بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه ربّ العالمين. و الصّلاة و السّلام على سيّدنا و نبيّنا و حبيب قلوبنا أبى ‏القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديّين المعصومين، سيّما بقيّة اللَّه في ‏الأرضين.
أحمد الله و أشكره على ما حبى به هذا الخادم البسيط من توفيق ـ بالرغم من كونه جاء متأخراً ـ لأكون بين هذا الحشد الكريم من رجال و نساء و كبار و صغار أهالي مدننا العزيزة، كاشان و آران و بيدكل. آملاً أن يتقبل الله منّا و يشملنا بفضله و لطفه و إحسانه.
لا أخفيكم أنّه كان من المقرر أن نلتقي بكم أيّها الأحبة ضمن زيارتنا لمدينة أصفهان، لكن بعد السفر و البرامج المكثفة حالت دون ذلك.. و مهما يكن من أمر فنحن نحمد الله سبحانه الذي وفقنا للقاء بكم قبل حلول نهاية شهر شعبان المبارك.
إنّني هنا اغتنم هذه الفرصة لإبراز مدى علاقتي و حبّي و إخلاصي لأهالي هذه المدينة و لتاريخها الحافل بالمواقف التي تبعث على الفخر و الزهو.
لقد كانت مدينة كاشان من جملة المدن القليلة في بلدنا التي اشتهرت بحب أهل بيت الرسول ( عليهم السلام ) و الاخلاص لهم و معرفة حقيقتهم منذ القرون الأولى للإسلام، بحيث أنّها تمكّنت من اقتناص الحقيقة بالرغم من العتمة التي فرضتها الأمواج العاتية للسياسات الأموية و العباسية المظلمة.
و كما هو معروف فإنّ الإمام الباقر عليه الصلاة و السلام قد أوفد ولده علي بن محمد الباقر ـ المدفون في ما يعرف بمشهد أردهال ـ لإرشاد الناس و توجيههم و التفاعل معهم و مع عواطفهم الجياشة تجاه أهل البيت عليهم السلام.
و قد ذاع صيت مدينة كاشان بما تضمنت من فقهاء و محدثين و علماء رياضيين و فلاسفة و حكماء و متكلّمين. و نحن إنّما نتعرض لهذا التأريخ ليس على سبيل التفاخر بالماضي و التغافل عن الحاضر، كلا، فالتاريخ الحافل بالانجازات العلمية و الثقافية و الفنية لمدينة ما، يعكس وجود أرضية خصبة و استعداد لأبناء تلك المنطقة في الحال الحاضر لا بدّ من الاهتمام به و استثماره أيّما استثمار.
و ليس من الصواب أنْ يُجرّد من يحمل مثل هذا التأريخ من تأريخه و ماضيه و يقال له ليس لديك ماضٍ أو تاريخ يُذكر، ذلك أنّ كل بقعة من بقاع بلدنا تتمتّع بمثل ذلك. إنّني أحاول أنْ أتعرّف على واقع المدن من خلال التركيز على الأسماء البارزة لها و المواقف التي تبعث على الفخر و الشخصيات العلمية و الثقافية التي أنجبتها.
لقد شهد عهد الأئمة عليهم السلام شخصيات روائية بارزة جدّاً، من بينها المحدّث الكبير علي بن محمد القاساني، الذي يأتي اسمه في طريق العديد من الروايات المهمّة. و في العصر الذي راج فيه تدوين الكتب و المصنّفات برزت من هذه المنطقة ـ كاشان ـ أسماء كبيرة في الفقه و الحديث كالقطب الراوندي و قبله السيد ابو الرضا فضل الله الراوندي و غياث الدين جمشيد الكاشاني الرياضي الكبير.
و في القرون اللاحقة برزت أسماء أخرى لفقهاء و حكماء و متكلمين و مفسرين معروفين، و شخصيات سياسية و مؤلفين أفذاذ و استمرت هذه المنطقة بالعطاء حتى الفترة القريبة من عصرنا الحاضر حيث برز أسماء لامعة على صعيد العلم و المعرفة كالمرحوم الملا حبيب الله كاشاني، و المرحوم آية الله الحاج مير سيد علي يثربي كاشاني ـ وكلي أسف على عدم إعطاء هذه الشخصيات حقها من الاهتمام و التقدير ـ و على الصعيد السياسي عرف المرحوم السيد ابو القاسم الكاشاني. أما على صعيد الأدب و الشعر فهناك قائمة طويلة من الشعراء تمتد عبر التاريخ و تتصل بزماننا الحاضر، و هناك العديد و العديد من العلوم و المعارف و الشخصيات العرفانية التي عرفت بها هذه المدينة. إنّ هذا الحجم من العطاء يعد مفخرة يحق لكل مدينة تمتلكه أن تعتزّ و تفتخر به.
إنّي لا أقول للشاب إجلس و تفاخر بماضي مدينتك، لكنّي أقول للشاب الكاشاني إنّك امتداد لذلك الماضي المفعم بالعطاء العلمي و المعرفي. لقد تمكّنت تلك الشخصيات من النهوض ليس بمستواها العلمي أو مستوى مدينتها فحسب إنّما تمكّنت من تطوير العلم بأسره و الارتقاء به. و على الشاب الكاشاني اليوم، الطالب الكاشاني، رجل الدين الكاشاني، العامل الكاشاني، المرأة و الرجل المقتدرين في كاشان، أنْ يستمروا على خطى تلك الشخصيات و يكملوا تلك السلسلة التي لا تقف عند حد من العلم و المعرفة.
