وفيما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها سماحته خلال هذا اللقاء:

 

بسم الله الرحمن الرحيم (1)

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

كانت جلسة طيبة وجيدة، ونقطة الضعف الوحيدة فيها هي أنَّ عدداً من الأصدقاء الحاضرين ـ من الإخوة والأخوات ـ كانوا يرغبون أن يلقوا أشعارهم وننتفع منها فلم نوفَّق لهذا الشيء. وبالطبع فإنَّ الوقت قد انقضى والساعة الآن أكثر من الثانية عشرة، وقد طالت هذه الجلسة أكثر من المألوف، وهذا ما قد يحصل أحياناً.

مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ (2)

أولاً كانت أشعار هذه الليلة - والحق يُقال – أشعاراً جيدة جداً. وهو يقول «الشباب». كان عددٌ من الحضور الذين ألقوا أشعارهم [الليلة] من الشباب، والحقيقة إنَّ أشعارهم كانت جيدة وجزلة، لیس فقط من حيث الإبداعات والتجديدات اللغوية وهو ما يُلاحظ والحمد لله في شعر اليوم، بل من حيث التطرق لموضوعات مهمة ولافتة وجديدة أحياناً، وكذلك من حيث التنميق اللفظي والنظام اللغوي والاستعمال المناسب للمفردات، يرى المرء أن الأشعار جيدة جداً والحمد لله. أحياناً تلاحظ حالات من الضعف اللغوي في الأشعار المعاصرة والأشعار الثورية التي تحتوي الكثير من المضامين الجيدة والجديدة. وأرى أنَّ هذه الهفوات اللغوية تزول تدريجياً، وقد كان هذا هو الحال في هذه الليلة والحمد لله.

أشير إلى جملة من النقاط حول الشعر. واحدة من هذه النقاط التي أعتقد أنه ينبغي الاهتمام بها في الوقت الحاضر هي أنَّ الشعر الفارسي منذ بداية ظهوره وبروزه وإلى اليوم تقريباً كان في الغالب شعراً عفيفاً نجيباً محافظاً. وهذا ما أقوله عن دراسة وتقصّي. لا أقول أنَّه لم تكن هناك حالات بذاءة وتحلل في الشعر، بلى، كان هناك في الماضي أيضاً، ولكنَّه قليل طبعاً، وكان مثل هذا الشيء في الفترات المتأخرة أيضاً ـ من قبيل أشعار إيرج أو خاكشير وأمثالهم حيث كانوا ينظمون أشعاراً صريحة وقحة قبيحة ـ لكن هذه الحالات قليلة. في الشعر الفارسي منذ بداياته، افترضوا مثلاً خلال حقبة الشعر الخراساني حيث كان ثمة في بداية القصائد ومقدماتها بعض الغراميات وعلى حد تعبيرهم شعر التشبيب ـ الشعر الغرامي وشعر الحب وما إلى ذلك ـ لكن حالة الحياء والعفاف بقيت محفوظة. من أجل أن يتبين ما هو قصدي على وجه الدقة أقارن الشعر الفارسي مع الشعر العربي في ذلك الزمن. وبالطبع فإنَّ الشعر العربي اليوم ليس على هذا النحو. لحسن الحظ الشعر العربي اليوم شعر ملتزم وجيد جداً. ويوجد الآن هنا أربعة من الشعراء العرب اللبنانيين ألقوا على مسامعي أشعارهم ـ بضعة أبيات ـ قبل الصلاة وكانت جيدة ومميزة حقاً. لكن الأمر لم يكن على هذا النحو في الماضي. افترضوا مثلاً أن شاعراً يسمح لنفسه أن يتغزل بامرأة معروفة في المجتمع يذكر اسمها في شعره ويبدي حبه لها. كانت هذه العملية عملية شائعة، ولا تلاحظون مثل هذا في الشعر الفارسي، فلا يوجد مثل هذا الشيء. يُبدي الشاعر في الشعر الفارسي المحبة والمودة وما شاكل لكن المعشوقة غير معروفة، وغالباً ما تكون المعشوقة خيالية أو عامة وليست شخصاً معيناً. أما في القصائد العربية خلال عصورها الأولى فلم يكن الأمر كذلك، كان هناك شخص معين يقصده الشاعر. افترضوا مثلاً قول الشاعر:

