وفيما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها سماحته خلال هذا اللقاء:

 

بسم الله الرحمن الرحيم (1)

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين، وصحبه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

مرحباً بكم كثيراً أيها الضيوف الأعزاء في هذا المؤتمر والتجمع، وأشكر حضوركم في هذا الحراك العلمي والاجتماعي، وأتقدم بالشكر لمبدعي هذه الخطوة المفيدة، والحسنة العاقبة إن شاء الله، كما أتوجه بالشكر لشخص سماحة آية الله مكارم (2) الذي أبدى همّة حقيقية وبدأ عملاً كبيراً يمكنه إن شاء الله أن يستمر ويؤتي نتائج حسنة.

أيها الإخوة الأعزاء، أيتها الأخوات العزيزات، أيَّة حركة تؤدي إلى اتحاد الأمة الإسلامية هي اليوم حركةٌ مباركةٌ وحسنة. نيّة أعداء الإسلام منعقدة على خلق [إيجاد] التفرقة. ويجب أن تنعقد نيتنا نحن المؤمنين بالإسلام على إيجاد الوحدة في العالم الإسلامي وبين [بلدان وشعوب] الأمة الإسلامية، وعلى تعارف الجماعات والفِرق في الأمة الإسلامية بعضها مع بعض. وهذا الحراك الذي بدأتموه وهذا التجمع والمؤتمر من مصاديق العمل باتجاه اتحاد الأمة الإسلامية. من الأشياء التي ننظر لها دوماً كمشكلة أنَّ الفِرق المتعددة في الأمة الإسلامية لا يعرف بعضها بعضاً بنحو صحيح؛ معرفةً صحيحة ومتطابقة مع الواقع. أمَّا الأعداء والأجانب فقد جاؤوا في كثير من الحالات وعرّفوا هذه الفرقة لتلك الفرقة، وعرّفوا تلك الفرقة لهذه الفرقة، وبنظرة خصامية مُغرضة قذرة وبنيّة خلق عداوة [وبغضاء]. نشاهد خلال المئة أو المئة وخمسين عاماً الأخيرة نماذج كثيرة لهذه الحالة وبشكل واضح. في هذه الأحداث التي وقعت خلال الأعوام الأخيرة نلاحظ بوضوح أحكاماً بخصوص فِرقةٍ معينةٍ من قبل الفِرق الإسلامية الأخرى، وبالعكس. يأتي الأعداء ويصوروننا بشكلٍ قبيح سيّئ في أعين بعضنا البعض؛ هذا ما يفعله الأعداء. وأيَّة خطوة من شأنها أن تجعلنا نعرف بعضنا بعضاً أكثر وأفضل وبصورة صحيحة ونتعرف على نقاط قوة بعضنا، ونتآزر في نقاط القوة هذه، وننقلها إلى بعضنا البعض، فهذه الخطوة ستُفضي إلى وحدة الأمة الإسلامية وتلاحمها ورفعتها، وهذا المؤتمر أحد هذه الخطوات.

أيَّة حركة تؤدي إلى اتحاد الأمة الإسلامية هي اليوم حركةٌ مباركةٌ وحسنة.

لقد كان للشيعة على مرّ التاريخ حراكٌ عظيمٌ وملحوظٌ للرفع من شأن العلوم الإسلامية والعلوم الطبيعية. مجموع ما تمّ إنتاجه في آثار العلماء الشيعة في العلوم الإسلامية مثل الفقه والحديث، والفلسفة خصوصاً، والعلوم العقلية وعلم الكلام، والآثار والكتب التي تمّ إنتاجها في هذه المجالات، هي بحق مبعث فخر واعتزاز وابتهاج لكل مسلم يشاهدها، لذا يجب أن نعرف هذه الأمور، وعلى الأمة الإسلامية أن تشعر بهذا وتعرفه وتعلمه، فهذا يساعد على التقارب فيما بيننا، وعلى معرفة بعضنا بالبعض الآخر.

