الكاتبة: زهراء سادات شيخ الإسلام
إنّ الصورة التي تُرسم لقائدنا في العالم، غالباً ما تكون بعيدةً البعد كله من الحقيقة التي نعرفها عنه، نحن الإيرانيون. لا أريد القول إنّه الشخص الوحيد الذي يُساء فهمه، ولكنّه ربّما يكون واحداً من القلّة الذين يحيط بهم أكبر قدرٍ من المغالطات وسوء الفهم. لا یوجد هنا مُتّسعٌ من المجال لتوضيح كلّ شيء، ولكنّني أودّ أن أروي خاطرةً قصيرةً عن لقائي الوحيد به؛ لعلّ هذه الخاطرة تكشف جزءاً يسيرٍاً من فسيفساء صورته الحقيقيّة، بصفته المنصب الحكومي الأعلى في بلدٍ إسلاميّ. دائماً ما كان لديه اهتمامٌ خاصٌّ بالنساء، وفي كلّ عام، وفي مناسبة ذكرى ميلاد سيّدة الإسلام الكبرى، فاطمة الزهراء (عليها السلام) - هو اليوم الذي يُحتفى به في إيران بوصفه يوم المرأة وعيد الأم - يُعقد لقاءٌ ودّيٌّ يجمعنا نحن النّساء به. الزهراء (عليها السلام) هي السيّدة التي وصفها نبيّنا بأنّها «سيّدة نساء العالمين»، وقدّمها أسوةً حسنةً ونموذجاً كاملاً لنساء العالم ورجاله.
في هذا العام، دُعيتُ لحضور هذه المراسم لأوّل مرّة، وقد غمر كياني شوقٌ وحماسة لا يُوصفان. تأهّبتُ في الصباح الباكر وانطلقتُ. ما إن اقتربتُ من الحسينيّة، حتى رأيتُ نساءً من مختلف الشرائح، يبدو عليهنّ - مثلي تماماً - وكأنّهن يمشين فوق السحاب، يسرعنَ الخطى للقاء قائدهنّ المحبوب. غالبيتهنّ ممّن يحظينَ بهذا اللقاء لأوّل مرّةٍ مثلي؛ إنّ حالهنّ لمشهدٌ يستحقّ التأمّل. إحداهنّ تحتضن طفلها، والأخرى جاءت من مدينةٍ نائيةٍ وقد أنهكها عناء السفر، وهنالك فتياتٌ جامعيّات، وغيرهنّ كثير. لكلّ امرأةٍ منهنّ قصّةٌ مختلفة، ولكنّ القاسم المشترك بيننا جميعاً، هو تلك الابتسامة المفعمة بالشوق التي ارتسمت على شفاهنا. اليوم، الحسينيّة بأكملها ملكٌ لنا نحنُ النّساء.
نشقّ طريقنا في غمرة الاستقبال الحارّ وترحيب الخدّام. بعد الوقوف في طوابيرَ طويلةٍ واجتيازِ بوّابات التفتيش، أنضمُّ إلى هذا البحر الطافح بالعشق والولاء. كنتُ قد وصلتُ متأخّرةً بعض الشيء، ولكنّ الحظّ حالفني بالعثور على مكانٍ خالٍ خلف أحد الأعمدة. لم تكن الرؤيةُ أمامي واضحةً تماماً، ولكنّ مجرّدَ وجودي هناك كان أمراً رائعاً.
الآن إذ حجزتُ مكانًا لنفسي، سَنَح لي الوقتُ لأتأمّل ما حولي بمزيدٍ من الدقّة. لقد ازدانت حسينيّة قائد إيران بنقوشٍ وألوانٍ مبهجةٍ ومشرقة، تتناغم مع الروح اللطيفة لضيوفها؛ فقد زُخرفت أعمدةُ الحسينيّة بشرائطَ رفيعةٍ من الزهور الطبيعيّة والفراشات الورقيّة. وتبرزُ خلفَ المنصّةِ الرئيسيّةِ عبارةٌ ضخمةٌ جداً، لتتصدّر المشهدَ بصفتها العنصرَ الأساسيَّ في التزيين والديكور. هذه العبارةُ هي حديثٌ لنبيّ الإسلام العظيم (ص)، موجّهٌ إلى الرجال: «خَیْرُکُمْ خَیْرُکُمْ لِنِسَائِه». في المقابل، عند نهايةِ الحسينيّةِ تقريباً، ثُبّتت مقولةٌ شهيرةٌ للإمام الخمينيّ، القائد الراحل للثورة الإسلاميّة في إيران: «السيّداتُ هنّ قائداتُ نهضتِنا. ونحنُ تابعون لهنّ. إنّني أعتقد بكونكنّ قادة وأنا خادمٌ لكنّ».