ولو أن ليلى الأخيلية سلَّمت

عليَّ ودوني جندلٌ وصفائحٌ (4)

«ليلى الأخيلية» كانت امرأة مُعيَّنة وسيدة محترمة ومعتبرة في المجتمع، وهذا الشاعر المعروف يتغزل بهذه المرأة؛ أي إنَّ هذا الشيء لم يكن يُمثِّل مشكلة. أو افترضوا أن شاعراً معروفاً آخر ـ معاصراً للفرزدق وجرير ـ اسمه كُثَير كان يعشق شاعرة اسمها عزَّة. ومن كَثرة ما تغزل كُثَير هذا بتلك الشاعرة عُرف باسم كُثَير عزَّة؛ أي إنكم إذا أردتم الآن قراءة سيرة كُثَير يجب أن تبحثوا عن «كُثَير عزَّة». كان هذا الفعل دارجاً وشائعاً [في الشعر العربي]، أمَّا في الشعر الفارسي فلا تشاهدون مثل هذا الشيء على الإطلاق. نعم، كان هناك في قصائد ذلك الزمن وفي الغزليات بعد ذلك تشبيب ـ التشبيب أو النسيب على حد تعبيرهم ـ وتغزُّل وحب وغراميات، ولكن لا يذكرون أبداً اسم شخص معين يبدون حبهم له. طبعاً في الفترة الأخيرة ذكر شاملو اسم آيدا لكنها كانت زوجته ولم تكن غريبة أو أجنبية عليه، وأبدى تجاهها الحب والغزل في أشعاره. إذن، الشعر الفارسي شعر عفيف. حسنٌ، ذكرت أنه كانت هناك حالات من الأدب المكشوف [المتفلت] والكلمات البذيئة ـ يخجل الإنسان من أن يذكرها أو حتى أن يتذكرها أحياناً ـ قالوا مثل هذه الأشياء لكنها قليلة جداً. لقد كان الشعر الفارسي شعراً عفيفاً على مرِّ التاريخ فحافظوا على هذا الشيء. ينبغي أن نحافظ على هذا العفاف الشعري في الأوساط الأدبية والشعرية. هذه نقطة مهمة.

أما النقطة الثانية يا أعزائي فهي أنَّ الشعر من الفنون المؤثرة. ثمة في الشعر خصوصية لا توجد في الكثير من الفنون الأخرى. بعض الفنون مؤثرة في مجالات أخرى وبشكل آخر ـ كالسينما والمسرح وما شاكل ـ لكن الشعر يؤثر بشكل آخر. يجب أن يكون الشعر صانع تيارات؛ أي إن مجموعة شعراء البلاد يجب أن يرتبوا الشعر وينتجوه ويبدعوه وينشروه في المناخ الفني والأجواء الشعرية في البلاد بحيث يستطيع جعل القضايا المهمة التي تهمُّ البلاد [جعل هذه القضايا] خطاباً وتياراً وسياقاً. لنفترض مثلاً قضية العدالة وقضية المقاومة وقضية الأخلاق، كم نحتاج إلى أخلاق المعاشرة [التعامل] فيما بيننا، وهذا ما أكّدت عليه قبل البارحة في جلسة عُقدت هنا مع الشباب (5). يجب أن تكون أخلاقنا الفردية والشخصية مهذبة ومتسامية ورفيعة، وكذلك أخلاق المعاشرة وسلوكياتنا مع الناس، من قبيل الصفح والتجاوز والإيثار والصدق والأخوة وما إلى ذلك. ولحُسن الحظ ففي تاريخ شعرنا هناك الكثير من الكلام في هذه المجالات، حيث نُظمت الكثير من الأشعار الراقية، وينبغي مواصلة صناعة الخطاب هذا. وكذا الحال في مجالات متنوعة كما أشرت نظير المقاومة وقضايا من قبيل ما جاء الليلة في بعض الأشعار التي ألقيت وكانت موضوعات مهمة.

