وفي ما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها الإمام الخامنئي خلال هذا اللقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
أوّلاً، أرحّب بكم. وثانياً أبارك لكم هذا العيد السّعيد. وقد جعلتم بحضوركم، وأنفاسكم الدّافئة وبرامجكم الجيّدة التي أجريتموها، يومنا هذا عيداً. أملنا إن شاء الله أن تبقى قلوبكم مسرورة دوماً، ودائمة الذّكر ودائمة السّير إلى المقامات العليا.
أذكر جملةً واحدة حول الإمام الجليل وعالم آل محمّد عليّ بن موسى الرّضا (عليه آلاف التحيّة والثّناء). إنّ المقامات المعنويّة والرّوحانيّة لهذه الموجودات المقدّسة هي في الحقيقة أكبر من أن تدركها عقولنا، فكيف إذا أردنا أن نصفها بألسنتنا. إلّا أنّ حياة هؤلاء العظماء هي دروسٌ عمليّة وخالدة تتمثّل أمام أعيننا وأعين التاريخ، ولا تقبل الإنكار. فلو أنّنا في بعض الموارد قمنا بالحديث عن حياة الأئمّة (عليهم السلام) وسياستهم وتدبيرهم وذكر أحوالهم، فلا يعني ذلك أنّ هذا القسم من أقسام حياة هؤلاء العظماء هو الأهم والأعظم، كلا، فلذلك العالَم المعنويّ، والقرب إلى الله، والمعرفة والمحبّة التي تتدفق في قلوبهم، التي لا نظير لها، قصّةٌ أخرى. لكن، ما يتجلّى أمام أعيننا هو حياة هؤلاء العظماء التي ينبغي أن نتّخذ منها الدّروس.
إنّ العمر المبارك للإمام الرضا (سلام الله عليه)، قارب الـ 55 سنة) أي من عام 148 للهجرة، الذي هو عام شهادة الإمام الصادق (ع)، وحتى سنة 203 للهجرة)، فإنّ مجموع حياة هذا العظيم مع كل تلك العظمة والعمق والأبعاد المختلفة التي يمكن ذكرها وتصورها بشأنه، قد كانت في هذه المدّة العمرية القصيرة نسبيّاً. فمن هذه الـ 55 سنة، قاربت مدّة إمامة هذا العظيم العشرين سنة 19) سنة تقريباً)، ولكنّنا لو لاحظنا ما تركته هذه المدّة القصيرة من أثرٍ في واقع العالم الإسلاميّ، من اتّساعٍ وتعميق للمعنى الحقيقي للإسلام، والارتباط بأهل البيت (عليهم السلام)، والتعريف بمدرسة هؤلاء العظماء، لخرجنا بقصّة عجيبة، وبحر عميق.
في ذلك الوقت عندما وصل الإمام إلى الإمامة، كان الأصدقاء والمقرّبون والمحبّون يتساءلون: ماذا يمكن لعليّ الرّضا أن يفعل في مثل هذا الجوّ؟ (هذا الجوّ من القمع الهاروني الشديد، يقولون في الرواية بشأنه: «وسيف هارون يقطر دماً» ماذا يريد أن يفعل هذا الشاب، في مثل هذه الظروف، للإستمرار في خطِّ جهاد أئمّة الشيعة وفي المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه؟ لقد كانت هذه بداية إمامة علي بن موسى الرّضا (عليه السلام). وبعد هذه السّنوات الـ 19 أو الـ 20 التي شكّلت نهاية مرحلة إمامته وشهادة علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عندما تنظرون، كيف أنّ ذلك الفكر المتعلّق بولاية أهل البيت والارتباط بآل النبيّ كان قد انتشر في العالم الإسلاميّ بحيث أنّ الجهاز الظّالم والدكتاتوري للعباسيّين أصبح عاجزاً عن مواجهته، ترَون أن هذا ما فعله عليّ بن موسى الرّضا.