تجاوزت نظراتي هاتين العبارتين الجميلتين، لتقعَ على الصحافيّات، ومصوّرات الفيديو، والمصوّرات الفوتوغرافيّات الحاضرات في هذه الجلسة، وجميعهنّ من السيّدات؛ نساءٌ سيُوثّقنَ بفنّهنّ ومهارتهنّ هذا الجزء من التاريخ في الذاكرة. كان قد بقيَ إلى جواري حيزٌ صغيرٌ خالٍ، حين وصلت سيّدةٌ مسنّةٌ وسألت إن كان في إمكانها الجلوس هناك.
أجيبها: «نعم يا أماه، تفضّلي!» تتّخذ مكانها إلى جواري على الأرض، وتجد حيزاً لتمديد ساقيها. أسألها: «يا أماه، هل أتيتِ وأنتِ تعانين من ألم الساق؟ ألم يكن الأمر شاقّاً؟» تجيبني: «جئتُ لأرى السيّد. إنّها المرّة الأولى التي أراه فيها من قرب، ويغمرني شوقٌ عظيم». على جانبي الآخر، تجلس سيدةٌ شابّةٌ، أستاذةٌ جامعيّةٌ في مجال الفيزياء. تجلسُ أمامي طفلةٌ صغيرةٌ برفقة والدتها. يلمع وجهها الجميل والأبيض تحت غطاء العباءة السوداء. أستأذن والدتها لأتحدّث معها بضع كلمات، وأسألها عن اسمها وعمرها. تخبرني أنّ اسمها فاطمة الزهراء وعمرها عشر سنوات. أسألها: «لِمَ أتيتِ إلى هنا اليوم؟» فتجيب: «أنا أحبّ القائد كثيراً وأرغبُ في رؤيته». أسألها عمّا تحبّ أن تكون في المستقبل؟ فتجيب بلا تردّد: «طبيبة أسنان».
أعادني جواب فاطمة الزهراء الواضح والحاسم إلى السنوات التي عشتها في كندا، حيث كانت غالبية الناس تعتقد أنّ النساء في إيران لا يُسمح لهنّ بالتعلّم. انتابتني ضحكةٌ ساخرةٌ من هذا التباين الشاسع بين الصورة المرسومة والواقع. للفتيات الإيرانيّات أهدافٌ واضحةٌ للتعليم والمهنة منذ الطفولة، وبلادي مليئةٌ بالنساء العالمات والمؤثّرات والفاعلات. يتمثّل ذلك أحياناً في المراتب العلميّة، وأحياناً في المراكز السياسيّة والاجتماعيّة، وأحياناً في مجال الرياضة أو غيرها من المجالات المتنوّعة. مثال ذلك هذه الرياضيّة الشابّة البالغة من العمر 23 عاماً، المدعوّة الآن ضيفة، التي تطرح عليها المذيعة الأسئلة. إنّها رياضيّة مسلمةٌ، محجّبةٌ، وحائزةٌ ميدالياتٍ عالميّة ملوّنة في رياضة المواي تاي.
لقد بدأ البرنامج رسميّاً قبل قليل بتلاوة القرآن الكريم. تلت القرآن مجموعة من الفتيات الصغيرات تراوح أعمارهنّ بين السابعة والثامنة، وكنّ جميعاً يرتدينَ أوشحةً ورديّةً وعباءاتٍ سوداء. بعدهنّ، اعتلت المذيعة المنصّة، ودُعيَ عدد من الضيفات اللاتي يمثّلنَ النّساء الإيرانيّات الناجحات والمُقتدرات. من بينهنّ شاعرةٌ ألقت قصيدةً جميلةً عن إيران بمشاركة أطفالها الأربعة، وعالمةٌ حائزةٌ أوسمة شرفٍ متعدّدة، وناشطةٌ اجتماعيّة تقف بناتها إلى جانبها. بعد ذلك، قدّم فريقٌ مسرحيٌّ عرضاً يجسّدُ نساءَ إيرانَ اللواتي صنعنَ التاريخ.