كثرٌ هم علماء الشيعة الذين نبغوا في الفنون [العلوم] الإسلامية المختلفة ـ في الفقه، والفلسفة، والكلام، و[عِلم] الرجال، والحديث ـ مثل العلامة الحلِّي والشيخ الطوسي وسواهم. ولحسن الحظ يوجد في زماننا هذا أيضاً من هذا القبيل من الأفراد. الكتب التي كُتبت حول القرآن وحول علوم القرآن وحول تفسيره كثيرة جداً ومفيدة، فإذا تمَّ التعريف بهذه الأعمال وعُرفت وتعرَّف المسلمون على أعمال وآثار بعضهم البعض والجهود التي بذلوها والمشاق التي تحملوها، فسوف تشعر الأمة الإسلامية بالفخر لنتاجات أبنائها، وسيؤدي هذا إلى تلاحم الأمة الإسلامية.

وعلينا أن نُدقق ونحذر في كل الخطوات وفي هذه الخطوة العلمية التي تقومون بها من أن ننجرف إلى أمور هامشية وشوائب تتسبب في التفرقة والشقاق والانفصال واستياء الفِرق الإسلامية بعضها من بعض، فهذا هو الشيء الذي يريده الأعداء. إذن، فإحدى القضايا هي قضية اتحاد الأمة الإسلامية، وسوف تعمل هذه الخطوة إن شاء الله حسب ظننا على تأمين جانبٍ ملحوظٍ منها.

لقد تأخر العالم الإسلامي وخضع لهيمنة الآخرين بسبب تخلُّفه العلمي.

القضية الأخرى هي قضية التقدُّم العلمي. لقد تأخر العالم الإسلامي وخضع لهيمنة الآخرين بسبب تخلُّفه العلمي. وبعد أن كان العالم الغربي متخلفاً لقرون طويلة ويقتبس العلوم من المسلمين ويتخذ من كتبهم الإسلامية مراجع ومقدمات وسلالم لعروجه نحو التقدم العلمي، استطاع [العالم الغربي] أن يتقدم على البلدان الإسلامية والعالم الإسلامي من حيث العلم والمعرفة. وقد أفضى هذا إلى زيادة ثروتهم وكذلك إلى مضاعفة قوّتهم العسكرية، وأيضاً إلى ازدياد سلطتهم وقدراتهم السياسية، وتضاعفت كذلك قدراتهم الإعلامية الدعائية. وهذا ما تسبب في ظهور الاستعمار، حيث انبثقت ظاهرة الاستعمار، وعاشت البلدان الإسلامية تحت نِعال وقبضات المستعمرين الدموية عديمة الرحمة، عاشت هذا التخلف والحرمان من التقدم بكل كيانها ووجودها وفي كل الميادين العلمية، وانتهى الأمر إلى ما تشاهدونه اليوم: تفرض القوى العالمية والقوى الغربية خصوصاً وشياطين العالم عسفها [سلطتها وهيمنتها] على البلدان الإسلامية وعلى الشعوب المسلمة وتفرض عليهم ما تريد، وللأسف فإنَّ الكثير من الحُكام المسلمين يتبعونهم. هذا يعود للتخلُّف العلمي.

يجب علينا تغيير هذا الوضع. علينا في العالم الإسلامي أن نبدأ حراكاً جاداً للتقدم في كل العلوم، العلوم الصانعة للحضارة من العلوم العقلية إلى مجموعة العلوم الإنسانية والاجتماعية وصولاً إلى العلوم الطبيعية، ونحن قادرون على ذلك. ذات يوم كان العالم الإسلامي يقف على قمة الحضارة البشرية، فلماذا يجب أن لا تعود تلك الحالة، ولماذا يجب أن لا نعمل اليوم عملاً يجعل الأمة الإسلامية خلال فترة مناسبة ـ إلى بعد أربعين سنة أو خمسين سنة أخرى ـ تقف على قمّة التحضّر البشري؟ ما الإشكال في ذلك؟ يجب أن نتحرك. وهذه مهمة الحكومات ومهمة النُخب، والواجب يقع على الحكومات الإسلامية ويقع على النخبة في العالم الإسلامي. على العلماء، والمثقفين، والكتّاب والشعراء والفنانين في العالم الإسلامي أن يخلقوا نهضة فكرية عظيمة وإرادة عامّة للتقدم العلمي والوصول إلى قمّة العلم والمعرفة، وهذه عملية ممكنة.