لقد سمعتم أنّ دعبل قد قدِم إلى مروْ، في خراسان، وأنشد تلك الأشعار المعروفة في مدح الإمام الرّضا، ثمّ بعدها حصل على جائزة، والآن، افرضوا أنّه بقي عدّة أيّام في مروْ وفي سائر مدن خراسان، ثمّ بعد ذلك تحرّك باتّجاه بغداد والكوفة وتلك الأماكن التي يريد أن يذهب إليها. وأثناء الطّريق هجم قطّاع الطّرق على القافلة التي كانت فيها دعبل ونهبوها. كان أهل هذه القافلة جالسين ويشاهدون وينظرون إلى أموالهم كيف تُنهب، وكان رئيس عصابة اللصوص جالساً على صخرة على مرتفع ويتفرّج بتبختر على الأسرى وسجناء هذه القافلة، وهذه الأموال التي كانوا يصادرونها ويجمعونها ويضعونها في أكياس. فسمع دعبل زعيم اللصوص هذا يترنّم في نفسه، وينشد شعراً، فأصغى إليه ولاحظ أنّه شعره. و كان بيتاً من تلك القصيدة، التي قد أنشدها قبل شهر أو شهر ونصف على سبيل الفرض في مروْ، "أرى فيئهم في غيرهم"(2) إلى آخره لقد كان زعيم اللصوص على طريقٍ بين الريّ والعراق وقد حفظ هذا الشّعر. ففرح دعبل وقام وسأله: هل تعلم لمن هذا الشّعر؟ فقال: هذا الشعر هو لدعبل الخزاعي. فقال: حسنٌ، أنا دعبل الخزاعي. فعندما رأى زعيم العصابة أنّ هذا الشّخص هو دعبل الخزاعي قام واحتضنه وقبّله وقال: ببركة حضور هذا الشّخص في هذه القافلة ارجعوا كلّ الأموال. فأرجعوا كلّ الأموال واحترموا أفراد القافلة وتركوهم وذهبوا.
حسنٌ، هذه كانت حادثة صغيرة في التاريخ ولكنّها ذات معنًى كبير. فشعرٌ يُنشد حول عليّ بن موسى الرّضا في مروْ، وبعد حوالي شهر أو شهر ونصف (أقل أو أكثر) يصبح محفوظاً في الريّ والعراق حتى على ألسن قطّاع الطّرق ويُكرّر! فماذا يعني هذا؟ إنّه يعني أنّ أرضيّة الترويج لأهل البيت والإسم المبارك للإمام الرضا قد أصبحت مساعدة بحيث أنّ الأيدي تتناقل هذا الشّعر) فالشّعر في ذاك الوقت كان من أكثر الأمور تأثيراً ونفوذاً على المستوى الإعلاميّ) في مدّة قصيرة ويصل إلى شخصٍ هو، على سبيل المثال، قاطع طريق وسط الصحراء. فهذا مؤشّرٌ على الحركة العظيمة التي تحقّقت في عصر الإمام عليّ بن موسى الرّضا (سلام الله عليه) من أجل الترويج لمدرسة أهل البيت، لقد أصبحت محبّتهم شائعة. وحضورهم ووجودهم في المجتمع الإسلاميّ، كان قد نفذ إلى أعماق قلوب النّاس. فأن تروا أبناء الأئمّة العظام يقومون ويتحرّكون ويأتون إلى هنا، فهذا يعني (بالإضافة إلى المأساة وعمق المصاب في قضية شهادتهم على هذا الطريق) وجود جانب إيجابيّ ومليء بالمعنى، وهو مطالبة النّاس بأهل البيت ووجود أرضية تقبّلهم من قبل النّاس. أنتم تعلمون عندما نقول «أهل البيت»، فهذا يعني هذه المدرسة، وهذا المعنى واللب الذي كان أهل البيت قد عرّفوه حول الإسلام، إنّه يعني العمل العميق، ثقافياً ومعنوياً والعمل العظيم إعتقاديّاً.
الشّعر في في عصر الإمام الرّضا (عليه السلام) كان من أكثر الأمور تأثيراً ونفوذاً على المستوى الإعلاميّ وهو مؤشّرٌ على الحركة العظيمة التي تحقّقت من أجل الترويج لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
هذه كانت حركة الإمام الرضا (عليه السلام). حتى المأمون شَعَرَ في النّهاية، بسبب تلك القضايا التي سمعتموها وتكرّرت عليكم وتعلمونها، أنّه لا بدّ أن يقتل عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام) (فقد أَجبر هذا العظيم على المجيء من المدينة وأحضره ليكون قريباً منه، لنوايا خاصّة، ولم يكن يقصد قتل هذا العظيم) بخلاف ما كان قد خطّط له، فتحققت الإرادة الإلهيّة والقضاء والتدبير الإلهيّين بواسطة أعداء أهل البيت،) لأن دفن بضعة النبيّ في هذه المنطقة البعيدة عن المدينة يُعدّ بحدّ ذاته تدبيراً إلهيّاً وهندسة إلهيّة).
