإنتاج الثقافـي . رغم أنهم يحاولون اطلاق أرضةً فـي الداخل ضد ركائز بنيتنا الثقافية المتينة ، حيث يمارسون أعمالاً قبيحة على الصعيد الثقافـي ـ يجب أن يقال هذا و يكون واضحاً ـ فإن الثقافة الأصيلة و الفلسفة الإسلامية و علوم الثقافة الإسلامية على مستوى العالم تتطور باستمرار و تذهل الأنظار . إن فلسفتنا الصدرائية أذهلت اليوم بعض الأنظار فـي العالم ، و انتزعت إعجابها و ثناءها .
ترون أن الجمهورية الإسلامية قامت من تحت الركام ، و خلافاً لما كانوا يتوقعون من أنها ستختنق تحت هذا الركام ، وقفت بصدر شجاع و بشعب حي و بكل هؤلاء الشباب ، و راحت تستخف بالتهديدات . العدو غاضب لهذا الواقع ، لذلك يوجّه التهم بأنهم يريدون صناعة أسلحة نووية ! لا ، نحن لا نفكر بالسلاح النووي . لقد قلتُ مراراً أن سلاحنا النووي هو هذا الشعب ، سلاحنا النووي هؤلاء الشباب . لا نريد سلاحاً ذرياً . النظام الذي يمتلك هؤلاء الشباب المؤمنين و هذا الشعب المتماسك لا يحتاج للسلاح النووي . إنتاج السلاح النووي ، والحفاظ عليه واستخدامه ، كل واحد من هذه الأطوار له مشكلاته . وقد ذكرنا حتى رأينا الشرعي . إنه واضح و يعلمه الجميع. ليس الشجار على هذا . يتحدثون عبثاً و هم أنفسهم يعلمون . عدم رضاهم سببه إحراز الجمهورية الإسلامية لهذا التقدم . هذه هي القضية .
أيها الشعب الإيرانـي ، أنتم تعلمون طبعاً هذا الموضوع ، فاعلموا أيضاً أن العدو تغضبه بعض الأشياء . علينا اليقظة و الحذر . العدو ساخط من وحدتنا الوطنية . يروم القضاء على هذه الوحدة الوطنية . العدو منزعج جداً لأن مسؤولـي البلاد فـي المستويات العليا لهم رأي واحد و عقيدة واحدة بشأن القضايا الأساسية . حينما يشاهدون رئيس الجمهورية ، ورئيس المجلس ، و رئيس السلطة القضائية و مختلف المسؤولين يتكلمون كلاماً واحداً حول القضية الفلانية ، يكادون يمزقون ياقاتهم من التبرم و الانزعاج . يريدون بث الاختلاف . سمعتم خلال العام أو العامين الماضيين رفع شعار السيادة المزدوجة ! و البعض من عديمي العقول فـي الداخل كرروا نفس كلامهم و راحوا يجترونه . هذا الكلام كلام أولئك . السيادة المزدوجة معناها أن ينشب الشجار بين رؤساء البلد حول قضاياه الأساسية المهمة . هذا هو معنى السيادة المزدوجة . السيادة المزدوجة شيء غير محبذ ، و مضر ، و سم مهلك . لكن البعض رفعوا هذا الشعار ! إنه شعار أولئك . واضح أن مسؤولـي البلد لا يفكرون أبداً بنمط واحد فـي كافة القضايا المتنوعة و الأذواق و السياسات المختلفة . هذا شيء واضح . من غير الممكن أن تسود فكرة واحدة و عقيدة واحدة فـي كافة المجالات على جميع أركان البلاد . لكن ما يريده أولئك ليس هذا . ما يريدونه هو الخلاف حول القضايا الأساسية فـي البلد . و هم منزعجون لغياب هذا الشيء . منزعجون لأن مدراء مؤمنين ، و نشطاء ، و مندفعين ، و حيويين يدخلون دائرة الإدارة العامة للبلاد و يسيّرون الأمور بمنتهى الاقتدار نحو السبيل الذي تتطلبه المبادئ الإسلامية و المصالح الوطنية . منزعجون لأن الشعب يسند الحكومة . ينزعجون مِن أنْ يتحلى شبابنا بالروح الجهادية. ينزعجون من أن يكون شبابنا مؤمنين . ينزعجون من أن يشارك شبابنا فـي المراسم الدينية ، فـي هذه الليالـي و فـي المراسم التـي تقام ليالـي الإحياء و يشارك فيها الشباب بأطيافهم المختلفة ، فيذرفون الدموع ، و يرققون القلوب و يقربونها إلى بعضها . إذا ابدوا هذا فإن قلوب أعداء الشعب الإيرانـي تزدحم بالهم و الغم . الشعب الإيرانـي يقظ و الحمد لله . أنتم واعون ولكن كونوا واعين فطنين . إنهم يريدون إفشاء اضطراب سياسي فـي هذا البلد . يريدون أن لا يسود الهدوء والاستقرار السياسي هذا البلد . يريدون أن يمسك الجميع دائماً بتلابيب بعضهم ، يتحدث هذا ضد ذاك ، و ذاك ضد هذا . يريدون أن يسود التوتر و الشجار دوماً فـي محيط الجامعة ، و فـي محيط السوق ، و فـي البيئة السياسية ، و فـي الأجواء الإدارية ، و فـي المناخ العمّالـي . هذا ما يريدونه و يبذلون لأجله أقصى جهدهم . على الشعب أن يكون يقظاً ، على الشباب أن يكونوا يقظين ، على الشرائح الأخرى أن تكون يقظة . نحن نتقدم و الحمد لله .