لقد بذلنا في الجمهورية الإسلامية هذه المساعي وكانت مساعٍ ناجحة. لقد تقدمنا اليوم مسافات كبيرة إلى الأمام [بالمقارنة بما] كُنَّا عليه قبل انتصار الثورة وفي زمن حكم الطاغوت (3)، وقد كانت سرعتنا على هذا الصعيد جيدة. خلال الأعوام الماضية وطبقاً للشهادات العلمية الرسمية في العالم كانت سرعة الجمهورية الإسلامية في التقدم أكثر من المتوسط العالمي بثلاث عشرة [13] مرة. ليس هذا ما نقوله نحن، إنما هو ما نشرته مراكز رصد العلوم في العالم في وثائقها الرسمية. وبالطبع فلأننا كنا متأخرين كثيراً فإنَّ هذه السرعة في التقدم العلمي مع أنها أكثر من المتوسط العالمي بثلاث عشرة مرة إلا أنّها لم تستطع حتى الآن إيصالنا إلى تلك المرحلة المنشودة، لكننا استطعنا التقدم بدرجاتٍ ملحوظة وسوف نتقدم أكثر.

قلنا إننا يجب أن نُحطِّم حدود العلم والمعرفة ونتجاوزها ونتقدم على حدود العلوم العالمية. يجب أن نتحرك وسوف نتحرك إن شاء الله وسوف تقوم الجمهورية الإسلامية بهذا الشيء. طبعاً بخلاف الغرب، وتقاليد الغربيين هي الإمساك [الاحتفاظ]؛ بمعنى أنهم لا يعطون أحداً ما يملكونه وما يعتبرونه أفضل اكتشافاتهم العلمية. نعم، إنهم يعطون ما مضت فترات طويلة على إنتاجه واستخدامه، أما انجازات التقدم العلمي البارزة التي يحرزونها فلا ينقلونها لأحد. ونحن بخلاف تقاليدهم هذه قلنا إننا مستعدون لنقل كل ما ننجزه لإخوتنا المسلمين في البلدان الإسلامية، في كل المجالات.

إننا في الجمهورية الإسلامية مستعدون لنقل كل ما ننجزه من تقدمٍ علمي في كل المجالات لإخوتنا المسلمين في البلدان الإسلامية.

ينبغي لهذه المسيرة أن تستمر. ويجب أن نتقدم في مجال العلوم الإسلامية أيضاً. في مضمار الفقه نحتاج إلى أن تكون لنا نظرتنا الحديثة للقضايا الفقهية. وما أشار له السادة ـ حقول الفقه التخصصية ـ يصبّ في هذا الاتجاه. بمقدور الفقه أن تكون له طروحاته الجديدة في مختلف مجالات إدارة البلاد وإدارة المجتمعات البشرية. الفقه الإسلامي يمكنه أن يعرض ويطرح آراء جديدة. ينبغي أن نعمل في هذه المجالات. هذه هي مهمة الفقه.