هكذا ينبغي إنجاز العمل لأجل الأهداف العليا، يجب النّظر إلى الأمد البعيد بمثل هذه الدّوافع والنّوايا وهذه الآمال، فالحرس يحتلّ اليوم مثل هذه الموقعية. البحث ليس في أنّ هناك حكومة جديدة جاءت بعد الثّورة ولديها بعض المؤيّدين وبعض المخالفين ولديها البعض من الجند والمراقبين والقوّات المسلّحة، فالقضيّة ليست هكذا، إنها أعلى بكثير. فقضية الثورة الإسلاميّة (وأنتم قادة قوات حرس الثّورة الإسلاميّة) هي قضيّة أعلى من هذه الكلمات. والآن أنا سأذكر جملةً في مجال تجربة الحرس في هذه السنوات المتمادية، وبعدها سأتطرق إلى الموضوع الذي هو محط نظري وأذكره لكم أيّها الإخوة الأعزاء.
إنّ سجلّ أعمال الحرس في هذه السّنوات الثلاثين ونيّف، هو سجلٌّ ناصع. وأنا لا أذكر هذه الكلمة ككلمة عاديّة ومتعارفة وتجري على اللسان في العديد من الموارد، بل إنّ واقع القضيّة هو هذا. إنّ سجلّ عمل الحرس في هذه المدّة هو في الواقع مظهرٌ لتجربة شعب، أي أنّه بالإمكان مشاهدة أعماق شخصيّة وهويّة شعب إيران في هذا السجلّ، لأنّ الحرس قد نزل إلى الميدان بالإيمان والعقيدة. وأيّ ميدان؟ إنه ميدان الجهاد والمقاومة. وقد استطاع أن يربّي أذكى وأقوى القادة العسكريين، هؤلاء الذين أصبحوا، في عمر الشباب وفي سن أقل من 30 سنة، مخطّطِين، وبتعبير الأجانب استراتيجيّين لامعين في ميدان الحرب في الحرس، دون أن ينتسبوا إلى أيّة جامعة عسكريّة، هذه هي تربية الحرس، إنّها تربية حاصلة من مثل هذه البيئة، التي كانت بيئةً نورانيّةً، إنّها تربية هذه المنظّمة التي بُنيت على أساس الإيمان والعقيدة، ربّت تلك الشخصيّات اللامعة) التي لن ينسى شعبنا أو تاريخنا أسماءهم)، هذا هو فنّ الحرس. هذا في مجال الحرب. وبالإضافة إلى ذلك فإنّنا نرى أنّ الحرس قد ربّى وقدّم أفضل مدراء البلد تدبيراً وقوّةً في المجالات غير العسكريّة. إنّ الصّادرات البشريّة للحرس لمجموع الأجهزة الحكوميّة في نظام الجمهورية الإسلامية تشكّل لائحة طويلة ومليئة بالمفاخر، هذا هو سجلّ الحرس.
الحرس الثوري استطاع أن يربّي أذكى وأقوى القادة العسكريين، دون أن ينتسبوا إلى أيّة جامعة عسكريّة، كما ربّى وقدّم أفضل مدراء البلد تدبيراً وقوّةً في المجالات غير العسكريّة.
ومن المقاطع المهمّة في سجل عمل الحرس، هو هذه الحياة الثوريّة للحرس وبقاؤهم ثوريّين، أي أنّ الأحداث لم تستطع حرف هذه التشكيلات المُحكمة وقويّة البنية عن المسير الأصلي والصحيح، بحجّة أن الدنيا قد تغيّرت وأنّ الحياة قد تبدّلت، إنّكم تسمعون هذه الأعذار وترون أنّهم يأتون بمثل هذه الأعذار من أجل المحاباة والمجاملة ومن أجل بث الشعور بالنّدم، والحجّة هي أنّ العالم قد تغيّر وكلّ شيء قد تغيّر. هناك أشياء لا تتغيّر، ومن بداية التاريخ وإلى اليوم، حُسن العدل والمطالبة بالعدالة لم يتغيّر، وقبح الظلم لم يتبدّل، وحُسن الاستقلال الوطني والعزّة الوطنية لم يتغيّر، هذه وكثير من الأصول الأخرى لا تقبل التغيير. فتغّير العالم لا ينبغي أن يكون حجّة من أجل أن نغيّر سلوكنا وأهدافنا ومبادئنا. فعندما تتغيّر المبادئ يتبدّل الطريق، وعندما يتبدّل الهدف النّهائيّ فلا يعود هناك معنىً لأن تتحرّكوا على الطريق السابق، بل ستتحرّكون باتّجاه هدفٍ جديد له طريق جديد، وطريقُ آخر. وإنّ من أهم نقاط قوّة الحرس هو الثّبات والاستقرار وثبات القدم على هذا الطريق النورانيّ. هذا الآن فيما يتعلق بالحرس. بالطبع، يمكن أن يُقال الكثير بشأن الحرس، ولقد تحدّثنا كثيراً وذُكر الكثير، وهناك الكثير ممّا لم يُذكر، لكنّني لن أتحدّث أكثر من ذلك في هذا المجال.