بعد انتهاء العرض، اهتزّت ستارةُ المنصّة، فعمّت المكان ضجّةٌ وضوضاء عظيمة. كانت هذه علامةَ دخولِ القائد. نهضنا جميعاً. وبدأت دموعي تنهمر. طبعاً لستُ وحدي؛ فجميعنا كنّا مزيجاً من الدموع والابتسامات. تحرّك الحشدُ نحو مقدّمة الحسينيّة وتزاحم بشدّة. لم يعترض أحد، لأنّ كلّ واحدة منّا أرادت أن ترى مرادَ قلبها من أقرب مسافة، ولم نرغب في حرمان الأخريات من هذه الفرصة. لم نعد نتحكّمُ في أنفسنا، بل صرنا بحراً هائجاً متلاطماً نموجُ ونهدرُ. دخل قائدنا العزيز وسط شعاراتنا ودموعنا، وجلس على مقعده. بعد بضع دقائق، بادرت السيّدات المنظّمات بتهدئة الحشد، فجلسنا من جديد. مكاننا ضيّقٌ جداً، ولكنّ قلوبنا كبيرةٌ. كنّا نجلس أحياناً على أقدام بعضنا بعضاً. كانت السيّدات يساعدن بعضهنّ بعضاً في صمتٍ لا يزعج المراسم، لتتسنّى لهنّ فرصةٌ لتحريك أرجلهنّ وتخفيف التعب. أولئك اللاتي معهنّ أطفالٌ رفعنَ صغارهنّ على الأيدي. بجانبي، يجلسُ صبيٌّ يبلغ من العمر أربع سنوات تقريباً على ركبتي والدته، يبحثُ بعينيه عن القائد. قلتُ له: «هل تريد أن أحملك لترى القائد؟» أجابني بضحكةٍ عذبة: «نعم». اسمه أمير علي. رفعتُه إلى الأعلى ليرى مراده. ارتبك في البداية ولم يعرف أين ينظر، فكان يجول في الحشد بعينيه السوداوين الواسعتين. عندما ضحك، عرفنا أنّه رآه.
في سياق البرنامج، تحدّثت سيدتان أخريان بصفتهما مُتحدّثتين. إنّ ما يبرز لي غالباً في أحاديث السيدات المدعوّات مع سماحة القائد، وما يثير اهتمامي، هو صراحتُهنّ في التعبير عن الانتقادات والاقتراحات. فهنّ لا يخفنَ من التعبير عن الانتقادات اللاذعة، لأنّهن يعددنَ قائدهنّ بمنزلة الأب الحنون الذي يتقبّل حديثهنّ. الآن، أصبحنا جميعاً نصغي بإنصاتٍ كاملٍ لحديث السيّد. بدأ حديثه بالشكر للمتحدّثات من السيدات، وأشاد بقدراتهنّ وإنجازاتهنّ. وفقاً للعادة السنويّة، بدأ القائد حديثه عن المقام السامي للسيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام). أشار إلى الأبعاد البارزة والمتنوّعة لشخصيّة الزهراء (سلام الله عليها) وحياتها، مثل الأبعاد الدينيّة والروحيّة والسياسيّة والتاريخيّة والإنسانيّة والنسائيّة و... مؤكّداً أنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) هي القدوة الكاملة لنساء العالم ورجاله جميعهم في كلّ زمان. خطر في بالي: إنّ مقام المرأة الساميّ لدينا نحن الشيعة هو هكذا، ولكن هل ستسمح وسائل الإعلام الغربيّة لصوتنا الحقيقيّ بالوصول إلى شعوبها؟
أكمل قائدُ قلوبنا كلامه موضحًا مكانةَ المرأة وكرامتَها. المرأة في الإسلام متساويةٌ تماماً مع الرجل، ولا فرق بينهما في الإنسانيّة، وفي القدرة على بلوغ المقامات الإنسانيّة والروحيّة السامية، وفي التأثير السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ و... إنّ الفرق الرئيسيّ بين الإسلام والغرب يكمنُ في النظرة إلى كرامة المرأة. في الغرب، تحوّلت المرأة إلى أداةٍ لإرضاء الشهوات. أمّا في الإسلام، فعبر تأطير الجاذبيّات الجنسيّة ضمن إطار العائلة، يتحقّق لها الأمنُ وتنال الكرامة الحقيقيّة.