القضية الثانية هي قضية فلسطين . التظاهرة التـي ستخرجون فيها الأسبوع المقبل إن شاء الله مسألة مهمة جداً . ينبغي عدم الاستهانة بها . فـي قضية فلسطين ثلاث نقاط بارزة سأشير إليها أيضاً فـي الكلمة العربية التـي سأقرأها . إنها ثلاث نقاط مهمة ستبقى فـي ذاكرة التاريخ :
النقطة الأولى هي الظلم و الجرائم النادرة التـي يرتكبها الصهاينة اليوم ضد الشعب الفلسطينـي . هذا شيء سيبقى عبر التاريخ . شاب يضحي بنفسه بعد أن عاش كل تلك الآلام و المحن ، حتى يوجه ضربة لمغتصب بيته و يستشهد هو أيضاً . يأتون فيهدمون بيته و بيت أبيه و أمه ، و يعرضون عائلته للتعذيب و الإيذاء . يدخلون المخيمات و المدن بالدبابات ، يهجمون على البيوت و يخربون المنازل و المزارع و يقتلون البشر . لقد أضحى قتل الشباب ، و الأطفال ، و الشيوخ ، و العجائز من الفلسطينيين العزل ممارسة يومية فـي هذا الزمن . إنه شيء عجيب . إنها حادثة تاريخية حقاً . سيبقى هذا فـي التاريخ .
النقطة الثانية التـي ستبقى فـي التاريخ هي الصبر و الصمود الأسطوري للشعب الفلسطينـي. شعب محاصر ، و وحيد ، يحيط به الأعداء ، لكنه يقف هذه الوقفة . يتكيّف مع الجوع ، يتكيف مع فقدان أبنائه و شبابه ، يتكيف مع تهديم بيوته و تخريب مزارعه ، يتكيف مع البطالة . عدة ملايين من الفسطينيين الآن ـ ليسوا جميعهم منتمين للأحزاب و التنظيمات ـ و هم شعب كامل ، نساء ، رجال ، صغار ، كبار ، و شيوخ ، يقفون اليوم بكل صلابة . طوبى ، طوبى ، يا لهم من شعب مقاوم ! هذا أيضاً سيسجله التاريخ . إنها صفحة متألقة فـي هذه القضية ستبهر الأنظار على مر التاريخ .
النقطة الثالثة صمت المحافل الدولية والحكومات ! هؤلاء السادة الأوربيون الذين يحبون حقوق الإنسان لهذه الدرجة ، و تتحرق قلوبهم لحقوق الإنسان إلى هذا الحد ، تقع هذه الأحداث أمام أنظارهم ، فيسكتون فـي الكثير من الحالات . و يمدون يد العون للطرف الظالم فـي كثير من الأحيان ! هذا شيء عجيب حقاً ! دعك من أمريكا الآن ، أمريكا شريكة فـي الجريمة . أيادي الحكومات الأمريكية غارقة فـي دماء الفلسطينيين إلى المرافق . إذا تقرر أن تصدر محكمة ما حكماً بشأن الفلسطينيين ، لن يكون المتهم فـي تلك المحكمة شارون و الصهاينة فحسب ، إنما أمريكا و بوش هذا ، و العصابة المحيطة به ، و الحكومات الأمريكية ستكون متهمة أيضاً . إنهم فـي المرتبة الأولى من الاتهام . ولكن لندع هؤلاء ، القضية قضية المحافل الدولية قضية ، منظمة الأمم المتحدة ، قضية الحكومات الأوربية التـي تتشدق كل هذا التشدق بحقوق الإنسان ، إلاّ أنها لا تعرف حقوق الإنسان معرفة حقيقية و لا تعيرها أي احترام . و بالطبع فإن هذه القضية قضية الحكومات الأخرى أيضاً . الحكومات المسلمة . صمتهم يدعو إلى الدهشة حقاً .
و الآن ، أمام هذه القضية بهذه النقاط الثلاث الأساسية و الحساسة ما الذي تستطيع أن تفعله الشعوب ؟ تستطيع أن تنزل فـي يوم القدس إلى الشوارع و تهتف بشعاراتها ، تشد القبضات و تثبت نصرتها لذلك الشعب المكافح المجاهد الصامد . مع أن حكوماتنا لا تسمح أو لا تستطيع مساعدتكم ، ولكن اعلموا أن قلوبنا معكم . هذا ما سيبعث الأمل فـي قلوبهم و يعد مساعدةً كبيرة .
بسم الله الرحمن الرحيم
و العصر . إن الإنسان لفي خسر . إلاّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .