بعد انتصار الولايات المتحدة الأمريكية على المكسيك في حرب 1848 وتوقيع معاهدة «غوادالوبي هيدالغو»، كان المهاجرون الأوروبيون الذين يتجهون إلى الأراضي الغربية والجنوبية الغربية المحتلة، حديثًا آنذاك، يتصرفون بعنصرية شديدة تجاه السكان اللاتينيين لتلك الديار والمهاجرين المكسيكيين. منذ ذلك العام وحتى أكثر من 70 عامًا بعده، سُجّلت آلاف حالات الإعدام غير القانونية[1] للمهاجرين أو السكان اللاتينيين في الولايات المتحدة.[2] إحدى أشهر هذه الإعدامات كانت إعدام جوزيفا سيغوفيا[3]، وهي امرأة من أصول مكسيكية، التي ذُكرت في الروايات التاريخية بوصفها امرأة «ثرثارة» و«ذات سمعة سيئة». كانت هذه الحادثة بمنزلة قمة جبل الجليد لنظرة الازدراء التي كانت وما تزال الولايات المتحدة تحتفظ بها تجاه النساء من أصول لاتينية.
الصورة النمطية للمرأة اللاتينية: سائرة وراء الأهواء وطائشة
- لا تتحدث معي عن هذا العمل الذي يعود إلى القرن الثامن عشر والذي يُسمى تشكيل الأسرة.[4]
- ولكن في بلدي، هذا هو العرف.[5]
هذه المحادثة هي بين رجل أمريكي أبيض ودولوريس دل ريو[6]، الممثلة المكسيكية في هوليود، في فيلم «الطيران إلى ريو» عام 1933. منذ بداية ازدهار صناعة السينما في أمريكا، صممت هوليود إطارًا أورينتاليًا لتصوير النساء والرجال اللاتينيين. كانت النساء اللاتينيات مثل دولورس دل ريو ولوبي فيليز[7] وعدد غيرهن، نساء سائرات وراء الأهواء والمغريات، اللواتي كان يُنظر إليهن على أنهن ينجين الرجال البيض من روتين حياتهم اليومية ويعِدن الإثارة إلى حياتهم. غالبًا ما تكون هذه النساء من الطبقات الدنيا في المجتمع، وينقذهن الرجل الأبيض في القصة من بؤسهن ويجعلهن في خدمة رغباته. لقد استمرَّت النظرة الاستغلالية في السينما والثقافة الأمريكية تجاه النساء اللاتينيات منذ ذلك الحين إلى اليوم.
لقد صُوّرت شخصيات النساء اللاتينيات على مرّ السنوات بمظاهر جنسية مفرطة[8] وبأخلاقيات خادشة وطائشة. توسّع نطاق هذه الصورة الجنسية ليشمل الموسيقى والمجلات وحتى الروايات، وثُقّف لذلك لمدة تتجاوز 100 عام، ما ترك تأثيرات هائلة على النساء من أصول لاتينية داخل الولايات المتحدة وخارجها. أدّى هذا التصوير إلى بناء صورة مثالية للمرأة اللاتينية في أذهان الناس في أمريكا وكذلك في ذهن النساء والفتيات من أصول لاتينية. هذه الصورة المثالية تُشجِّع الفتيات والنساء اللاتينيات على التعليم وتكوين الأسرة أو الأنشطة الاجتماعية المفيدة أو ما شابه، بل تُصوِّرها بوصفها امرأة جميلة ونصف عارية تسعى إلى الاستمتاع بشبابها وحياة مستقلة.
عندما تدعو «النسوية» هوليوود إلى التحدي
انطلقت الحركات النسوية والدفاع عن حقوق النساء في الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية لمكافحة هذه الصورة المشوهة. توجد مئات الكتب والمقالات والأفلام الوثائقية على الإنترنت التي تسعى إلى الدفاع عن «هوية المرأة اللاتينية» في مواجهة هذه الحملات الدعائية. تؤدي دراسة بعض[9] النصوص[10] والفيديوهات النقدية لهذا التيار إلى نتائج مثيرة للاهتمام. يركز الانتقاد الرئيسي للحركة النسوية على «الجنسانية» المفرطة للمرأة اللاتينية، وحرمانها من الفرص التعليمية والمهنية التي قد تحدث بسبب هذه الصورة النمطية السلبية. رغم أن هذا النقد يُطرح على نحو صحيح، فإنه في طيّاته يشجع النساء اللاتينيات على الابتعاد عن مؤسسة الأسرة، والإفراط في السعي نحو الاستقلال المالي، وفي نهاية المطاف السعي نحو الحرية الجنسية.