إنّ كاشان اليوم تعدّ مقصداً و محوراً تهوي إليه و تلتف نحوه و تقصده المنطقة بأسرها. إنّ كاشان اليوم إسم مدينة يقع إلى جانبها كل من مدينتي آران و بيدكل، لكنّ كاشان في الماضي كانت تضم تلك المناطق بأجمعها. إنّ هذه المنطقة مفعمة بالاستعداد و الحيوية، إذ إنّها من المناطق المحاذية للصحراء و المعروفة تاريخياً بجفافها و ندرة مياهها. لكنّها اليوم تسجل أرقاماً مهمّة على صعيد النموّ الصناعي و السكاني. إنّ مجاورتها للصحراء و ندرة المياه فيها ليس أمراً طارئاً عليها، لكنّها بالرغم من كل ذلك كانت و لا زالت منذ آلاف السنين تقف صامدة تعتمد على إمكاناتها الذاتية. إنّ ازدهار الحضارة في هذه المدينة، حتى قبل مجيء الإسلام، و تطوّر الجانب المدني فيها منذ ذلك الحين، و حتى تحقيقها قمّة النشاط الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي و غيره اليوم، يعكس وجود استعداد للعطاء المستمر و التأريخي. إنّ كل ركن و كل زاوية من زوايا بلدنا مليئة بهذه الكنوز من العطاء و الموهبة.
و السبب الذي حداني و يحدوني دائماً للتأكيد على المسؤولين في البلد، و على كل فرد من افراد الشعب، على أنّ مهمتنا اليوم هي العمل و العمل و العمل، هو أنّ هذه الأرض، هذه المنطقة العظيمة، هذه النقطة الجغرافية الحساسة للغاية، تمتلك قدراً من الاستعداد لو قدّر أنْ يجري العمل فيها ليلاً و نهاراً لسنوات متمادية، لما نفدت الحاجة إلى العمل و لبقيت المنطقة بحاجة للعمل الدؤوب.
و يشار إلى أنّ هناك شخصيات تاريخية أنجبتها مدينة كاشان لم يتم انصافها، و لم تنل حقّها من المعرفة و الاهتمام. من بينها المرحوم الفيض الكاشاني. إذ يعد الفيض الكاشاني من الشخصيات الانسانية الفريدة و الريادية على أكثر من صعيد علمي. فقد كان حكيماً و فيلسوفاً عظيماً، و متكلّماً بارزاً و محدّثاً معروفاً، و رجاليا ذا مبنى و مدرسة في علم الرجال، و فقيهاً ذا رأي نافذ، و شاعراً و عارفاً في الوقت ذاته. و قد جُمعت كل هذه الملكات العلمية و المعرفية في هذا الرجل، الذي لم يحفر اسمه في لوح الشخصيات البارزة للبلد و لم ينل حظه من المعرفة و الاهتمام و التقدير من قبل الخواص و العوام بالقدر الذي اهتم به العارفون و الواقفون على شخصيّته. حتى أنّني سمعت أنّ مقبرة هذا العالم الكبير و الفنّان القدير لم تشيد على النحو الذي يليق بقدره و منزلته. طبعاً على ما يبدو أنّ الفيض كان قد أوصى قبل وفاته بعدم تشييد أي سقف على مقبرته. و مهما يكن من أمر فالتبجيل و الاهتمام بالشخصيات الكبيرة كالفيض، هو تبجيل و اهتمام بالعلم و المعرفة.
النموذج الآخر الذي أود أنْ أذكره مستغلاً بذلك فرصة وجودي في كاشان هو المرحوم آية الله الكاشاني. الشخص الذي لولا وجوده و مساعيه لاستحال انطلاق الثورة الوطنية لتأميم النفط في هذا البلد. إنّني دائماً أحثّ الشباب على السعي للتعرّف على التأريخ الحديث للبلد، إذ إنّ أحد طرق الخداع و التضليل، التلاعب بالتاريخ و تحريفه، و هو الأمر الذي ـ للأسف ـ أصبح اليوم متداولاً بشكل كبير.
لقد كان المرحوم الكاشاني الشخص الذي استطاع بمعونته الدكتور (مصدّق) و باقي أقطاب الثورة الوطنية لتأميم النفط من استقطاب الدعم الجماهيري، و لولا الكاشاني لما أمكن إحراز مثل هذا التأييد الشعبي الواسع.