ينبغي أن يكون الشعر ناشطاً في مضمار الجد والسعي والانضباط في العمل، والتعمُّق في الفكر، والمتانة في الهوية، والجهاد أمام العدو.

وثمة نقطة أخرى حول الشعر هي أن الشعر الفارسي كان له دوره طوال الزمن في إنتاج الفكر وتعميقه. لو نظرتم لوجدتم أن الحكمة كثيرة في الشعر الفارسي. نُسمِّي أبو القاسم الفردوسي بـ «الحكيم الفردوسي»، ونلقب نظامي بـ «الحكيم نظامي»، ونطلق على سنائي لقب «الحكيم سنائي»، وإلى آخره، وسعدي الشيرازي حكيم حقيقي، وحافظ [الشيرازي] حكيم وعارف حقيقي؛ أي إنهم جعلوا شعرهم وعاء للحكمة، والحكمة هنا حكمة إسلامية، حكمة قرآنية، حكمة معنوية ونبوية. الشعر الفارسي مليئ بالحكمة، وينبغي أن تكون هذه الروح وهذه الحكمة والأخلاق حالة بارزة ملحوظة في شعرنا المعاصر. في الأشعار التي ألقيت الليلة هنا لاحظت بعض الأبيات فيها حكمة حقيقية، وكانت من الأبيات التي يمكن الاحتفاظ بها في الذاكرة وفي الكتب وفي الكتابات ونقلها ونشرها. والنقطة المقابلة لهذه الحكمة والأخلاق وإيجاد الفكر وتعميقه وبثِّ الأمل في الشعر هي أن ندفع متلقي أشعارنا نحو اللامبالاة في العمل، والسطحية في الفكر والانهزام في السياسة وعدم الاكتراث في مواجهة العدو. أي إذا كان شعرنا على النحو الذي يخلق ويبث وينشر هذه الخصوصيات فهذا بالتأكيد بخلاف الحكمة الشعرية التي تميَّز بها الشعر الفارسي على مرّ الزمن. ينبغي التنبه لهذه القضية فهي قضية مهمة.

ينبغي أن يكون الشعر ناشطاً في مضمار الجد والسعي والانضباط في العمل، والتعمُّق في الفكر، والمتانة في الهوية، والجهاد أمام العدو. انتبهوا أيها الإخوة والأخوات الأعزاء إلى هذه النقطة وأنتم نخبة المجتمع ففن الشعر يترشح عادة عن ذهن نخبوي وروح نخبوية، وأنتم طبعاً متنبهون إلى أنهم [الأعداء] يسعون إلى انحراف الفن في البلاد، أي إنهم يرصدون الأموال لذلك وتجتمع هيئات مفكرة فتخطط من أجل انحراف الشعر الموجود عندنا. وهم يفعلون الشيء نفسه بالنسبة لفن السينما عندنا، والمسرح، والرسم، وبالنسبة لكل الفنون ومختلف أنواع الفن. هناك أعمال تحريفية تجري وتجترح. وكذا الحال بالنسبة للشعر، إنهم يسعون سعيهم حقاً. يُضخِّمون أفراداً بذيئين، وهذا ما أشاهده الآن في مجتمعنا. ثمة أيادي تُضخِّم الشاعر الفلاني البذيئ العبثي وتطرحه وتعمل على ترويجه وشهرته، والحال أنَّ أشعارهم هابطة وضعيفة حتى من الناحية الفنية، أمَّا من حيث المحتوى فحدِّث ولا حرج، ومن الناحية الفنية ليست أشعارهم أشعاراً يمكن أن نسميها «أشعاراً جيدة مع أن مضامينها سيئة»، لا، إنما أشعارهم أشعارٌ سيئة حتى من الناحية الفنية، لكنهم يُضخِّمونها.