إنّ ما هو مهمٌّ (وهذا ما أريد أن أذكره) أنّ الحرس هو حرس الثورة الإسلاميّة ولا أريد أن أقول أنّ هذه الحراسة بمعنى أنّ على الحرس أن يكون في جميع السّاحات (السّاحة العلميّة والساحة الفكريّة والساحة الثقافيّة والساحة الاقتصاديّة) في حالة من الحراسة، كلا. ليس هذا هو قصدي، بل قصدي هو أنّ الحرس كموجود حيّ ينبغي أن يعلم ما هو الشيء الذي ينبغي أن يحرسه، ما هي الثورة. فليس من الضروريّ أن يذهب الحرس ويحرس في الساحة السياسية، لكن ينبغي أن يكون عارفاً بهذه الساحة السياسية. إنّ هذا هو الخلط في البحث الذي يقوم به البعض ويجب أن يصبح واضحاً. لا يصحّ أن يكون هناك مجموعة تُعرّف بأنّها العضد الحافظ والحارس للثورة في البلد، ولكنها تغضّ النّظر عن الأحداث السياسية المختلفة) التي بعضها منحرف، وبعضها غير منحرف، وبعضها تابع لهذا أو ذاك) وتغلق عينيها وتمضي عمياء من دون إطلاع، فهذا لا معنى له، بل يجب أن تعلم عن أيّ شيء تدافع.
أن نأتي ونقلّل من تحدّي الثّورة ونجعله بحجم التحدّيات السياسية وصراع التيارات والأجنحة ومواجهات زيد وعمرو، هو تساهلٌ واستخفاف، فتحدّي الثورة ليس بهذه الأمور. أن يأتي خطّ سياسيّ أو تيّار سياسيّ ويتشاجر مع تيّارٍ سياسيٍّ آخر، أو أن يقوم زيد بالاختلاف مع عمرو، فهذا ليس تحدّي الثّورة، إنّ التحدّي الأساسيّ للثّورة هو عبارةٌ عن أنّ هذه الثّورة قد قدّمت منظومة جديدة للبشريّة. ونحن لا نقول أنّ الثّورة قد جاءت منذ البداية وخاطبت كل البشريّة، كلا، إنّ الثّورة الإسلاميّة كانت لإيران وتوجّهت إلى قضايا إيران، وكانت ملتفتة إلى إيجاد تغييرات بنيويّة في إيران، ولكنّ لسان هذه الثّورة ونداءها كان نداءً ولساناً لا يمكن ولم يكن ممكناً بطبيعة الحال أن ينحصر داخل حدود إيران. هناك مفهومٌ عالميّ وحقيقة عالميّة وحقيقة بشريّة قد انطلقت من قبل الثّورة بحيث أن كل من يسمعها في العالم سيشعر بأنّه مُحبٌ لهذ النّداء.
لسان الثّورة الإسلامية ونداؤها كان لساناً ونداءً لا يمكن أن ينحصر داخل حدود إيران.
فما هو هذا النّداء؟ لو أردنا أن نعبّر عن هذا النّداء بشكل اجتماعيّ وإنسانيّ في جملةٍ واحدة لقلنا هو عبارة عن مواجهة نظام الهيمنة والتسلّط، هذا هو نداء الثّورة. نظام التسلّط هو نظام تقسيم الدّنيا إلى ظالمٍ ومظلوم، إنّ منطق الثّورة هو منطق الإسلام "لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون" (3). فعلى امتداد البشرية وساحة وجود الإنسان، من ذا الذي لا يرضى بهذا النّداء ولا يحبّ هذا النّداء؟ لا تظلِم، ولا تُظلَم. هذا هو المقابل تماماً للنّظام الحاكم على العالم من بعد ظهور الحضارة الصناعيّة الجديدة وشيوع الوسائل الصّناعيّة وتبع ذلك شيوع ثقافة التسلّط في العالم. فكلّ جهازٍ في العالم يكون تابعاً لنظام التسلّط هذا سوف يخالف هذا النّداء. أولئك الذين يتسلّطون أي الدّول المتجبّرة والشّبكات الاقتصاديّة التي تمتصّ ثروات الشّعوب والأمم يخالفون هذا النّداء لأنّهم يَظلِمون. والدّول التي تتّبعهم وتخضع لهم، وهي تحكم الشّعوب الفقيرة أو الغنيّة وتتّبع نظام التسلّط العالمي ذاك، ليس لديها اقتدار ولا تسلّط لكنّها تتبعهم، فإنّها تتّبعهم أيضاً في مخالفة هذا النداء. فالدولة الفلانيّة التي تتّبع سياسات نظام التسلّط، وسياسات أمريكا على سبيل المثال، أو في وقتٍ ما كانت تتّبع سياسات إنكلترا، وتطّبقها خطوة بخطوة في بلدها، فإنّها بشكل طبيعيّ ستخالف هذا النداء، نداء "لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ".