إنّ أحداً لم يكن ليعرف من هو (مصدّق)، و ما هو تأميم النفط. إن الجماهير ـ التي عادةً ما تحسم الموقف في أغلب التحوّلات الاجتماعية بحضورها و مشاركتها ـ لم تكن تعلم ما حقيقة الأمر إذ قد تمّ تغييبها بشكل نهائي. فالسلطة الحاكمة التي كانت تعارض بشدّة توعية الناس، كانت في واقع الأمر عميلة و أداة بأيدي البريطانيين. أمّا النخب و الساسة الذين كانوا يسيرون في ركب السلطة فلم تكن بأيديهم خيارات معينة و لم يكونوا موضعاً لثقة الجماهير. و في خضم هذا الوضع دخل المرحوم آية الله الكاشاني الميدان. لقد كان معظم العلماء على علم بماضي هذا العالِم و تاريخه، و كانت الجماهير متعلّقة به آنذاك و تربطها به علاقة اخلاص و محبّة من نوع خاص، فقد كان الكاشاني ممّن تم إبعادهم على أيدي القوات البريطانية الغاصبة. فتأمّلوا كيف كان الوضع آنذاك. و انظروا اليوم كيف هو وضع إيران و كيف نالت استقلالها السياسي، لدرجة أنّ أيّ قوّة عالمية لن تعود اليوم قادرة على اتخاذ أي موقف مضاد ـ حتى و لو على صعيد الكلام ـ من قادتنا و مسؤولي نظامنا. لكن في تلك الحقبة كان بمقدور دولة اجنبية ـ على أثر الحرب العالمية الثانية التي شهدت اكتساح القوات البريطانية و الامريكية و الروسية لأراضي بلادنا في زمن حكومة محمد رضا بهلوي ـ أن تجرُأ و تأخذ عالماً و مرجعاً دينياً و تقوم بنفيه خارج البلاد و ذلك بسبب مناهضته للسياسات البريطانية! طبعاً يشار إلى أنّهم قبل ذلك قاموا بإيداعه في سجن (قلعة فلك الافلاك) في مدينة خرم آباد، و قد زرت ذلك السجن و اطلعت بنفسي على الزنزانة التي قيل إنّ المرحوم الكاشاني قد حبس فيها. و عندما عاد من نفيه إلى طهران بلغت درجة التفاعل الجماهيري معه حدّاً أطاح بكل الخطط و البرامج التي كان قد أعدّها الأعداء، و بذلك بدأ البريطانيون و غيرهم يكتشفون أنّ القضاء على هذا العالم الروحاني يعد أمراً مستحيلاً. بعد ذلك تم ترشيح المرحوم آية الله الكاشاني نائباً عن طهران و من ثم رئيساً للبرلمان آنذاك، و أصبح الداعم الأساسي لمشروع تأميم النفط الوطني. و قد كان النواب الذين يرأسهم آية الله الكاشاني يتجولون في شتى أرجاء البلد. و أذكر عندما كنت شاباً يافعاً وصل إلى مشهد أحد نواب المرحوم الكاشاني و ارتقى المنبر و أخذ يخطب بالجماهير، و الملاحظ أنّه بدأ يستميل قلوب الناس و يجذبها إليه كالمغناطيس، لدرجة أنّ أحداً لم يكن باستطاعته الوقوف بوجه هذا الاقبال و التفاعل الجماهيري. و بذلك ففي عام 1329 هـ ش ـ أي قبل 51 عاماً على انطلاق الثورة الوطنية لتأميم النفط ـ كانت الجماهير تنادي بتأميم النفط في ايران. و بالرغم من أنّ ( محمد رضا ) لم يكن مع ترشيح ( مصدّق ) لرئاسة الوزراء إلاّ أنّه وجد نفسه تحت وطأة الضغط الشعبي مضطراً لقبول ذلك. و لو لم يكن المرحوم آية الله الكاشاني يؤمّن هذا الدعم الشعبي الكبير لمصدّق لما كان بمقدور الأخير أن يصبح رئيساً للوزراء على الاطلاق. و في عام 1331 هـ ش و عندما بدأت الحاشية تحيك المؤامرات ضد ( مصدّق ) حتى أقيل من منصب رئيس الوزراء، كان هناك عاملاً وحيداً أعاد القوّة لمصدّق و لم يكن ذلك العامل سوى المرحوم آية الله الكاشاني. إنّ هذه الأحداث من البديهيات التأريخية، و قد شهدها و رآها كلّ من كان حاضراً في ذلك الوقت، لكنّ البعض يتعمّد كتمانها و يحول دون إيصالها إلى الأجيال اللاحقة لأسباب لا تخفى على ذي لب. و عندما رشّح الشاه لرئاسة الوزراء ( قوام السلطنة ) بدلاً عن ( مصدّق )، أصدر آية الله الكاشاني بياناً، قامت الجماهير على أثره بارتداء الاكفان و النزول إلى الشوارع بحيث اكتظت الشوارع في طهران و باقي المحافظات بالناس، فلم يتمكّن ( قوام السلطنة ) من المكوث في منصب رئاسة الوزراء لأكثر من ثلاثة أيام فقط! و هل يا ترى باستطاعة أحد الوقوف بوجه هذه الأمواج البشرية الهائلة التي عبّأها آية الله الكاشاني؟
لذلك أندحر (قوام السلطنة) عن منصب رئاسة الوزراء و عاد (مصدّق) إلى توليه.
لقد كان البريطانيون يعتبرون النفط الايراني ملكاً شخصياً لهم، و استمروا يغتصبونه عشرات السنين، فيسرقون أموال الشعب الايراني دون هوادة، أمّا السلطة الحاكمة فكانت تتعاون معهم طمعاً في المكوث على الكرسي أكبر قدر ممكن من الوقت. لكن الثورة الوطنية لتأميم النفط قضت على هذا الواقع. و لم يكن المصدر الرئيسي لاذكاء الثورة سوى هذا الشخص الكبير و الشجاع، أي المرحوم آية الله ابو القاسم الكاشاني.