نقطة أخرى على جانب كبير من الأهمية تتعلق بقضية الأغاني والأناشيد. سبق أن طرحتُ (5) هذه القضية هنا وهي أن الأغاني والأناشيد شعبة لازمة من فن الشعر، وهي مؤثرة جداً، الأغاني والأناشيد مؤثرة حقاً. لقد لاحظنا في حالات كثيرة أن شعراً إذا كانت له لغة شبابية وتخاطب أفراداً مختلفين ـ من طلبة جامعيين أو تلاميذ مدارس وغيرهم ـ فيؤدي إلى حراك وحيوية ونشاط وتوجيه للطاقات. والحق يقال إننا في هذا المجال لا نزال نعاني نقصاً وقد قصَّرنا في هذا الجانب. ففي مجال الأغاني والأناشيد يمكن القول إن الأناشيد الجيدة قليلة.

المجتمعان الإيراني والعربي مجتمعان ممتزجان بالشعر.. الشعر شائع كثيراً في أجواء حياتنا وهذه فرصة كبيرة جداً.

المجتمع الإيراني ممتزج بالشعر وهذه نقطة قوة كبيرة. وكذلك المجتمع العربي، فالعرب أيضاً هذا حالهم، هم أيضاً يأنسون بالشعر كثيراً وممتزجون به. لاحظوا في قضايا الثورة وأحداثها وفي سنواتها المختلفة كانت الشعارات التي غالباً ما تكون موزونة ولها حالة شعرية كانت تتدفق من صميم الحشود والجموع؛ أي أنه لا أحد يعلم من الذي نظم هذه الشعارات، لكن شخصاً قالها من قلب الحشود ومالت لها طباع الآخرين ولأنها شعر ولأنها موزونة ومقفّاة في بعض الأحيان لذلك تابعها الناس وأشاعوها ورفعوها. الشعر شائع كثيراً في أجواء حياتنا وهذه فرصة كبيرة جداً. لقد سجلت بعض النقاط وكنت أودُّ أن أشير لها. في أحد إعلانات مجالس الفاتحة في بعض الصحف لاحظت شعراً، والبعض يكتبون أشعاراً، يميل [ينشدُّ] انتباه الإنسان بشكل تلقائي نحو الشعر، لاحظت أن طبيعة شعبنا هي حقاً طبيعة شاعرية. واللهجة في هذا البيت لهجة شبيهة بأشعار «بيدل» لكنني لا أعلم لمن هذا الشعر:

سكنتُ في مائة فخ وسحبت الذيول من عدة أقفاص

فلم أر تحليق الحرية إلّا في أجنحة العدم (6)

كم هو جميل! لم أر تحليق الحرية إلا في أجنحة العدم. هذه هي روحية وطبيعة شعبنا. حتى في إعلانات مجالس الفاتحة ترون أنهم يعثرون على أشعار بهذا الجمال ويدرجونها. وأنتم طبعاً تستخدمون الحواسيب وما شاكل وتستطيعون أن تجدوا الشاعر [صاحب هذا البيت]، لكنني لم أعلم من هو الشاعر بيد أن اللغة تشبه لغة «بيدل». ينبغي الاستفادة من هذه الفرصة ومن هذا الإقبال والرغبة الموجودة في مجتمعنا نحو الشعر، وتوفير المفاهيم التي يحتاجها الناس أو نقل الأساليب العملية التي يحتاج الناس أن يتعرفوا عليها.

نتمنى لكم التوفيق جميعاً إن شاء الله، ونرجو أن توفقوا للسير على هذا الصراط سنين طويلة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الهوامش:

  1. في بداية هذا اللقاء ألقى عددٌ من الشعراء أشعارهم.
  2. لأبي الطيب المتنبي.
  3. توبة بن الحُمير.
  4. كلمة الإمام الخامنئي في لقائه الطلبة الجامعيين بتاريخ 28/05/2018 م.
  5. كلمة الإمام الخامنئي في لقائه بالشعراء بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى (ع) بتاريخ 20/06/2016 م.
  6. ترجمة أحد الأبيات الشعرية للشاعر الإيراني بيدل دهلوي.