لو أردنا أن نعبّر عن نّداء الثورة الإسلامية في إيران بشكل اجتماعيّ وإنسانيّ في جملةٍ واحدة لقلنا هو عبارة عن مواجهة نظام الهيمنة والتسلّط.
وكذلك الشركات الدوليّة ومتعدّدة الجنسيّات والقوميات وذات القوميّة الواحدة ومكدسة الثّروات العامّة فإنهم سيخالفون ذلك النّداء. تلك السياسات التي تنشر هذه العناصر الثلاثة أي الحرب والفقر والفساد ستخالف هذا النّداء. إنّ حروب العالم في الفترة الأخيرة أي في القرنين أو الثلاثة الأخيرة كانت في الأغلب من نفوذ نظام التسلّط، فإما أنّهم كانوا يتحاربون فيما بينهم أو يشعلون الحرب بين فئتين من أجل أن يستفيدوا. والفقر كان من أعمالهم أيضاً. فالكثير من هذه الدول الفقيرة التي يعيش أبناؤها في الفقر ولا يمكنهم أن يستفيدوا من ثرواتهم الطبيعيّة، إنّ جريمة فقرهم هي برقبة أولئك المتسلّطين. لقد قام هؤلاء وبسبب تسلّطهم السياسيّ بإفراغ الكثير من الدّول من ثرواتها العلميّة. اقرأوا كتاب جواهر لال نهرو "نظرة إلى تاريخ العالم" إنّه يتحدث ويصوّر ويشرح (وقد كان شخصاً أميناً ومطّلعاً) في القسم المتعلّق بنفوذ وتدخّل الإنكليز في الهند، يقول إنّ الصناعة في الهند، والعلم الذي كان في الهند لم يكن بأقل مما كان في إنكلترا وأوروبا والغرب إن لم يكن أكثر. عندما دخل الإنكليز إلى الهند، كان من برامجهم أن يدمّروا الصّناعة المحلّيّة. بعدها وصل الوضع إلى أن يصبح عشرات، بل مئات الملايين في المراحل اللاحقة، فقراء ومتسوّلين وينامون في الشوارع وجوعى بالمعنى الواقعيّ للكلمة.
وهكذا أصبح حال إفريقيا، وكذلك العديد من دول أمريكا اللاتينيّة. فنظام الهيمنة هذا، بالإضافة إلى أنّه يشعل الحروب فإنّه يخلق الفقر. هذه الثروات العظيمة التي ترونها في القمّة) ثروات الدرجة الأولى في العالم) والتي قد جُمعت وهي مصداق "ما رأيت نعمةً موفورة إلّا وفي جانبها حقٌّ مضيّع". فعندما ينهبون نفط بلدٍ ما ومحاصيله الزّراعيّة وينهبون شاي دولةٍ ما أو يمسكون بتجارة دولة ما؛ فذلك لأجل أن يبقى شعب ذلك البلد محروماً. وعندما يسلبون هذا الشعب الصناعة والإنتاج وباقي عوامل التقدّم الوطنيّ، فلا شكّ أنّ هذا الشّعب سيصبح فقيراً. فمثلما أنّ الحرب من أعمالهم، فكذلك الفقر والفساد. إنّ انتشار الفساد في العالم وإشعال نيران الميول الجنسيّة التي هي أمورٌ طبيعيّة وقابلة للاشتعال في كلّ البشر هو أيضاً من أعمالهم، وكلّ واحدة من هذه الأمور لها قصّة مفصّلة وخاصة.
نظام الهيمنة بالإضافة إلى أنّه يشعل الحروب فإنّه يخلق الفقر والفساد في العالم.