إنّ المقطع المهم من هذه الأحداث و هو ما أود الفات النظر إليه و خصوصاً بالنسبة لشبابنا الأعزاء هو أنّ العدو قد عرف ما هو سر انتصار الشعب الايراني، لذلك عمد إلى عزل القادة السياسيين و المتصدّين في الدولة عن المؤسسة الدينية و عن الدين، و قد تمكنوا في تلك المرحلة من إبعاد القيادات السياسية عن آية الله الكاشاني و إيجاد العزلة بينهم، و للأسف نجحوا في ذلك إلى حد بعيد. فمنذ الثلاثين من شهر تير عام 1331 و هو الشهر الذي تمكّن فيه آية الله الكاشاني من تعبئة هذا الحجم الهائل من الجماهير، و حتى الثامن و العشرون من شهر مرداد عام 1332 عندما تمكّن عملاء الولايات المتحدة الامريكية في طهران من الالتفاف على (مصدّق) و إسقاطه و الإجهاز على كل ما له علاقة به، و عندما التزم الناس الصمت و لم يبدوا أي حركة تذكر، كل ذلك التحوّل لم يحدث سوى في غضون سنة و شهر واحد. فعلى مدى هذه السنة و الشهر، بدأت الأيادي الخفية المناهضة لاستقلال البلد و بفعل بعض المؤامرات التي حيكت من قبل أعداء هذا الشعب، بالعمل على تعميق الهوّة و تعزيز الفاصلة بين الدكتور مصدّق و آية الله الكاشاني، فبدأ مصدّق بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن آية الله الكاشاني الذي بعث له قبل أيام من وقوع أحداث الثامن و العشرين من مرداد برسالة ـ لا زالت محفوظة ـ قائلاً له فيها: ((إنّي أخاف أنْ يستغل البعض وضعك هذا فيقودوا انقلاباً ضدّك و عندها تكون في ورطة حقيقية)). فرد عليه مصدّق: ((إنّي استند إلى دعم و اسناد الجماهير الايرانية و لا شيء يقلقني!)). و قد كان هذا خطأه بالتحديد. فالشعب الايراني منقاد و منصاع للمؤسسة الدينية و لرجال الدين، و شخص مثل آية الله الكاشاني بإمكانه تعبئة الشارع و زجّه و حمله على التضحية بنفسه. ففي الثامن و العشرين من مرداد عندما أقصي الكاشاني و أصبح جليس الدار ـ و في الواقع عندما أقصته حكومة (مصدّق) و عزلته عنها ـ تسبّب غيابه عن الساحة بغياب الشعب عن الساحة أيضاً، و هو الأمر الذي ساعد في قيام زمرة من العملاء المباشرين لامريكا بالاستيلاء على بعض قطعات الجيش و قيادة انقلاب عسكري. كما قاموا بدفع زمرة من الأوباش و الغوغاء في طهران للقضاء على مصدّق و إسقاطه. بعد ذلك بدأت مرحلة دكتاتورية محمد رضا شاه و استمرت خمسة و عشرين عاماً تسحق الشعب تحت وطأة أقدامها، و تلاشت محاولات تأميم النفط الوطني و أصبحت هواء في شبك، ذلك أنّهم أحالوا تنقيب النفط و استخراجه إلى شركة قام بتأسيسها الامريكان. و بذلك تحقق للعدو كل ما كان يبغي، و قد كان ذلك نتيجة الابتعاد عن الدين و الحوزة و المؤسسة الدينية، و هذا درس لا بد من التأمل فيه و الاعتبار منه.
و مثل ذلك وقع أيضاً في مطلع انبثاق الحركة الدستورية، و حينها كان للجماهير الدور الحاسم في إقرار الدستورية و إجبار الدكتاتوريات القاجارية على الاعتراف بها. و إلاّ فمظفر الدين شاه لم يكن بالشخص الذي يوافق على الدستور، لكن ضغط الجماهير و حضورها أجبره على ذلك. و هنا أيضاً كان للمؤسسة الدينية و رجالاتها الدور الحاسم في تعبئة الناس و دفعهم للنزول إلى الشارع. لكن بعد إقرار الدستورية بدأت نخبة من المثقفين المنبهرين بالغرب و المنصاعين للعنصر البريطاني بالتحريض و الاعلام المضاد و الكتابة في الصحف و المجلات و العمل الدؤوب من أجل تشويه الحركة الدستورية و تسويدها في أعين الشعب و المؤسسة الدينية. و كانت نتيجة هذا الفعل ظهور دكتاتورية يصحبها انفلات و هرج و مرج، أعقبها بعد عدّة سنوات دكتاتورية رضا خان السوداء التي سلّط فيها سيف ظلمه على رقاب الشعب.
إنّ هاتين الحادثتين تمثلان تجربتين مهمّتين و لكل واحدة منهما قصة منفردة تتطلّب وقفة و تأملاً و دراسة و تحليلاً مستقلاً.
إنّني في الحقيقة أتألّم عندما أجد شبابنا غافلين عن هذه الوقائع. إنّ رصد تصرّفات العدو و طريقة تحركاته و تعامله في السابق يمكّن المرء من التعرّف على خدعه في الزمن الحاضر. طبعاً لا يخفى أنّ الأساليب تتغيّر، فأنتم تلاحظون ـ على سبيل المثال ـ أنّ المدرّبين للفرق الرياضية يجلسون و يقيّمون أداء الخصم و يراقبونه بكل دقّة و ذلك بغية التعرّف على أساليبه. فالشعب الايراني على مدى القرن الماضي ـ و قبل انطلاق الثورة الاسلامية ـ واجه الامريكان و البريطانيين على الأقل في قضيتين مهمّتين، أحداهما تمثلت بالحركة الدستورية، و الأخرى تمثلت بالثورة الوطنية لتأميم النفط. و في كلا الحادثتين قام الأعداء بخداع الشعب الايراني و سلبوه نشوة النصر، و أقاموا في البلد بعد كل من الحادثتين دكتاتورية سوداء أكلت الأخضر و اليابس.