علينا تسريع مسيرتنا في الفلسفة والعلوم العقلية. ولحسن الحظ فإنَّ العلوم العقلية شهدت نمواً جيداً جداً في المجتمعات الشيعية وفي إيران خصوصاً. وقد كان الوضع على هذا المنوال منذ القِدم، فقد ظهر مفكرون عقليون كبار في بلادنا وفي مجموعة العلوم الإسلامية ولا تزال آثارهم موجودة. يجب أن نتقدم في العلوم العقلية إلى الأمام. لقد حلّ الغربيون القضايا السياسية والحكومية والاجتماعية بتطوير فلسفاتهم وتوسيعها. بالأمس عندما كنتُ في معرض الكتاب شاهدتُ كتباً كتبها الغربيون في تأثير الفلسفة على كرة القدم، أي إنهم وسّعوا الفلسفة [وزادوا في أبعادها] لتشمل كرة القدم أيضاً! لاحظوا توسيع قضاياهم الفكرية لتشمل كلَّ مجالات الحياة وأصعدتها. يجب علينا القيام بهذا الشيء، فنحن أقوياء من الناحية الفلسفية، والفلسفة الإسلامية أقوى من الفلسفة الغربية وأعمق جذوراً وأكثر استحكاماً، ولكن ينبغي أن يكون امتدادها في الحياة محسوساً. آراء وأحكام فلسفتنا حول نظام الحكم وحول الشؤون الاجتماعية وحول الاقتصاد وحول عموم الشؤون الصانعة للحضارة يجب أن تكون معلومة وواضحة. هذه أعمال ينبغي النهوض بها. هذا ما يتعلق بالعلوم الإسلامية الخاصة، وكذا الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية.

لحُسن الحظ ثمة نهضة وصحوة في العالم الإسلامي اليوم، مع أن الغربيين حاولوا إنكار هذه الصحوة. ما حصل كان صحوة إسلامية في منطقة غرب آسيا وفي منطقة شمال إفريقيا وفي البلدان العربية. إنّها صحوة، هناك صحوة في كل العالم الإسلامي. الشباب لديهم أسئلتهم واستفهاماتهم ويرغبون في سماع أجوبة عن استفهاماتهم في خصوص الإسلام. ولديهم توقعاتهم من الإسلام ولديهم ميولهم [توجههم] نحوه. على الرغم من كل هذه الدعايات التي يبثها الغربيون ضد الإسلام وضد الحياة الإسلامية، فإنَّ الميول نحو الإسلام كبيرة، وهذه الميول تبشرنا بأنَّ غد العالم الإسلامي سيكون أفضل من يومه بكثير إن شاء الله. سوف يشهد العالم الإسلامي إن شاء الله أياماً تكون فيها الأمة الإسلامية في قمّة تحضرها وحياتها الإسلامية، ولا يستطيع أعداء الإسلام والمتعسفون مثل أمريكا أن يأمروا حكام البلدان الإسلامية بأنه يجب أن تفعلوا كذا وتفعلوا كذا. لقد كان هذا وضعاً موجوداً، وللأسف فإنَّ نماذج منه لا تزال موجودة اليوم أيضاً، وسوف تزول إن شاء الله، وسيصل العالم الإسلامي إلى ذروته بفضل الله وإذنه.

أتقدم بالشكر لكم جميعاً مرة ثانية وأتمنى لهذه الحركة العلمية أن تتواصل وتنتشر. وأشكر المجموعة التي تحمّلت المتاعب وعملت، وخصوصاً شخص سماحة آية الله مكارم مجدداً، وأسأله تعالى أن يحفظه ويوفقه، وأن يبقي ويزيد يوماً بعد يوم من نشاطه وتحفزه الذي اتسم به دوماً ولا يزال متسماً به الآن.

والسّلا‌م عليكم ورحمة‌ الله وبركاته.

 

الهوامش:

  1. في بداية هذا اللقاء ألقى حجة الإسلام الدكتور محمد علي رضائي إصفهاني (أمين المؤتمر) كلمة بالمناسبة. وكان المؤتمر الدولي لدور الشيعة في التأسيس للعلوم الإسلامية وتنميتها قد أقيم في مدينة قم خلال يومي العشرين والحادي والعشرين من شهر أرديبهشت من العام الإيراني الجاري 1397 هـ ش، الموافق للعاشر والحادي عشر من مايو أيار 2018 م.
  2. آية الله ناصر مكارم شيرازي.
  3. النظام الملكي البائد.