حسنٌ، إنّ نظام الهيمنة ينشر الحروب والفقر والفساد، وبهذه الطريقة المحددة يقسّم العالم إلى ظالِم ومظلوم. أمّا الإسلام (أي الثّورة الإسلاميّة النابعة من تلك المفاهيم الإسلامية) تأتي وتقول: "لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ" أي إنّها ترفض كل تلك الأسباب (العوامل)، إنّ التحدّي الأساسيّ هو هنا، والنزّاع الأساسيّ هو هنا. هذه هي المعركة الواقعيّة مع الثّورة. وأمّا كل تلك المقولات الأخرى فهي حجج. فالحظر، والحرب الداخليّة، وتدبير الانقلابات، والملف النووي، وباقي الأشياء التي كانت في هذه السنوات، كلّها ينبغي النظر إليها من هذا المنظار: أنّ تأتي ثورةً وتنتصر خلافاً لتصوّر كلّ العالم وتشكّل دولة وتستمر هذه الدّولة وتبقى (خلاف تصوّر كل العالم الذي كان يتخيّل أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة سوف تزول بعد ستّة أشهر أو سنة أو سنتين وبعدها خففّوا قليلاً فقالوا خلال أربع سنوات) لا بل أصبحت أقوى يوماً بعد يوم، وصارت كل يومٍ "أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ، تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّها" (4) وتبدّلت إلى قوّة إقليميّة وإلى دولة مؤثّرة في القضايا العالمية الواسعة. هذا ما يخالفونه ويعادونه.
إنّهم يطرحون بحث ملفّ السلاح النووي. حسنٌ، نحن لا نقبل السّلاح النوويّ، لا لأجل زيد وعمرو أو لأجل أمريكا وغير أمريكا، بل لأجل عقيدتنا. فلا ينبغي لأحدٍ أن يمتلك مثل هذا السّلاح. عندما نقول أنّ عليكم أن لا تمتلكوا هذا السلاح فهذا يعني حتماً أنّنا نقول لأنفسنا أنّه لا ينبغي أن نمتلك هذا السّلاح ولن نمتلكه، لكنّ القضيّة عندهم هي قضيّة أخرى. إنّهم لن يعترضوا لو قامت بعض الدول على سبيل الفرض وكسرت احتكارهم لهذا السلاح، بالطبع إنّهم لا يريدون ذلك، لكنّ لن تقوم قيامتهم. فلماذا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها بشأن إيران الإسلاميّة والجمهوريّة الإسلاميّة؟! لأنّ امتلاك مثل هذه القدرة سيكون دعامة نظام "لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ "فهذا هو التحدّي الأساسيّ. فينبغي أن نعرف ذلك وأن ننظر إلى تحرّكات أمريكا والغرب وتلك الدولة التابعة لهم وذلك التيّار الملحق بهم والمحبّ لهم ونفسرها ونحللها من هذا المنظار، هذه هي الثورة الإسلاميّة.
نحن لا نقبل السّلاح النوويّ، لا لأجل زيدٍ وعمرو أو لأجل أمريكا وغير أمريكا، بل لأجل عقيدتنا.
لم يكن هناك أحدٌ أكثر مبغوضيّة (كُرهاً) عند هؤلاء الأعداء من الوجه السّاطع والشمس المشعّة لإمامنا الجليل. كانوا يحترمونه ولكنّهم كانوا يعادونه من أعماق القلب وذلك لأنّ الإمام وقف وصمد، ولأنّ الإمام كان سدّاً منيعاً بفضل هاتين الخصوصيتين اللتين لا نظير لهما وهما البصيرة الكاملة والقاطعية والحزم الكامل (فقد كان يرى جيداً ويفهم جيداً) ويقف بحزم مقابل تقدّمهم وحرابهم وطعناتهم، لهذا كانوا يعادونه. بالطبع، لقد ذكرنا أنّهم كانوا يحترمونه وكانوا يدركون عظمته، لكنّه كلّما ازداد عظمةً ازداد في أعينهم بغضاً، والأمر اليوم هو كذلك، كلّ من يتمسّك أكثر بهذه القيمة الأساسية والأصوليّة؛ أي بهذه القيمة التي حدّدت الهوية الأساسية للثورة "لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ"، ويفهم أنّ لائحة المشكلات المختلقة من قبل الأعداء ضدّ النّظام الإسلاميّ هي ضمن هذا الإطار) فكلّ من يكون على هذا الطريق وبهذه النظرة والصّمود) سوف يكون مبغوضاً لديهم بالمقدار نفسه. بالطبع، إنّ عالم الدبلوماسية هو عالم الابتسامات، فإنّهم يبتسمون ويفاوضون ويطالبون بالمفاوضات وهكذا يقولون. وقد قيل لأحد السياسيين الغربيّين قبل عدّة أيّام أنّك تريد أن تفاوض إيران وإيران هي عدوّ، فقال حسناً، إنّ المرء يفاوض العدوّ في النهاية! أي أنّه يقرّ ويصرّح بعدائه لإيران، فسبب العداء ليس الأشخاص، بل هذه الحقيقة والهويّة. إنّ كل ما يقولونه يجب تفسيره وتحليله في هذا الإطار ويجب فهمه في هذا الاطار.