الحادثة الثالثة، حادثة الثورة الاسلامية، و قد تعاطى (الإمام) معها بذكاء و فطنة بالغة و لم يسمح للبعض ممّن حاول في بداية الثورة ـ و بتلقين من الأعداء أنفسهم ـ الترويج لإشاعات مغرضة مفادها: أنّ الإمام قد جاء و عمل على تحقيق الثورة و انتصارها و تعبئة الجماهير و نزولهم إلى الشارع و تأسيس الجمهورية الإسلامية، و الحمد لله! أمّا الآن فقد انتهى دور الإمام، فما عليه سوى التوجّه إلى قم و مزاولة دروسه و الانكفاء على بحوثه الحوزوية!
معنى ذلك توريط الثورة الإسلامية بذات النهاية المأساوية التي منيت بها الحركة الدستورية. لكنّ إمامنا الكبير، و شعبنا المؤمن، و مناضلونا الاكفاء الذين مرّوا بتجارب تاريخية كثيرة، و قادة الثورة السياسيين الذين بدت الصورة واضحة جلية أمامهم و استطاعوا تحديد المنافذ التي قد يستغلّها العدو لمعاودة هجومه على هذا البلد، لم يتعسّر عليهم كشف الخطط و المناورات التي وضعها العدو.
فانتهوا من تدوين الدستور، و لم يكن الإمام غائباً عن أي من التفاصيل، و إنّما كان مشرفاً و ناظراً على كافة مجريات الأمور. و بقي الناس طيلة هذه الفترة إلى جانب الدين و إلى جانب التعاليم الدينية داعمين و مؤيدين لحمَلَة لواء المعرفة الدينية. و بدلاً من أن يتجاهل شبابنا ـ طبقاً لمراد العدو ـ الحقائق الدينية و المبادئ الإسلامية التي نشرت لواء العدل في عالمنا اليوم، بدوا أكثر الطبقات وعياً و إصراراً على حمل لواء الإسلام و جعله خفاقاً في كل نقطة من نقاط البلد.
إنّ شعبنا، و شبابنا لم يسمحوا للعدو أن يجري معادلته القديمة على الثورة الإسلامية. لكن ما هي هذه المعادلة؟ لهذه المعادلة خطوات، الخطوة الأولى: الفصل بين النظام السياسي و الحركة الدينية بما فيها المؤسسة الدينية. الخطوة الثانية: إحباط الناس و جعلهم يائسين من الواقع الجديد، كما قاموا بمثل ذلك إزاء الحركة الدستورية و الثورة الوطنية لتأميم النفط. و لا يخفى أنّ تفشي حالة اليأس في أوساط الشعب تحول دون نزوله إلى الشارع. الخطوة الثالثة: مع غياب الجماهير و عزلتها، تظهر الدكتاتوريات الظالمة الفاشية التي لا تعرف الرحمة، و يكون من السهل السقوط في أيدي العدو و الاستكبار و الاستعمار.
لقد كان من السهل على الأعداء تطبيق معادلتهم هذه على محاولات التغيير التي جرت بمعزل عن الدين، فأحبطوا الناس، و غيّبوهم، ثمّ بعد أن خلت الساحة لهم تصرّفوا كما يشتهون و زرعوا في البلاد عملاءهم دون رقيب أو حسيب.
لكنّهم لم يتمكنوا من القيام بذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران، إذ فشلت محاولاتهم في الفصل بين الدين و بين حكومة الجمهورية الإسلامية، و بينه و بين الثورة الإسلامية، و أخفقوا في إحباط الناس و تخذيلهم، و بالتالي بقيت الجماهير مرابطة في الساحة و لم يجد العدو فرصة للحركة و ممارسة أنشطته العدوانية في البلد.
لكن يبقى علينا أن نعي حقيقة التحدّي الذي يواجه بلدنا اليوم، فما هي طبيعة هذا التحدّي؟ في الحقيقة، إنّ على الشباب، و على كل فرد من أفراد الشعب، و على كل عامل و مزارع و مهني و رجل دين و طالب، أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ أهم ما علينا القيام به اليوم، و نحن نستظل بظلال الإسلام و الحكومة الإسلامية التي تتقوّم و تستند إلى آراء الناس و مشاعرهم و عواطفهم، هو أنْ نحاول بناء البلد و تشييده اقتصادياً و سياسياً و ثقافياً و اخلاقياً و نعمّره تعميراً يأتي على كافة الأبواق الاعلامية المغرضة و المسيئة التي لا تريد للبلد خيراً و يخنقها.
و لا يخفى إنّ أفضل و أكبر دعاية لأي نظرية سياسية هو ما تحقّقه تلك النظرية على صعيد الواقع و على مستوى التطبيق.
لقد ذكرتُ في حديثي مع الجماهير و الشباب في اصفهان أنّ أكبر ضربة تتلقّاها الليبرالية الديمقراطية السائدة في عالم الغرب اليوم، هو هذا الواقع المليء بالقتلى و الدماء و الأشلاء و الظلم. هذا الواقع الذي أريد له أن يكون إفرازاً لليبرالية و الديمقراطية.
لقد كان محور الحربين العالميتين، الأولى و الثانية، هو أوربا، أي مركز الليبرالية و الديمقراطية.
إنّ الاستعمار، و الاحتلال، و التدخل في شؤون الدول، و قضايا دول امريكا اللاتينية، و الأهم من ذلك كله، القضية الفلسطينية، و القضية الافغانية ـ في حالنا الحاضر ـ كلّها تأتي في نفس السياق. و ليس بمقدور الليبرالية و الديمقراطية تقديم أي إجابة أو تبرير لذلك. إنّ اكتشاف هذا الواقع لا يحتاج إلى بحث علمي أو فلسفي أو مناقشته عبر طاولة مستديرة، فشعوب الدنيا عندما تتأمّل تجد أنّ هذه النظرية السياسية ـ أي الليبرالية الديمقراطية ـ نتيجتها هذه الأمور، و لا يتمخّض عنها سوى ذلك.