من الصادم حقًا كيف أن حركة تدّعي أنها تدافع عن حقوق النساء، ويكون اعتراضها الجنسانية المفرطة للنساء هو أنها لماذا يُصوَّر نوع واحد من النساء فقط على أنها جميلة ومغرية، في حين لا تُجسَّد النساء اللاتينيات ذوات الأجسام الممتلئة أو النحيفة أو الشعر المجعد بالطريقة نفسها في الإنتاجات الإعلامية؟ كأن لا يوجد أي إشكال في التشكيك في كرامة عدد من النساء اللاتينيات وتصويرهن بوصفهن أدوات جنسية، وفقط ما يُدان هو التمييز في الجنسانية! اللافت جدًا أن أحد المحاور الرئيسية لانتقاد النسوية التصوير الجنسي المفرط للنساء هو لماذا تصور «هوليود» وعمالقة وسائل الإعلام الرأسماليين المرأة اللاتينية فقط بوصفها امرأة مغايرة الجنس، ولا يوجد أي تمثيل للمرأة اللاتينية المثلية! السؤال هنا: هل ساعد الفكر النسوي في معالجة صورة النساء الأمريكيات اللاتينيات، أم أنه أدّى فقط إلى تعزيز الظلم الواقع عليهن وتعقيده؟
الظلم المتعدد الأوجه
ردّت دولورس دل ريو في ذلك الفيلم عام 1933 على جين ريموند بأنّ العرف في بلادها هو أن الرجل والمرأة يجب أن يتزوجا ليكونا معًا. بعد حوالى 90 عامًا من ذلك الفيلم، قطف الرأسماليون الإعلاميون الغربيون ثمار استثماراتهم، الذين أنتجوا في هذا القرن مئات الأفلام والفيديوهات الموسيقية والمسلسلات والروايات والمجلات وغيَّروا هذا العرف. في معظم دول أمريكا اللاتينية، وخاصة في كولومبيا وتشيلي والمكسيك وغيرها، لا يتزوج الشباب والفتيات من أجل أن يكونوا معًا، ولا حتى من أجل الإنجاب! تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 75% من مجمل الأطفال في 7 دول من أمريكا اللاتينية وُلدوا خارج إطار الزواج.[11] هذه النسبة الصاعقة هي نتيجة الصدمات الثقافية الكبيرة التي تعرّض لها مجتمع أمريكا اللاتينية.
اتجه كثير من النساء والفتيات في أمريكا اللاتينية نحو أسلوب حياة فردي يتمحور حول المتعة على نحو متزايد، وجرّاء الصورة الهوليوودية للمرأة اللاتينية أو قبول الخطاب النسوي، ابتعدن عن هويتهن الأسرية والوطنية؛ تلك الهوية التي ما تزال تعرف عند الأجيال السابقة بالعائلات الكبيرة والأمهات المتفانيات. كما لا يزال كثير من الأجداد والجدات في أمريكا اللاتينية يرون الأسرة المنشأ الأساسي لهويتهم،[12] ويشبّه الناس في المكسيك عائلاتهم الكبيرة بحلوى «مويجانو»[13]، وهي حلوى يصعب فصل قطعها عن بعضها بعضًا!
أدّى ابتعاد النساء والفتيات اللاتينيات عن هويتهن إلى أن كثيرًا من النساء يضطررن يومًا بعد يوم إلى العناية بأطفالهن بمفردهن،[14] في حين يكنّ مشغولات في عمل أو أكثر. طبعًا، إن صعوبة هذا النوع من الحياة تؤثر على النساء والفتيات أنفسهن، وكذلك على أطفالهن. أظهرت الدراسات أن العنف المنزلي في الأسر التي تفتقر إلى أحد الوالدين أعلى بكثير من الأسر التقليدية،[15] وأمريكا اللاتينية تمتلك أحد أسوأ الإحصاءات في ما يتعلق بالعنف ضد الأطفال في الأسرة. الأطفال الذين يعيشون مع أمهاتهم فقط، يرتكبون الجرائم في مرحلة المراهقة والبلوغ أكثر من الأطفال الآخرين،[16] واليوم يواجه كثير من هذه البلدان أزمة عصابات الجريمة.
يجني عمالقة الإعلام الغربي ثمار سنوات من الدعاية التي مارسوها في أمريكا اللاتينية. لقد انفصل كثير من الفتيات عن أسرهن بصورة مفرطة، جراء اتّباعهن للنماذج الإعلامية،[17] وأصبحن أمهات من دون زواج، ومن المرجح جدًا أنهن قد صنعن لأنفسهن ولأطفالهن حياة مريرة.[18] ربما يكون أحد الأسباب الرئيسية لانتشار عصابات الجريمة بمعدل غير مسبوق وارتفاع معدل الجريمة في هذه المنطقة هو حرمان الأطفال من وجود الأب في حياتهم.[19]
استفاد الرأسماليون إلى أقصى حد من هذه البيئة المواتية، إذْ أسسوا كارتلات المخدرات والإتجار بالبشر، وجنوا أرباحًا طائلة.[20] لم يكن هذا المصير المرير مقتصرًا على الأطفال فقط، بل إن النساء العازبات، نظرًا إلى الوضع الاقتصادي المتدهور في كثير من هذه البلدان، ينتقلن إلى الولايات المتحدة بأي ثمن، للعمل في أصعب الوظائف بأدنى الأجور وأقل مكانة اجتماعية،[21] حتى يعشن لبضع سنوات أطول في هذا العالم.
لقد كانت الهجمات على هوية المرأة اللاتينية وصورتها مربحة جدًا بالنسبة إلى الرأسماليين والسياسيين الأمريكيين، الذين كما قال الإمام الخامنئي، ليس لديهم أي دافع للتدخل في شؤون النساء سوى توسيع نفوذهم وفرض الهيمنة السياسية. عبر ذلك كلّه، لقد خطوا خطوة كبيرة نحو تقويض روح الاستقلال والنضال في مجتمعات أمريكا اللاتينية. القارة التي كانت في يوم من الأيام تقف ضد الإمبريالية الأمريكية مستلهمة من «لاهوت التحرير»،[22] أصبحت الآن مجبرة على مواجهة أمواج ضخمة من الجريمة. كما إن أصحاب المصانع الأمريكيين يزدادون ثراءً عبر استغلال العمال المهاجرين ذوي الأجور المنخفضة.
[1] Lynching
[3] Josefa Segovia
[4] Don’t tell me anything so 18th century as a family arrangement
[5] We do things so in my country
[6] Dolores del Río
[7] Lupe Vélez
[8] Hypersexualized
[13] muégano
[14] https://reliefweb.int/report/colombia/statistical-profile-violence-against-children-latin-america-and-caribbean
[15] https://reliefweb.int/report/colombia/statistical-profile-violence-against-children-latin-america-and-caribbean