في سياق الحديث عن الأسرة أيضاً، فإنّ الإسلام لديه كثير ليقوله. يخطر في بالي أنّ العكس ممّا يُروَّج له في الغرب عنّا نحن النساء المسلمات، من أنّ رجالنا يقمعوننا، فإنّه لا يوجد أيّ دينٍ راعى مكانةَ المرأة وطبيعتها في المجتمع والأسرة بقدر الإسلام. قال قائدنا: «اَلمَراَةُ رَیحانَةٌ وَ لَیسَت بِقَهرَمانَة». لقد قرأت هذا الحديث مراراً، وأنا أتعمّدُ أن يُكَرّر. «القهرمانة» تُطلق على من تكونُ وكيلةً أو مديرةً للعمل؛ افترضوا أن شخصاً يملكُ بستاناً أو حديقةً أو تجارةً، فالشخص الذي يُرتّبُ الأعمال ويحملُ الأعباء والجهود يُسمّى في العربيّة بـ«قهرمان». يقولُ النبيّ (ص): «اَلمَراَةُ رَیحانَة». «الرّيحانة» تعني الزهرة؛ المرأة في البيت زهرة. «وَلَیسَت بِقَهرَمانَة»؛ هي ليست وكيلةَ البيتِ أو مديرةَ شؤونه، حتّى تقولوا لها لماذا لم تفعلي هذا، ولماذا لم تفعلي ذاك، ولماذا البيت غير نظيف؟ هي رَیحانَة؛ زهرة. يجب الاعتناء بالزهرة وحفظُها؛ وهي بدورها ستمنحكم من لونها وعطرها وخصائصها. التفتوا! هكذا ينظرُ الإسلامُ إلى المرأة.
كم أتمنّى أن أُوصل هذا الصوت الجميل والمُنقِذ لهذا الدّين إلى نساء العالم كلهن. زميلاتي اللاتي يعانينَ في الثقافة الغربيّة من المظالم والتحوّل إلى أشياء. هنّ اللاتي وقعنَ في أسرِ الشهوات باسم الحريّة، وضاعت مواهبهنّ الإنسانيّة سُدىً. هنّ اللاتي لم يتذوّقن طعم الأمن والكرامة في ظلّ الإسلام، ولم يجرّبن الحياة الآمنة والمجيدة التي نعيشها.
للأسف، تقرع وسائل الإعلام الغربيّة على طبل الأكاذيب بقوّة، فلا يصل نغم هذا الصدى الجميل إلى أسماع نساء تلك الديار. بدأت أحاديث قائدنا تبلغ نهايتها شيئاً فشيئاً، ويودّع «السيّد» بناته ويغادر. نُقيم صلاة الجماعة. انشغل الأطفال حول الحسينيّة باللعب. بعد الصلاة، أخذت الفتيات الشابّات الزهور الطبيعيّة كتذكار لهذا اللقاء العذب ووزّعنها بين الحشود.
انتهت المراسم. نتّجه نحو بوّابة الخروج. في الطريق، تذكّرت زينب، تلك الأمّ الطالبة النّخبة التي جاءت من مدينة أخرى برفقة رضيعها وابنتها البالغة من العمر عامين. آملُ أن تكون هي أيضاً قد وجدت مكاناً مناسبًا ورأت القائد بما يُرضي قلبها.
بينما كنتُ غارقةً في هذه الأفكار، وضع خادمٌ ظرفَ هديّةٍ في يدي. حقاً! هل كان من الممكن لأبينا الحنون أن ينسى هديّة يوم المرأة؟ لقد أُعدّت أيضاً هدايا لطيفة للأطفال. ماذا يمكن أن تكون هديّتي؟ كتاب! نعم، هديّة ماهيّتها المعرفة والنّماء. هذا بالضبط ما توقّعته منه، وهو المحبّ للقراءة والمطالعة، فدائماً ما دعانا إلى الاستزادة من العلم والاطلاع.
يودّعنا خدّام الجلسة بابتسامة. الآن، كنّا جميعاً مثل قطرة تحوّلت إلى نهر؛ نهرٌ سيجري في المجتمع بعزّة وكرامة أكبر من ذي قبل. بينما كنتُ أخطو خطوة بخطوة نحو المنزل، عاودت تلك المفاهيم الخطأ العميقة إيلام قلبي. لكنّني تعلّمتُ من قائدي ألا أيأس. قرّرتُ أن أكتبَ هذه الخاطرة القصيرة؛ لعلّ صوتنا الحقيقيّ يبلغ الأسماع...