وفي خضم هذا الواقع، أنتم تعملون و تريدون تقديم أطروحة الإسلام السياسية و نظام الجمهورية الإسلامية ـ أي حكومة الشعب الدينية ـ إلى العالم بأسره. فالجمهورية تعني: حكم الشعب، و الإسلامية تعني: الدينية.
يتصور البعض عندما نطرح مقولة ( الديمقراطية الدينية ) أنّنا جئنا باطروحة جديدة، و الحال إنّ ذلك لا يعني سوى ( الجمهورية الإسلامية ). إنّ ( الديمقراطية الدينية ) معناها أن تقترن إدارة النظام بالهداية الإلهية و بالإرادة الشعبية و بهذين الركنين يأخذ النظام مجراه. إنّ المشكلة التي تعاني منها الأنظمة السياسية السائدة في العالم هي افتقادها لأحد هذين الركنين أو لكليهما، فإمّا تجدها تفتقد لعنصر ( الهداية الإلهية ) ـ كما فيما يسمّى بالديمقراطية الغربية التي تتظاهر بسيادة الأغلبية، لكنّها تفتقد للهداية الإلهية ـ أو إنْ توفّر فيها عنصر ( الهداية الإلهية ) ـ أو على الأقل كما يُدعى ذلك ـ فإنّ الإرادة الشعبية تكون مغيّبة. و هناك طائفة من الأنظمة تفتقد لكلا الركنين، و كثير من البلدان على هذه الشاكلة، فليس بمقدور الشعب التدخّل في شؤون البلد و إبداء رأيه و فرض إرادته، كما ليس من هداية إلهية تؤطّر عمل النظام الحاكم.
إنّ الجمهورية الإسلامية، تعني أنْ تتولّى ( الهداية الإلهية ) و ( الإرادة الشعبية ) معاً تكوين النظام و بلورته.
و ليس هناك من إشكال أو نقص يواجه هذه النظرية على الصعيد النظري ـ في المحافل العلمية و الجامعية و البحثية ـ لكنّكم إن أردتم أن تثبتوا للعالم أولويتها و تقدّمها على سائر الأنظمة الأخرى، لا بدّ أن تجسّدوا ذلك على صعيد العمل و التطبيق. إنّ الإرهاص الحقيقي لنظام الجمهورية الإسلامية هو هذا.
اعلموا أعزائي! إنّ كافة جهود أعداء الجمهورية تستهدف هذا المشروع، و هو أن لا يكون هناك أي نهضة عمرانية و اقتصادية في ظل نظام الجمهورية الإسلامية. و الحصار الاقتصادي الذي تسمعون عنه إنّما يأتي في هذا السياق. و كذلك العراقيل و العقبات التي توضع في طريق استغلال الثروة النفطية و غيرها إنّما تصب في ذات الغرض. يريدون أنْ يحولوا دون تحقيق ايران طموحها من العمران و البناء و التطوّر و النمو و الازدهار في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، كي لا يتحوّل هذا النظام إلى الأسوة و النموذج الأمثل الذي تحتذي به الدول الأخرى، و بالتالي لا تكون النظرية السياسية للإسلام هي النظرية السائدة في العالم.
لكن ما هو موقفنا نحن، و ما هي وظيفتنا حيال ذلك؟ إنّ مهمّتنا تتمثّل في العمل على الضد ممّا يخططون. فلا بدّ لمسؤولي الدولة أن لا يغفلوا لحظة واحدة عن العمل للصالح العام و السعي الحثيث و المستمر لبناء الدولة، و تنمية كافة مرافقها الحيوية. لقد كنت دائماً أنبّه على أنّ الصراعات السياسية عادة ما تقف حائلاً دون عمل المسؤولين و الكوادر في الحكومة. فالمسؤول الذي شغلته (النعم) أو (الكلا) الحزبية أو التنظيمية أو السياسية سوف لن يتفرّغ لشؤون الناس و خدمتهم و لن يجد الفرصة لذلك. طبعاً لا يعني ذلك أنّنا لم نحقّق تقدماً ملحوظاً. و أنا ضد من ينكر أو يستصغر العمل و التقدّم الذي حققته الحكومات المتوالية للجمهورية الإسلامية منذ مطلع الثورة و لحد الآن. إنّ (الاستصغار) هو بحد ذاته يمثل مرض وطني ( كالاستكبار ). فالأعداء حاولوا بشتّى السبل أنْ تكون نظرتنا تجاه انفسنا سلبية و أن نستصغر أنفسنا، و نستهين بكل ما تصنعه ايادينا. لقد حقّق هذا البلد بعد الثورة درجة من التقدّم و النمو على كافة الاصعدة، بما فيها العمران و البناء و الثقافة، بحيث لو جمعنا السنوات المتمادية للحكومات الظالمة التي حكمت البلاد قبل الثورة فسوف لن نجد أنّها حقّقت، مجتمعة، جزءاً بسيطاً ممّا تحقّق خلال العشرين عاماً المنصرم. و لذلك كان من الخطأ الاستهانة بما تمّ تحقيقه.