إنّنا لا نعترض على التحرّكات الصحيحة والمنطقية في الدبلوماسيّة أيضاً، سواء في عالم الدبلوماسية أو في عالم السياسات الداخليّة. إنّني أنا العبد أعتقد بذاك الشيء الذي أُطلق عليه قبل سنوات اسم" الليونة البطوليّة". فالليونة تكون ضروريّة جدّاً في بعض الأماكن. حسنٌ جداً لا عيب في ذلك. أمّا ذاك الذي يتصارع مع خصمه وفي بعض الأحيان لسببٍ فني (تقني) يظهر ليونةً، لا ينبغي له أن ينسى من هو خصمه، ولا ينبغي له أن ينسى ماذا يفعل في هذا الوقت، فهذا هو الشرط الأساسيّ، أن يفهموا ماذا يفعلون ومن يواجهون ومن يخاصمون ومن أين تأتي أمواج الهجوم باتّجاههم. فليلتفتوا إلى هذه الأمور.
حسنٌ، أنتم حرّاس الثّورة الإسلاميّة، وحراسة الثّورة الإسلاميّة لا تعني أن ينزل حرّاس الثّورة الإسلامية إلى كلّ السّاحات والميادين ويتواجدوا ويحملوا المسؤولية على عاتقهم. كلا. إنّ التكليف محدد ومعيّن ومضبوطٌ، وقد انعكس اليوم في كلمة هذا القائد المحترم والعزيز عندنا، وتلك النّظرة المتعلّقة بنطاق عمل ونشاط قوّات حرس الثّورة الإسلاميّة صحيحة، وأنا أؤيّدها، ولكن الحرس أوّلاً: ينبغي دائماً أن يعلم ما يجب أن يقوم به وأيّ شيءٍ ينبغي أن يحرسه. وثانياً: أن لا ينسى ثبات قدمه الذي يمثّل المكوّن الأساسيّ لهويّة الحرس المليئة بالفخر. فليتوجّه الجميع في كلّ المستويات إلى هذه القضيّة.
لقد ذكرنا مراراً أنّ عمل الحرس يعتمد على المعنويّات. والمعنويّات لا تتنافى مع التطوير العلميّ والابتكارات المختلفة على الصّعيد العلمي والعملي والأساليب الجديدة وأنواع التنظيم الذكي. فلا ينبغي أن نتصوّر أنّه عندما يرتبط الإنسان بالمعنويّات فلا ينبغي أن يهتمّ بالمظاهر. كلا، فإنّ أهم وأذكى الأساليب القتاليّة في صدر الإسلام قد ظهرت على يديّ النبيّ الأكرم وأمير المؤمنين والمسلمين في ميادين الحرب. وفي مرحلة دفاعنا المقدّس، فإنّ قوّاتنا الثوريّة) سواء الجيش أو الحرس أو مجموع القوات الثوريّة) قد استخدمت أذكى التكتيكات والأساليب العمليّة. المعنويّات لا تتنافى مع الاعتناء بالأصول) المقدمات) المادّية للعمل والتنظيم الصحيح له. يجب الحفاظ على هذه الروحانيّة فإنّ هذه الروحانيّة هي أساس العمل.
ينبغي على حرس الثورة الإسلامية دائماً أن يعلم ما يجب أن يقوم به وأيّ شيءٍ ينبغي أن يحرسه
آخر مطلبٍ لي ها هنا: إنّ المستقبل بنظري أنا العبد هو مستقبلٌ مشرقٌ للثورة الإسلاميّة. ليس أننا نريد إرضاء أنفسنا، بل من ملاحظة كل ما هو أمام أنظارنا. يمكن للإنسان أن ينظر هنا إلى إستدلالين: الإستدلال الأوّل الاستدلال بالتجربة، حسنٌ، كيف كان وضعنا في بدايات الثّورة من حيث قلّة الموارد البشريّة والإمكانات الماديّة والأسلحة وقلّة الخبرة الإداريّة وأنواع النقائص الأخرى، والآن إلى أي وضعٍ وصلنا، على مستوى غنى الموارد البشرية والمادية والعلميّة والسياسيّة والسّمعة الدوليّة.