لقد كانت النظرة للبلد من قبل المتصدّين في النظام البهلوي و الأنظمة التي سبقته، نظرة المالك لملكه الشخصي، فلم تكن حركتهم إلاّ في إطار ما كان يدرّ على جيوبهم من أموال. افترضوا أن شخصاً ما يمتلك ضيعة تبلغ آلاف الهكتارات، قسم منها صالح للزراعة و القسم الآخر ليس كذلك، فمن الطبيعي إنّه سوف يستغل ما صلح منها لأنّه يعود عليه بالثمر و الربح الوفير، أمّا القسم الذي لا يعود عليه بالفوائد فسيتركه دون استغلال. لقد كان هذا الواقع سائداً في بلادنا، فكل ما كان في متناول الأعداء، و كل ما كان متعلّقاً بالمسؤولين، و مصالحهم و مصالح ذويهم، و منافع الشركات المتصلة بمراكز الاقتصاد العالمية، و منافع الصهاينة، تجده مشيداً و يتمتّع بكافة الوسائل و الإمكانات الخدمية و الرفاهية، و في نمو و تطوّر مستمر، قد رصدت له أموال من ميزانية الدولة.
أمّا ما لم يكن كذلك، فتجده مهملاً، ليس من طريق معبّد أو سد مشيد أو بنية تحتية، و لا من جامعات أو طلاب، أو علم أو ثقافة أو صناعة أو فن، و لا أي شيء آخر يمت إلى المدنية بصلة.
لكن اليوم و مع مرور عقدين من الزمن على انطلاق الثورة الإسلامية، تجد كافة أنحاء البلد و أقاصيه تتمتّع ببنى تحتية، و بناء و إعمار، و الوصول بالخدمات إلى أبعد نقطة في البلد، بما في ذلك الجانب العلمي و الثقافي، عبر تشييد الجامعات و كل ما يساهم في ضمان مستقبل أفضل للبلد. إنّ مثل هذه الجهود لا يمكن الإستهانة بها بأي حال من الأحوال.
لقد ذكرت لأحد رؤساء الدول الأجنبية عندما زارني في طهران في أحد الأيام: إنّنا الآن بصدد بناء سبعين سداً في آن واحد، و عقّبت على ذلك: هل تعتقد بأنّ النظام السابق قد ترك لنا مبلغاً نستطيع بواسطته تشييد سد واحد؟ لقد فرغت الجمهورية الإسلامية من تشييد عدد من السدود و هي الآن بصدد بناء عدد آخر، يبلغ حوالي سبعين سداً! فانبهر و قال: هل هذا صحيح؟! قلت: نعم، إنّ هذه الحقائق لا يمكن الإستهانة بها.
إنّ الاستهزاء بمنجزات الثورة لا يصب في صالح الشعب، بل يتسبب في إحباط الناس و يأسهم، و هذا بعينه ما يريده الاعداء. إنّهم يركّزون على نقاط الضعف و يسلطون عليها الاضواء، و يبرّزون النقص لكنّهم يعتمون على مظاهر التطوّر و الازدهار و النمو.
إنّني في الوقت الذي ارفض الاستهانة بالمنجزات، أرى أنّ على المتصدّين و المسؤولين البدء بالمشاريع التي لم تنجز، و التعجيل بالمشاريع البطيئة، و إنجاز المشاريع المؤجّلة و المنسية، بهمّة مضاعفة و إهتمام أكبر، و هذا لن يتم إلاّ باستفراغ المسؤولين كل جهدهم و همّتهم من أجل العمل. فمياه الشرب، و السقي، و صناعة النسيج و حياكة السجاد و الحرير ـ التي تعد من التراث الكاشاني الأصيل الذي لازم هذه المدينة على مر العصور ـ تعاني اليوم من مشاكل و أزمات حقيقية، لكنّها جميعاً قابلة للعلاج. فمن خلال متابعة المسؤولين ستجد هذه الأزمات طريقها للحل. لا أدّعي إنّها ستحل في وقت قصير، كلا، فقد تتطلّب فترة من الزمن، لكن المهم هو أنّ يتم العلاج و أن يكون هناك سقف زمني لذلك. فالمشاكل ستحل واحدة تلو الأخرى، و هذا يتطلّب جهداً حثيثاً من المسؤولين.
أمّا بالنسبة للناس، فالذي يقع على عاتقهم، هو أنْ لا يستسلموا لليأس إذا ما شاهدوا نقصاً أو إخفاقاً، فالنظرة السلبية و تجاهل الإيجابيات هو شيء يتمنّى الأعداء حدوثه و تفشيه بين الناس. إنّ ذلك يعد من أهم الارهاصات و التحديات التي يشهدها بلدنا اليوم.
فالبلد يزخر بطاقات كثيرة و خيرات وفيرة. إننا اليوم بحمد الله نمتلك طاقات بشرية هائلة و مذهلة، فهذه الطبقة الواسعة من الشباب، التي تؤلّف نَفَساً جديداً، و هذا الكم الكبير من اليد العاملة، و هذه الإمكانات الواسعة، و هذا المستوى من الفكر و الرأي، لا شك أنّه يمكن استغلاله و استثماره في تطوير البلد و حلحلة الأزمات و المشاكل العالقة.
فمثلاً نحن أمام عدد كبير جداً من الطلبة و التلاميذ، فلم يكن أحد يتصوّر أن مدينة بحجم كاشان تحتوي على اربعة عشر الف طالب جامعي ـ كما ذكروا ـ لكن اليوم، هذا الرقم يعد حقيقة لا يمكن لأحد انكارها. ليس كاشان فحسب إنّما كل نقاط البلد على هذه الشاكلة. فاليوم، تلاحظون الجامعات و المعاهد التخصصية العليا تنتشر في أقصى نقاط البلد. إنّ هذه تشكّل ذخائر حيوية بالنسبة لبلدنا.
إذن، مهمّة المسؤولين اليوم تتمثّل في العمل الدؤوب الذي لا يعرف التوقّف. و مهمّة الشعب ترك اليأس و القنوط و بذل الجهد و السعي و مراقبة المتصدّين و متابعتهم و مطالبتهم بالنحو المنطقي الصحيح. إنّ على كل شخص أنْ يسعى و يجد و يجتهد، فلو تمكّنا جميعاً ـ كافة الشعب و المسؤولين ـ من إتقان مهامنا، سيصل هذا البلد إلى نقطة تجعل راية الجمهورية الإسلامية خفاقة في العالم بأسره، رغماً عن إرادة القوى المهيمنة و المتجبّرة.
إنّ العالم اليوم بحاجة ماسّة إلى راية العدالة و البعد المعنوي التي رفعتها الجمهورية الإسلامية. إنّ أكبر فجوة يعاني منها العالم اليوم هي فجوة العدالة و البعد المعنوي. فشعوب العالم ميّالة إلى الصلح، لكن الساسة الغربيين يتظاهرون و يتبجحون بهذا الصلح، إلاّ أنّهم لا يتورعون عن إيقاد نار الحرب في كل مكان. فانظر ماذا ترى اليوم في فلسطين و أفغانستان؟ و ما هي القضية الفلسطينية؟ أليست هي قضية شعب يريد أن يستقر في داره؟ أليست هي قضية شعب يريد أن يعيش في وطنه، لكنّهم يمنعونه و يهدمون عليه داره.
إنّ الكيان الاسرائيلي الغاصب قد استحصل صكا ابيضا من الولايات المتحدة الامريكية، فهو يعرف أن امريكا لن تعترض على أي جريمة يقوم بارتكابها، بل ستدعمه و تؤيّده. و الكثير من الدول الأخرى يغض الطرف تماشياً مع الارادة الامريكية. لذلك تجد أخبار الجرائم التي ترتكب يومياً بحق الشعب الفلسطيني تطرق اذان العالم، لكنّه لا يحرك إزاءها أي ساكن.
و أفغانستان مثال آخر على ذلك؟ فيا ترى ما الجريمة التي ارتكبها الشعب الافغاني؟ و ما هي الدولة التي تعرّض لها الشعب الأفغاني كي تتم مهاجمته على هذا النحو؟ إنّ العالم يشاهد هذه الوقائع، و يعترض عليها، و يتكلّم، لكنّه لا يتصدّى لها و لا يقف حائلا دون وقوعها. و عندما تشاهد الشعوب هذه الأحداث لا شك أنّها تشعر أنّ العالَم يعاني بأسره من فجوة و نقص كبير، و ليس هذا النقص سوى العدالة. على الجمهورية الإسلامية أن لا تتخلّى آناً من الآنات عن ندائها و مطالبتها بالعدل و المعنوية.
يا شبابنا الأعزاء! ـ إذ تؤلّفون الطبقة العظمى للشعب الايراني ـ اعلموا أنّ الطريق الذي أنتم سائرون فيه، كلّه فخر و اعتزاز، و إذا ما طويتموه بخطوات رصينة و بإرادة قوية و تصميم قاطع متوسمين بالعلم و التجربة التي خلّفها لكم السابقون، فإنّ العالم بأسره سيحذو حذوكم و يسير خلفكم.
أعزائي! إن شهر رمضان على الأبواب، فبعد أيّام سيجتمع المؤمنون ـ المؤهلون لذلك ـ حول مائدة الرحمة الإلهية في ضيافة الله. إنّ الصوم بحد ذاته، و الأدعية و الأذكار التي تتلى عادةً في هذا الشهر الفضيل، تمثل أصنافاً لهذه المائدة. فاستثمروا هذه المائدة أفضل استثمار، و استغلوا شهري رجب و شعبان فبهما يستعد المرء للقاء شهر رمضان. و اعلموا أنّه لم يبق من شهر شعبان إلاّ أياماً قلائل. فيا أعزائي! و يا أبنائي! و يا شبابنا الأعزاء! لا تضيّعوا هذه الأيام. و اطلبوا من الله، و توجّهوا إليه بقلوبكم النقيّة و تكلّموا معه و ناجوه. إنّ الكلام مع الله لا يتطلّب لغة بعينها، لكن أئمتنا ـ الذين طووا مراحل القرب الإلهي واحدة بعد الأخرى ـ تكلّموا مع الله بألسنة بليغة. و قد علمونا كيف نتكلّم مع الله تعالى. فالمناجاة الشعبانية، و أدعية شهري رجب و شعبان، و هذه المضامين العليا، و هذه المعارف الرقيقة النورانية التي صيغت بألفاظ رائعة إعجازية، تعد وسيلة مثلى لحديثنا مع الله و دعائنا و تضرعنا إليه. إنّني أدعوكم أحبتي إلى التمسّك بالدعاء، و الصلاة و الصوم و استغلال ساعات النهار و ليالي شهر رمضان أفضل استغلال. راجياً من الله تعالى أنْ يشملكم بلطفه و كرمه و فضله.
و أتوّجه بالشكر الجزيل و الامتنان لكم أهالي كاشان و آران و بيدكل الكرام على حضوركم الكبير و مشاعركم الطاهرة النقية، و استودعكم الله و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.