حسنٌ، إلى أين وصلنا خلال هذه الثلاثين سنة ونيّف؟ فكلّ هذه الحركة التي قمنا بها طيلة هذه السّنوات كانت تواجه بضغطٍ من الطّرف المقابل، فكانت رياح المخالفة تهبّ علينا ونحن نتقدّم، لقد كان التيّار العنيد موجوداً أمام حركتنا واستطعنا أن نتقدّم، أليست هذه تجربة جيّدة؟ أليست كافية؟ لم تتمكّن التيّارات المخالفة والعداوات من أن توقف شعباً كان متّحداً وعازماً ومؤمناً ويعلم ويفهم ماذا يريد وغير مرتبك وغير تائه. في هذه الأحداث التي وقعت أخيراً في العالم الإسلاميّ، في منطقتنا هذه، ترون كيف أنّهم خسروا في بعض الأماكن بسبب أنّهم لم يعلموا ماذا ينبغي أن يفعلوا، لأنّه لا يوجد خطّ صحيح ودليل حاكم على الأعمال، وهكذا جرت الأمور. وبالطبع هذا الأمر لن يبقى هكذا. وهنا فإنّ ذلك الذي حدث في المنطقة الإسلاميّة والبلاد الإسلاميّة (تلك الصحوة) كان أمراً لا سابقة له، وسوف يفعل فعله. فهذا عنصرٌ واستدلالٌ بالتجربة.
لم تتمكّن التيّارات المخالفة والعداوات من أن توقف شعباً كان متّحداً وعازماً ومؤمناً ويعلم ويفهم ماذا يريد.
والإستدلال الآخر هو أنّنا نتحرّك وفق المنطق ووفق حسابات علميّة، والطرف المقابل لنا مبتلىً بأنواع من الضعف المتزايد والتناقضات الداخليّة بسبب الخطأ الفاحش في البناء الداخلي لتلك الحضارة، لهذا فإنّهم يتراجعون (بالطبع ليس من الضروريّ أن يعترفوا بهذا التراجع أو أن يظهر ذلك بصورة ملموسة وواضحة في كلماتهم) وواقع القضيّة هو هذا وهذه هي الحقيقة. عندما تتقدّم أيّة أمّة وفق حساباتٍ صحيحة وبإيجاد منطلق صحيح للعمل، فإنّها حتماً ستصل إلى النتائج المطلوبة. نحن قلنا أنّه ينبغي ترسيخ "البنية الداخليّة للنّظام". لقد قلنا يجب أن ينمو" العلم". لقد قلنا يجب أن يكون "الإنتاج المحليّ" هو أساس الأعمال. لقد قلنا يجب أن يكون "النظر المتفائل إلى الطّاقات المحليّة في البلد" جدّيّاً. يجب تنمية هذه الطاقات، فهي الحجر الأساس للعمل. وإنّ أيّة دولةٍ تتحرّك بالاعتماد على طاقاتها الذاتيّة، وبالاعتماد على الابتكار والإبداع من قبل مواردها البشرية، وبالاعتماد على العلم والمعرفة، وبالاستناد إلى إيمانها واتّحادها، فإنّها حتماً ستصل إلى النّتائج المطلوبة. لهذا، نحن لا نشكّ أنّه لدينا مستقبلاً جليّاً، بالطبع هل أنّ هذا المستقبل بعيد أو قريب ليس بيدي أو بيدكم تحديده. إذا تحرّكنا بصورة صحيحة فسوف يأتي هذا المستقبل سريعاً، وإذا تكاسلنا وقصّرنا وأعجبتنا أنفسنا وتعلّقنا بهذه الدنيا وهذه المظاهر، وملأت أعيننا وأسقطتنا وسقطنا من الداخل (سواء كان على المستوى الشخصيّ أو الاجتماعيّ (فإنّ الأمر سيتأخّر، ولكن من دون شكّ أنّه سيتحقّق، وذلك ببركة كل أنواع الجهاد والتضحيات وأنتم بحمد الله كنتم نشطين وفعّالين في ميدان التضحية وكنتم جيّدين وقمتم بحركات مشرقة وسيكون الأمر في المستقبل على هذا المنوال إن شاء الله.
أملنا إن شاء الله أن يشملكم حضرة بقية الله أرواحنا فداه بدعائه وأن يجعلنا وإياكم حُرّاس الإسلام، حرّاس الثّورة الإسلاميّة، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. وأن يحشر الأرواح المطهّرة للشهداء وروح إمامنا الجليل المطهّر مع أوليائه والنبيّ (ص).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الهوامش: